الفصل التاسع

من الغبار إلى الغبار

إذا نظرت إلى سماء الليل الصافية، بعيدًا جدًّا عن أضواء المدينة، فستحدد على الفور شريطًا غائمًا من الضوء الشاحب، تتخلله من موضع لآخر بقع مظلمة، يمتد من الأفق للأفق. هذا السديم الضبابي الذي يحمل لون بياض اللبن، المعروف منذ زمن بعيد بالطريق اللبني (قبل أن يعرف بمجرة الطريق اللبني أو درب التبانة)، يضم أضواء عدد مذهل من النجوم والسُّدم الغازية. سيرى من يرصدون درب التبانة بالنظارات المقربة أو التلسكوبات الموضوعة في أفنية منازلهم أن المناطق المظلمة المملة ليست سوى مجرد مناطق مظلمة مملة، لكن سيتضح لهم أن المناطق الساطعة ليست مجرد وهج منتشر، بل هي عدد لا يحصى من النجوم والسُّدم.

أورد جاليليو جاليلي في كتابه الصغير «المرسال الفلكي»، المنشور في البندقية عام ١٦١٠، أول توصيف للسماء كما تُرى من خلال التلسكوب، بما في ذلك توصيف لبقع الضوء في درب التبانة. تحدث جاليليو — الذي كان يشير لأداته باسم «المنظار»؛ نظرًا لأن كلمة تلسكوب telescope (التي تعني باليونانية «كاشف البُعد») لم تكن قد صيغت بعد — وهو لا يكاد يتمالك نفسه:

بالإمكان رؤية الطريق اللبني نفسه، بواسطة المنظار، بوضوح شديد حتى إن جميع النقاشات التي حيرت الفلاسفة لأجيال عديدة ستتبدد على الفور على يد الحقيقة المنظورة، وسوف نتحرر بهذا من المجادلات اللفظية. فالمجرة ما هي إلا تجمع لعدد لا يحصى من النجوم الموزعة في عناقيد. وأينما وجهت منظارك ستقابل عددًا مهولًا من النجوم أمامك، بعضها يبدو ضخمًا إلى حدٍّ ما وسهل التمييز، لكن أغلب النجوم الصغيرة يصعب تمييزها. (جاليليو جاليلي، المرسال الفلكي، ترجمة ألبرت فان هيلدن (شيكاجو: مطابع جامعة شيكاجو، ١٩٨٩)، ص٦٢.)

بطبيعة الحال كانت المناطق المكتظة بالنجوم في درب التبانة، التي وصفها جاليليو بأن بها «عددًا لا يحصى من النجوم»، هي موضع النشاط الفلكي الحقيقي. لماذا إذن قد يهتم أحدهم بسبر أغوار المناطق المظلمة التي لا تحوي أي نجوم منظورة؟ فالمناطق المظلمة، بناءً على مظهرها، هي على الأرجح ثقوب كونية؛ فتحات لمناطق خاوية لا نهاية لها من الفضاء.

مرت ثلاثة قرون قبل أن يتوصل أحدهم لماهية البقع المظلمة في الطريق اللبني، وأنها ليست ثقوبًا، بل تتكون في الحقيقة من سحب كثيفة من الغازات والغبار تحجب عنا الحقول النجمية الأبعد وتحوي في أعماقها الحاضنات النجمية. مسترشدًا باقتراحات مسبقة من الفلكي الأمريكي جورج كاري كومستوك، الذي تساءل لماذا تبدو النجوم البعيدة للغاية أكثر خفوتًا مما تستدعيه مسافاتها وحدها، حدد الفلكي الهولندي ياكوبوس كورنيليوس كابتين، في عام ١٩٠٩، المشتبه به الرئيسي. ففي ورقتين بحثيتين تحملان العنوان نفسه «عن امتصاص الضوء في الفضاء» (ياكوبوس كورنيليوس كابتين، أستروفيزيكال جورنال ٢٩، ٤٦، ١٩٠٩، ٣٠، ٢٨٤، ١٩٠٩.) قدم كابتين الدليل على أن السحب المظلمة — «الوسيط النجمي» الذي عثر عليه حديثًا — لا تحجب الضوء القادم من النجوم وحسب، بل تفعل هذا على نحو غير متساوٍ عبر ألوان الطيف الضوئي الصادر عن النجوم؛ فهي تمتص الضوء عند الطرف البنفسجي من طيف الضوء المرئي وتشتته، ومن ثم تضعفه، عما هو الحال مع طرف الضوء الأحمر. هذا الامتصاص الانتقائي يتخلص عمدًا من المزيد من الضوء البنفسجي عن الضوء الأحمر، وهو ما يجعل النجوم البعيدة تبدو أكثر حمرة من النجوم القريبة. إن مقدار هذا الاحمرار لضوء النجوم يتزايد طرديًّا مع إجمالي كمية المادة التي يقابلها الضوء في رحلته إلينا.

الهيدروجين والهيليوم العاديان، وهما المكونان الرئيسيان للسحب الغازية الكونية، لا يسببان احمرار الضوء. لكن الجزيئات المؤلفة من عدة ذرات تفعل هذا، خاصة تلك التي تحوي عنصري الكربون والسليكون. وحين تنمو الجسيمات النجمية لحجم كبير جدًّا بحيث يتعذر تسميتها بالجزيئات، في ظل وجود مئات الآلاف أو حتى ملايين الذرات في كل واحد منها، نطلق عليها الغبار. أغلبنا يعرف الغبار المنزلي، مع أن قلة منا قد يهمهم معرفة أنه في المنازل المغلقة يتكون أغلب الغبار من خلايا الجلد البشري الميتة المنسلخة (إضافة إلى زغب الحيوانات الأليفة إذا كنا نملك واحدًا منها أو أكثر). على حد علمنا لا يحتوي الغبار الكوني على أي خلايا بشرية. ومع ذلك فهو يحتوي على مجموعة مدهشة من الجزيئات المعقدة، التي تطلق الفوتونات في نطاقي الأشعة تحت الحمراء والإشعاع الميكروني من الطيف. لم يملك الفيزيائيون الفلكيون تلسكوبات ميكرونية جيدة حتى الستينيات، أو تلسكوبات فعالة للأشعة تحت الحمراء حتى السبعينيات. لكن فور تصنيع وسائل الرصد هذه، تمكنوا من سبر أغوار العناصر الكيميائية الغنية التي يحويها الغبار الموجود بين النجوم. وعلى مدار العقود التي تلت هذه المبتكرات التقنية بدأت صورة مبهرة معقدة لمولد النجوم في التكون.

