مقدمة

ما أكثر ما كُتِب عن محمد علي، وما أكثر ما كُتِب عن جمال عبد الناصر والمقارنة بينهما واردة على الفور.١ وليس من «اجتهاد» ممكن، إلا في رصد أوجه الشبه، وأوجه الخلاف بين الرجلين أو العصرين.

ولكن القضية التي يتناولها عملنا هذا، لا عَلاقة لها بالمقارنة كرصد وإحصاء للعلامات الفارقة، أي كحسبة رياضية تستهدف البرهان على التشابه أو العكس: التدليل على الاختلاف.

إن ما يستهدفه صاحب هذا العمل هو محاولة الكشف عن أبعاد الظاهرة الجدلية في تاريخ الفكر العربي الحديث — من داخل زمان اجتماعي، ومكان تاريخي، وعيِّنة نموذجية — ظاهرة النهضة والسقوط.

فهو، كما لا يقصد المقارنة لذاتها، لا يقصد التاريخ أيضًا لذاته، فلعل موضوعه الوحيد هو التحليل الاجتماعي للثقافة، وقد اتخذ من عصري محمد علي وجمال عبد الناصر — والسياق بينهما — مجرد مادة للبحث. فالتاريخ هنا إطار، والمقارنة النقدية أداة … أما الهدف فهو استخلاص القوانين الاجتماعية-الثقافية المضمرة في ظاهرة النهضة والسقوط، فالوعي بهذه القوانين قد يساعد العقل العربي على ابتداع مقولات جديدة من شأنها تثوير النهضة واستمرارها. كما أن هذا الوعي قد يساعد الاستراتيجية العربية على ابتداع مسالك جديدة ودروب مجهولة؛ لمقاومة التخلف والسقوط.

ولكن حدود العمل الأكاديمي هنا، هي التعرف من قرب على ظاهرة النهضة والسقوط في إطارها التاريخي، ومقوماتها الاجتماعية وحركتها الفكرية.

وقد أدى بي هذا «التحديد» إلى منهج في التفكير، وآخر في التعبير يتكامل معه … فالسوسيولوجيا الثقافية ليست مذهبًا واحدًا في الفكر المعاصر. هناك الاتجاه التجريبي أو المعملي في المدرسة الأنكلوسكسونية، المزدهرة حاليًّا في الولايات المتحدة، حيث يعتمد السؤال الاجتماعي على معطيات الواقع الخام في أحواله الجزئية والمحسوسة والمباشرة. وهو المنهج الذي يعتمد في أصوله الفلسفية البعيدة على خليط متسق من قواعد المنطق الوضعي والمادية التجريبية والبراغماتية. ومن ثَم يؤدي هذا الاتجاه المختلِط إلى تجريدات شبه رياضية بتعميم النسب المستقاة قسرًا أو ذرائعيًّا من الواقع.

وهناك المدرسة الماركسية التقليدية في الشرق الاشتراكي،٢ وهي المدرسة التي تخلت، منذ وقت قريب نسبيًّا، عن القول بأن المادية التاريخية هي «علم الاجتماع الماركسي»، إلى القول بتأسيس «علم اجتماع» مستقل عن المادية التاريخية، ولكنه مستقر على أسس النظرية الماركسية. ونتائج هذا الاتجاه متفاوتة القيمة من الاتحاد السوفييتي إلى بولونيا، ولكنه في جميع الأحوال لا يزال حُلمًا أو جنينًا لم يولد بعد كعلم اجتماع له نسيجه النوعي الخاص، أيًّا كانت جذوره الفلسفية.

والأمر يختلف في فرنسا، حيث يعود إليها الفضل الحقيقي في تأسيس سوسيولوجيا المعرفة عامةً، وبتطبيقاتها على مجالات الثقافة والآداب والفنون المختلفة. والقاسم المشترك بين تيارات الاتجاه الفرنسي هو «التحليل الجدلي» مع تفاوت هنا أو هناك في الاعتماد على الفكر المادي التاريخي. غير أنه يجب الإقرار هنا بأن الينابيع الأولى لسوسيولوجيا المعرفة في فرنسا قد ارتبطت إلى حد بعيد بتجديد شباب الماركسية.

والمنهج الفرنسي بتياراته المتعددة يكاد يكون «نقيضًا» للمنهج الأنكلوسكسوني، وبالنسبة لمنهج الشرق الاشتراكي هو «مختلف». إنه من ناحيةٍ لا يجرد الواقع الاجتماعي في مقولات رياضية، ولا يعمم أجوبة النسبية العينية إلى مطلقات. ومن ناحية أخرى فهو لا يُفرِط في تسويد «العام» على قوانين «الخاص». إنه يؤمن بالتحليل والخصوصية المعرفية إيمانًا واضحًا، ويتخذ من «الجدل» دعامة رئيسية لإقامة بنائه. وهو بالتالي يستفيد من التاريخ الاجتماعي للسؤال استفادة كبيرة، ولكنه يفسح المجال لعلوم العصر الطبيعية والإنسانية في التدخل بشأن «المعيار» و«الأسلوب». إنه يستفيد من السبرنطيقا والبنيوية، ولكن دون الخلط التوفيقي بينهما والمستوى النوعي للعيِّنة الاجتماعية-الثقافية. أي إنه ليس عزلًا لقواعد علم الاجتماع بين جدران المعمل الطبيعي أو الرياضي من حيث الأسلوب، وبالتالي فهو يرفض أن يكون تجريبيًّا أو وضعيًّا أو ذرائعيًّا من حيث النتائج. ولكنه أيضًا ليس مجرد «تطبيق خلَّاق» للماركسية. بل هو يعمِد إلى التحليل الجدلي الموضوعي للظاهرة المتورطة سلفًا في الانحياز كحركة سوسيوثقافية ديناميكية التفاعل مع بقية عناصر الوجود الطبيعي والإنساني. من هنا كانت العناية الفائقة للمدرسة الفرنسية بالسياق التفصيلي لنمو الظاهرة أو تدهورها، أيًّا كان اتجاه النمو أو التدهور. وتلك «موضوعيتها الأولى». ثم عنايتها بتطور المستوى المعرفي من التخصيص إلى التعميم، أي بدءًا من التفاصيل الصغيرة ومداخلاتها وتشابكاتها، إلى النظرية، فالقانون.

