الفصل الثاني

الرهبان

(١) الرهبان قبل الفتح العربي

جاء في الكتاب المسمى (قديسو مصر) للأب شينو chenau ج ١ ص ٤٧٤ أن القديس فرونتون وهو أحد رهبان صحراء نيتريا كان ممن اعتنق الرهبانية في مصر السفلى قبل انتشارها وأول من فكر في معيشة العزلة بهذه الصحراء ليجرب هذا النوع الغريب من المعيشة الذي اصبح فيما بعد مقصدا وغاية للجم الغفير من ذوي الرغبة والغيرة الدينية من الرهبان.
وقال كورزون Curzon في كتابه (زيارات أديرة الشرق) ص ٧٦ إن هذه الفكرة تحققت في أواسط القرن الثاني الميلادي حوالي عام ١٥٠م وإن القديس المذكور اعتزل الحياة في هذا الوقت بوادي النطرون ومعه سبعون أخا.

ومما لا ريب فيه أن حياة الترهب كانت لاتزال مستمرة حتى القرن الرابع الميلادي حيث ازدهرت بقديسيها المشهورين وارتقت إلى أرفع درجة بلغتها في هذه المنطقة وان كان التاريخ لم يذكر لنا شيئًا عن مصير الرهبان بعد العام المذكور.

ويؤخذ من كتاب (قاموس الآثار المسيحية) للأب دون فرناند كابرول Don Fernand Cabrol ج ٢ ص ٣١٢٧ ومن كتاب (قديسو مصر) ج٢ ص ٣٨١ أن القديس أمون المصري يعتبر المؤسس لأديرة نيتريا الشهيرة. وقد يعود بعض الفخر في هذا العمل على تلميذه ورفيقه القديس تيودور Théodore.
أما تاريخ هذين القديسين فغير معروف لدينا بالظبط غير أنه يمكننا تعيينه بوجه التقريب وذلك من سيرتهما الواردة في كتاب (قديسو مصر) السابق ذكره. فقد جاء في الجزء الأول منه بالصفحة ٥١ في سيرة القديس تيودور أنه عاش في الأيام السعيدة من عهد الامبراطور قسطنطين الأكبر الذي حكم من سنة ٣٠٦ إلى ٣٣٧م. وأنه عاش أيضًا في أيام انطونيوس مؤسس الدير الشهير الواقع بين وادي النيل والبحر الأحمر والذي لايزال قائما إلى الآن. والقديس انطونيوس هذا كانت وفاته عام ٣٥٦م كما يؤخذ من كتاب (آباء الصحراء ص ٦٥) لمؤلفه بريموند Brémond
واليك ما جاء عن القديس امون في قاموس الكنائس للتاريخ والجغرافيا ج ٢ ص ١٣١٠:
ولد الراهب أمون مؤسس أديرة نيتريا في الربع الأخير من القرن الثالث الميلادي من أسرة مصرية مثرية. ولما ناهز الثانية والعشرين حثه أقاربه على الزواج فنزل على رغبتهم. غير أنه أقنع زوجته الشابة بأفضلية حياة التبتل واتفقا على أنه يعيشا كأخوين تحت سقف واحد. ويزعم سقراط أنهما اختليا في صحراء نيتريا على أثر زواجهما. وقد خالفه في ذلك جميع المؤرخين الذين كتبوا عن حياة هذا القديس إذ أجمعوا على أن العروسين كانا يعيشان في منزلهما عيشة صلاة ونزاهة. وروى بلاد Pallade أن أمون قصد برية نيتريا بجنوب بحيرة مريوط بعد انقضاء ثمانية عشر عاما من زواجه أي ما بين عام ٣٢٠ وعام ٣٣٠م للتفرغ إلى ممارسة النسك وكانت زوجته قد وافقته على ذلك. ولم يكن يوجد في نيتريا في ذلك الحين دير من الأديرة كما زعم روفان Rufin وسوزمين Sozomine. أما على زعم بلاد فانه كان يوجد منها العدد القليل. وقد شاعت سيرة القديس أمون فانضم اليه كثيرون من الأتباع وكثرت المناسك حول صومعته.
واننا لا ندري كم كان عدد هؤلاء الرهبان ولكن ذكر واضع تاريخ الأديرة أنه كان يوجد في أواخر القرن الرابع الميلادي خمسون ديرًا يقطن بها نحو خمسة آلاف راهب. ومن الصعب أن نعين بالظبط موقع جبل نيتريا الذي احتشدت حوله جموع هؤلاء الرهبان. ومع هذا فلا بد أن يكون قائما على أحد جانبي الوادي الحزين الذي يطلق عليه اليوم اسم وادي النطرون حيث كانت تتجفف في أسفله المستنقعات الملحة. وعلى أي حال فقد كان هذا الجبل أول مكان قصده الرهبان في هذه الناحية ولكنهم مابرحوا ان سكنوا أيضا الصحراء التي كان وادي النطرون يؤدي اليها على الرغم من منعرجاتها. وقد أطلق على هذه الصحراء اسم صحراء سيليا Cellae أي صحراء القلايات. ثم أتت جماهير أخرى من الرهبان وعمروا فلوات الاسقيط الموحشة التي بعد صحراء سيليا المذكورة. وكانت هذه الجماعات المترهبة تتبع في نسكها طريقة متوسطة بين التنسك الكلي والعيشة مجتمعين. وكذلك كانت طريقة أتباع القديس انطونيوس. وكان الرهبان يتوسلون إلى القداسة بهذا التنسك ويقوم به كل منهم حسب الهامه الشخصي. وقد بلغ بعضهم من التفنن في مقاومة شهوات الطبيعة وضروب الامانة حدًا يصعب على المرء تصوره. وكانوا لا يتركون قلاليهم في الصحراء للاجتماع ببعضهم إلا في يومي السبت والأحد من كل أسبوع لحضور صلوات القداس. وفي نيتريا كان يعيش بعض الرهبان في عزلة تامة والبعض الآخر يعيشون شراذم متفرقة. وكانت الكنيسة التي يقصدها الجميع للعبادة واقعة في أسفل الوادي وتابعة لأسقف هربوليس الصغيرة (دمنهور اليوم) ويقيم فيها الصلوات كهنة من أبرشيته.
ويظهر من ذلك أن غاية القديس أمون الرهبانية كانت تختلف كل الاختلاف عن غاية القديس باكوم “Pacome” الذي كان قد نظم في جنوب ليكوبوليس جماعات عديدة من الرهبان جعلهم خاضعين في معيشتهم لنظام دقيق.
وروى القديس أطاناس “Athanase” أن القديس انطونيوس كان يحترم القديس أمون احترامًا عظيمًا وكانت صومعته تبعد عنه مسافة ١٣ يوما. وفي كتاب (سير آباء الكنيسة) وصف زيارة القديس انطونيوس للقديس أمون.