لن تكوِّن كل السحب الغازية نجومًا طوال الوقت. ففي أغلب الأوقات لا تدري السحابة ما عليها فعله. وفي حقيقة الأمر الفيزيائيون الفلكيون هم الذين يشعرون بالحيرة هنا. فنحن نعلم أن السحابة النجمية «تريد» الانهيار على نفسها بفعل جاذبيتها كي تكوِّن نجمًا واحدًا أو أكثر. لكن دوران السحابة، إلى جانب تأثيرات تحركات الغازات المضطربة تحول دون تحقيق هذا الغرض. والأمر عينه ينطبق على ضغط الغاز الذي درسناه في صفوف الكيمياء في المرحلة الثانوية. أيضًا تقاوم مجالات الجاذبية هذا الانهيار؛ إذ إنها تتغلغل في السحابة وتعيق حركة أي جسيمات مشحونة حرة الحركة موجودة هناك، وتقاوم الانضغاط، ومن ثم تغير الطريقة التي يمكن أن تستجيب بها السحابة لجاذبيتها الخاصة. المفزع في هذه التجربة الفكرية هو إدراكنا أنه لو لم يكن أحد يعلم مقدمًا بأن النجوم موجودة، لكان بمقدور الباحثين تقديم العديد من الأسباب المقنعة لعدم إمكانية تكوُّن النجوم مطلقًا.

تدور السحب الغازية العملاقة حول مركز المجرة، تمامًا مثلما تفعل مئات المليارات من النجوم الموجودة في مجرة درب التبانة، والمسماة على اسم شريط الضوء الذي ترسمه المناطق الأكثر اكتظاظًا بالنجوم عبر السماء. تتناثر النجوم نقاطًا صغيرة مضيئة، يبلغ حجم الواحدة منها ثواني ضوئية قليلة، وتطفو في محيط شاسع من الفضاء الخاوي، وأحيانًا تمر الواحدة منها قرب الأخرى كالسفن المبحرة بالليل. على النقيض من ذلك تتسم السحب الغازية بالضخامة. وتحتوي السحابة الواحدة، الممتدة في المعتاد لمساحة مئات السنوات الضوئية، على كتلة مقدارها مليون مرة قدر كتلة الشمس. وبينما تتهادى هذه السحب العملاقة في أرجاء المجرة، عادة ما تصطدم الواحدة بأخرى، وهذا يؤدي إلى تشابك أحشائها الداخلية المحملة بالغبار والغازات. في بعض الأحيان، اعتمادًا على سرعاتهما النسبية وزاوية الاصطدام، تلتصق السحابتان معًا، وفي أحيان أخرى يؤدي اصطدام السحابتين إلى تمزيقهما إربًا.

إذا بردت السحابة لدرجة حرارة منخفضة ملائمة (أقل من ١٠٠ درجة فوق الصفر المطلق)، تلتصق الذرات المؤلفة لها عند اصطدامها بعضها ببعض، بدلًا من دفع بعضها بعضًا كما يحدث عند الاصطدام في درجات حرارة عالية. لهذا التحول الكيميائي تبعاته التي تؤثر على كل شيء. فالجزيئات المتزايدة — التي يحوي الواحد منها مئات الذرات الآن — تبدأ في تشتيت الضوء جيئة وذهابًا، متسببة في خفوت الضوء القادم من النجوم الواقعة خلفها. وحين تصير الجزيئات حبيبات غبار كاملة النمو تحتوي الواحدة منها على مليارات الذرات. تصنِّع النجوم المسنة حبيبات غبار مشابهة وتنفثها بهدوء في الفضاء النجمي خلال مرورها بمرحلة «العملاق الأحمر». على العكس من الجسيمات الصغيرة، لا تشتت حبيبات الغبار التي تحتوي على مليارات الذرات فوتونات الضوء المرئي القادمة من النجوم الواقعة خلفها، بل تمتص هذه الفوتونات ثم تشع طاقتها على صورة أشعة تحت الحمراء تستطيع الإفلات بسهولة من السحابة. وبينما يحدث هذا يدفع الضغط القادم من الفوتونات، المنقول إلى الجزيئات التي تمتصها، السحابة في اتجاه معاكس لمصدر الضوء. وهكذا تربط السحابة نفسها بضوء النجوم.

تولد النجوم حين تؤدي القوى التي تجعل السحابة أكثر كثافة مع الوقت إلى انهيارها على نفسها بفعل الجاذبية، وأثناء هذا يجذب كل جزء من السحابة الأجزاء الأخرى بحيث تصير أقرب. وبما أن الغاز الحار يقاوم الانضغاط والانهيار أكثر من الغاز البارد، يواجهنا إذن موقف عجيب. فيجب على السحابة أن تبرد أولًا قبل أن تسخن مجددًا أثناء تكوين النجم. بعبارة أخرى، يتطلب تكوين النجم الذي تصل حرارة قلبه إلى عشرة ملايين درجة، وهي الحرارة الكافية لبدء تفاعل الاندماج النووي، أن تصل السحابة أولًا إلى أبرد حالاتها الداخلية الممكنة. فقط عند درجات الحرارة الباردة للغاية، التي لا تتجاوز بضع عشرات الدرجات فوق الصفر المطلق، تستطيع السحابة الانهيار على نفسها والسماح للنجم بالبدء في التكون.

ما الذي يحدث داخل السحابة كي يتحول الانهيار إلى نجم وليد؟ لا يملك الفيزيائيون الفلكيون إلا التخمين. وبقدر ما يسعدهم تتبع الآليات الداخلية للسحب النجمية الهائلة، فإن تصنيع نموذج محاكاة حاسوبي يتضمن قوانين الفيزياء، وكافة التأثيرات الخارجية والداخلية المبذولة على السحابة، وكل التفاعلات الكيميائية ذات الصلة التي يمكن أن تقع داخلها لا يزال أمرًا خارج نطاق قدراتنا. صعوبة أخرى تكمن في حقيقة تدعونا للتواضع تفيد بأن السحابة الأصلية تبلغ من الحجم مليارات المرات أضعاف حجم سحابة النجم التي نحاول تخليقها، والتي بدورها لها كثافة تبلغ ألف تريليون ضعف لمتوسط الكثافة داخل السحابة. في هذه المواقف، ما قد يكون مهمًّا على مستوى حجم معين قد لا يستحق القلق بشأنه على مستوى آخر من الحجم.