لذلك فالسوسيولوجيا الثقافية الفرنسية ليست «تطبيقًا» لمذهب فلسفي سابق عليها، ولا هي مجرد حاصل جمعِ علم الاجتماع والثقافة، بل هي تكاد تصبح «علمًا» مستقلًّا في التحليل الاجتماعي للمعرفة، لا يتخلى عن منجزات الفلسفة والتاريخ والعلوم الأخرى، ولكن في تضاعيف التحليل لا بالإضافة إليه من الخارج. هكذا فإنني أعني بتعبير «مدرسة فرنسية» مجموع التيارات التي تضع في اعتبارها — مع وجود الفوارق بينها — صياغة «مخططات فكرية» تُستخلص ابتداءً من مكونات بناءٍ معيَّنٍ وشامل. وسواء كان الأمر متعلقًا بأعمال رولان بارت٣ أو لوسيان غولدمان٤ فإن هذه التيارات جميعها — رغم المسافة التي تفصل بينها، ورغم الخلافات، وأحيانًا التناقضات الأيديولوجية التي تميزها — تعلن عن انتمائها إلى مؤشر واحد، يتجه نحو إعادة وضع الماركسية في صيغة سؤال، ثم بناء علم اجتماع ثقافي.
ورغم أننا ما زلنا نلاحظ إلى الآن تأثير الرؤية التقليدية للماركسية الميكانيكية في دراسات اجتماعية-ثقافية عديدة٥ تدور حول قضايا العالم المتخلف، فإننا نستطيع التأكيد في الوقت نفسه على أن «الاتجاه الجديد» يلد نزعات جديدة تعمل — كرَدِّ فعل للفكر الستاليني — على تقديم صياغات جديدة، وذلك باعتمادها المادية التاريخية منهجًا. وهي صيغة تتراءى في إيجاد «مركَّب الموضوع» من المادية التاريخية و«المدرسة الشكلية».٦

ولست أعتقد أن باحثًا ما يستطيع الزعم أنه قادر على الجمع الآلي بين «إيجابيات» المدرسة الأنكلوسكسونية وما سمي زمنًا بعلم الاجتماع الماركسي و«سوسيولوجيا المعرفة» الفرنسية، فالحصيلة لن تكون سوى تلفيق شكلي لا أثر للأصالة فيه.

لذلك أقول سلفًا، إنني أقرب ما أكون إلى المدرسة الفرنسية في «تحليليتها الجدلية» لمستويات المعرفة المتعددة، وفي توجهها نحو «خصوصيات الظاهرة»، دون أن يعني ذلك لحظة واحدة تخلِّيًا عن المنجزات التاريخية للفكر الماركسي، بل يعني أولًا وأخيرًا أن المادة المطروحة عينيًّا للبحث تكشف في ثناياها عن قوانينها المستقلة ذات السيادة التي قد تصوغ في تعميم خبراتها الذاتية «نظرية» تخص كل ثقافة وطنية، تضيف بالخلق والإبداع إلى الرؤية الشاملة للثقافة الإنسانية العامة. أي إن سوسيولوجيا الثقافة الفرنسية لا تفضي بالضرورة والحتمية إلى تبني مقولاتها في رؤيةِ وتقويمِ أية ثقافة أخرى. ولكنها تتيح فقط للثقافات الأخرى فرصة الاستعانة بأدواتٍ للتحليل من شأنها اكتشاف خصوصيتها وأصالتها القومية، والكشف عن «الوجه العام» الذي يمكن أن يتضمن قسمتها المميزة.

بأدوات التحليل هذه يمكن تأسيس سوسيولوجيا ثقافية عربية مستقلة. تلك هي فضيلة المدرسة الفرنسية الأولى، أيًّا كانت مقدماتها ونتائجها التي تعني الثقافة الفرنسية في المقام الأول.

في ضوء ذلك أستطيع القول إن هذه الأطروحة، وما يليها من «مشروع العمل» الذي أخذت نفسي به، تطمح لأن تكون لبنة في بناء «سوسيولوجيا الثقافة العربية». وهو منهج التحليل السائد على غالبية مؤلفاتي الأخرى في نقد الرواية والشعر، وقضايا «الانتماء» و«المقاومة» و«الجنس» و«صراع الأجيال» و«العروبة» و«التراث»، وغيرها من محاور اشتملت عليها كتاباتي الأساسية عن طه حسين، والعقاد، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وسلامة موسى، والآخرين. ولكنني بدءًا من كتابي «مذكِّرات ثقافة تُحتضر» — ١٩٧٠م — إلى كتابي «التراث والثورة» — ١٩٧٣م، وهو الحلقة الرابعة في تصميم مشروع العمل، وقد قُدِّر لها أن تُنشر قبل غيرها من الحلقات الخمس — حاولت الاهتمام بالصياغة النظرية لترسيخ أصول هذا المنهج في رؤية النهضة والسقوط في الفكر العربي الحديث، وبخاصة رافده المصري.

على أنني في «الأطروحة» الراهنة أردت القيام بتأصيل النتائج، وتنظيم القوانين المضمرة داخلها في إطار تاريخي محدد بالقرنين الأخيرين اللذين شهدا «نهضةً» ما و«سقوطًا» ما، وفي إطار اجتماعي محدد أيضًا بعصري محمد علي وجمال عبد الناصر؛ لأن «دولة» الأول ونظامه و«دولة» الثاني ونظامه، يتيحان بالنقد المقارن بينهما، سياقًا تاريخيًّا اجتماعيًّا ثقافيًّا قادرًا على منح التفاعلات والمداخلات التي أثمرت النهضة والسقوط، قِوامًا صالحًا للقياس واستخلاص النتائج.

ولأن «النقد المقارن» ليس مقصودًا لذاته، فإنني لم أبدأ ميكانيكيًّا بمصر محمد علي مثلًا، بل بتشخيص التشكيلات والمكونات الاجتماعية الثقافية في مصر المعاصرة التي أعود إليها مرة أخرى في خاتمة البحث، وبينهما يبرز السياق المعقد لمسيرة النهضة في مصر محمد علي، دون أن يعنيني الرمز السياسي للسلطة، إلا بقدر ما يحوجني السياق إلى ذلك. فالرؤى الفكرية الاجتماعية هي التي عنتني في اتصالها وانفصالها عن أنظمة الحكم، ولكن دون أن تكون هذه الأنظمة وحدها هي مصدر السلب والإيجاب في تعبيرات الثقافة. بينما كانت خريطة المجتمع المصري ككل، خريطة الزمان والمكان والوعي، هي الخلفية السائدة على أرضية البحث منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى ثلاثينيات القرن الحالي. ومنذ استأنفت النهضة مسيرتها مع تأسيس دولة جمال عبد الناصر إلى غيابه في خريف ۱۹۷۰م.

ولأن هذه «الأطروحة» ليست بحثًا تاريخيًّا، فمن البديهي أنني لم أتوقف عند المستوى التاريخي للبحث، فأنا لست «أؤرخ» لمحمد علي ولا لعصره، وكذلك لست أؤرخ لعبد الناصر ولا لعصره. ولأن هذه الأطروحة ليست أيضًا بحثًا سياسيًّا، فإنني لم أتوقف عند المستوى السياسي الصرف، بأحداثه ورموزه وقضاياه النوعية.

بل إن هذه الأطروحة ليست بحثًا في «تاريخ الأفكار»، وإلا اقتضت المساحة الزمنية التي أتناولها بالتحليل مجلدات لا عَلاقة لها بجوهر البحث.