وكان أمون يرى زوجته مرتين كل عام في منزل حياتهما الزوجية حيث كانت جعلته ديرا للعذارى. وقال القديس اطاناس انه لما توفى القديس أمون في صومعته بصحراء نيتريا تنبأ بوفاته القديس انطونيوس

ويؤخذ مما ذكر أن وفاة القديس أمون كانت قبل سنة ٣٥٦م وهي السنة التي توفى فيها القديس انطونيوس. واذا استعنا بالأدلة الأخرى استطعنا تعيين وفاة القديس أمون بوجه التقريب بين عام ٣٤٠ وعام ٣٥٠م. واسم هذا القديس لا تخلو من ذكرة قائمة من قوائم شهداء الكنيسة الارثوذكسية. وقد جعلت له هذه الكنيسة عيًدا في اليوم الرابع من شهر اكتوبر. أما في قائمة شهداء الكنيسة الرومانية فلا يوجد له ذكر ما. ا.ﻫ.

وفي الأعصر الأولى لم يكن هذا التنسك كما هو الآن على شكل التجمع في أديرة حصينة بل كان الرهبان يعيشون منفردين في قلالي منقورة في الجبل أو يعيشون في صوامع من القصب أو الجريد. واجتماع الرهبان في الأديرة لم يحصل إلا فيما بعد عندما حملتهم غزوات البربر على انضمامهم إلى بعضهم لحماية أرواحهم. ومع هذا لم تنتظمهم حالة واحدة حيث كانوا منقسمين إلى شراذم لكل شرذمة منها دير قائم بذاته. وقد ذكر روفان أحد آباء الكنيسة اللاتينية وتلميذ ديديم الاسكندري “Didyme” والذي زار وادي النيل سنة ٣٧٢م في كتابه (آباء الصحراء) أنه كان يوجد خمسون ديرًا من هذا النوع.
وقال بلاديوس “Palladius” الأسقف اليوناني الذي تنسك في مصر ووضع كتاب (تاريخ اللوزياك) “Histoire Lausiaque” إنه بعد أن اجتاز بحيرة مريوط استغرق في وصوله إلى نيتريا يوما ونصف يوم. وإنه كان يوجد بهذه الصحراء خمسة آلاف راهب يعيشون فرادى أو مقسمين إلى شراذم تتألف من راهبين أو ثلاثة أو اكثر. وكان يوجد بصحراء نيتريا سبعة مخابز لاطعام هؤلاء الرهبان وستمائة ناسك آخرين كانوا يعيشون متفرقين في الصحراء. وكان يوجد فيها أيضا كنيسة بها ثلاث نخلات معلق في كل منها سوط — واحد للرهبان، وآخر للصوص، والثالث للزوار. والدار التي يقيم فيها هؤلاء الزوار بالقرب من الكنيسة وكانوا يقيمون فيها عامين أو ثلاثة أعوام حسب رغبتهم بشرط أن يقوموا بأي عمل من أعمال التنسك حتى الأسبوع الثاني من قدومهم. وكان يوجد بهذه الدار بعض الأطباء وصانعي الحلوى، وتباع فيها الخمر وتشرب. وكان الرهبان يجتمعون في الكنيسة في يومي السبت والأحد، وكان ملحقا بها ثمانية من الكهنة في استطاعة أكبرهم القيام بصلوات القداس والقاء الخطب.

وأشهر القديسين الذين قضوا حياتهم في وادي النطرون هو بلا نزاع القديس مقار الكبير. وينبغي ألا نخلط اسمه باسم القديس مقار الاسكندري معاصره ورفيقه في صحراء شيهات. وقد ولد مقار الكبير حسب ما ورد في سيرته بكتاب (قديسو مصر ج ١ ص ١١٧) في اليوم الأول من القرن الرابع الميلادي. وقصد صحراء شيهات وهو في العقد الثالث من عمره أى سنة ٣٣٠م. وقضى في هذه الصحراء ستين عاما ثم أدركته الوفاة سنة ٣٩٠م وهو بالغ من العمر تسعين عاما. وليس في سيرته ما يستدل منه على أنه هو الذي بنى الدير المسمى الآن باسمه في وادي النطرون، بل العكس يؤخذ منها أنه كان يعيش في قلاية منعزلة في صحراء شيهات، وأنه كان ينتقل من هذه الناحية إلى نيتريا وغيرها.