ومع ذلك، استنادًا إلى ما يمكننا رؤيته في الكون يمكننا أن نؤكد أنه في أعمق مناطق السحابة الغازية، وأكثرها ظلامًا وكثافة، حيث تهبط الحرارة إلى حوالي العشر درجات فوق الصفر المطلق، تتسبب الجاذبية في انهيار جيوب غازية، تستطيع بسهولة التغلب على مقاومة المجالات المغناطيسية وغيرها من المعيقات. يحول الانكماش طاقة جاذبية الجيوب الغازية إلى حرارة. وهكذا ترتفع الحرارة داخل كل واحدة من هذه المناطق — التي سرعان ما ستصير قلبًا للنجم الوليد — بسرعة شديدة خلال الانهيار، متسببة في تفتيت كل حبيبات الغبار في الجوار أثناء تصادمها. وفي النهاية تصل حرارة المنطقة المركزية للجيب الغازي المنهار إلى القيمة الحرجة البالغة ١٠ ملايين درجة فوق الصفر المطلق.

في درجة حرارة سحرية كهذه تتحرك بعض البروتونات (التي هي ببساطة ذرات هيدروجين مجردة من الإلكترونات التي تدور حول أنويتها) بسرعة كافية للتغلب على قوة التنافر بينها. تمكنها سرعتها العالية من الاقتراب بعضها من بعض بما يكفي لجعل «القوة النووية القوية» تربط بينها. هذه القوة، التي تعمل فقط على مسافات قصيرة للغاية، تربط البروتونات بالنيوترونات داخل كل أنوية الذرات. ينتج عن الاندماج النووي الحراري للبروتونات — «اندماج نووي» لأنه يدمج الجسيمات معًا في نواة واحدة و«حراري» لأنه يحدث في درجات حرارة عالية — أنوية الهيليوم، التي تحمل الواحدة منها كتلة أقل بقدر طفيف من مجموع الجسيمات التي اندمجت لتكونها. أما الكتلة التي تختفي خلال هذا الاندماج فتتحول إلى طاقة، بالصورة التي تصفها معادلة أينشتاين الشهيرة. إن الطاقة المجسدة على شكل كتلة (التي يبلغ قدرها دومًا الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء) يمكن تحويلها إلى أشكال أخرى من الطاقة، كطاقة حركية إضافية للجسيمات التي تنشأ عن تفاعلات الاندماج النووي.

مع انتشار الطاقة المنتجة حديثًا من تفاعل الاندماج النووي إلى الخارج، يسخن الغاز ويسطع. بعد ذلك، على سطح النجم، تهرب الطاقة التي كانت حبيسة الأنوية المنفردة إلى الفضاء على صورة فوتونات يولدها الغاز كلما تسببت الطاقة المنبعثة من تفاعل الاندماج في تسخينه لحرارة قدرها آلاف الدرجات. ومع أن هذه المنطقة من الغازات الحارة لا تزال كامنة داخل الرحم الكوني للسحابة الغازية العملاقة، فإن بمقدورنا أن نعلن لمجرة درب التبانة أن … نجمًا جديدًا قد ولد.

يعرف الفلكيون أن النجوم تتراوح في الكتلة بين عُشر كتلة الشمس إلى حوالي مائة مرة قدر كتلة الشمس. ولأسباب لم نفهمها جيدًا بعد تستطيع السحابة الغازية العادية تكوين العديد من الجيوب الغازية الباردة التي تنهار على نفسها في الوقت عينه، بحيث تتولد منها نجوم جديدة؛ بعضها صغير الحجم وبعضها عملاق. لكن عادة ما يكون عدد النجوم صغيرة الحجم أكبر بكثير؛ فمقابل كل نجم ذي كتلة عالية، تولد آلاف النجوم ذات الكتل المنخفضة. إن مشاركة نسبة قليلة للغاية من كل الغازات الموجودة في السحابة في مولد النجوم يعد من الأمور المستعصية على التفسير عند الحديث عن عملية تكون النجوم: فلماذا لا يتحول سوى هذا القدر اليسير من السحابة الغازية إلى نجوم؟ تكمن الإجابة غالبًا في الإشعاع الذي تنتجه النجوم الوليدة، والذي يميل إلى الحد من تكوُّن النجوم.

يمكننا بسهولة تفسير الحد الأدنى لكتلة النجوم الوليدة. فجيوب الغازات المنهارة ذات الكتل الأقل من حوالي عُشر كتلة الشمس تكون طاقة الجاذبية لديها ضعيفة لدرجة لا تمكنها من رفع حرارة قلوبها إلى العشرة ملايين درجة المطلوبة لإتمام تفاعل الاندماج النووي للهيدروجين. في هذه الحالة لن يولد نجم من خلال تفاعلات الاندماج النووي، بل ستكون النتيجة نجمًا غير مكتمل، جسمًا يسميه الفلكيون «القزم البني». لعدم وجود مصدر طاقة خاص بالقزم البني فهو يخبو بمعدل ثابت، ويشع مقدار الطاقة اليسير المتولد خلال عملية الانهيار الأولى. الطبقات الغازية الخارجية للقزم البني تكون باردة حتى إن الكثير من الجزيئات الكبيرة التي في المعتاد تُدمَّر في الغلاف الخارجي للنجوم الأعلى حرارة تظل صحيحة كما هي. يصعِّب السطوع الخافت للأقزام البنية للغاية من عملية كشفها؛ لهذا يتعين على الفيزيائيين الفلكيين إذا أرادوا العثور عليها توظيف مجموعة من الطرق المعقدة الشبيهة بتلك المستخدمة للعثور على الكواكب: كالبحث عن وهج الأشعة تحت الحمراء الخافت القادم من هذه الأجسام. وفقط في السنوات الأخيرة تمكن الفلكيون من اكتشاف أعداد كبيرة من الأقزام البنية بما يكفي لتصنيفها في أكثر من فئة.

أيضًا يمكننا بسهولة تعيين الحد الأقصى لكتلة النجم المتكون. فالنجم الذي تتجاوز كتلته كتلة الشمس بأكثر من مائة مرة سيكون سطوعه عظيمًا — تدفق مهول من الطاقة على صورة ضوء مرئي وأشعة تحت الحمراء وأشعة فوق البنفسجية — حتى إن أي غاز أو غبار إضافي ينجذب نحو النجم سيُصَد بفعل الضغط الشديد للضوء النجمي الصادر عنه. ستدفع بروتونات النجم حبيبات الغبار داخل السحابة، التي بدورها ستحمل الغاز بعيدًا عنها. هنا يتناسب ضوء النجم تناسبًا عكسيًّا مع ما يحيط به من غبار. إن ضغط الإشعاع هذا يعمل بكفاءة كبيرة حتى إن عددًا قليلًا من النجوم كبيرة الكتلة داخل أي سحابة مظلمة حاجبة سيتمتع بسطوع كافٍ لاختراق كل المواد الموجودة بها، بحيث يكشف للكون عن عشرات، إن لم يكن مئات، النجوم الوليدة — الشقيقة في الواقع — حتى تراها بقية المجرة.

