مقدمة

كينز الإنسان والاقتصادي

تقوم رؤية كينز الأساسية على أننا لا نعلم ما سيحدث في المستقبل، ولا يُمكننا التنبؤ به. وفي ظل هذا الوضع تُمثِّل النقودُ مصدرَ اطمئنانٍ نفسي في مواجهة عدم اليقين. وحينما يشعر المدَّخرون بالتشاؤم تجاه المستقبل، يمكنهم الاتجاه إلى الاحتفاظ بمدخراتهم بدلًا من استثمارها في الأعمال؛ لذا ليس ثمة ما يَضمَن إنفاقَ الفرد لدخله بالكامل. يعني هذا أنه لا توجد نزعةٌ فطرية لدينا لاستغلال جميع مواردنا المتاحة. يقول كينز في كتابه «النظرية العامة»:

لا يمكن تشغيل الناس عندما يكون الشيء المرغوب فيه (أي النقود) شيئًا لا يمكن إنتاجُه (أي نُوظِّف الناس لإنتاجه) ولا يمكن وقف الطلب عليه بسهولة. وليس هناك حلٌّ إلا بإقناع الناس ببديل زائف للقمر يُمكن تصنيعُه وإخضاعُ مَن يُصنِّعه (أي البنك المركزي) لسيطرة الدولة.

حينما ذكر كينز النقود بدلًا من السِّلَع ووصَفها بأنها «الشيء المرغوب فيه»، هل كان ذلك سطحيًّا أم أنه قَصَدَ شيئًا عميقًا على نحو هزلي؟ وإلى أيِّ مدًى يُمكن أخْذُ اقتراحه بجعْل النقود مثل «البديل الزائف للقمر» على محمَل الجدِّ؟

لقد خضعتْ تلك المسألة للنقاش منذ ذلك الحين. فهل كان كينز مجرد متأمِّل لبعض الأفكار، أم أنه مخلِّص يقدِّم للعالَم المريض أملًا أو حلًّا جديدًا؟ كتبتْ الاقتصاديةُ بياتريس ويب، عضو الجمعية الفابية، تقول: «لم يكن كينز جادًّا بشأن المشكلات الاقتصادية؛ فهو يلعب معها مباراة شطرنج في أوقات فراغه. والمجال الوحيد الذي اهتمَّ به هو عِلْم الجمال.» أما راسل ليفنجويل — المسئول بوزارة الخزانة الأمريكية الذي تَفاوَض مع كينز في مؤتمر باريس للسلام عام ١٩١٩ — فقد رأى أن كينز «فاسد وخبيث دائمًا … وشابٌّ ذكيٌّ يصدم معجبيه الأكبر سنًّا بتشكيكه في وجود الربِّ والوصايا العشر!» لكن الاقتصادي جيمس ميد، الذي عَرف كينز وهو طالبٌ في مرحلة الدراسات العليا بجامعة كامبريدج وموظفٌ عامٌّ وقتَ الحرب، قال عنه: «لم يكن كينز مجرد رجل عظيم جدًّا فحسب، بل كان رجلًا رائعًا كذلك.» وبالنسبة للاقتصاديين الأصغر سنًّا على نحو عام، فقد مثَّل كتابُ كينز «النظرية العامة» شعاعَ ضوء في عالَمٍ مِن الظلام الدامس. وقال عنه ديفيد بينسوزان-بات، الذي أصبح أستاذًا للاقتصاد بكلية كينجز كوليدج بجامعة كامبريدج عام ١٩٣٣: «لقد كان الكِتَاب بمنزلة رسالة سماوية في عصر الظلام. لقد جاءتْ رأسمالية كينز المحسَّنة بكلِّ ما كان يصبو إليه جِيلُ الجمعية الفابية، بل أكثر، في الاشتراكية؛ فقد نادتْ بالمساواة إذا نظرنا إليها من منظور أخلاقي، وأحسنَتِ استغلالَ كل شيء، وكانت سخية وبراقة …» أما لوري تارشيس، وهو تلميذ آخر لكينز، فكتب يقول: «في النهاية كان ما قدَّمه كينز حقًّا هو «الأمل»؛ الأمل في استعادة الرخاء والحفاظ عليه دون الحاجة إلى معتقلات وأحكام إعدام واستجوابات وحشية …»