وقد جاء في قاموس (الآثار النصرانية ص ٣١٢٥) أن هذا الدير أقيم على موقع سكنى القديس مقار. فاذا صح ذلك يكون محل هذا الدير صحراء شيهات.

وكان وادي النطرون يخيم على ربوعه السكون والطمانينة طول حياة القديس مقار، لأن البربر لم يشنوا غاراتهم على هذا الوادي إلا بعد وفاته. ومع أن هذا القديس لم يشهد هذه الحوادث فقد رووا أنه تنبأ بها قبل وقوعها وبالخراب الذي سيحل بهذه المنطقة.

وكان الرهبان في الأيام الأولى من قدومهم صحراء النطرون يقيمون في مساكن غير محمية بأي نوع من أنواع الحماية كما سبق ذكر ذلك. وقد يحمل هذا الأمر على الاعتقاد بأن السكينة في هذه الصحراء كانت تامة شاملة. ومع هذا فقد يحتمل أيضا أن هذه الصحراء كانت هادئة آمنة قبل قدوم الرهبان اليها، إذ كان لا يوجد بها من الغنائم ما يجعل البربر يطمعون فى غزوها. وفعلا لم يشن هؤلاء غاراتهم عليها إلا بعد قدوم الرهبان اليها وكثرة عددهم بها. وعلى أى حال لم يمض وقت قليل على وفاة القديس مقار حتى بدأ البربر يشنون الغارات عليها.

ويمكننا تعيين أول غارة شنوها على هذه الصحراء من سيرة القديس أرسانيوس الشماس الذي تنسك في برية شيهات. فقد جاء في كتاب (قديسو مصر ج ٢ ص ١٩٩) في موضوع من سيرته أن أرسانيوس هذا توفى عام ٤٤٥م. وجاء في موضع آخر منها أنه قضى قبل وفاته عامين في دير طرا، وقضى قبلها ثلاثة في جزيرة كانوب، وعشرة في دير طرا نفسه، وأنه قضى هذه الاعوام كلها بعد الغارة الثانية للبربر التي وقعت بعد غارتهم الأولى بعشرين عاما.

فتكون أول غارة لهم على وادي النطرون قد حدثت قبل وفاة القديس أرسانيوس بخمسة وثلاثين عاما أي سنة ٤١٠م عندما كان تيوفيلس “Théophile” بطريركا. وتيوفيلس هذا هو البطريرك الثالث والعشرون من عدد البطاركة (٣٨٥–٤١٢).
وان تعييننا غارة البربر الأولى في سنة ٤١٠م جاء مطابقا لتقدير أميلينو “Amélineau” لها. فقد ذكر في مقدمة كتابه (تاريخ أديرة مصر السفلى ص ٦٠ و٦١) ما ذهب اليه كاترمير “Quatremere” من وقوع هذه الغارة في أواخر القرن الرابع الميلادي ثم دحضه بالكيفية الآتية فقال:
لوأن هذه الغارة وقعت فعلا في أواخر القرن الرابع الميلادي لكان قد علم بها بوستيميانوس “Postumianus” الذي زار صحراء شيهات في عام ٤٠٢م. فقد حدثنا هذا عن أعجوبتين حدثتا داخل دير يوحنا القصير في الموقع عينه الذي تحولت فيه عصا سيده أموى “Amoi” إلى شجرة الطاعة بعد أن سقيت ثلاث سنوات. وليس في حديثه هذا أي دليل أو ما يلمح منه أن صحراء شيهات كانت في هذه المدة مهجورة أو متخربة. ا.ﻫ.
ثم قال أميلينو أثناء الكلام على فرار يوحنا القصير ووفاته في كليسما (القلزم) “Clysma” بجوار السويس ما نصه:
وعلى حسب ما ذهب اليه كاترمير لابد أن تكون قد حدثت غارة أخرى للبربر كانت سببا في فرار يوحنا. ولو أخذنا في ذلك برأي تيلمونت “Tillemont” لما كانت تقع غارة أخرى قبل سنة ٤٣٠ أو ٤٣٤م الأمر الذي يسير بنا بعيدًا.

ويتتضح مما تقدم أن أميلينو يرى تعيين غارة البربر الأولى بين عام ٤٠٢ وعام ٤٣٠م مع أن غارتهم الثانية حدثت في هذا التاريخ الأخير كما سيأتي ذلك فيما بعد. ولعل هذه الغارة هي التي آشار اليها تيلمونت.

ويظهر أن الرهبان رحلوا جميعًا من الصحراء عند ظهور البربر فيها المرة الأولى في سنة ٤١٠م. ولم يبق بها على الترجيح سوى القديس أرسانيوس الذي أقام في الجبل وحده فظل هناك وتوكل على الله وهو مازال يردد هذه العبارة: (إن عناية الرب تشمل الجميع وما من أمر يحدث إلا بمشيئته. فلو كان الله قد أراد التخلي عني فلماذا اتمسك بالحياة).

ورُوى أن القديس أرسانيوس كان يمر بعد ذلك بين صفوف اللصوص المسلحين دون أن يشعروا به لأن الله يخفيه عن أبصارهم.

وبعد مضي عشرين عاما من هذا التاريخ وقعت الغارة الثانية للبربر أي سنة ٤٣٠م في عهد كيرلس الأكبر البطريرك الرابع والعشرين (٤١٢–٤٤٤). وقد ترك أرسانيوس في هذه المرة مكان نسكه وانسحب إلى دير طرا حيث أقام إقامته الأولى التي ظلت عشر سنوات.