•••

كلما نظرت إلى سديم الجبار، الواقع أدنى النجوم الثلاثة الساطعة لحزام الجبار، في منتصف المسافة إلى سيف الصياد الخافت نسبيًّا، رأيت حاضنة نجمية من النوع الذي نتحدث عنه. ولدت آلاف النجوم داخل هذا السديم، وهناك آلاف غيرها تنتظر التكون، وسريعًا ما سيتكون عنقود نجمي عملاق يصير مرئيًّا أكثر وأكثر للكون مع تبدد السديم. إن أكبر النجوم الجديدة حجمًا، التي تشكل مجموعة تعرف بمعيّن الجبار، تعمل بدأب على نخر ثقب عملاق في منتصف السحابة التي تكونت منها. تكشف صور تلسكوب هابل الفضائي لهذه المنطقة عن وجود المئات من النجوم الجديدة في هذه المنطقة وحدها، وكل نجم وليد محاط بقرص كوكبي ناشئ مكون من الغبار والجزيئات الأخرى الآتية من السحابة الأصلية. وداخل هذه الأقراص ستبدأ مجموعات الكواكب في التكون.

حتى بعد تكون مجرة درب التبانة بعشرة مليارات عام، لا تزال عملية تكون النجوم مستمرة إلى اليوم في أماكن عدة في المجرة. ومع أن أغلب عمليات تكون النجوم في مجرة عملاقة تقليدية كمجرتنا قد حدثت بالفعل، فإننا محظوظون لأن نجومًا جديدة آخذة في التكون، وسيستمر هذا عدة مليارات قادمة من الأعوام. إن حظنا الحسن نابع من قدرتنا على دراسة عملية تكون النجوم والنجوم الوليدة، والبحث عن الأدلة التي ستكشف، بكل فخر، القصة الكاملة لتحول النجوم من مجموعة من الغازات الباردة والغبار إلى النضوج الساطع.

كم يبلغ عمر النجوم؟ لا يحمل النجم بطاقة عليها عمره، لكن أعمار النجوم تظهر بشكل ما من خلال أطيافها. فمن الوسائل العديدة التي طورها الفيزيائيون الفلكيون لتحديد أعمار النجوم يعد الطيف الضوئي هو الوسيلة الأجدر بالثقة في تحليل الألوان المختلفة لضوء النجم بالتفصيل. فكل لون — كل طول موجي وكل تردد لموجات الضوء التي نرصدها — يخبرنا بقصة عن الكيفية التي صنعت بها المادة هذا الضوء النجمي، أو أثرت عليه حين غادر النجم، أو تصادف وقوعها على امتداد خط البصر بيننا وبين النجم. وقد تمكن الفيزيائيون — من خلال المقارنة الدقيقة للأطياف في المختبرات — من تحديد الطرق العديدة التي تؤثر بها الذرات والجزيئات المختلفة على نطاق الألوان التي يحملها الضوء المرئي. وبإمكانهم تطبيق هذه المعرفة الخصبة على أطياف النجم المرصودة، ومن ثم استنتاج عدد الذرات والجزيئات التي أثرت على الضوء من نجم بعينه، إضافة إلى حرارة تلك الجزيئات وضغطها وكثافتها. وقد عرف الفيزيائيون الفلكيون — بعد سنوات من مقارنة أطياف الضوء في المختبرات بأطياف النجوم، إلى جانب دراسة أطياف مختلف الذرات والجزيئات في المختبرات — كيف يقرءون طيف أي جرم سماوي وكأنه بصمة كونية مميزة، تكشف عن الظروف المادية الموجودة داخل الطبقة الخارجية للنجم، وهي المنطقة التي يتدفق منها الضوء مباشرة نحو الفضاء. إضافة إلى ذلك يستطيع الفيزيائيون الفلكيون تحديد الكيفية التي أثرت بها الذرات والجزيئات، التي تطفو في الفضاء النجمي في درجات حرارة أبرد بكثير، على طيف الضوء النجمي الذي يرصدونه، ومن ثم يمكنهم استنتاج التركيب الكيميائي للمادة الموجودة بين النجوم إلى جانب درجة حرارتها وكثافتها وضغطها.

في التحليل الطيفي كل نوع مختلف من الذرات أو الجزيئات يحكي قصة مختلفة. فعلى سبيل المثال، قد يكشف وجود جزيئات بعينها، تم التيقن من وجودها بسبب تأثيرها المميز على ألوان معينة في طيف الضوء، عن أن درجة حرارة الطبقة الخارجية لنجمٍ ما أقل من ٣ آلاف درجة مئوية (حوالي ٥ آلاف درجة فهرنهايت). في درجات الحرارة الأعلى تتحرك الجزيئات بسرعة كبيرة حتى إن اصطدامها بعضها ببعض يجعلها تتفتت إلى ذرات مفردة. يستطيع الفيزيائيون الفلكيون، من خلال التوسع في هذا النوع من التحليل ليشمل العديد من المواد المختلفة، أن يرسموا صورة شبه كاملة للظروف التفصيلية في الأجواء النجمية. يقال إن بعض الفيزيائيين الفلكيين المجدين في عملهم يعرفون عن أطياف النجوم أكثر بكثير مما يعرفونه عن أسرهم. وبالطبع قد يكون لهذا تأثير سلبي على العلاقات الأسرية، حتى لو كان يؤدي إلى زيادة فهم الإنسان للكون.

من كل عناصر الطبيعة — من بين أنواع الذرات المختلفة التي يمكنها تكوين أنماط معينة في طيف النجوم — يتعرف الفيزيائيون الفلكيون على نوع معين ويستخدمونه في معرفة عمر أحدث النجوم عمرًا. هذا العنصر هو الليثيوم، ثالث أبسط العناصر الكيميائية وأخفها والثالث في الترتيب في الجدول الدوري للعناصر، والمألوف لبعض البشر على الأرض بوصفه مكونًا نشطًا لبعض الأدوية المضادة للاكتئاب. في الجدول الدوري للعناصر يأتي الليثيوم بعد الهيدروجين والهيليوم مباشرة، وهما العنصران الأشهر بفضل وجودهما بكميات أوفر بكثير في أنحاء الكون. خلال الدقائق الأولى من عمر الكون اندمجت ذرات الهيدروجين لتكون ذرات الهيليوم بأعداد كبيرة، ولم تتكون سوى كميات بسيطة من العناصر الأخرى الأثقل. نتيجة لذلك ظل الليثيوم عنصرًا نادرًا إلى حدٍّ ما، وأكثر ما يميزه عند الفيزيائيين الفلكيين هو الحقيقة الكونية التي تقضي بأن النجوم نادرًا ما تكوِّن المزيد من ذرات الليثيوم، لكنها تدمر فقط الموجود منها. إن الليثيوم يسير في طريق ذي اتجاه واحد لأن تفاعلات الاندماج النووي للنجوم أكثر فعالية في تدمير ذرات الليثيوم عن تخليقها. نتيجة لذلك يقل المخزون الكوني من الليثيوم بثبات، وعلى نحو مستمر؛ لذا، إذا كنت تريد بعضًا من هذا العنصر فالآن هو الوقت المناسب للحصول عليه.