وإنما هذه الأطروحة هي مجرد «محاولة منهجية» لتأسيس سوسيولوجيا للمعرفة العربية، تتخذ من ظاهرة النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث «مادةً» لها؛ لأنها الظاهرة-المحور في توجهات الثقافة العربية المعاصرة. ولأنها «بوصلة» التقدم والتخلف في المجتمع العربي المعاصر. وإذا كنت قد اتخذت من «مصر» هيكلًا تاريخيًّا للبحث، فلذلك أسبابه الموضوعية؛ فمصر هي مرتكز النهضة والسقوط معًا في التجرِبة العربية الحديثة، دون أن يعني ذلك لحظة واحدة، تخليًا عن معطيات النهضة والسقوط في مختلف الأقطار العربية، بل وتشابك هذه المعطيات وتداخلها وتفاعلها المستمر مع المعطيات الرئيسية في مصر.

ولأن هذه الأطروحة «محاولة في المنهج» فإنها لا تعتمد السرد التفصيلي لسياق الأفكار أو الأحداث، بل تتمثل أهمَّ الرموز الصانعة للخط البياني، صعودًا وانحدارًا. كما أنها لا توزع اهتمامها بين العصرين الرئيسيين بعدلٍ رياضي، فاهتمامها الأكبر بالقضية المطروحة للبحث. ولعل السياق المختزن بين هذين العصرين كان شاغلها الأكبر في تبيان «التطور» نكوصًا أو تقدمًا.

ولأن فكر النهضة أو السقوط هو خلاصة «القِيم» السائدة أو المرفوضة، فإنه لم يكن على طول الأطروحة هو الفكر الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو الأدبي أو الديني، بل كان ذلك كله مجتمِعًا، لا كحاصل جمع بل كحصيلة قِيم وصراع ضمائر، قد تتجلى حينًا في هذا أو ذاك من العلوم المختلفة أو الأحداث أو الرجال أو الحركات. فقد كان اهتمام البيئة والعصر هو الذي يُملي على الباحث الأشكال التعبيرية الأقدر من غيرها على تجسيد الزمن.

ولأن فكر النهضة والسقوط هو تشكيل بنيوي في هيكل المجتمع، فقد كان التداخل بين الثقافة وغيرها من أبنية هذا المجتمع محتومًا. كما أن استيضاح عناصر هذا الهيكل الاجتماعي لمصر الحديثة منذ محمد علي إلى جمال عبد الناصر من الموادِّ الضرورية لرؤية المصادر والأصول التي تنبع منها النهضة والمَصابِّ التي يئول إليها السقوط. فالحوار الاجتماعي للثقافة يشكل مسيرة التاريخ — بمتابعة قوى الإنتاج وأنماطه ووسائله وقيمه — كما أن الحوار بين الشرق والغرب في مصر، بتجلياته العسكرية والاقتصادية والسياسية والفكرية، يشكل — سلبًا وإيجابًا — مسيرة الحضارة. أي إن «الداخل» غير المعزول عن «الخارج» هو عنوان التحليل، كالعَلاقة الجدلية بين التراث والعصر، وبين الماضي والحاضر، وبين الأصالة والتجديد.

وقد انشغلت بتنظيم الفكر حول هذه القضايا لإنجازها في عمل أكاديمي منذ ثماني سنوات، كان المجتمع العربي خلالها ولا يزال يجتاز «أزمة» حضارية شاملة، وعميقة، وضارية. وكانت مصر، كما هو متوقع، مركز هذه الأزمة وعنوانها الرئيسي، دون أن نتجاهل بقية مصادر الأزمة في مختلف أقطار العرب بعناوينها الفرعية.

ولقد كان تدهور الفكر العربي المعاصر — ولا يزال — من أبرز صور «السقوط» الناصري بعد هزيمة ١٩٦٧م، حيث لم تستطع حرب ۱۹۷۳م ذاتها أن تغير الصورة، بل لعلها أفصحت أكثر عن بعض زواياها المعتِمة. ولم تكن الهزيمة أو الحرب كلاهما مجرد أحداث عسكرية أو سياسية، فقد برزت هذه المعاني على السطح كالجزء العلوي من جبل الثلج الراسخ في أعماق البحر، أما ما خفي فقد كان أعظم، كان مرتبطًا بتطور قوى الإنتاج وأنماطه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

كانت هزيمة ١٩٦٧م صياغة حضارية لسقوط تجرِبة اجتماعية، ذبَحها أولًا وأخيرًا الأسلوب البيروقراطي في الحكم، مهما تعددت الأسباب الداخلية والعربية والدولية بين المقدمات والنتائج. وكانت حرب ۱۹۷۳م بنتائجها السياسية المعروفة صياغة حضارية لسقوط تجرِبة اجتماعية ذبَحها أولًا وأخيرًا الطريق الذي سلكته ضد التاريخ، وكأنه يمكن تجاوز عشرين عامًا من الزمن الاجتماعي.

ولقد انعكس سقوط التجرِبتين، الأولى بعد ثمانية عشر عامًا، والثانية بعد سبع سنوات، في صراع فكري محتدم على الساحة العربية، وفي ازدهار مرحلة «التدهور».

وأعترف أن هذه كانت «البداية» في التفكير بهذه الأطروحة. فالتأريخ للنهضة لم يخطر ببالي يومًا، وقد ازدحمت المكتبة العربية بالمؤلفات المتنوعة الرؤى لذلك العصر الذي بدأ مع الحملة الفرنسية أو حكم محمد علي. ورغم التحفظات التي يمكن للمرء أن يبديها على هذه المؤلفات — وسوف يرِدُ بعضها في سياق هذه الأطروحة — إلا أنني لم أستهدف التأريخ لهذه النهضة.

كذلك فإنني لم أستهدف الاشتراك في الصراع الفكري الدائر حول الناصرية، رغم أنني لم أستبعد نفسي يومًا من أتون هذا الصراع، وبالتالي لم أفكر قط في التأريخ له.

ولكن «السقوط» الذي عاصرتُه مع جيلي من المفكرين المصريين والعرب، والذي اكتوينا بناره جميعًا، هو الذي شدني إلى «موضوع» هذه الأطروحة … فنحن، بمعنًى ما، شهود تجرِبتين، وقد شاركنا بمعنًى ما أيضًا — بالسلب والإيجاب — في مسيرتهما المعقدة.

ومن ثم لم يكن التعرض لمختلِف مراحل النهضة والسقوط في تاريخ الفكر المصري الحديث، إلا «تأصيلًا» للظاهرة من ناحية، واكتشاف «خصوصيتها» وما قد تحمله من قوانين، من ناحية أخرى.

ولأن هذا هو الهدف، فقد خصصت القسم الأول من الأطروحة لرصد علامات الثقافة المصرية في ظل المرحلة الناصرية، والمأزق الذي واجهَتْه بغياب النظام الناصري. كان ذلك هو الفصل الأول، أما الفصل الثاني فقد أدرته حول الأسس الاجتماعية لاحتمالات «الثورة الثقافية» في مصر، طبقيًّا وقوميًّا وحضاريًّا.

أما القسم الثاني فقد خصصته لجدلية النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث. فكان الفصل الأول من هذا القسم تحليلًا تاريخيًّا لجذور النهضة المصرية من محمد علي ورفاعة الطهطاوي إلى سعد زُغلول وثورة ١٩١٩م. وجاء الفصل الثاني ليستكمل «نقطة النهاية» البرجوازية لفكر النهضة المصرية، حيث قمت بعرض تحليلي لمحاكمة الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين.