استمرَّ هذان الوصفان النمطيَّان حتى وقتنا هذا. فهؤلاء الذين يعارضون كينز يرون أنه قدَّم فرضيات مبتكرة لكنها في النهاية مشتتة وغير صحيحة؛ أما مؤيدوه فَيَرون أنه قدَّم أفكارًا عميقة في مجال السلوك الاقتصادي، إلى جانب أدوات قيِّمة على نحو دائم للسياسات الاقتصادية. وكلا الوصفين صحيحان، بيد أنهما ناقصان. فشخصية كينز لها جوانب عديدة؛ فيرى الناس منه أوجهًا مختلفة. هذا بخلاف أنه تَغيَّر؛ ما يعني أن الأجيال المختلفة رأتْه بأشكال مختلفة. ولقد كان كينز بالفعل يحب التلاعب بالأفكار بطريقة متهوِّرة، لكن صديقه أوزوالد فولك قال عنه: «بهذه الطريقة، ورغم الشواهد المضلِّلة، كان أسرع في مُواكبة سَير الأحداث من غيره.» وقد كان بارعًا في صياغة عبارات قوية، وكان يستخدم الكلمات عن عَمْد لاستثارة الناس وإخراجهم من حالة الكسل العقلي. لكن «حينما وصل إلى مكانة كبيرة في عقول الناس، لم يَعُد الاستخدامُ الجمالي للغة مقبولًا.» صحيح أنه ليس هناك مجال للشك فيما يتعلق بجدية نوايا الرجل، لكنَّ السؤال الأساسي يكمن فيما إذا كانتِ المفاهيم التي صاغها ونقَلها إلينا هي المفاهيم الصحيحة لفهْم عالمه وعالمنا مِن بعده أم لا.

إن أفكار كينز تضرب بجذورها في زمانه ومكانه؛ فقد وُلد عام ١٨٨٣ وتُوفي في عام ١٩٤٦. كان مولده في عالَمٍ افتَرَض أن طريق السلام والرخاء والتقدم هو الطريق الطبيعي للعالم، وعاش طويلًا على نحو كافٍ حتى رأى تلك التوقعات وهي تنهار. فعندما اشتدَّ ساعِدُه، كانت بريطانيا هي قلْبَ إمبراطوريةٍ عظمى، في حين شهدَتِ الأشهُر الأخيرة من حياته استجداءها للولايات المتحدة الأمريكية. ولم يُعاصر في حياته انهيار الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل شهد كذلك الوهن وهو ينخر عظام الاقتصاد البريطاني. وشهدت حياتُه تحولًا من اليقين إلى الشك، ومن حديقة طفولته السعيدة إلى غابة سنوات نضجه حيث الوحوش الضارية. وفي عام ١٩٤٠، كتب إلى مراسل أمريكي يقول: «للمرة الأولى منذ أكثر من قرنين أصبحتْ رسالة هوبز إلينا أهم من رسالة لوك.»

كان كينز نتاجَ تفكُّك تقاليد العصر الفيكتوري. وهذا ما جعل مشكلة السلوك الشخصي والاجتماعي في قلب اهتماماته. لكنْ فيما قبلَ الحرب العالمية الأولى، غمرَ هذا التفككُ كينز ومعاصريه بفيض من السعادة؛ فقد رأَوْا أنفسَهم أول جيل يتحرر من الخرافات المسيحية، ورأَوْا في أنفسِهم أيضًا صانِعِي عصرٍ تنويريٍّ جديد، والمستفيدين منه، والذين يمكنهم صياغة أفكاره وقواعد سلوكه في ضوء العقل فقط. فكانت أفكارُهم شخصية وجمالية؛ فالحياة العامة كانت محبِطة إلى حدٍّ ما؛ لأنه بدا أن معارك التقدم الكبيرة كلها قد باتتْ محسومة. وأصبحَتِ التجربة لغةَ العصر في الفنون والفلسفة والعلوم وفي أساليب الحياة بدلًا من السياسة والاقتصاد؛ فقد وُلد دياجاليف عام ١٨٧٢، ووُلد بيكاسو عام ١٨٨١، وجروبيس عام ١٨٨٣، وجيمس جويس وفيرجينيا وولف في عام ١٨٨٢، وولد راسل في ١٨٧٢، وجي إي مور عام ١٨٧٣، وولد فيتجنشتاين عام ١٨٨٩، وأينشتاين عام ١٨٨٠. وكان فرويد — أحدُ هؤلاء الذين شكَّلوا الوعْيَ في أوائل القرن العشرين — هو الوحيدَ الذي لا ينتمي لهذا الجيل؛ فقد كان ميلاده في عام ١٨٥٦.

نشبَتِ الحرب العالمية الأولى، وتغيَّر بعدها كلُّ شيء. وبعد عام ١٩١٤ برزتْ قضية إدارة العالَم الذي ننتمي إليه؛ وهو عالَم اتضح أنه ينزلق إلى الفوضى. فكانت القضية هي قضية السيطرة لا التحرُّر. واعترف كينز عام ١٩٣٨ أنَّ الحضارة «كانتْ مجرد قشرة رقيقة غير مستقرة.» استولى رجال الحكم على مقاليد الأمور، عاقدين العزم على فرض تصوراتهم عن النظام للقضاء على الفوضى؛ حيث وُلد ستالين عام ١٨٧٩، وموسوليني عام ١٨٨٣، وهتلر عام ١٨٨٩. وفقدَتِ الحداثة براءتها، وتراجع المرَح مُفسِحًا المجال للرعب. وبدأ كينز يتأمل عقيدته. وفي عام ١٩٣٤ قال لفرجينيا وولف: «بدأتُ أعتقد أن جِيلَنا — جِيلِي أنا وأنتِ — يَدِينُ بشكْل كبير لدِين آبائنا. فلن يخرج الصغار … الذين لم يتربَّوْا عليه بالكثير من الحياة. فهُم تافهون كالكلاب يَجْرُون وراء شهواتهم. لقد فُزْنا بأحسن ما في العالَمَيْنِ؛ فقد انتصرْنا على المسيحية، لكننا مع ذلك فُزْنا بمزاياها.» لكن النقطة الأهم تكمن في أنه لم يستسلم قَطُّ لسياسات اليأس الثقافي. فرغم كل شيء، بقيتْ لديه بهجة الحقبة الإدواردية. فالشك يمكن مواجهته، ليس بالقوة الوحشية، وإنما بالعقول وتوظيف الذكاء، وعندها يمكن استعادة التوافق مرة أخرى. كانت تلك عقيدته النهائية ورسالته، إن جاز التعبير، لعصرنا.