تعد هذه الحقيقة البسيطة عن الليثيوم بمنزلة أداة مفيدة للغاية في يد الفيزيائيين الفلكيين لقياس أعمار النجوم. فكل النجوم تبدأ حياتها بحصة متساوية نسبيًّا من الليثيوم، متخلفة عن الاندماج النووي الذي حدث في أول نصف ساعة من عمر الكون، وخلال الانفجار العظيم ذاته. وما هذه الحصة المتساوية؟ حوالي واحد في كل مائة مليار نواة. وبعد أن يستهل النجم الوليد حياته بهذه «الثروة» من الليثيوم، تبدأ الأحوال في التدهور، فيما يتعلق بالليثيوم على أي حال، حيث تعمل التفاعلات النووية في قلب النجم على استهلاك مخزون الليثيوم ببطء. يتسبب الاختلاط الثابت، والعرضي أحيانًا، بين المادة الموجودة في قلب النجم والمادة الموجودة في طبقته الخارجية في حمل المادة إلى الخارج؛ لذا بعد بضعة آلاف من السنوات تستطيع الطبقة الخارجية للنجم أن تعكس ما حدث من قبل في قلبه.

حين يبحث الفيزيائيون الفلكيون عن أصغر النجوم عمرًا، فإنهم لذلك يتبعون قاعدة بسيطة مفادها: ابحث عن النجم ذي المخزون الأكبر من الليثيوم. إن عدد أنوية الليثيوم داخل النجم مقارنة بأنوية الهيدروجين مثلًا (المحدد من خلال الدراسة الحريصة لطيف النجم)، سيضع النجم في مكان ما على امتداد الخط البياني الذي يوضح ارتباط عمر النجم بمقدار الليثيوم الموجود في طبقته الخارجية. يستطيع الفيزيائيون الفلكيون، باستخدام هذه الطريقة، أن يحددوا بثقة أصغر النجوم عمرًا في أي عنقود نجمي، ويمكنهم أن يعينوا لكل نجم عمرًا محددًا بناءً على محتواه من الليثيوم. ولأن النجوم تدمر الليثيوم بكفاءة، لا تحوي النجوم المسنة إلا القدر اليسير من هذا العنصر، هذا إن احتوت عليه من الأساس. لهذا تصلح هذه الطريقة على نحو طيب مع النجوم التي لا تتجاوز أعمارها بضع مئات الملايين من الأعوام. أما مع النجوم صغيرة السن فيكون أسلوب الليثيوم مفيدًا للغاية. تظهر دراسة حديثة أجريت على نيف وعشرين نجمًا صغير السن في سديم الجبار، وكلها لها كتلة قريبة من كتلة الشمس، أن أعمار هذه النجوم تتراوح من مليون إلى ١٠ ملايين عام. وفي يوم ما قد يتمكن الفيزيائيون الفلكيون من تحديد النجوم الأصغر سنًّا من ذلك، لكن في الوقت الحالي يعد المليون عام أفضل ما يسعهم التوصل إليه.

•••

باستثناء تشتيت شرانق الغاز التي تكونت منها، لا تشغل مجموعات النجوم الوليدة أحدًا لفترة طويلة من الوقت، حيث تواصل دمج الهيدروجين إلى هيليوم في قلوبها في هدوء وتدمر مخزونها من أنوية الليثيوم كجزء من تفاعلات الاندماج النووي التي تجري داخلها. لكن لا شيء يستمر إلى الأبد. فعلى مدار ملايين عديدة من الأعوام «يتلاشى» السواد الأعظم من العناقيد النجمية التي في سبيلها للتكون، بفعل اضطرابات الجاذبية التي تسببها السحب العملاقة المارة بجوارها، وتتناثر النجوم في أرجاء المجرة.

بعد تكوُّن شمسنا بحوالي ٥ مليارات عام اختفت شقيقاتها من النجوم الأخرى، فمنها ما ظل على قيد الحياة ومنها ما لم ينج. ومن بين كل نجوم مجرة درب التبانة والمجرات الأخرى، تستهلك النجوم ذات الكتل المنخفضة وقودها ببطء شديد حتى إنها تعيش بشكل شبه أبدي. أما شمسنا، وما شابهها من النجوم متوسطة الكتلة، فستتحول في نهاية حياتها إلى عملاق أحمر، حيث تتمدد طبقاتها الغازية الخارجية مئات الأضعاف بينما تسير على طريق الفناء. هذه الطبقات الخارجية تصير مرتبطة ارتباطًا واهنًا بالنجم حتى إنها تنجرف بعيدًا في الفضاء، كاشفة عن قلب من الوقود النووي المستنفد الذي غذى النجم طوال حياة قوامها ١٠ مليارات عام. أما الغاز الذي سيعود إلى الفضاء فستجرفه السحب العابرة، ليشارك في تكوين نجوم جديدة.

إن النجوم ذات الكتلة الأعلى، مع ندرتها، تحمل كل الأوراق التطورية تقريبًا في جعبتها. فكتلتها العالية تمدها بأعلى درجات السطوع النجمي — إذ يصل سطوع بعضها إلى مليون مرة قدر سطوع الشمس — ولأنها تستهلك وقودها النووي بسرعة أعلى بكثير من النجوم منخفضة الكتلة، فهي تعيش أقصر حياة بين كل النجوم؛ فلا تزيد أعمارها عن ملايين معدودة، أو أقل، من الأعوام. الاندماج النووي المستمر داخل النجوم عالية الكتلة يمكنها من تصنيع عشرات العناصر الكيميائية في قلوبها، بداية بالهيدروجين ومرورًا بالهيليوم والكربون والنيتروجين والأكسجين والنيون والماغنسيوم والسليكون والكالسيوم وهكذا دواليك وصولًا إلى الحديد. وتستمر هذه النجوم في تكوين المزيد من العناصر في مراحلها الأخيرة، التي يتجاوز سطوع النجم فيها سطوع المجرة الموجود فيها بأسرها. يطلق الفيزيائيون الفلكيون على هذه النجوم المستعرات العظمى، التي تشبه في شكلها (وإن اختلفت في أصلها) المستعرات العظمى من النوع Ia الموصوفة في الفصل الخامس. ينشر انفجار المستعر الأعظم كلًّا من المادة المصنعة من قبل إضافة إلى العناصر المكونة حديثًا في أرجاء المجرة، نافثًا الغازات في أنحائها ومثريًا السحب القريبة بالمادة الخام لتصنيع حبيبات غبار جديدة. يمر الانفجار بسرعة هائلة خلال هذه السحب النجمية، ضاغطًا ما تحويه من غازات وغبار، ومسببًا تكون بعض الجيوب ذات الكثافة العالية اللازمة لتكوين النجوم.