وقد ذكر في سيرة حياة هذا القديس أن عهده يعتبر أوج حياة الترهب في صحراء الترهب في صحراء شيهات، وأنه استمر بعده الراغبون في الترهب يتوافدون على هذه الصحراء زمنا ويعمرون القلايات بها؛ إلا أن عددهم أخذ يقل يوما بعد يوم إلى أن جاء الفتح العربي فقطعت هذه الرغبة من أصولها.

وعلى هذا يمكن اعتبار عدد الخمسة آلاف ناسك الذي ذكره بلادبوس آنفا هو العدد الأقصى للرهبان الذين وجودا في هذه المنطقة.

وهاك سيرة حياة القديس ارسانيوس كما في قاموس الكنائس للتاريخ والجغرافيا ج ٤ ص ٧٤٦:
كان أرسانيوس “Arséne” رومانيا من أسرة شيوخ. وبعد أن شغل مناصب رفيعة في القصر الامبراطوري اختلى في صحراء شيهات في السنوات الأخيرة من القرن الرابع الميلادي. فعرف أناجريوس بونتيكوس “Enegrius Ponticus” المتوفى عام ٣٩٩م ومرقص “Marc” وبوليمن “Polimn” ثم غادر صحراء شيهات على اثر اغارة اللوبيين عليها حوالي سنة ٤١١م، أي بعد سقوط رومية في ايدي الأريك “Alaric” بزمن، لأن أرسانيوس كان يردد هذا القول وهو يبكي: (لقد فقد العالم المتمدين رومية وفقد الرهبان برية شيهات).

وقطن في كانوب بالقرب من الاسكندرية وقتًا حيث زاره البطريرك تيوفيلس عدة مرات. وقد رفض أثناء اقامته بكانوب مقابلة سيدة رومانية كانت قد عبرت البحر لتظفر بكلمة منه. وأقام أيضًا زمنًا في تروجا (طرا اليوم) بين القاهرة وحلوان. وسافر اكثر من مرة من تروجا إلى كانوب والاسكندرية في أخريات حياته. وحادثه المعروف مع الأمة السوداء حدث له في أحد هذه الأسفار إذ وبخها على لمسها ثوبه فأجابته قائلة: (اذا كنت راهبا فما لك لا تذهب إلى الجبل). ا.ﻫ.

وقد تبع هذا القديس في آخر حياته اثنان من التلاميذ أحدهما يدعى اسكندر والآخر زويل “Zoile”. وعرف هذان التلميذان بالفارانيين لانهما عاشا فيما بعد في خلوات الصحراء الشرقية في فاران بالقرب من البحر الاحمر. وهما اللذان رويا لتلميذهما دانيال الفاراني — وهو غير دانيال شيهات — بعض نوادر ارسانيوس وحكمه. ويسند البعض إلى دانيال هذا بيانا موجزا لحوادث حياة ارسانيوس مرتبة على حسب تواريخ وقوعها.
ويتضح من هذا البيان أن القديس أرسانيوس أقام أربعين عامًا في قصر تيودوز “Théodose”، وأربعين عامل في برية شيهات، وعشرة أعوام اخرى في تروجا، ثم توفى وهو بالغ من العمر خمسة وتسعين عاما. وقد سلم تيلمونت “Tillemont” بصحة هذا البيان. وعلى ذلك يكون ارسانيوس قد تنسك عام ٣٩٠م، وطرده البربر من شيهات عام ٤٣٠م، وتوفى حوالي سنة ٤٤٥م.
ونحن نرى أن هذا التقسيم مصطنع لأنه من المعروف أن أرسانيوس توفى قبل الراهب بوليمن وأنه كان في كانوب مدة البطريرك تيوفياس المتوفي سنة ٤١٢ أو ٤١٣م ومما يثبت وفاته قبل وفاة تيوفيلس أن هذا البطريرك كان يقول وهو محتضر: (لأنت سعيد يا أرسانيوس فقد كانت ساعة الموت دائما حاضرة في ذهنك). (راجع مجموعة كوتليه الابجدية حرف ذ th).

وكانت بقايا أرسانيوس موضع عناية واجلال في دير مقام على جبل طرا بالقرب من القاهرة في المكان الذي قضى فيه بقية حياته. وقد تم بناء هذا الدير على يد اركاديوس المتوفي قبل أرسانيوس بعشرين عاما على ما يروى. وظل الدير المذكور وكنيسته في أيدي الملكيين. وقد وصفه أبو صالح الأرمني من أهل القرن الثاني عشر وكذا المقريزي من أهل القرن الخامس عشر الميلادي. وكان يسمى دير القصير أو دير البغل.

وروى يوحنا أسقف نيكيو (زاوية رزين) “Nikiou” في تاريخه ص ٣٤٩ أن الامبراطور تيودوز الثاني “Théodose II” الذي حكم من سنة ٤٠٨ إلى ٤٥٠م بعث بخطاب إلى قديسى صحراء شيهات بمصر يسألهم عن السبب في أنه لم يرزق ذكرا يخلفه على العرش. فأجابه القديسون بقولهم: (إنك عندما تكون قد غادرت الحياة يكون ايمان آبائك قد تغير. ولما كان الله يعزك فلم يهبك ذكرًا حتى لا يقع في الكفر والخطيئة). فأثر هذا التنبؤ في نفس الامبراطور وزوجه وامتنعا عن كل علاقة زوجية وقضيا بقية حياتهما معا في طهارة تامة.
وحدثت في عهد هذا الأمبراطور وزمن كيرلس الأكبر البطريرك الرابع والعشرين مذبحة شيوخ صحراء شيهات التسعة والأربعين. وقد جاءت رواية هذا الحادث في السنكسار القبطي العربي ونقلها سيمور دي ريثي “Seymour de Ricci” واريك فنستد “Eric Vinstedt” ص ٣. وها هي كما وردت في السنكسار القبطي العربي (الباترولوجية الشرقية) لجرافين ونو “Graffin & Nau” ترجمة رنيه باست “René Basset” ص ٦٩٩:

اليوم السادس والعشرون من شهر طوبة

في هذا اليوم استشهاد القديسين الابهات الرهبان الشيوخ التسعة وأربعين والرسول وابنه. وسبب استشهادهم أن كان على زمان تيودوز الملك ابن اركاديوس الملوك الأبرار وان تيودوز لم يكن له ولد فارسل إلى الشيوخ بشيهات يسألهم أن يسألوا الله فيه فيعطيه ولدا. وكان فيهم شيخ كبير يسمى الأب اسيدروس كتب إلى الملك يعرفه ان الله ما أراد أن يخرج منك ولدا حتى يشارك أرباب البدع بعدك. فلما وقف الملك على رسالتهم بذلك شكر الله وسكت. فأشار عليه قوم أردياء أن يتزوج امرأة أخرى ليرزق منها ولدا يرث الملك من بعدك. وكان للملك أخت تسمى بلخارية ردية وهي التي أقامت القلق على البيعة ودخلت تقول لأخيها: لماذا تترك الغرباء يأخذون مملكتك وأنت بغير ولد يملك مكانك. قم الآن وتزوج امرأة أخرى لتلد لك أولادًا يرثونك. فأجابهم: ما أفعل شيئًا بخلاف أمر الشيوخ ببرية مصر. لأن صيتهم كان قد خرج في أكثر الدنيا. فأرسل رسولا يستأذنهم في ذلك. وكان للرسول ابن وحيد فطلب من أن يصحبه فأخذه معه ليتبارك من الشيوخ. ولما وصلوا إلى الشيوخ وقرؤا كتاب الملك وكان أنبا اسيدروس قد تنيح فأخذوا الرسول وأتوا به إلى حيث جسده وقالوا للجسد: يا أبونا قد وصلت هذه الكتب من عند الملك وما نعرف بم نجاوبه. فجلس الشيخ وقال للرسول: أما قد قلت للملك إن الرب مايرزقه ولدًا يتنجس بالخلاف فلو أنه يتزوج عشرًا من النساء لا يرزق منهن ولدًا. ثم عاد القديس وانضجع. فكتب المشايخ للرسول جواب الكتب. ولما عزم بالخروج وإذا البربر قد أتوا فوقف شيخ كبير يقال له أنبا يونس وقال للاخوة: هو ذا قد أتوا وهم ما يطلبون إلا قتلنا. فمن أراد الشهادة يقف معي. ومن خاف يطلع الجوسق. فهرب بعضهم وبقى مع الشيخ ثمانية وأربعون فأتى البربر وذبحوا الشيوخ. فالتفت ابن الرسول من الطريق فرأى الملائكة وهو يضعون الاكاليل على رؤوس الشيوخ المقتولين وكان اسم الصبي دايوس. فقال لأبيه: هو ذا أنا أبصر قومًا روحانيين يضعون الاكاليل على رؤوس الشيوخ والآن أنا ماض آخذ إكليًلا مثلهم. فأجابه والده: وأنا معك يابني. فعادوا وأظهروا نفوسهم للبربر فقتلوهم وأخذوا الشهادة.