كان كينز مؤهَّلًا جيدًا لنقل تلك الرسالة؛ فقد كتب برتراند راسل يقول إن «عقل كينز كان الأذكى والألمع بين كلِّ مَن عرفتُهم. فعندما كنتُ أُجادِله، كنتُ أشعر أنني أرى حياتي أمام عيني، ولم أكن أشعر فيها قَطُّ بأني كنتُ أحمقَ إلا أمامه.» لكنْ ثمة آخرون شعروا أنه استخدم عبقريته بشكل مفرط، ومن بين هؤلاء كينيث كلارك الذي قال عنه إنه: «لم يَخفُت اتِّقاد ذهنه قَطُّ.» لكنَّ تفكيره المتدفق هذا هو ما صدم معاصريه على نحو أساسي؛ فكانتْ لدَيْهِ نزعة — كما يقول كينجسلي مارتن — «للالتفاف حول العقبات التي تقف أمامه وتجاوُزِها بدلًا من التخلص منها. فهو مثل التيار يبدو عادةً وكأنه يتحرك في اتجاهات متعاكسة.» ومن العبارات الساخرة التي شاعت في حياة كينز أنه لا يجتمع خمسة من الاقتصاديين إلا وتجد ستة آراء؛ اثنان منها لكينز. ويقول كينجسلي مارتن: «لكنَّ الاتهامات التي وُجِّهتْ إليه بالتقلب واتباع النزوات، لم تعنِ شيئًا سوى أن عقله يتعامل بسرعة وبشجاعة الفرسان على نحوٍ ما مع الصعوبات العملية، ليقدم حلًّا ممكنًا تلوَ الآخر بشكلٍ يرعب ويُذهِل أهل الحذر وجمود الفكر.» وتكمن المفارقة — كما قال كيرت سينجر — في أنه يُمكِن لشخص «لا يجد ضالته إلا في الحركة … والذي يمكنه أن يبني ويهدم في يوم واحد عددًا كبيرًا من الفرضيات الفكرية الرائعة» أن يترك للعالم «كتاب عقيدة جديدة».

مع ذلك فمن الخطأ أن نحكم عليه، كما حَكَم عليه لويد جورج، بأنه «نبتةٌ بلا جذور»؛ فقد وُلد في العصر الفيكتوري، وظل يحتفظ بآثار «القِيَم الفيكتورية» طَوَالَ حياته. ووَرِث كينز حسًّا قويًّا بالواجب، رغم أنه — مثل سيدجويك — لم يجد مبرِّرًا لذلك من الناحية الفلسفية. لقد آمن بهيمنة النخبة النبيلة أو الأرستقراطية الفكرية. وهذه الفكرة تخلِط بين ما هو اجتماعي وما هو فكري؛ مما يعكس صعود عائلة كينز، من خلال التفوق العقلي ونجاح الأعمال، إلى دائرة النخبة الحاكمة في العصر الفيكتوري. وقد كان وطنيًّا فكريًّا، رغم أن وطنيته خلتْ من أي أثر للتطرف. وقد آمن بشدة بفضائل حقبة السلام النسبي الذي ساد أوروبا والعالم بعد هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، ولم يقتنع بوجود أيِّ قوة أخرى يمكنها أن تتولى دور بريطانيا العالمي. كما كان مؤيِّدًا لألمانيا ومعارِضًا لفرنسا، وهو ما وَرِثه أيضًا عن القرن التاسع عشر.

كانت مخالَفة العرف عاملًا حاسمًا في تكوين شخصية كينز. وهو ما يَظهر في أسلوبه المقتصد. فقد رأى الناسُ أن مُتَعَه كانتْ «قليلة جدًّا»؛ ففي نهاية حياته ندِمَ على أنه لم يشرب المزيد من الخمر. وعلى الرغم من أنه قد أصبح فاحش الثراء، فإنه قد عاش باعتدال دون أبَّهة أو بذخ. وبصفته اقتصاديًّا، شغل تفكيرَه على نحو كبير ميلُ الناس لكَنْزِ الأموال بدلًا من إنفاقها، وتُرجم هذا العيب الثقافي، أو النفسي، الموجود في سلوك الطبقة التي ينتمي لها إلى تفسير مُفعَم بالمفارقة لاحتمال سقوط الاقتصاديات الرأسمالية.