وفي الخاتمة أجملت نتائج البحث في المقارنة النقدية بين عصرين، وحاولت استخلاص رؤية للمستقبل.

•••

وقد تَعيَّن عليَّ، وفاءً للصياغة الأكاديمية للأطروحة، أن أوفر للبحث مصادره الرئيسية: أصول فكر النهضة، كمؤلفات الطهطاوي، والشيخ محمد عبده، والأفغاني، والكواكبي. وقد ساعدني أن «الأعمال الكاملة» لهؤلاء الرواد قد ظهرت مؤخرًا محقَّقةً في كلٍّ من القاهرة وبيروت.

كذلك أحوجني الأمر، إلى جانب الطبعات الأولى من «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و«الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق، وهما الكتابان موضع المحاكمة عامي ١٩٢٥م و١٩٢٦م على التوالي، أن أبحث عن محاضر التحقيق الخاصة بهاتين المحاكمتين، وكذلك مضبطة مجلس النواب، ونصوص الأحكام التي أصدرها الأزهر، أو القضاء، أو البرلمان، أو الجامعة، بحق هذين الرائدين، وصدى ذلك كله عند الرأي العام.

وبالنسبة للمرحلة الناصرية كان لا بد من متابعة السيل المنهمر من المذكِّرات والمؤلفات التي صدرت بعد رحيل عبد الناصر، والتحقق من أسباب التناقض في ذكر الوقائع بين بعضها البعض. وكذلك بالنسبة للرجوع إلى الوثائق الرسمية، تَعيَّن الرجوع أيضًا إلى الوثائق المضادة أو المطابقة، والتي صدرت عن أحزاب أو أفراد أو «وقائع» تكذب أو تؤيد.

وبالنسبة للأطراف الدولية، احتاج الأمر استكشاف وجهات النظر الفرنسية والإنكليزية، سواء بالنسبة لحملة بونابرت، أو الاحتلال البريطاني لمصر، أو المداخلات الأمريكية في صراع الشرق الأوسط.

وإذا كان الأمر ميسورًا إلى حدٍّ، بالنسبة لوثائق «الفكر»، فلم يكن الأمر سهلًا بالنسبة لوثائق السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع؛ إما لندرة الإحصاءات والأبحاث الميدانية وانعدامها أحيانًا، وإما لاختلاط وجهات النظر بوقائع الوثيقة، وإما لأن هذه الوثيقة أو تلك لم تر النور بعد.

ولكني — بقدر المستطاع — حاولت واستفدت كثيرًا من المحاولات الجزئية التي سبقتني، سواء في التأريخ لعصر النهضة أو في التأريخ لعصر السقوط. وإن كنت لم أكتشف بحثًا متكاملًا يربط بين الظاهرتين في سياق جدلي موحد. لقد قرأت عام ۱۹۷۲م في «الأهرام» مقالًا للكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين يقارن فيه بين محمد علي وجمال عبد الناصر، على أساس أن كليهما حاول بناء الدولة المصرية الحديثة. كما قرأت نصًّا لمحاضرة ألقاها الدكتور لويس عوض في الولايات المتحدة حول إمكانيات الحوار في المجتمع المصري، وقد تعرَّض لما أسماه: «المسألة المصرية» مقارِنًا أيضًا بين عصري محمد علي وجمال عبد الناصر في عدة أسطر. ولكني لم أطلع، على قدر علمي، على بحث شامل حول هذه القضية يشخص المقدمات، ويتابع السياق، ويستخلص النتائج. أما ظاهرة «النهضة والسقوط» ذاتها؛ فلم تخطر على بال الكاتبَيْن المصريَّيْن الوحيدَين اللذين تعرضا — في شكلٍ عابر — للمقارنة بين محمد علي وجمال عبد الناصر، سواء كرجُلَين أو كعصرَين.

كذلك فقد تبين لي أن الذين ناقشوا أزمة الثقافة العربية، سواء في مصر أو غيرها، وقد تعرضوا بالضرورة لعصر محمد علي تارة أو لعصر عبد الناصر تارة أخرى — كأنور عبد الملك، وعبد الله العروي، وغيرهما — كانوا حريصين على زرع الأفكار أكثر من حرصهم على قراءة الأفكار، وأن أفكارهم كانت أبعد ما تكون عن استبصار حركة النهضة والسقوط كوَحدة جدلية.

غير أنني — دون شك — قد استفدت إلى أقصى الحدود من أفكار الجميع حتى الخاطئ منها، بل ربما أكون قد تعلمت من أخطائهم أكثر مما تعلمت من صوابهم.

ومن الجميع أخذت، وفي هذه الأطروحة أحاول أن أعطي.