تتمثل الهدية الأعظم التي تمنحها هذه المستعرات العظمى للكون في مجموعة عناصر خلاف الهيدروجين والهيليوم؛ وهي العناصر التي تتكون منها الكواكب والكائنات وحيدة الخلية والبشر. نحن على الأرض نعيش على نتاج عدد لا يحصى من النجوم التي انفجرت منذ مليارات الأعوام، في حقب من تاريخ درب التبانة تسبق تكون شمسنا وكواكبها في أعماق إحدى السحب النجمية، المكونة نفسها من العناصر الكيميائية الغنية التي أمدتها بها الأجيال السابقة من النجوم ذات الكتلة العالية.

•••

كيف توصلنا إلى هذه المعرفة الجوهرية؛ حقيقة أن كل العناصر عدا الهيليوم تكونت داخل النجوم؟ يرى المؤلفان أن إدراكنا أن المستعرات العظمى — الموت العنيف المتفجر للنجوم ذات الكتلة العالية — هي المصدر الأساسي لمخزون العناصر الثقيلة في الكون يستحق لقب الاكتشاف العلمي الأقل تقديرًا في القرن العشرين. هذا الإدراك غير المحتفى به ظهر في بحث طويل، نشر في عام ١٩٥٧ في الدورية الأمريكية «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس» تحت عنوان «تألف العناصر داخل النجوم» كتبه كل من إي مارجريت بوربيدج، وجيفري آر بوربيدج، وويليام فاولر، وفريد هويل. في هذا البحث وضع العلماء الأربعة إطار عمل نظريًّا وحوسبيًّا لتفسير وتنقيح أربعين عامًا من أفكار علماء آخرين بشأن موضوعين أساسيين: مصدر الطاقة النجمية، وتحول العناصر الكيميائية.

لطالما اعتبرت الكيمياء الكونية؛ السعي لفهم كيف يصنع الاندماج النووي الأنواع المتباينة من الأنوية ويدمرها، من الفروع المحيرة. ومن الأسئلة المحورية في هذا المجال: كيف تتصرف العناصر المختلفة حين تؤثر عليها درجات الحرارة والضغط المتباينة؟ هل تندمج العناصر أم تنقسم؟ بأي سهولة يحدث ذلك؟ هل هذه العمليات تطلق طاقة حركية أم تمتص الطاقة الحركية الموجودة سلفًا؟ وكيف تختلف العمليات لكل عنصر من عناصر الجدول الدوري؟

ما الذي يعنيه الجدول الدوري للعناصر بالنسبة لك؟ إذا لم تكن مختلفًا عن أغلب الطلاب السابقين فستذكر جدولًا عملاقًا معلقًا على حائط حجرة العلوم الدراسية، مزخرفًا بمربعات غامضة كُتبت فيها حروف ورموز مبهمة تحكي قصصًا عن المختبرات المغبرة التي يتجنبها الطلاب. لكن لمن يعرفون أسراره يحكي هذا الجدول مئات القصص من العنف الكوني الذي تسبب في إيجاد هذه العناصر. فالجدول الدوري يعرض قائمة بكل العناصر المعروفة في الكون، مرتبة تصاعديًّا وفق عدد البروتونات في كل نواة. أخف عنصرين هما الهيدروجين، الذي تحمل نواته بروتونًا وحيدًا، والهيليوم، الذي تحمل نواته بروتونين. وكما رأى واضعو بحث عام ١٩٥٧، ففي ظل ظروف الحرارة والكثافة والضغط الملائمة، يستطيع النجم استخدام الهيدروجين والهيليوم لتكوين بقية العناصر الموجودة في الجدول الدوري.

تعد تفاصيل عملية التكوين هذه، وتفاصيل التفاعلات الأخرى التي تدمر الأنوية بدلًا من أن تكونها، هي موضوع مجال الكيمياء النووية، التي تتضمن حساب «المقاطع العرضية للتصادم» لقياس الحد الذي يجب أن يقترب إليه أحد الجسيمات من جسيم آخر حتى يحدث بينهما تفاعل ملحوظ. يستطيع الفيزيائيون بسهولة حساب المقاطع العرضية للتصادم الخاصة بخلاطات الخرسانة، أو المنازل المتحركة التي تُنقل عبر الشارع على الشاحنات المسطحة، لكنهم يواجهون صعوبة كبيرة في تحليل سلوك الجسيمات دون الذرية الدقيقة المراوغة. ويُمكِّن الفهم المفصل للمقاطع العرضية للتصادم الفيزيائيين من التنبؤ بمعدلات التفاعلات النووية ومساراتها. وكثيرًا ما يؤدي بعض الغموض في جداول القطاعات العرضية إلى التوصل إلى استنتاجات خاطئة بدرجة كبيرة. الأمر هنا يشبه ما يحدث لو أنك حاولت التنقل عبر نظام مترو الأنفاق الخاص بمدينة ما مسترشدًا بخريطة مترو الأنفاق لمدينة أخرى؛ فالنظرية الأساسية صحيحة، لكن التفاصيل قد تُهلكك.

على الرغم من جهل العلماء بالقطاعات العرضية الدقيقة للتصادم، فإنهم خلال النصف الأول من القرن العشرين كانوا يشكون في أنه لو وقعت تفاعلات نووية غريبة في أي مكان بالكون، فالمكان المرجح حدوثها فيه هو قلوب النجوم. في عام ١٩٢٠ نشر الفيزيائي النظري سير آرثر إدنجتون بحثًا بعنوان «البنية الداخلية للنجوم» ذكر فيه أن معمل كافنديش في إنجلترا، ذلك المركز الرائد في الأبحاث النووية والذرية، قد لا يكون المكان الوحيد في الكون الذي يتم فيه تحويل العناصر إلى عناصر أخرى:

لكن هل من الممكن الإقرار بأن مثل هذا التحويل يحدث بالفعل؟ من العسير التأكيد على حدوث ذلك، لكن الأصعب من ذلك هو إنكاره … وما يمكن عمله في معمل كافنديش قد لا يصعب عمله في الشمس. أعتقد أن هناك شكًّا كبيرًا في أن النجوم هي البوتقة التي تتجمع فيها الذرات الخفيفة الموجودة في السُّدم لتشكل عناصر أكثر تعقيدًا.