انحدر كينز من عائلة من الوُعَّاظ، وخاصة من ناحية الأم. وكان ضمن الجيل الأول ممن لم يُؤمِنوا بالدِّين، والذين لم تُزعِجهم «الشكوك»، لكن اللاهوت كان يجري منه مجرى الدم، وكان الحد الفاصل بين علم اللاهوت وعلم الاقتصاد أصغر مما هو عليه اليوم. لكن كانت لديه قدرة كبيرة على مخالفة العُرف والاعتراض مثل المنشقِّين البروتستانت؛ فقد كانتْ مقالاته الاقتصادية بمنزلة مواعظ علمانية. إن «الفردية غير المسبوقة لفلسفتنا» التي أشار إليها عام ١٩٣٨ قامت على الاعتقاد بأن الإنسان (على الأقل في إنجلترا) هذَّبتْه القِيَم الفيكتورية أخلاقيًّا على النحو الكافي، وأصبح على استعداد «لأنْ يتحرر بأمان من القيود الخارجية للعرف والمعايير التقليدية وقواعد السلوك الجامدة، وأن يُترك — من الآن فصاعدًا — لِمَلَكَاته العقلانية ودوافعه النقية وفطرته الخيِّرة السليمة.»

لم يحظَ كينز بتعاطُف اجتماعي كبير، رغم أنه نما بمرور الوقت؛ فقد بَنَتْ عائلته العصامية نفسَها بسواعدها، وعلى نحو عام توقع أن يفعل الآخرون نفس الشيء، بشرط توافر فُرَص العمل التي تكفي الجميع. أما بالنسبة للباقين، فقد كانت هناك جمعية تنظيم العمل الخيري وغيرها من الجمعيات النموذجية التي ظهرتْ في منتصف العصر الفيكتوري لمساعدة غير القادرين ومُدمني الخمر. لكن نزعة كينز الموروثة لمخالفة العرف انحسرتْ أمام القبول الاجتماعي؛ فقد انتقل إلى كلية إيتون (وهي أفضل مدرسة في بريطانيا في ذلك الوقت)، ونما حبُّه لرفقة زملائه النابغين الأكبر منه سنًّا. وقد أحب أيضًا مرافقة الأغنياء وذوي النسب، رغم أنه لم يُفرط في الاندماج معهم. وعندما كبر كينز أصبح أكثر تحفُّظًا، ليكون رائدًا للاستمرارية والتطور؛ فقد كَتَبَ في نهاية كتابه «النظرية العامة» أن النتائج الاجتماعية التي خرجت من أفكاره الاقتصادية كانتْ «إلى حدٍّ ما متحفظة». ورأى أن الرأسمالية التي كان ينبذها أخلاقيًّا يمكنها أن تبقى لكن في ظل إدارة محسنة.

أمَّا ما لم يتغير منذ طفولة كينز، فكانَ عاداته في العمل؛ فقد كان يعمل كأكثر الآلات كفاءة. وبهذا فَرَضَ نظامَه الخاص على عالم فوضوي. وهو ما مكَّنه من أن يعيش حيوات عديدة، وأن يستمتع ويتحمس لكلٍّ منها؛ فقد شَغَلَ كل لحظة في يومه بأنشطة وخطط متنوعة. وكان يؤدي كل أعماله في سرعة مبهرة. وامتلك قدرة عجيبة على الانتقال من مهمة إلى أخرى؛ ورغم كل ما كان يفعله، لم يَبْدُ عليه التسرُّع، وكان لديه وقت وفير للأصدقاء والتحدث وممارسة الهوايات.

كان حماس كينز «الهائل والغريب للتاريخ والإنسانية» هو ما قرَّبه من فيرجينيا وولف؛ حيث كان «عقله يعمل باستمرار»، ويفيض «بأفكار غزيرة في موضوعات لا يطرُقها إلا القليلون.» فقد كان شغوفًا بالعالم، ولم يدرُس أي موضوع إلا وكوَّن عنه نظريةً ما، مهما كانت خيالية. وهناك جملةٌ مشهورة له تقول: «لم تكن إنجلترا مستعدة لاستقبال شكسبير إن ولد قبل مولده بخمسين عامًا.» وكانتْ عادتُه الجذابة هذه بالتطرق إلى ميادينَ تخشى العقولُ الأبطأُ من عقله دخولَها، واعتماده على اختلاق الأفكار بسرعة للخروج من المآزق الصعبة؛ هما السبب في أغلب الأحيان في هجوم الخبراء عليه واشتهاره بأنه هاوٍ حتى في علم الاقتصاد. لكن هذا لم يقتصر على محادثات ما بعد العَشاء. كان كينز مهووسًا باهتمامات فكرية تبدو بعيدة عن مجال عمله؛ فقد حاول في بداية حياته أن يضع صيغة للتنبؤ بعمى الألوان بناءً على قوانين مندل الوراثية؛ وفي عشرينيات القرن العشرين استحوذ عليه على نحو متكرر مقالٌ كتبه بعنوان «الجنون البابلي» عن نشأة النقود؛ حيث كتب إلى ليديا لوبوكوفا في ١٨ يناير ١٩٢٤ قائلًا: «إنه مقال سخيف تمامًا وعديم الفائدة إلى حدٍّ كبير، لكنه استحوذ عليَّ مرة أخرى لدرجة الهوس … والنتيجة أنني أشعر بالجنون والبلاهة. مع تحيات، مجنون يغمره الجموح، مينارد.»