وبعد مضي البربر نزلت الرهبان من الجوسق وضموا الأجساد وجعلوهم في مغارة. فصاروا يصلون قدامهم كل ليلة ويرتلون ويتباركون منهم. فجاء قوم وسرقوا جسد أنبا يونس وذهبوا به إلى البتنون وأقام عندهم مدة فأعاده الشيوخ إلى مكانه. وآخرون من أهل الفيوم سرقوا جسد الصبي وعندما وصلوا به إلى البحيرة بالفيوم خطفه ملاك الرب وأعاده إلى حيث جسد أبيه. ودفوعا جربها الرهبان فكانوا يفرقون جسد الصبي من جسد أبيه فيأتون باكرًا فيجدونه وأباه إلى حيث رأى بعض الشيوخ رؤيا كمن يقول له: يا سبحان الله عندما كنا في الجسد لم نفترق وعند المسيح لم نفترق فلماذا تفرقون بيننا. ومن ذلك اليوم لم يعودوا يفرقونهم. ولما خربت البرية خافوا على الأجساد فنقلوهم من مكانهم وأتوا بهم إلى جانب كنيسة أبو مقار وبنوا لهم مغارة وعملوا عليها كنيسة على زمان تاودسيوس البطريرك. ولما أتى الأب بنيامين ثبت لهم عيدًا في الخامس من أمشير لظهور أجسادهم. ويبعتهم الآن بقلاية تعرف باسمهم قبطيًا وهما “nime” بيهما ابسيت. أعني تسعة وأربعين صلاتهم وشفاعتهم تكون معنا آمين. ا.ﻫ.
أما غزوة البربر الثالثة فقد وقعت في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي في عهد ديسقورس “Dioscore” البطريرك الخامس والعشرين (عام ٤٤٤–٤٥٨م). وقد جاء في كتاب (قديسو مصر ج ١ ص ٢٨٦) في سيرة القديس موسى وستة من الرهبان استشهدوا في صحراء شيهات أن الراهب موسى كان في ريعان شبابه في أول القرن الخامس الميلادي وأنه عندما كبر وأصبح شيخًا أتى البربر وقتلوه هو والرهبان الستة المذكورين. وينبغي لنا ألا نخلط بين هذا القديس والقديس موسى الأسود الذي هو بلا ريب شخص آخر.
وفي عهد يوحنا الراهب البطريرك التاسع والعشرين (عام ٤٩٤–٥٠٣م) أمر الامبراطور زينون “Zénon” (عام٤٧٤–٤٩١م) وكان على جانب عظيم من الطيبة والايمان بأن ينقل إلى دير أبي مقار جميع ما يحتاج اليه الرهبان من قمح ونبيذ وزيت وغيره.
وذكر في كتاب (بحث عن رهبان مصر ص ٨٥) لمؤلفه كونبرج “Cauwenberg” أن الراهب يوحنا موش “Jean Mosh” من دير القديس تيودوز بالقرب من أورشليم ولد في دمشق فى نحو أواسط القرن السادس الميلادي، وجاء مصر مرتين تحادث فيهما مع رهبان عديدين كانوا قد قضوا زمنًا في صحراء شيهات. وقد علم منهم أن عدد رهبان هذه المنطقة بلغ حوالي أواسط القرن السادس الميلادي ٣٥٠٠ راهب. وذكر أيضًا أنه في أثناء مروره بالطرانة صادف فيها الراهب تيودور الاسكندري الذي أعلمه بأن رهبان شيهات فقدوا كثيرًا من تقواهم. وفي زيارة يوحنا موش الثانية لمصر قضى أيامه فيها مع البطاركة إلى عام ٦١٤م ولم يبرح منها إلا قبيل الفتح الفارسي. وعلى هذا تكون حالة الرهبان عند الفتح العربي هي بعينها الحالة التي كانوا عليها قبيل الفتح الفارسي ووصفها يوحنا موش آنفا. ولا نحسب أنفسنا غير مصيبين اذا اعتبرناها هكذا لقصر المدة بين الفتحين المذكورين.
وفي عهد دميانوس البطريرك الخامس والثلاثين (عام ٥٦٩–٦٠٥م) نزل برهبان وادي النطرون حوالي سنة ٥٧٥م حادث آخر. وهاك وصفه كما ورد في كتاب (تاريخ البطاركة) لمؤلفه افيتس “Evetts” ص ٢٠٩:

ابتدأت حياة البطريرك دميانوس في الفترة التي أعيد فيها بناء الأديرة الأربعة تلك الأديرة التي كانت تنمو في جو يسوده الأمن والسكون نمو النبات في الحقول. ويظهر أن هذا الأمن لم يطل إذ لم ينقض من الوقت إلا القليل حتى سمع صوت من السماء تجاوبت أصداؤه في الصحراء يقول: (الفرار. الفرار). فعمل سكان هذه الأديرة الاربعة بهذا التنبيه ولاذوا بالفرار. وعلى أثر ذلك انقض البربر على المنطقة كلها وأحلوا بها الخراب بدرجة أطالت تأثير هذا الحادث في النفوس. وقد أحزن هذا الأمر البطريرك كثيرًا ودره كدرًا عظيمًا.

وجاء أيضًا في هذا الكتاب بالصفحة ٢٢٦ أن بنيامين البطريرك الثامن والثلاثين (سنة ٦٢٢–٦٦١م) زار أديرة وادي النطرون حوالي عام ٦٣٠م فوجد رهبانه قليلي العدد وكان لم يمض وقت كثير على هذا الحادث الكبير الذي لم يسمح البربر لهم بعده بالازدياد.

(٢) بعد الفتح العربي

ذكر المقريزي في خططه ج ١ ص ١٨٦ طبعة بولاق عن وادي هبيب مانصه:

هذا الوادي بالجانب الغربي من أرض مصر فيما بين مريوط والفيوم بجلب منه الملح والنطرون. عرف بهبيب بن محمد بن معقل بن الواقعة بن حزام بن عفان الغفاري أحد أصحاب رسول الله شهد فتح مكة وروى عنه أبو تميم الجيشاني وأسلم مولي نجيب وسعيد بن عبد الرحمن الغفاري. وكان قد اعتزل عند فتنة عثمان رضى الله عنه بهذا الوادي فعرف به وكان يقول لا يفرق بين قضاء دين رمضان ويجمع بين الصلاتين في السفر. ويقال لهذا الوادي أيضًا: وادي الملوك، ووادي النطرون، وبرية شيهات، وبرية الاسقيط، وميزان القلوب. وكان به مائة دير للنصارى وبقى به سبعة ديورة. وقد ذكرت عند ذكر الاديار من هذا الكتاب — إلى أن قال — ويذكر أنه خرج منه سبعون ألف راهب بيد كل واحد عكاز. فتلقوا عمرو بن العاص بالطرانة مرجعه من الاسكندرية يطلبون أمانه لهم على أنفسهم وأديارهم. فكتب لهم بذلك أمانا بقى عندهم. وكتب لهم أيضًا بجراية الوجه البحري فاستمرت بأيديهم. وإن جرايتهم جاءت في سنة زيادة على خمسة آلاف إردب وهي الآن لا تبلغ مائة إردب. ا.ﻫ.

