مقدمة

نُعاصر اليومَ طفراتٍ — بشكل يفوق الخيال — في قدرات الحواسيب (سواءٌ المكتبية الصغيرة، أو محطات العمل، أو الحواسيب الفائقة) المتاحة في الأسواق، والتي أصبحت أقوى أُسيًّا في جميع النواحي، وذلك من حيث عدد المعالجات (النَّوَى) وسرعتها في إجراء العمليات الحسابية، سواء بالتوازي أو بالتتابع، وسعة ذاكراتها وسعة تخزين النتائج. نتج عن ذلك قيام الأفراد — باحثين كانوا أو طلابًا في الجامعات أو حتى في المدارس الثانوية — باقتناء معدات البحث والتعلُّم الخاصة بهم في معاملهم أو حتى في منازلهم.

في عام ١٩٧٤ قمتُ مع عدد من طلابي في الدراسات العليا بتنفيذِ برنامجٍ صغيرٍ لحسابات التركيب الإلكتروني لجزيئات عضوية بسيطة مثل الأنيلين والبريدين وغيرهما، وكان الحاسوب المتاح آنَذاك في مركز الحساب العلمي، الذي أنشأه المرحوم أ.د. فتحي البديوي، أستاذ الفيزياء بكلية العلوم في جامعة عين شمس، يُنجز المهمة في حوالي ١٦ دقيقة كاملة، ونحصل على النتائج العددية مطبوعةً لنقوم بتحليلها واستخلاص خصائص بسيطة لهذه الجزيئات، وكانتْ عملياتٍ معقَّدةً جدًّا إذا ما قُورِنتْ بالمتاح حاليًّا. فاليومَ وباستخدام المتوفر — سواء من الحواسيب الصماء أو البرامج — نحصل على النتائج قبل أن يرتدَّ إلينا طرف، بل أصبح في الإمكان أيضًا بسهولةٍ ويسرٍ إجراءُ حسابات معقَّدة لمركَّبات كيميائية وبيولوجية كبيرة جدًّا باستخدام حُزَمِ برمجياتٍ هائلة متاحة مجانًا للأكاديميين، أو ما يمكن شراءُ رخصةِ تشغيله. وليس المراد فقط هو حسابات التركيب الإلكتروني لهذه المركَّبات أو المتراكبات أو العديد من المواد، بل أيضًا خواصها الكيميائية والفيزيائية والديناميكية الحرارية وجميع أنواع أطيافها، وتفاعُلاتها أيضًا سواءٌ في الحالة الأرضية أو كيمياء الحالة المثارة (الكيمياء الضوئية)، وكل هذه المهام تُنجَز في وقتٍ قصير وبتكلفة أقل.

ما أهداف المهام الواجب تنفيذها؟ ولماذا تُنفَّذ؟

تُنفَّذ المهمات الحسابية لثلاثة أسباب واضحة (V.I.P.) وهي «ت٣»؛ أيْ: تحقِّق، وتفسِّر، وتتنبَّأ. وهي باختصار: التحقُّق (Validate) من صحة القياسات المعملية، تفسير (Interpret) النتائج المعملية، التنبؤ (Predict) بمركبات وبمتراكبات جديدة ذات خواصَّ معينةٍ ومطلوبة .

وسيُشرَح ذلك بعدد من الأمثلة الفعلية في الفصول التالية.

ونظرًا لاهتمامنا الشديد بالتعليم، خاصةً التعليم الذاتي، فسنُقدِّم أمثلة عديدة مرئية لنتائج حسابية بحُزَم البرامج المتاحة (انظر ملحق (١)) لشرح وتفسير مبادئ أساسية في بعض أَفْرُع الكيمياء. وسيجد القارئ عددًا من أمثلةٍ صُمِّمت خصوصًا لتمرين الطلاب، ومشروعات حسابية للمختبر باستخدام حُزَمِ بعض البرامج المتاحة؛ ذلك لتعميق المفاهيم الصحيحة لأساسيات الكيمياء، ليس فقط على المستوى الثانوي أو التعليم الجامعي، بل أيضًا على مستوًى مُتقدِّمٍ يخدم الأبحاث لطلاب الدراسات العليا على مستوى الماجستير والدكتوراه، وعلى مستوى الباحثين المؤهَّلين بالدرجات العلمية للترقي في وظائفهم البحثية وفي مواقعهم في بعض الصناعات، كالكيمياء الدوائية، والبيئية، ومواد الطاقة، والخلايا الشمسية، والأصباغ وغيرها.