لكنَّ كفاءة كينز لم تُعفِه من الإرهاق المستمر؛ فقد كان مُجهَدًا على الدوام. وفي شبابه ذهبَ ذات مرة ليقضي عطلةَ نهاية أسبوع هادئةً مع برتراند راسل، وحدث أنْ وصل ستة وعشرون ضيفًا بشكْل مفاجئ، معظمهم — حسبما ألمحَ راسل — جاء تلبيةً لدعوة كينز. ولاحقًا أصبحَتِ الحقائب الممتلئة بالأوراق رفيقة دائمة له في عطلاته بالخارج. ولقد قضى سنوات فيما أسماه هو نفسُه ﺑ «العذاب على الطريقة الصينية» في لجان المدرسة والجامعة، التي كان من السهل عليه تفاديها؛ فقد كان دائم التساؤل: «هل هذا ضروري؟» «لِمَ كلُّ هذا الضجيج؟» «لماذا أفعل هذا؟» فهل كان لكينز أيُّ هوية وهو وحدَه؟ لم يَبْدُ أنه يعيش في سلام مع نفسه؛ فقد كان يظن أنه قبيح، وكان يَكْرَه صوتَه. وشكا أصدقاؤه في مجموعة بلومزبيري من انعدام حساسيته الفنية، وسخروا من ذوقه في الصور والأثاث. فكانتِ «الأقنعة» التي يرتديها مادية قبل أن تكون عقلية. وتوارتِ العيون اللاهية والفم الجذَّاب خلف القشور التقليدية لأي رجل «ذي شأن»؛ الشارب العسكري والبذلات السوداء والقبعات التي كان يرتديها حتى في نُزْهاته؛ فقد حاول إثبات هويته من خلال تفوُّقه في العالم الخارجي.

أما سلوكه نحو الآخرين، فقد كان خليطًا من الطيبة وعدم التسامح؛ فقد كان لديه في قلبه متسع كبير لحب الآخرين، وعلى عكس زملائه من أعضاء مجموعة بلومزبيري، كان وفيًّا لأصدقائه على نحو استثنائي. كما كان يُقدِّر الألغاز والغرائب والهوس بكل ما يخص العقل؛ لأنه كان غالبًا ما يراها مصدرًا غنيًّا للاحتمالات المشوقة. وكان يقدِّر كلمة genius، والتي تعني «عبقريٌّ»، لكنه استخدمها بمعناها الأصلي وهو «الروح الطليقة». ومثل العديد من المفكرين، كان يحترم الخبرة العملية مهما كانت متواضعة. ولم يكن صبورًا، لكنه كان قادرًا على تحمُّل قدْر كبير من المشكلات في علاقاته بأصدقائه ومَن كان يرى أنهم يستحقون ذلك.
في الوقت نفسِه كان من الممكن أن يتصرَّف أحيانًا بطريقة غير مهذبة مطلقًا، خاصةً مع أولئك الذين كان يَرَى أنهم ينبغي أن يعرفوه على نحو أفضل. وكان مُصابًا بلعنة أكسبريدج؛ حيث كان مؤمنًا بأن كل البراعة التي في العالم تكمن في جامعتَيْ أكسفورد وكامبريدج وفي كل ما يَنتج عنهما. وبالتوازي مع ذلك، كانت نظرة كينز للعالَم تَعتبر إنجلترا في مركزه، وهي نظرة كانت أكثر شيوعًا وقتها من الآن. وكان عادةً ما يفلت بسلوكه غير المهذب بسبب حضور بديهته وإتقانه لأسلوب تَسْفيه الرأي الآخر. لكنه كان قادرًا على إيلام الآخرين. وعن هذا، كتب الاقتصادي الأمريكي والتر ستيوارت يقول:

في محادثاته، كان كينز بارعًا في أغلب الأحيان، لكنه أحيانًا يكون قاسيًا أيضًا. فلم يكن بإمكانه مقاومة إغراء تحقيق نقاط على حساب الآخرين، وحينها كان ينظر فيمَن حولَه من المستمعين ليرى هل كانوا قد لاحظوا تفوُّقَه أم لا. وكان أحيانًا يستخدم سيف ذكائه ضد مَن لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم بسهولة، وحتى ضد الغائبين عن المجلس.