هوامش

(١) العنوان الأصلي للأطروحة هو: «النهضة والسقوط في الفكر العربي الحديث: دراسة نقدية مقارِنة بين عصري محمد علي وجمال عبد الناصر». الاختصار الذي لا يخل بالمعنى يوجز مجال البحث ومادته الزمنية في عيِّنة محددة هي «الفكر المصري الحديث».
(٢) في مصر، كما في لبنان، في سورية، كما في العراق، يتحدد وضعُ مُنظِّري علم الجمال وسوسيولوجيا الثقافة الماركسية بالارتباط بمفهومين محددين: أولهما، وهو مفهوم في طريقه إلى الزوال، هو ذلك الذي تبلور وتمت صياغته في ظل «سلطة الدولة» الستالينية، وهدفه الرئيسي هو قياس شتى أنواع الإنتاج الثقافي حسب «نَموذج واحد» حددته الأيديولوجية السائدة. الثاني، وهو الذي يريد أن يكون أقرب إلى العلم، فتمتد جذوره إلى مفاهيم «الفن والأدب انعكاس للواقع» و«الثقافة المطابقة لتطلعات الجماهير» و«الثقافة سلاح الطبقات الصاعدة»، وهي مفاهيم تبدو ماثلة في كتابات لينين كلها.
ودون أن ندخل في التفاصيل التي تتعلق بمختلِف أشكال النقد الممكن أن تُوجَّه، اليوم، إلى هذا المفهوم أو ذاك، يتطلب منا الوضوحُ المنهجي أن نحدد موقفنا تجاه مجموعة هذه التيارات التي تزعم الانتماء إلى المادية الجدلية، لأنها ما زالت، حتى الآن، تمارس تأثيرها على القطاعات الرئيسية في الثقافة العربية.
ولنبدأ بالنقطة المشتركة بين كل هؤلاء المفكرين، سواء كانوا عربًا أو أوروبيين؛ أعني طريقتهم في تصور عَلاقة الواقع الخارجي (مادية جدلية) بالوعي الإنساني (مادية تاريخية). إن أول ما يباغتنا للوهلة الأولى هو ذلك التوازي الذي يقيمونه بين حركة الطبيعة والتطور التاريخي، فالتاريخ يسير وهو مزوَّد بإمكانيات تطورية دون أن يحدث لقاء مع عملية «تشكيل بنية» كل مرحلة من مراحله في الوعي الإنساني.
وفي تقديري إن مصدر الخطأ هو أنهم يقيسون التطور الاجتماعي حسب «المخطط التجريدي» الذي رسموه لتطور الطبيعة، مما أدى إلى أن تبدو كل الجهود التي بذلها الإنسان في مختلِف أشكال التكوينات الاجتماعية، منذ ما قبل التاريخ إلى الآن، وكأنها تبحث عن توازنها الاجتماعي على مستوى تطابق السلوك الإنساني مع مختلِف مراحل التطور التي يبلغها التطور الفيزيائي. ففي نظرهم تبدو الطبيعة سابقةً على ما هو اجتماعي، وما هو اجتماعي لا يُكتسب إلا بترويض الطبيعة، بالاستحواذ على قوانينها. ولنوافقهم مبدئيًّا على هذا التصور، فلا يمكننا إلا أن نؤيد وجهة النظر هذه عن طيب خاطر، ما دمنا لا ننكر أسبقية الواقع الخارجي على نشأة الحياة الاجتماعية، ومع ذلك لا يُفهم تصور التطور على مستوى تطابق «الاجتماعي» مع «الطبيعي» بأي حالٍ من الأحوال، لأن في نقطة الالتقاء بين الاثنين يوجد بناء آخر، بناء له تاريخه (بل هو التاريخ نفسه)، وله لحظات انفصاله عن الواقع الخارجي (وهذا الانفصال هو ما نطلق عليه اصطلاح «التخلف الثقافي»)، وله مراحل طفراته الفكرية، والعلمية، أي الثقافية. وهي التي تحدد لهذه الجماعة أو تلك مجالَ التنبؤ بما سيكون عليه شكل مجتمعها في الغد، وهي التي، في حال بلورتها، تقوم بالنسبة للعناصر المكوِّنة لبناء اجتماعي بدور «المحرك»، بينما تقوم العناصر بدور جهاز الاستقبال. هذا هو «البناء الفكري». وهو لا يحدد فحسبُ مدى المجال الاجتماعي-التاريخي لرؤية العالم التي يسعى أفراد المجتمع إلى تحقيقها، بل يحدد أيضًا القرارات التي ينبغي أن تتخذها عناصر المجتمع تجاه الواقع الخارجي وتجاه الواقع الاجتماعي. هنا يتكثف كل مكتسَب أية جماعة إنسانية، في أية لحظة تاريخية من لحظات التطور. وإذ يرتكز هذا المكتسَب على الحاضر، فهو يتخذ نوعًا من المسافة تجاه الظواهر التي تحدث في الواقع المحيط به وتجاه ماضيه في الوقت ذاته، ومن هذه المسافة ينبثق الوعي.
لكننا نلحظ أن ما من وعي يمكن أن يتكون دون هذه «البرمجة المسبقة»، دون عملية «تشكيل بنية الواقع» هذه، وهي عملية لا يمكن أن ترتد إلى مستوى التعريفات المبسطة، لأن الوعي يعمل داخل كل عملية «تشكيل لبنية الواقع» على مراحل تتوالى «بشكل متناقض»، إذا جاز استخدام هذا التعبير، بادئة من «الانعكاس»، وهو ليس انعكاس الواقع الخارجي مجردًا، بل انعكاس الموقف الكامل الذي ينغلق على الإنسان وعلى واقعه الخارجي، وهما، معًا، في استمرارية تاريخية. وبعد ذلك تنتقل العملية إلى «استعادة» هذا الانعكاس واحتواء الجانب التاريخي في وعينا لبنيته، أي الذاكرة الإنسانية التي يرقد فيها كل المكتسب، وكل التقاليد، وكل معايير السلوك، وكل القيم … إلخ. وهنا يحدث «التضاعف» داخل الذاكرة، فما طرأ على الواقع الخارجي يحرك الذاكرة فتراجع رصيدها مع هذا الجديد، ثم تنزع بعدئذٍ إلى التوازن، ولا يتحقق لها ذلك إلا بتحطيم الحلقة الضيقة التي تحبسها في ماضٍ يجثم بكل ثقله على الحاضر، وبإعادة تكوين بنية مجال التنبؤ التي تشمل ما قد تكثف من الماضي، وما يكتسب من الحاضر، مع الاتجاه نحو مستقبل لم يتحدد له اسم.
والواقع أن أبحاث هؤلاء المُنظِّرين والمفكرين لم ترتكز إلا على المرحلة الأولى في هذه العملية، أعني مرحلة الالتقاء بالواقع الخارجي، ومرحلة ظهور انعكاسه المباشر في الوعي. وهم بذلك يتخذون الموقف الذي تثور عليه أبحاثهم نفسها؛ لأنهم بدلًا من النظر إلى الموضوع من خلال «رؤية جدلية» يتخذون «رؤية ثنائية». وسواء أرادوا ذلك أو لم يريدوه، فمنظِّرونا يعملون بموقفهم هذا على استمرار «القطع» الذي يمارسه المفكرون منذ «كانت» بين ما هو مادي وما هو محسوس. ولأنهم لا يرون في أشكال الخلق الثقافي سوى انعكاس لما هو اجتماعي، يقعون في الخطأ الأول الذي وقع فيه لينين، وهو خطأ يقوم على القفز فوق عملية «تحطيم البنية – وإعادة تشكيلها» التي تدور في الوعي الإنساني. وهذه العملية هي مجال الاستكشاف والتنقيب الوحيد الذي تتمركز فيه أي سوسيولوجيا ثقافية تريد أن تكون علمية، أعني مادية جدلية.
لكن ما مصدر هذا الخطأ؟
يقول لينين:

«إن الفارق الجوهري بين المادية وبين معتنقي الفلسفة المثالية، هو أن المادية تنقب على المحسوسات وعلى الإدراك وعلى الأفكار، وبشكل عام على وعي الإنسان بواقع موضوعي ينعكس في وعينا. وحركة المادة الخارجية تطابق حركات الفكر والإحساس والإدراك … إلخ. وتَصوُّر المادة لا يعبر عن الواقع الموضوعي الذي تعكسه إحساساتنا. ولهذا السبب فإن الاتجاه الذي يعمل على انتزاع الحركة من المادة يساوي الاتجاه الذي يريد أن ينتزع إحساساتي من العالم الخارجي، أي الذي يريد أن ينتقل إلى المثالية.»

