الفصل الخامس عشر

بلغ جريجوار في «حانته الحمراء» خبر اختفاء فيدور، فاندهش وزاد به العجب، لا سيَّما وقد ترك الفتى في غرفة مولاته ولم يغب إلا ريثما أخطر الجنرال، ثم استلفت نظره بعد ذلك أمور خال أن لها علاقة بذلك السر الغريب، منها توسُّع إيفان في الصرف والبذخ بما لا يُعهَد في عبد مثله، وسكوت إيفان التام كلما جرى ذِكْر فيدور حتى إذا سُئِل عمَّا يعلمه أو يظنه في المسألة هَزَّ رأسه وقال: «لنتكلم في موضوع آخر»، فتضاربت ظنون جريجوار. وفي هذه الأثناء أقبل عيد الملوك وهو يوم مشهود ببطرسبرج تُقام فيه الاحتفالات، وتُبارَك مياه النهر، فاغتنم إيفان فرصة العيد فقصد «الحانة الحمراء» وكان لدى جريجوار جمْع غفير، فاستُقبل إيفان بالترحيب لا سيَّما وقد علم القوم أنه لا يأتي عادةً إلا ممتلئ الجيوب.

ودام القوم في شرب ولهْوٍ يتنقلون من حديث إلى حديث، حتى وقع الكلام على الاسترقاق، فأخذوا يغبطون جريجوار على ما ناله من الحرية والخلاص من العبودية، ويتمنى كل منهم أن يصير إلى ما صار إليه صاحب الحان، فالتفت إليهم إيفان قائلًا: كم من عبد تغبطه أسياده على ما هو فيه من راحة البال، حتى ليكاد يفضِّل الأسر على الحرية.

فقال جريجوار، وقد لمح من وراء هذه العبارة ما أعاد إليه الظنون: وما دليلك على ما تقول؟

ثم سكب للسائق قدحًا مفعمًا من الخمر وقدَّمه إليه، فقال إيفان، وقد رقصت برأسه بنت الحان: نعم، لا يكاد السيد منهم يُولَد حتى تأسره المدرسة، ثم إن هو شبَّ اضطر للبحث عن وظيفة، فإن كانت في العسكرية صار مستعبدًا لرئيسه، عديمَ التصرُّف في أقل حركاته، ولو بلغ مهما بلغ من الرقِيِّ، وإن كانت الملكية أصبح مُنغَّصًا بمتاعب الحياة؛ فاليوم زوجة تناوئه ودهر يحاربه، وغدًا أولاد لا يدري كيف يربيهم، فإن كان فقيرًا قضى حياته في تعب وجهاد، وإن كان غنيًّا خشي شرَّ اللصوص الذين لمثله بالمرصاد، فهل تلك حياة أيها الإخوان؟! أمَّا العبد فلا يهتم لمعاش؛ يطعمه أسياده ويسقونه، فلو عرِيَ يكسونه، أو مرض يداوونه، وحينما يشب يزوِّجونه طمعًا في نسله من الأولاد، وهو مع راحة باله من هموم حياته، حرِيٌّ بأن يكون أسعد من أسياده.

قال جريجوار: ولكنك مع ذلك لست حرًّا.

أجابه إيفان: وماذا تعني بالحرية؟

قال: أن تتوجَّه أنَّى تشاء متى تشاء.

أجابه السائق: إني إذن حرٌّ؛ لأني مطلق التصرف أفعل ما أريد.

قال جريجوار: لو فرضنا أنك حرٌّ في التصرف، فإنك تبقى طول دهرك فقيرًا محرومًا.

أجابه السائق، وهو بين كل جملة وأخرى يرفع لشفتيه قدحًا من الخمر: كذبت، فلن تنقصني الدراهم ما دامت سيدتي فاننكا الكريمة في الحياة.

قال جريجوار: لقد عرفتها كريمة بالجلدات لا بالدراهم.

فقال خادمان من قصر شرميلوف كانا جالسَين مع المتحاورين: حقيقةً إن لإيفان مقامًا مخصوصًا بين خَدَمة القصر، حتى إن مولاتنا لا تعامله إلا معاملة الأسياد.

فقهقه جريجوار، ورفع قدحه ساخرًا قائلًا: في محبة السيد إيفان.

فتأثَّر إيفان من ذلك التهكم، وقال: نعم، إن لي مقام الأسياد، وذلك لأن أسيادي تخشاني وتطيعني إذا ما أمرت.

فتنبه جريجوار لمعنى هذه الجملة، وصار يسكب لإيفان الخمر كأسًا بعد كأس، ثم قال له: إن كان لكلامك صحة، فأقم عليه إن شئت البرهان.

قال إيفان: لك ذلك، فاصرف مَن في الحان.

فقام جريجوار ونبَّه الحاضرين إلى قرب انتصاف الليل، ودعاهم للانسحاب طبقًا لأوامر الشرطة، ولما خلا بإيفان ولم يبقَ في الحانة إلا الخادمان الآخران قال له: هات برهانك.

قال إيفان: ما قولك إذا دعوت مولاتي فاننكا إلى الحضور لهنا، ولبَّت دعوتي وشربت كأسًا في نخبنا؟

فصاح جريجوار: إنك لمجنون.

قال إيفان: والجنون فنون، فهل تراهن على ما أقول؟

قال جريجوار: لك ما تريد. ثم أضاف هازئًا: وإن تيسر لك الأمر فلا تنسَ أن تأمر مولاتك يا سيدي إيفان بإحضار زجاجة من الخمر معها؛ فخمور القصر أجود من خمور الحان.

أجابه إيفان: ولكن لنتراهن أولًا، فإن تمَّ لي الأمر أشرب وأسكَر عامًا في حانك بلا مقابل، وإن لم يتم أُعْطِك مائتي روبل.

قال صاحب الحان: لك ذلك.

واتفق الصاحبان، ثم افترقا مستشهدَين الخادمَين على ما اتفقا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