لم يكن هذا الأسلوب لِيروقَ لأحد. فلم يُعجِب قَطُّ الأمريكيين. فعلى سبيل المثال، بدا «خطابه المفتوح» لروزفلت عام ١٩٣٣ — كما يقول هيربرت شتاين — «مثل خطاب معلِّمٍ لِوَليِّ أمرٍ فاحشِ الثراء لتلميذٍ بليدٍ جدًّا.» وفي مدينة سافانا، في مارس ١٩٤٦، في الاجتماع الافتتاحي لصندوق النقد الدولي، ألقَى كينز خطابًا تمنَّى فيه ألَّا تكونَ هناك أيُّ «جِنِّية شريرة» إلا وقد دُعيتْ إلى ذلك الاجتماع. كان ذلك إشارة لباليه تشايكوفسكي «الجمال النائم»، لكن فريدريك فينسون وزير الخزانة الأمريكي أخَذ العبارة على محملٍ شخصي، وصاح قائلًا: «لا أُمانِع أنْ أوصَفَ بالشرير، لكني لا أرضَى بأن أُدعَى جِنِّيَّة.»

أما كيرت سينجر، فيقدم صورة أفضل لسلوك كينز؛ حيث يقول عنه: «لقد جسَّد بالإشارة وبالنظرة وبالكلمة … صورةَ طائر ذي سرعة غير معقولة، يرسم دوائر على ارتفاعات شاهقة، لكن بدرجة عالية في الدقة، ثم ينقضُّ فجأة على حقيقة أو فكرة معينة، وهو قادر على نحْت كلماتٍ لا تُنسَى لتعبِّر عمَّا رآه، فيفرض غنيمته الفكرية بقبضة حديدية حتى على مَن يرفضونها.»

لم يكن مِن الواضح، مِن خِلال خلفية كينز ولا مِن قدراته، أنه سيتخذ مِن علم الاقتصاد مجالًا للعمل؛ فقد كان والده اقتصاديًّا واختصاصيًّا في عِلْمِ المنطق، لكنَّ ما آلَتْ إلَيهِ حياتُه العملية لم يكن شيئًا مبشِّرًا بالنسبة لكينز؛ فقد آلتْ به الحال للعمل في أعمال إدارية في الجامعة. أما كينز فكان عقلُه شديدَ الاتِّساع وروحه عاليةَ الهِمَّة بشكْل لا يُمكِّنه من القيام بعملٍ أكاديميٍّ شديدِ التخصص. ففي أثناء كتابته لعمله «بحث في الاحتمال» استهلك كل اهتمامه الجدي بالمنطق؛ فقد كان المنطق أفقًا ضيقًا بالنسبة لعقله. فيجب أن يكون الإنسان قادرًا على استخدام عقله بشكل جمالي وعملي. كان كينز مولعًا منذ وقت مبكر بالجانب النفسي للتعاملات المالية والمراهنات في سوق الأوراق المالية، وكان من الممكن أن تَجعَلَه مواهبه الإدارية موظفًا عامًّا رفيعًا، وكان أيضًا كاتبًا رائعًا. وفي نهاية المطاف كان قادرًا على أن يجعل من علم الاقتصاد وسيلةً لإشباع هَوَسِه وصقْل مواهِبِه، لكن حالةَ عدم اليقين في عالمٍ صَدَمتْه الحربُ هي ما جعل علمَ الاقتصاد مجالَ عملِهِ.

لكن ما الذي يُميِّز كينز كاقتصادي؟ إن أهم ما يميزه هو مزيج المواهب الذي قدَّمه لهذا المجال. ومن المستحيل أن تعتقد أنه لم يكن يقصد نفسَه حينما كتب في مقاله عن ألفريد مارشال:

يجب على الاقتصادي المتمكن أن يمتلك مزيجًا نادرًا من الهِبَات … يجب أن يكون عالِمَ رياضيات ومؤرخًا ورجلَ دولةٍ وفيلسوفًا، بدرجة ما. عليه أن يفهم الرموز ويتحدث بالكلمات. عليه أن يتأمل ما هو خاصٌّ في ضوءِ ما هو عامٌّ، وأن يتعامل مع المجرد والمادي معًا في نفس جولة التفكير. وعليه أن يَدرس الحاضر في ضوء الماضي من أجل المستقبل. ويجب ألَّا يُخرج أيَّ جزء من طبيعة الإنسان أو مؤسساته عن دائرة اهتمامه بشكل كامل. وعليه أن يكون هادفًا ونزيهًا معًا؛ فينعزل ويتسامَى عن الشوائب مثل الفنان، لكنْ ينزل إلى أرض الواقع أحيانًا مثل رجل السياسة.