نُشر بحث إدنجتون، الذي أسس للبحث المفصل الذي أجراه بوربيدج وبوربيدج وفاولر وهويل، قبل عدة سنوات من اكتشاف ميكانيكا الكم، التي من دونها ما كان فهمنا لفيزياء الذرات والأنوية ليوصف إلا بالمتواضع على أفضل تقدير. وببصيرة استثنائية بدأ إدنجتون صياغة سيناريو للطاقة المولدة من النجوم عن طريق تفاعل الاندماج النووي الحراري الذي يحول الهيدروجين إلى هيليوم وغيره من العناصر:

لسنا بحاجة للاقتصار على تكوين الهيليوم من الهيدروجين بوصفه التفاعل الوحيد الذي يزود [النجم] بالطاقة، مع أنه يبدو أن المراحل الأخرى من بناء العناصر تتطلب قدرًا أقل من إطلاق الطاقة، وفي بعض الأحيان امتصاصها. يمكن تلخيص الموقف بالكلمات الآتية: إن ذرات جميع العناصر مبنية من ذرات هيدروجين مرتبطة بعضها ببعض، ومن المحتمل أنها تطورت في وقت ما من الماضي من ذرات الهيدروجين، ويبدو قلب النجوم المكان المرجح لحدوث هذا التطور.

ينبغي لأي نموذج لتحويل العناصر أن يفسر خليط العناصر الموجود على كوكب الأرض وفي كل مكان آخر من الكون. وكي يقوم الفيزيائيون بهذا فهم يحتاجون إلى العثور على العملية الجوهرية التي تولد بها النجوم الطاقة من خلال تحويل عنصر إلى عنصر آخر. بحلول عام ١٩٣١، بعد أن صارت نظريات ميكانيكا الكم ناضجة بما يكفي (رغم عدم اكتشاف النيوترون بعد)، نشر الفيزيائي الفلكي البريطاني روبرت دي اسكورت أتكنسون ورقة بحثية شاملة، يمكن تلخيصها بوصفها: «نظرية جامعة لكل من الطاقة النجمية وأصل العناصر … تُبنى وفقها العناصر الكيميائية المختلفة خطوة بخطوة من العناصر الأخف منها في أعماق النجوم، بواسطة الدمج المتعاقب للبروتونات والإلكترونات واحدًا في كل مرة.»

في العام نفسه نشر عالم الكيمياء النووية الأمريكي ويليام دي هاركنز ورقة بحثية ذكر فيها أن «العناصر ذات الأوزان الذرية المنخفضة [عدد البروتونات والنيوترونات داخل نواة الذرة] أكثر وفرة من العناصر ذات الأوزان الذرية الكبيرة، وأنه في المتوسط تزيد العناصر ذات الأعداد الذرية [عدد البروتونات داخل كل نواة] الزوجية بعشرة أضعاف عن العناصر ذات الأعداد الذرية الفردية التي تحمل قيمة مشابهة». خمن هاركنز أن الوفرة النسبية للعناصر تعتمد على الاندماج النووي وليس على عمليات كيميائية أخرى على غرار الاحتراق، وأن العناصر الثقيلة لا بد أنها تكونت من العناصر الأخف.

في النهاية أمكن للآلية المفصلة للاندماج النووي في النجوم أن تفسر شيوع العديد من العناصر في الكون، خاصة تلك العناصر التي سنحصل عليها في كل مرة نضيف نواة هيليوم تحوي اثنين من البروتونات، واثنين من النيوترونات إلى العنصر المكون من قبل. تمثل هذه العناصر الوفيرة ذات «الأعداد الذرية الزوجية» التي وصفها هاركنز. بيد أن وجود العديد من العناصر الأخرى وأعدادها النسبية ظل مستعصيًا على التفسير. لا بد من وجود وسائل أخرى لبناء العناصر في الكون.

يلعب النيوترون، المُكتشف عام ١٩٣٢ بواسطة الفيزيائي البريطاني جيمس تشادويك إبان عمله في معامل كافنديش، دورًا مهمًّا في تفاعل الاندماج النووي الذي عجز إدينجتون عن تخيله. إن الجمع بين البروتونات يستلزم قدرًا من العمل الصعب؛ لأن البروتونات ستنفر بعضها من بعض بالطبيعة، مثلما تفعل كل الجسيمات ذات الشحنات الكهربية المتشابهة. ولدمج بروتونين عليك أن تقرب بينهما بما يكفي (عادة من خلال الحرارة والضغط والكثافة الشديدة) للتغلب على قوى التنافر بحيث تعمل القوة النووية القوية على الربط بينهما. أما النيوترونات عديمة الشحنة فلا تتنافر مع أي جسيمات؛ لذا بوسعها الدخول إلى نواة عنصر آخر والانضمام للجسيمات الأخرى المجمعة، التي تربط بينها القوة عينها التي تربط البروتونات. هذه الخطوة لا تؤدي إلى تخليق عنصر جديد؛ إذ يستلزم هذا أن يكون عدد البروتونات مختلفًا في كل نواة. لكن من خلال إضافة النيوترون يمكننا تخليق «نظير» لنواة العنصر الأصلي، التي تختلف فقط في التفاصيل عن النواة الأصلية؛ لأن إجمالي الشحنة الكهربية يظل كما هو دون تغيير. لبعض العناصر يتسم النيوترون الوافد حديثًا بعدم الاستقرار، وفي هذه الحالة يحول النيوترون نفسه بصورة تلقائية إلى بروتون (يظل كامنًا داخل النواة)، وإلكترون (يفلت منها على الفور). بهذه الطريقة، مثل الجنود الإغريق الذين دخلوا طروادة مختبئين في حصان خشبي، تستطيع البروتونات التسلل إلى النواة متنكرة على صورة نيوترونات.

إذا ظل تيار النيوترونات المتدفق عاليًا، تستطيع كل نواة امتصاص العديد من النيوترونات قبل أن يتحلل أول نيوترون منها. هذه النيوترونات سريعة الامتصاص تساعد في تكوين مجموعة من العناصر التي يتحدد أصلها من خلال «عملية الاقتناص السريعة للنيوترونات»، والتي تختلف عن مجموعة العناصر التي تنتج عن عملية الاقتناص البطيئة للنيوترونات، والتي يتحلل فيها كل نيوترون إلى بروتون قبل أن تقتنص النواة النيوترون التالي.

إن عمليتي الاقتناص السريعة والبطيئة للنيوترونات مسئولتان عن تخليق العديد من العناصر التي لم تكن لتتكون من خلال تفاعل الاندماج النووي التقليدي. وبالنسبة للعناصر المتبقية في الطبيعة فيمكن تكوينها من خلال بضع عمليات إضافية، منها تسليط الفوتونات عالية الطاقة (أشعة جاما) على نواة الذرات الثقيلة، التي ستتحلل إلى ذرات أصغر.