وسأقدِّم شرحًا مختصرًا، وإنْ كان وافيًا، لأمثلةٍ توضح خطوات العمل، وللطرق المستخدَمة في حسابات الخواص المختلفة وحُزَم بعض برامج كيمياء الكم المتاحة، وبرامج عرض النتائج الرسومية ومصادرها، بالإضافة إلى نوعية الحواسيب.

سأتجنَّب تمامًا الخوْضَ في كل ما يُنفِّر القارئ المبتدئ من هذا المجال الخصب، وخاصةً النظريات الرياضية لميكانيكا الكم وطرق حلولها (الخوارزميات)، بل سأُلمِّح إلى الطرق الحسابية الأكثر شيوعًا والأسرع والأكثر دقةً للحصول على نتائجَ نظريةٍ تتوافق مع النتائج المعملية. وفي يقيني أن هذا النهج سيجذب مزيدًا من الدارسين، ويفتح المجال للاستزادة الذاتية للتعمق والتوسع في المعرفة، وكلما اقتضت الحاجة.

وتُعَد الكيمياء الحاسوبية رخيصةَ الكُلفة إلى حدٍّ ما، إذا قُورِنت بإجراء التجارب المعملية، وهي سريعةٌ مُقارَنةً بالتجرِبة، وهي كذلك آمِنة بيئيًّا. لكنها لا تحلُّ محلَّ التجرِبة، التي ما زالت تُمثِّل حقيقةً لطبيعة ما ندرسه معمليًّا. علاوةً على ذلك، فإنه لصُنْعِ شيءٍ ما — مثل أدوية جديدة، أو مواد جديدة للطاقة مثلًا — يجب إجراء التجارب في المعمل. لكن أصبح اللجوء إلى الحسابات أمرًا بديهيًّا وموثوقًا به لجدوى اقتراح المادة المراد تحضيرها، وذلك قبل الشروع في إجراء التجارب معمليًّا.

وصدق الرأي القائل إننا في الكيمياء الحاسوبية نُحاكِي سلوكَ الجزيئات الحقيقية بمساعدة النماذج التي تعكس بدقةٍ كبيرة سلوكَ الذرات والجزيئات في الواقع.

ويُمكِن اعتبار هذه المقدمة دليلًا عمليًّا أوليًّا ومحفِّزًا ليُرشِد ويعطي دَفْعةً لكل مهتمٍّ بمعرفةِ هذا المجال الهام، وقد يكون مُلهِمًا لمحبي العلم والتعلُّم كي يَستزيدوا ويتعمَّقوا في خوضِ هذه الرقعة الممتدة، ودراسةِ أبعادها وحدودها المترامية، والإلمام بدُروبها دونَ دليلٍ سوى كُتَيِّباتِ شرحِ حُزَمِ البرامج المختلفة.

لا كمالَ في العلم، وَلْينهلْ كلُّ دارسٍ قدْرَ اهتمامه واحتياجاته، ويتعمَّق بما يُطِيق لتحقيقِ ما يصبو إليه، لمُواكَبة ما يجري على الساحة العالمية. ومَن سار على هذا الدرب قد يُضيف ويَبتكِر، لتكون لنا الريادةُ والسَّبْق؛ لهذا تطلَّبَ الأمر تقديم هذا المجال باللغة العربية الأم، لسلامة الفهم وتجنُّبًا للعوائق اللغوية، ولتخطي حاجز الاستيعاب باللغة الأجنبية. وأنا على يقينٍ أن هذا العمل سيُساهم في تحقيق المأمول من انتشار هذا الفرع من العلوم المعاصرة، وتثبيت مفاهيم التعلم والفهم للابتكار في مجالات تعليمية وأبحاث علمية وتطبيقية ذات مردود اقتصادي ووَقْع إيجابي على المجتمع.

وعلى الله قصد السبيل.

المؤلف     
أ.د. محمد صبري أحمد عبد المطلب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