وكتبتْ زوجة كينز — ليديا لوبوكوفا — إن كينز كان «أكثر من مجرد اقتصادي»؛ فقد رأى كينز نفسُه أن «عوالمه كلها» أثْرَت فكرَه الاقتصادي. فهو أشبهُ ما يكون بعالم الاقتصاد السياسي — ذلك المفهوم القديم الذي يصعب تعريفه — وهو شخص يعتبر الاقتصاد فرعًا من فروع إدارة الدولة، لا عِلمًا منغلقًا على ذاته له قوانينه الثابتة. ذات مرة سأله أحدُ محاوريه في لجنة المالية والصناعة (لجنة ماكميلان): ألمْ تعطِّل مزايا الضمان الاجتماعي عمَلَ «القوانين الاقتصادية»؟ ردَّ كينز بقوله: «لا أعتقد أن مِن بين القوانين الاقتصادية ما ينصُّ على أنْ تَمِيل الأجور إلى الانخفاض أكثر من ميلها للارتفاع. إن الأمر يتعلق بالحقائق. والقوانين الاقتصادية لا تصنع حقائق؛ بل تُبيِّن تبعاتها.» وفي منتصف عمره، كان دائم الشكوى من أنَّ الاقتصاديين الشباب لم يكونوا يتلقَّوْن تعليمًا مناسبًا؛ فلم تكن لديهم ثقافة واسعة تمكنهم من تفسير الحقائق الاقتصادية. وفي هذا إشارة لمشكلة علم الاقتصاد، وكذلك للثورة الكينزية؛ فقد أشعل كينز نار الإبداع بين المختصين، لكنهم ظلوا مجرد مختصين؛ فقد استخدموا أدواته لكنهم لم يُضيفوا جديدًا لرؤيته.

وزعم كينز في مقاله عن توماس مالتوس أن «رجل الاقتصاد الأول في كامبريدج» لديه «حدْس اقتصادي عميق»، و«مزيج غير عادي من انفتاح الذهن على الصورة المتغيرة للتجربة والتطبيق المستمر لمبادئ التفكير المنهجي على تفسيرها.» وفي هذا ملخص لفلسفة كينز في الاقتصاد؛ فقد أخبر روي هارود عام ١٩٣٨ أن علم الاقتصاد «هو علم التفكير باستخدام النماذج ممزوجًا بفن اختيار النماذج المناسبة للعالم المعاصر … فالاقتصاديون الأكْفَاء نادرون؛ لأن موهبة توظيف «الملاحظة الواعية» لاختيار النماذج الجيدة … تبدو غاية في الندرة.» وفي مقالِهِ عن إسحاق نيوتن، نقل كينز كلمات دي مورجان عنه: «إنه سعيد جدًّا بحدْسه بحيث يبدو وكأنه يعلم أكثر مما يمكنه إثباته.» وهذا الكلام ينطبق على كينز الذي كان يشعر بصحة النتيجة قبل أن يتمكن من تقديم الدليل عليها.

كان كينز أكثر الاقتصاديين اعتمادًا على الحدس؛ والحدس المقصود هنا هو الحدس «الأنثوي»، وهو شعور باليقين بعيدٌ كلَّ البُعْد عن العقلانية. (ويُرجع تشارلز هيسون، واضعُ إحدى سير حياة كينز، إبداعَه إلى مزيج من الحدس الأنثوي والمنطق الذكوري.) ويجب التفريق بين الحدس بهذا المعنى والحدس الفلسفي الذي آمن كينز به أيضًا، والذي ينص على أن المعرفة تنبع مباشرة من التأمل الذاتي. كان كينز يتمتع بقدْرة ثاقبة على إدراك الصورة الكلية في مُجمل المواقف، وكان لديه قدْر كبير من الخيال العلمي الذي عزاه إلى فرويد، والذي «يمكنه أن يقدِّم سيلًا من الأفكار المبتكرة والاحتمالات المثيرة والفرضيات المفيدة، التي لها جميعها أساس كافٍ في الفطرة والتجربة.» كما كانتِ الحقائق الاقتصادية أكثر ما يَجذب تأملاته، عادة من الناحية الإحصائية. وكان دائمًا ما يقول إن أفضل الأفكار التي خطرتْ ببالِهِ جاءتْه في أثناء «عبثه بالأرقام ومحاولة اكتشاف مدلولاتها.» لكنه مع ذلك كان متشككًا في علم الاقتصاد القياسي المعنِيِّ باستخدام الطرق الإحصائية لأغراض التنبؤ. كما طالب بتطوير علم الإحصاء، ليس من أجل فهْمٍ أفضلَ لأمورٍ مثل مُعامل الانحدار، ولكن ليعتمد عليه حدسُ الاقتصادي.

كان مِن أهم مصادر فهْم كينز لمجال الأعمال انخراطه الشخصي في جَنْيِ الأموال؛ فقد قال عنه نيكولاس دافينبورت صديقه ورفيقه: «لقد كان فهم كينز لنزعة المراهنة هو ما جعل منه اقتصاديًّا عظيمًا.» وأضاف:

الاقتصادي الأكاديمي لا يَعلم حقًّا دوافع رجل الأعمال، ولِمَ يفضِّل أحيانًا أن يراهِن على مشروع استثماري، بينما يفضِّل في أحيانٍ أخرى الاحتفاظ بالسيولة النقدية. أما مينارد فقد فهِم تلك الدوافع؛ لأنه كان نفسه مراهنًا، وأدرك نزعتَيِ المراهنة والحفاظ على السيولة لدى رجل الأعمال. وفي مرة قال لي: «تذكَّرْ يا نيكولاس أن الحياة دائمًا رهان.»