وعدد السبعين ألف راهب الذي ذكره المقريزي في عبارته الآنفة لاريب في أن فيه مبالغة كبيرة. فقد روى المعاصرون كما سبق ذكر ذلك أنه لم يكن يوجد في هذه المنطقة أكثر من ٣٥٠٠ راهب في أواسط القرن السادس الميلادي. وأنه لما كان دميانوس بطريركا أغار البربر على وادي النطرون ففر منه رهبانه. وأنه لما زاره بعد ذلك البطريرك بنيامين حوالي سنة ٦٣٠م أي قبل الفتح العربي بعشرة أعوام، وجد به عددًا قليًلا من الرهبان بسبب العوائق التي كانوا يلاقونها من البربر في سبيل تجمعهم من جديد. بل يؤخذ من هذه الرواية أن عدد الثلاثة آلاف والخمسمائة راهب الذين وجدوا في أواسط القرن السادس الميلادي كان قد نقص كثيرًا قبيل الفتح العربي.

وجاء في كتاب (تاريخ البطاركة ص ٣٢٦) أنه بعد الفتح العربي بقليل أعيد بناء أديرة وادي النطرون بوساطة البطريرك بنيامين. وكان ذلك في أواخر ولاية عمرو بن العاص على مصر وقبل أن يخلفه عليها عبد الله بن سعد بن أبي السرح سنة ٢٦ﻫ (٦٤٧م). وقد زار البطريرك بنيامين وادي النطرون لتدشين الكنيسة الجديدة التي كان قد تم بناؤها على الجبل المقدس وهو مقر مقار الكبير في سفح الصخور التي بين قلالي الرهبان. وكان قبل أن يذهب إلى دير أبي مقار للقيام بالمهمة التي أتى من أجلها زار دير البراموس.

وورد في كتاب (بحث عن رهبان مصر) لمؤلفه كونبرج ص ٨٧ أنه في عهد هذا البطريرك نقل رفات التسعة والاربعين شيخًا الذين ذبحهم البربر في صحراء شيهات.

وروى أميلينو في كتابه (جغرافية مصر في عهد القبط) أثناء الكلام على بلدة «بيامون» أن رهبانًا دفنوا هؤلاء الشيوخ عقب وفاتهم في مغارة مطهرة بالقرب من البرج الكبير الذي يقال له «بيامون».

وقال كونبرج إنه صار نقل رفاتهم إلى مدفن أقيم لهم خاصة باعتبارهم شهداء في دير أبي مقار. وأضاف إلى ذلك أن البطريرك بنيامين أتى بنفسه وأقام حفلة دينية استثنائية لهذا الغرض ويظهر أنه انتشل بيديه جثث هؤلاء القديسين جثة جثة وناولها للرهبان والشمامسة.

وجاء في كتاب (تاريخ البطاركة) ص ٥٥٢ وما بعدها أنه قبل نهاية عهد مرقس الثاني البطريرك التاسع والاربعين بزمن يسير كان وادي هبيب كفردوس النعيم. غير أن هذا النعيم لم يدم حيث أغار البربر على هذا الوادي وأنزلوا به الخراب وهدموا الكنائس وقلالي الرهبان وأسروا كثيرًا منهم. أما بقيتهم فهربوا في جميع أنحاء القطر خوفًا على أنفسهم. وقد بعث هذا الحادث الغم في قلب البطريرك وآلمه كثيرًا. فكان يبكي ليًلا ونهارًا لهذا المصاب وبالاخص لتدمير الاديرة والكنائس المقدسة الواقعة في وادي هبيب الذي كان أقدس الاماكن وأمسى بعد هذه الكارثة مرعى للحيوانات المفترسة. ويظهر أن هذا الحادث أثر في نفس البطريرك مرقس الثاني تأثيرًا شديدًا أدى إلى وفاته.

ثم خلفه يعقوب البطريرك الخمسون (عام ٨١٩–٨٣٠م). وكان من رهبان دير أبى مقار وتركه عند إغارة البربر على وادي هبيب ولجأ إلى دير آخر في مصر العليا مرتقبًا وقتًا مناسبًا يعود فيه اليه. أما الرهبان الآخرون فقد تفرقوا في مختلف بلدان القطر وأديرته ماعدا البعض القليل منهم الذي بقى في الصحراء وصانه المولى من كل أذى.

وبعد أن ترك هذا البطريرك دير أبي مقار بقليل رأى رؤيا يحث فيها على الرجوع إلى وادي هبيب. فعاد اليه فعلا ووجد فيه إخوانه فمكث معهم مصبرًا لهم ومقويًا قلوبهم إلى أن استدعى من هذا الوادي لتولي البطريركية.

وبعد تتويجه قرر أن يزور صحراء القديس مقار وكان صيام الأربعين قد دنا موعده. وكان غرضه من هذه الزيارة تعزية الرهبان وتقويتهم وقضاء عيد الفصح في وسطهم حيث كانت هذه عادة البطاركة. وقد قام بهذه الزيارة فعلا وخرج الرهبان من قلاليهم ليتلقوا بركته واستقبلوه باغتباط عظيم.

ويظهر أن برية شيهات كانت في هذا العهد كفردوس الرب فكانت عزيزة في قلب البطريرك أكثر مما كانت عند الرهبان أنفسهم.

ولما كان البربر قد نهبوا جميع ممتلكات الرهبان وهدموا كنائسهم وأحرقوا مساكنهم بعث البطريرك اليهم جميعًا بخطاب يخبرهم فيه بأنه مستعد لتلبية أي طلب يقدمونه اليه وإعطائهم كل مايطلبون.

وقد تجمع بعد ذلك شمل الرهبان مرة أخرى وحمدوا الله على تجديد إنعاماته عليهم فسر البطريرك حين رأى أبناءه قد عادوا إلى مقرهم.