مع أن هذا الوصف لدورة حياة النجوم عالية الكتلة قد يبدو مفرطًا في البساطة، فإنه يمكننا التأكيد على أن كل نجم يعيش من خلال توليد الطاقة وإطلاقها من أعماقه، وأن هذه الطاقة هي التي تمكن النجم من الصمود أمام قوة الجاذبية. ودون إنتاج الطاقة من خلال تفاعل الاندماج النووي ستنهار كل كرة نجمية غازية على نفسها تحت وطأة ثقلها. هذا المصير ينتظر النجوم التي تستنزف مخزونها من أنوية الهيدروجين (البروتونات) في قلوبها. وكما ذكرنا من قبل، فبعد تحويل الهيدروجين إلى هيليوم، سيحول قلب النجم هائل الحجم الهيليوم إلى كربون، ثم يحول الكربون إلى أكسجين، والأكسجين إلى نيون، وهكذا دواليك وصولًا إلى الحديد. إن الدمج المتتابع لهذه العناصر الأثقل فالأثقل يستلزم وجود حرارة عالية تمكن الأنوية من التغلب على قوى التنافر الطبيعية بينها. ولحسن الحظ يحدث هذا الأمر تلقائيًّا؛ لأنه في نهاية كل مرحلة وسيطة، حين يخبو مصدر طاقة النجم مؤقتًا، تنكمش المناطق الداخلية للنجم، وترتفع الحرارة، ويكون الطريق ممهَّدًا لتفاعل الاندماج التالي. وبما أنه لا شيء يستمر إلى الأبد، يواجه النجم في نهاية المطاف مشكلة عويصة هي أن اندماج الحديد لا ينتج طاقة، بل يمتصُّها. هذا أمر سيئ للنجم، الذي يعجز وقتها عن مقاومة قوة الجاذبية من خلال القيام بعمليات توليد جديدة للطاقة من خلال الاندماج النووي. عند هذه النقطة ينهار النجم بغتة، وترتفع حرارته الداخلية بسرعة كبيرة، ثم يحدث انفجار هائل يمزق النجم إربًا.

من خلال كل انفجار، تمكِّن وفرة النيوترونات والبروتونات والطاقة المستعرات العظمى من تخليق العناصر بطرق متباينة. وفي مقالهم المنشور عام ١٩٥٧ جمع بوربيدج وبوربيدج وفاولر وهويل بين (١) المبادئ المختبرة جيدًا لميكانيكا الكم، (٢) فيزياء الانفجارات، (٣) أحدث القطاعات العرضية للتصادم، (٤) العمليات المتعددة التي تحول العناصر إلى عناصر أخرى، (٥) أساسيات نظرية التطور الكوني التي تقتضي بوضوح وضع انفجارات المستعرات العظمى كمصدر أساسي لكل العناصر الأثقل من الهيدروجين والهيليوم في الكون.

مع وجود النجوم عالية الكتلة كمصدر للعناصر الثقيلة، والمستعرات العظمى كوسيلة توزيع العناصر، توصل الأربعة العظام لحل مشكلة أخرى بالمجان: فحين تتشكل العناصر الأثقل من الهيدروجين والهيليوم في قلوب النجوم، لن يعود ذلك على بقية الكون بالنفع في شيء ما لم تطلق هذه العناصر في الفضاء النجمي، بحيث تصير متاحة لتشكيل عوالم جديدة. لقد وحد بوربيدج وبوربيدج وفاولر وهويل فهمَنا للاندماج النووي في النجوم مع عملية إنتاج العناصر التي نراها في أرجاء الكون. وقد صمدت نظريتهم على مدار عقود من التحليل المتشكك، وبهذا يعد بحثهم المنشور نقطة تحول في معارفنا بشأن الطريقة التي يسير بها الكون.

أجل، الأرض وكل ما عليها جاء من الغبار النجمي. وكلا، لم نحل بعد كل مشكلاتنا الكيميائية الكونية. أحد الألغاز الحديثة نسبيًّا يتعلق بعنصر التكنيشيوم الكيميائي، الذي كان — في عام ١٩٣٧ — أول عنصر يخلَّق صناعيًّا في مختبرات إرثباوند. (كلمة تكنيشيوم technetium، وغيرها من الكلمات، تستخدم البادئة tech، المشتقة من الكلمة اليونانية technetos، بمعنى «اصطناعي».) لم نكتشف بعد هذا العنصر في كوكب الأرض، لكن الفلكيين عثروا عليه في الغلاف الجوي لأجزاء من النجوم وهي في مرحلة العملاق الأحمر في مجرتنا. ليس في هذا أي مفاجأة؛ نظرًا لأن التكنيشيوم يتحلل كي يكوِّن عناصر أخرى، وهو يفعل هذا في فترة عمر نصف قدرها مليونَا عام وحسب، وهي أقصر بكثير من العمر المتوقع للنجوم التي رصدناه فيها. أدى هذا اللغز إلى وضع عدد من النظريات الغريبة، لكن لم تحظ أيٌّ منها بالقبول في أوساط الفيزيائيين الفلكيين.

للنجوم في مرحلة العملاق الأحمر خصائص كيميائية غريبة نادرة، لكنها مثيرة لاهتمام مجموعة من الفيزيائيين الفلكيين (أغلبهم من العاملين بالتحليل الطيفي) الذين تخصَّصوا في هذا الموضوع وينتجون «النشرة الإخبارية للعمالقة الحمراء ذات السمات الكيميائية الغريبة» ويوزعونها. هذه الدورية، التي لن تجدها متوفرة على أرفف بيع الصحف، تحتوي على أخبار مؤتمراتهم وتحديثات للأبحاث الجارية. من وجهة نظر العلماء المهتمِّين بهذا الأمر، هذه الألغاز الكيميائية لها نفس الجاذبية المرتبطة بموضوعات مثل الثقوب السوداء والنجوم الزائفة والكون المبكر. لكنك نادرًا ما تقرأ عنها، لماذا؟ لأن وسائل الإعلام، كالمعتاد، حددت مسبقًا ما يستحقُّ التغطية وما لا يستحقها. ومن الواضح أن أخبار المنشأ الكوني لكل العناصر الموجودة في جسدك وفي كوكبك لا تستحق الاهتمام.

ها هي فرصتك لإصلاح الضرر الذي أوقعه بك المجتمع المعاصر. ولنذهب معًا في رحلة عبر الجدول الدوري، متوقِّفين من مكان لآخر للتركيز على أكثر الحقائق إثارة للاهتمام عن العناصر المختلفة، وكي نظهر إعجابنا بالطريقة التي تكونت بها كل هذه العناصر من عنصري الهيدروجين والهيليوم اللذين نتجا عن الانفجار العظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