وغالبًا ما كان يتعارض شَغَفُ التعميم عند كينز مع حسِّه الثاقب نحو الأشياء الخاصة المهمة. فقد كافح دائمًا من أجل «أن يرى عالَمًا كاملًا في حبة رمل … وأن يرى الدهر في ساعة.» لقد كانتْ قُدْرة كينز على «أن يتعامل مع المجرد والمادي معًا في نفس جولة التفكير» ميزةً باهرة ومحيرة في نفس الوقت لأفكاره الاقتصادية. ولم يكُن الناس على علم قَطُّ بمستوى التجريد في تفكيره. وقد شكا زميل كينز في جامعة كامبريدج، والذي يُدعَى بيجو، في أثناء نقْده لكتابه «النظرية العامة»؛ من رغبة كينز في «تحقيق مستوًى عالٍ من التعميم؛ بحيث تجب مناقشة كل شيء في نفس الوقت.» وقال شومبيتر الكلام ذاته تقريبًا؛ فقد قال إن كتاب كينز «النظرية العامة» قدَّم «في ثوب من الحقيقة العلمية العامة، نصائح … لا معنى لها إلا في سياق المقتضيات العملية لموقف تاريخي مميز في زمان ومكان محددين»؛ فقد عرض الكتاب «حالات خاصة منحها ذهنُ الكاتب وطريقةُ عرضه تعميمًا خادعًا.»

وجاء من زميل آخر لكينز في جامعة كامبريدج، وهو دينيس روبرتسون، نقدٌ ذو صلة يُلخَّص في عبارة «التأكيد المفرط المتتابع»، فقد قال في هذا الشأن:

يمكنني القول إنني — بقدْرتي على التواصل المستمر مع جميع عناصر مشكلةٍ ما بشكل تقليدي غير مميَّز — مثل دودة براقة تنشر ضوءها الضعيف على جميع الأشياء المحيطة بها؛ لكنك في المقابل — بفكرك الأكثر قوة — مثل منارة تسلِّط شعاعًا أقوى بكثير، وإن كان مشوِّهًا جدًّا أحيانًا، على شيء واحد ثم الذي يليه.

انتقد ألفريد مارشال في جيفنز ما انتقده الكثيرون في كينز: «حتى أخطاؤه عززتْ نجاحه … فقد دفع الكثيرين للاعتقاد أنه يصوب أخطاءً عظيمة، بينما كان ما يفعله حقيقة هو إضافةَ تفسيرات هامة.»

من الواضح أن هناك مجالًا للتساؤل عما إذا كان كِتاب «النظرية العامة» لكينز — كما يقترح كيرت سينجر — «لم يوضع ليلائم حالة خاصة جدًّا تحكمها التقلبات السياسية وتداعياتها النفسية للفترة الصعبة فيما بين الحربين العالميتين؛ وعما إذا لم يكن كينز في الحقيقة يناقش ظاهرةً مِن غير الوارد أن تتكرر.» ويصعب على الجانب الآخر تفسير الانهيار الأمريكي عام ١٩٢٩ في ضوء ذلك؛ فقد كان مقدار الاكتئاب الذي أصاب الولايات المتحدة «بلا سبب»، هو الحقيقة ذاتها التي سعى كتاب «النظرية العامة» لتفسيرها، كما سنرى.

في النهاية، لا يمكن فصل التحول من الاقتصاد «الكلاسيكي» إلى الاقتصاد «الكينزي» عن التغيرات الكبرى التي عاصرها كينز في السياسة والشئون الدولية والعلوم والفلسفة وعلم الجمال؛ فقد انعكستْ جميعُها في عقْله اللامع والغامض؛ فقد ظل إدوارديَّ الفكر؛ بمعنى أن معتقداتِه عن العالَم تشكَّلتْ في السنوات الأولى من القرن العشرين. وطوَّع عقيدته للحقائق البائسة اللاحقة. ولم يَسْعَ في أفكاره الاقتصادية للبحث عن الحقيقة، بل للوصول إلى فكرة ممكنة ضرورية لسلوك البشر في عالمٍ فَقَدَ كلَّ مبادئه الأخلاقية. ولم يستسلم كينز لليأس قَطُّ. بل تجاوز بتفاؤلِه أَحْلَكَ اللحظات. وقبل وفاته بوقت قصير أثنى على دور علم الاقتصاد ورجاله، قائلًا إنهم «أمناء، ليس على الحضارة، بل على السبل المتاحة أمامها.» ولم يكن لِيَختارَ هذه الكلماتِ الدقيقةَ إلا رجلٌ يمتلك حسًّا لغويًّا مرهفًا وحسًّا إدوارديًّا تجاه الهدف من الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