وكان قد شرع هذا البطريرك في الايام التي كان لايزال فيها كاهنًا في بناء كنيسة باسم القديس سينيتيوس “Saint Sinuthius” جنوبى كنيسة القديس مقار حيث كان الرهبان قد أخذوا يجتمعون للصلاة مكان الكنائس المهدومة. فاغتنم فرصة زيارته للصحراء وهو بطريرك لاتمام بنائها ولاعادة بناء الكنائس الأخرى.

وجاء في كتاب (تاريخ البطاركة) ص ٦٥٢ وما بعدها أن عهد يوساب (يوسف) البطريرك الثاني والخمسين (عام٨٣٠–٨٤٩م) انقضى بسلام تام. فكانت الأديرة تتسع ويحل بها العمران وفي مقدمتها أديرة وادي هبيب التي كانت مثل فردوس الله ومن بينها على الاخص دير القديس مقار الكبير. وكان المولى جل شأنه يسدي إلى الرهبان المعونة وبالاخص الراهب سينيتيوس البار. فكان يظهر بواسطته أعاجيب عديدة كرامة له على ما قدمه للقديس مقار، حيث أقام باسمه نصبًا تذكاريًا وغرس كروما وبساتين، وبنى مطاحن ومعاصر للزيت، وأتى بجملة أعمال ذات فوائد جمة لايمكن احصاؤها. وقد سرت المؤمنين كثيرًا اعماله هذه فساعدوه فيها بحسن نية فأدرك منها غرضه النبيل. وكان يوجد داخل هذا الدير المقدس عدد كبير من هؤلاء المؤمنين وغيرهم جذبتهم اليه أعاجيب سينيتيوس وصيتها. وقد جعل سينيتيوس هذا مدبرًا للأديرة. فلما رأى عدد الرهبان يزداد يوما بعد يوم أقام كنيسة أخرى شرقى الكنيسة الكبيرة أطلق عليها اسم كنيسة القديسين وتلاميذهم. وأقام بها الزينات بعد أن أتم بناءها ودعا غبطة البطريرك الأنبا يوساب (يوسف) لزيارتها. فلبى هذا الحبر الجليل دعوته وسر كثيرًا من مشاهدتها ودشنها في غزة برمودة من السنة السابعة عشرة من بطريركيته (سنة ٨٤٧م).

وذكر كاترمير في رسالته عن مصر ج ١ ص ٤٧٦ و٤٧٧ أنه في عهد سانوتيوس (شنودة) البطريرك الخامس والخمسين (عام ٨٥٩–٨٨١م) علم البربر أن هذا البطريرك عزم هو وحاشيته على زيارة وادي هبيب أثناء عيد الفصح. فقدموا سرًا من الوجه القبلي واستولوا على كنيسة القديس مقار وتوابعها ونهبوا ما فيها من متاع وزاد. ومنها طافوا بالأديرة الأخرى وطردوا من فيها من رجال الدين وغيرهم بالقوة بعد أن جردوهم مما عليهم.

وذكر المؤلف المذكور أن هذه الأديرة عانت كثيرًا من المصائب بعد ذلك بزمن يسير. فقد ألقى الاعراب رحالهم في الصحراء وأخذوا يرتقبون خروج الرهبان للتزود بالماء فينقضون عليهم ويأخذون أواني الماء منهم ويجردونهم مما عليهم. ولما عادت السكينة واستتب الأمن اهتم هذا البطريرك بترميم دير القديس مقار وأحاطه بسور منيع لحماية الرهبان والمسيحيين من أذى الاعراب في المستقبل.

وقد أتى هذا المؤلف على ذكر ما كان يصرف للاعراب من أجر لحراسة أديرة وادي هبيب في عهد زخارياس (زكريا) البطريرك الرابع والستين (عام ٩٩٦–١٠٢٨م).

وذكر الارشمندريت أرمانيوس في رسالته أن عدد الرهبان في عهد خرستودولس البطريرك السادس والستين (عام ١٠٤٤–١٠٧٥م) كان في مختلف الأديرة كالآتي:

الاديرة عدد الرهبان
الجملة ٧٣٧
دير مقار ٤٠٠
دير الانبا بشوى ٤٠
دير يوحنا القصير ١٥٠
دير يوحنا كاما (الاسود) ٢٥
دير (السيدة) براموس ٦٠
دير الانبا موسى (البراموس) ٢
دير السوريان ٦٠

ودون أرمانيوس في رسالته أيضا تعداد الرهبان في الاديرة الحالية في سنوات مختلفة.

واليك جدولا بتعداد هؤلاء الرهبان كما ورد في رسالة أرمانيوس الآنفة:

السنة دير (السيدة) براموس دير السوريان دير الانبا بشوي دير مقار الجملة
١٦٦٧م ١٤ ١٤
١٧١٩م ١٠ ١٠
١٧٦٧م ١١ ١١
١٧٨٠م ١٨ ٢٠ ١٨ ٢٢ ٧٨
١٨٣٥م ١٧ ٤٠ ١١ ١٧ ٧٥
١٨٤٧م ٤٥ ٤٥
١٨٥٢م ٥٦ ٥٦
١٨٩٧م ٥٥ ٤٠ ٢٥ ٣٠ ١٥٠
١٩٠٦م ٢٠ ١٨ ١٦ ٢١ ٧٥
١٩٢٤م ٦٨ ٥٨ ٣٥ ٤٠ ٢٠١
١٩٣١م ٣٧ ٤٩ ٣٦ ٢٧ ١٤٩

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