ها هي الأمور تتضح؛ ففي هذه الفقرة التي يستشهد بها «بيير ديكس» في كتابه «البنيانية والثورة الثقافية» (ص٦٥) يتكشف بوضوح أصل أخطاء منظرينا الذين يصوغون نظرياتهم في سوسيولوجيا الثقافة.
وهنا لا يمكننا إلا أن نتفق مع «بيير ديكس» عندما يرى في هذه النقطة مصدر كل المواقف «الثنائية» التي عملَتْ منذ لينين حتى جدانوف، مرورًا بستالين، على تجريد الديالكتيك من نواته الأصلية.
إلا أن لينين لم يكن سوى التعبير عن ذلك الفكر التطوري (الناتج عن ظهور نظرية التطور الداروينية)، خلال انبثاق هذا الفكر في مجتمع قائم على «المقدسات الدينية»، أي يضرب بجذوره في التقاليد القبلية القديمة، والتي تقوم على حكم الفرد المطلق، ثم بعد ذلك بدأ كل ذلك التكوين الفكري يلتقي بالمادية الجدلية. ولأن لينين كان مدفوعًا بضرورة مواصلة نضاله إلى آخر الشوط ضد ماخ والمثاليين من أتباعه، فقد نسي القطب الثاني للديالكتيك؛ أعني التاريخ.
ومع ذلك يمكننا أن نوجه لبيير ديكس نفسه بعض النقد: ففي داخل هذا التاريخ الثاني، التاريخ نفسه، تاريخ تطور عملية تحويل الواقع إلى «واقع إنساني»، هناك لحظات انفصال، هناك بحيرات مقتطعة، هناك صراعات وأشكال نضال حادة بين التقاليد، وقد رقدت في اللاشعور، وبين الأفكار التي صيغت عن وعي. وهنا، في نقاط الالتقاء هذه، يبرز ثبات الظواهر التي لا ترتبط إلا بالثقافة. وهنا أيضًا يتحدد المجال الذي تتم فيه عمليات التنقيب التي نقوم بها.
(٣) لا تهدف هذه الملاحظات بأي حال من الأحوال إلى أن تلخص فكر «رولان بارت» أو تقديم منهجه في بضعة سطور. ويستطيع القارئ الذي يريد أن يستخلص الخطوط العامة لمؤلفات بارت أن يجد ما يُشبع حاجته هذه في عدة أبحاث مكرسة لدراسة بارت وأعماله، منها كتاب رولان بارت تأليف «لوي جان كالفيه» (سلسلة «مكتبة بايو الصغيرة» ۱۹۷۳م)، وكتاب بارت تأليف «جي دو مالاك» و«م. أ. بيرباك» (المطبوعات الجامعية ۱۹۷۱م).
أما ما نريده من هذه الملاحظات، فهو النفاذ إلى أسطورةٍ ظلت تحوم طويلًا حول رولان بارت، وأعني بها أسطورة «النزعة الشكلية».
فالنقاد عمومًا قد أشاعوا الخلط في كل وجهة نظر تحاول استشفاف منهج بارت، وذلك بتقديمهم له وكأنه خليفة عالم اللغة «فردينان دو سوسور» الباحث الذي يواصل دراساته في اللغويات. ثم بتعمدهم التركيز على تمييز بارت للفوارق بين «اللغة» و«الكلمة»، بين المدلول ودلالته، مما أدى بهم إلى أن يلقوا «بالغايات» جانبًا، ولا يعبَئُون بغير «الوسائل». والغريب حقًّا هو أنهم يدَّعون الارتكاز على نهج علمي، بينما ما يفعلونه هو النفاذ إلى أعمال بارت باتخاذ موقف «علماني». أما بارت نفسه، فنحن نلحظ أنه منذ كتابه الأول «درجة الصفر في الكتابة» الذي ظهر عام ١٩٥٣م حتى كتبه الأخيرة، مثل: «متعة النص»، مرورًا بأعمال مثل: «مقالات نقدية» و«أساطير» و«أسس علم الإشارات (السيميولوجيا)» لم يستبعد على الإطلاق وجهة النظر القائمة على علم الاجتماع.
والواقع أن مشروع بارت الرئيسي، ذلك الذي ترتكز عليه أعماله المقبلة، يتضح منذ الفصول الأولى لكتابه «درجة الصفر في الكتابة». فهنا نجد اهتمام بارت الرئيسي منصبًّا على تحديد الإطار الذي يحصر عمليات «توليد» الأعمال الأدبية، وهي العمليات التي تحدد الخصائص الفردية للكاتب، وفي الوقت ذاته تجعل التزامه حتميًّا. وهي عملياتٌ عمِل بارت على استخلاص «نواتها» من عملية الكتابة نفسها، وفي إطار هذه العملية ينحصر الإبداع نفسه.
ويرى بارت أن «عملية الكتابة» لا يمكن أن تتحدد في مجال اللغة بصورتها العامة، ولا في مجال الأسلوب، بل في «خطوط التَّماس» بينهما. فإذا كانت اللغة ملكية عامة لجماعة إنسانية تمارس تداولها، فهي تخضع بالتالي لقوانينها الخاصة. صحيح أنها قوانين معيارية، إلا أن الهدف منها هو تسهيل التبادل، هو أن تجعل من الكلمات، بل من التراكيب اللغوية نفسها، «مطايا» تم تصميمها وتصنيفها إلى الدرجة التي أصبحت تبدو كمعايير ثابتة عامة، فهي وَحدات صغيرة تمثل الحد الأدنى من «تراكيب الفكر»، من بنية التفكير، لها القدرة على أن تقوم بدورتها الكاملة داخل أي «كل اجتماعي» معين دون أن تحدث أدنى هزة في عادات التفكير لدى أي إنسان داخل هذا الكل الاجتماعي. ويرجع ذلك إلى أن اللغة، كما يقول بارت: «هي هيكل عام من «الوصفات» والعادات، ملكية عامة لكل الكُتَّاب في عصر تاريخي معين. ومعنى ذلك أن اللغة تبدو مثل «الطبيعة»، فهي تَنفُذ كليةً إلى كلمات الكاتب، تتخللها دون أن تشكِّلها، بل حتى دون أن تعمل على تغذيتها؛ إنها شبه دائرة تجريدية تحصر مجموعة من الحقائق، وخارج هذه الدائرة فقط يبدأ الكاتب في أن يختزن لنفسه كثافة كلمته المفردة» (درجة الصفر في الكتابة، ص۱۷).
إن تحديد اللغة على هذا النحو يجعلها تنغلق على كل ما هو متماسك ومقنن، وبالتالي كل ما هو قابل للتبادل في المكتسب الاجتماعي. وإذا كان بارت قد شبه اللغة بالطبيعة، فإن ذلك يرجع، فيما يبدو، إلى خضوعه لضرورة إقامة نوع من التماثل بين «ثبات» القوانين التي تتحكم في قوانين الطبيعة، وبين القوانين التي تتحكم في معايير التبادل اللغوي، باعتبار أن مجموع عمليات التعبير الفردي (ومنها الكلمة) تشكل في نهاية الأمر نظامًا يمكننا أن نستخرج منه قوانين «الثوابت» (اللامتغيرات)، وخصائصها البارزة المميزة. ففي داخل كل جماعة إنسانية يساهم الفرد في صياغة هذا النظام، وعلى مدى ما تتطور إليه الأبنية الاجتماعية، تطرأ تعديلات على القوانين التي تتحكم في الاستخدام الفردي. وهذا هو السبب في أن بارت، رغم أننا أمام كتابه الأول، يبدو على وعي كبير بالطابع التاريخي (أو الاجتماعي إذا استخدمنا تعبير البحث الحديث) للغة. ولنلحظ أنه يقول: «لغة عصر معين.»
ومع ذلك، فعملية الكتابة، بالنسبة للكاتب، لا تقوم على أن يسحب من الرصيد (أعني اللغة) هذا المبلغ أو ذاك من «التراكيب اللغوية» أو من المفردات، أو من العبارات الجاهزة، كما أنها لا تقوم حتى على أن ينسخ ما تمت صياغته من تراكيب في لغة سابقيه. بل تقوم عملية الكتابة، بالدرجة الأولى، على أن يُحدث هزة في هذه «اللغة-الطبيعة»، وعلى أن يضعها موضع التساؤل، ما دامت هناك مسافة زمنية دائمة بين الوعي الفردي (الكاتب) وبين الوعي الجماعي العام (أي القوانين التي تعمل على ضمان دورة هذا الحد الأدنى من وَحدات التفكير القائمة عليها اللغة). وهذه المسافة الزمنية هي التي تضع الكاتب في عَلاقة جدلية مع اللغة؛ فما إن يحاول أن يفرض عليها فرديته، وأن يستخلص منها كلمته المفردة، حتى يجد اللغة تجثم عليه بكل ثقلها التاريخي، ومقاومة الكاتب لهذا الثقل تدفعه إلى أن يجد نفسه في منتصف الطريق بين ما هو فردي (أسلوبه)، وما ينتج عن هذه العملية مرتبطًا بوضعه «الاجتماعي/التاريخي» المحدد (أعني الكتابة).
وهناك فقرة في كتاب بارت الأول هذا تكشف لنا بوضوح عن الطريقة التي تحدد الكتابة مفاصلها في عملية الإبداع ذاتها:

«وعلى هذا، فكل «شكل فني» هو أيضًا قيمة، وهذا هو السبب في أننا نجد بين اللغة والأسلوب مجالًا لحقيقة شكلية؛ إنها الكتابة. ففي أي شكل أدبي يوجد اختيار الكاتب العام لنبرة معينة، أو «عصب حساس»، إذا شئنا القول، وهنا على التحديد يتفرد الكاتب بشكل محسوس، لأنه، هنا، (يلتزم) …»

(درجة الصفر في الكتابة، ص٢٣، منشورات لوسوي، باريس، طبعة ١٩٥٣م)
ثم يضيف بارت، موضحًا الفوارق بين «الكتابة» من ناحية، والأسلوب واللغة من ناحية أخرى:

«اللغة والأسلوب هما معطيات سابقة على كل شكل يتعلق بلغة التعبير، لأن اللغة والأسلوب هما النتاج الطبيعي للزمن وللشخصية البيولوجية، إلا أن ذاتية الشكل الفني لدى الكاتب لا تتحقق بالفعل إلا خارج هيكل المعايير التي أقامها النحو، وخارج ثوابت الأسلوب. إنها تتحقق حيث تتحول عمليات الكتابة المستمرة (بعد أن تجمعت في البداية وحُبست في جسم طبيعة لغوية) إلى إشارة كاملة، دلالة، إلى اختيار لمسلك إنساني، إلى عملية تأكيد لنوع من «الملكية الثابتة»، يرغم الكاتب على أن يلتزم بإيصال الآخرين ما ينتابه من سعادة وما يعانيه من توتر. وذلك يربط الشكل الفني الذي تتخذه كلمته، وهو شكل سوي ومتفرد الخصائص في الوقت ذاته، بالتاريخ العام الذي يضم الآخرين. إن اللغة والأسلوب من القوى العمياء، بينما «الكتابة» هي عملية تضامن تاريخي. كذلك اللغة والأسلوب هما من الظواهر الشيئية، بينما الكتابة «وظيفة»؛ إنها العَلاقة التي تربط الخَلق الفني بالمجتمع؛ إنها لغة التعبير الأدبي وقد تحولت بفضل عملية الاتصال، إلى ظاهرة اجتماعية، وهي أيضًا الشكل الفني وقد تراءى ماثلًا في لحظة التعبير عن قصده الإنساني. وبدا، على هذا النحو، وقد ارتبط بأزمات التاريخ الكبرى.»

(درجة الصفر في الكتابة، ص٢٤، منشورات لوسوي، طبعة ١٩٥٣م)
وعلى هذا النحو تتحدد رقعة «الإشكال» منذ كتاب بارت الأول. وباستثناء بضع تصورات معيارية، وبالرغم من النزعة الأخلاقية البادية في الكتاب، فالإشكال يمتد بحيث يحيط بعملية الكتابة الأدبية. وهي عملية تتحرك حيث يكشف التاريخ عن نفسه، وتتمركز في الموقف الذي تولدت عنه، أي في المجال الذي يسمح لنا بإقامة عَلاقة مكانية-زمانية تقوم عليها عملية «تشكيل» العمل الأدبي.
فإذا كانت اللغة أفقية، فالأسلوب رأسي، والاثنان يتجاوبان، وفي منطقة التَّماسِّ بينهما تبرز «الكتابة».
وذلك لأن «الكتابة» — وقد ارتبطت على هذا النحو بهذا العالم الزماني المكاني — لا تبدو مجردة من شحنتها التاريخية. وفيما مضى، وعلى التحديد في العصور السعيدة، كان لا يتمتع بحق الكلمة، بحق استخدام اللغة، سوى الطبقة الحاكمة. إنها وحدها صاحبة امتياز اللغة (وبالتالي بعدها المعاصر، أعني الكتابة). لكن ها هي البرجوازية تصل إلى السيطرة على تآلف الطبقات الحاكمة، وتصحَب سيطرتَها عمليةُ استحواذها على كل ما هو مدخَر في اللغة إمكانيات، الأمر الذي أدى إلى ظهور سلسلة متنوعة من الظواهر؛ أبرزها، في مجالنا الخاص هذا، عملية الإصلاح اللغوي التي قام بها «فوجلا»، فقد عمل على تثبيت «المعيار»، وعلى تأسيس الأكاديمية، ثم حاول «ماليرب»، بعد ذلك ببضع سنوات، أن يقدم، في شعره، المسلَّمات اللغوية التي ردد صداها «بوالو» في مؤلفه «فن الشعر».
إنها عملية ترتبط، من ناحية أخرى، بصعود البرجوازية ووصولها إلى الحكم. ومع البرجوازية، تبرز طبقة أخرى، هي أساسًا مبعدة عن حق استخدام الكلمة. فهي تعاني من «الأمية»، وليس لديها من رصيد للتعبير سوى الفولكلور. وغالبًا ما تخضع لمفاهيم نابعة من الفكر الطقوسي، ومن ممارسة العادات الدينية الشائعة، إلا أنها تجد نفسها، من الآن، مدفوعة إلى استخلاص وعي لها، ومن هنا حاجتها إلى أن تصنع لنفسها أسلحتها الثقافية. وعلى هذا النحو نجد أنه على مدى ما تتطور إليه «الكتابة» البرجوازية تتشكل، بموازاتها، ظاهرة أخرى؛ فبعد أن كانت «الكتابة» شكلًا واحدًا، متفردًا، ها هي تصبح «متعددة الأشكال».
ويرى بارت أن هذا التطور الذي طرأ على شكل الكتابة لا يظهر في الأعمال نفسها بقدر ما يظهر في «مادية النص» نفسه، لأن الكتابة عندما كانت شكلًا متفردًا، كانت ترتكز على وَحدة أساسية، هي «الجملة». أما الآن، فقد تفتتت هذه الوَحدة، وظهرت وَحدات تعبير أخرى؛ فلدى الرومانسيين، مثلًا، نجد للكلمة سلوكًا خاصًّا يبدو في ثنايا إيقاع اللفظ. وابتداءً من «مالارميه» لا يقتصر الإيجاز على مستوى النحو وتراكيب اللغة، بل يتجاوز ذلك إلى الحد الذي ينغلق فيه اللفظ على عزلته الخاصة. ومنذ بداية النصف الثاني من قرننا العشرين نشهد تحولات أخرى تطرأ على كُتَّاب الرواية، منها: الإعراض عن استخدام وسائل التعبير اللغوي التي تشير إلى تعدد الفروق الزمنية، واللجوء إلى جمل تكاد تخلو من الأفعال. وفي أغلب الأحيان تتحدد الكتابة بنوع من الجمل يستخدم فيها الروائي صيغة الماضي القريب ليُلقي بظله على تتابع السرد في صيغة الحاضر المستمر إلى ما لانهاية (وهذا ما تؤكده ناتالي ساروت بعد جان كيرول).

«إنها عملية تحوُّل تؤدي إلى ما يسميه بارت ﺑ «الكتابة البيضاء»: وهي الشكل الذي تتخذه أعمال الروائيَّيْن «ألبير كامو» و«ريمون كونو». وتتميز روايات «كامو» بصيغتها المحايدة، وبإعراضها عن الغنائية الكلاسيكية، بينما ينزِع «كونو» إلى تحويل لغة التعبير الشفهية اليومية إلى جمل أدبية، مرتكزًا على إيقاعها، ويرينا بذلك إمكانية اللجوء إلى «استخدام الشكل الشفهي الذي نتج عن تمزق الحديث المكتوب»، طالما ينزع كونو إلى عملية «تأميم لوسائل التعبير الأدبي، وهي عملية تقوم على تجميع كل درجات الكتابة، بل كل صيغ التعبير بالخط ورسم الكلمات، وكل مفردات القاموس، ثم هناك ما هو أهم من هذا كله، رغم أنه لا يبدو حافلًا كالأشكال الأخرى، وأعني به: الحديث اليومي الذي نتلفظه بلغتنا العامية».»

(المصدر السابق، ص۷۱)
يبقى أن نستخلص من مختلِف الأطوار التي اجتازتها صيغ الكتابة المتعددة، مجموعةَ القوانين التي لا يمكن صياغتها إلا ابتداءً من «نظام موحد» يتحكم فيها، القوانين التي تسمح بالكشف عما هو «اجتماعي» خلف الشكل المادي البحت لصياغة النص، أي خلف الدلالات نفسها.
وعلى هذا النحو نجد منهج بارت، منذ كتابه الأول، ينطوي على نظرة اجتماعية تبدو كامنة في تناوله لشكل الكتابة، وهي نظرة تتبلور امتداداتها في ثنايا نصوصه التالية. إننا نراها تحتل مركز اهتمامه في مختلِف المشاكل التي تطرحها مختلف مقالات بارت ودراساته التي نشرها في الفترة ما بين ١٩٥٣ و١٩٦٤م (١٩٦٤م هو تاريخ نشر دراسته: «أسس علم الإشارات» — السيميولوجيا — في مَجلة كومانيكاسيون — أي وسائل الاتصال — عدد ٤). وكلها مقالات ودراسات كتبها حسب المناسبات، منها ما كتبه بدافع اتخاذ موقف إزاء المسرح الملحمي، مسرح بريشت، ومنها ما كتبه بهدف تقييم الأدب القائم على «الشيئية»، والذي تكشف عنه روايات «آلان روب غرييه»، ومنها ما كتبه ليحلل الرموز الكامنة في طرق استخدام الملابس في المسرح وأثرها في المُشاهد.
وربما نجد مصدر «أسطورة الشكلية» فيما عقده النقاد من مقارنات بين عالم اللغويات فردينان دو سوسور، وبين بارت، على إثر نشر كتاب «أسس علم الإشارات».
وهنا ملاحظة تفرض نفسها: إذا كان بارت قد اتجه إلى اللغويات، فهو لم يستبعد نظرته الاجتماعية للوقائع الثقافية، ولم يُعرض عن اهتماماته التي تنصَبُّ على تعميق، بل على «التحليل المادي» لمفهوم «الكتابة». بل لقد بدأ يَنفُذ إلى مفاهيم سوسور على مستوًى من الصياغة الفكرية أعلى بكثيرٍ من مستوى اللغويات.
لكن ما الذي كان يسعى بارت ليجده، على وجه التحديد، لدى العالِم السويسري؟
بالإضافة إلى تحديد سوسور للوَحَدات الأساسية للدلالة، وهي القائمة على المزاوجة بين الدالِّ والمدلول، نجد لدى العالِم السويسري أُسسَ علمٍ جديدٍ في طريقه إلى أن يجد صياغته النهائية، وهي صياغة وجد بارت أن من المهم للغاية إكمالها، لأنها تنطوي على كل ما يحدد العَلاقة الجدلية بين اللغة والكلمة. والكلمة، في هذا المجال، تتخطى الحدود الضيقة لأشكال التعبير المعيارية، أي المحددة، والمحدودة بالقوانين التي يفرضها علم اللغة، وبتخطيها لهذه الحدود تتسع دائرتها لتشمل كل ما يرتبط بالمشاعر التي لم يتم بعدُ «تقنينها»، بأنواع التعبير بالصيحة وبالدهشة، بالإشارات والرموز غير اللغوية التي تجرفها عملية التبادل الاجتماعي (كالموضة، وطُرُز الأثاث، والملصقات الإعلانية، وموديلات السيارات … إلخ).
ولو رجعنا إلى النص الشهير الذي صاغه سوسور، والذي أعلن فيه مولد عِلمٍ دشَّنه باسم «علم الإشارات» أو «السيميولوجيا»، وبذلك طرح لأول مرة مشكلة صياغة هذا العلم الجديد، سنجد علم اللغة هنا مجرد ملحق لهذا العلم الأوسع والقادر على احتواء كل النظم التي تخضع لها أسس التعبير.
يقول سوسور:
«في وسعنا أن نتصور علمًا يدرس حياة الإشارات والدلالات في قلب الحياة الاجتماعية … وهو علم سوف نطلق عليه اسم «علم الإشارات»، وسيكون قادرًا على إرشادنا إلى الأسس التي تقوم عليها الإشارات، ويدلنا على القوانين التي تتحكم في حركتها. وما دام هو علم لم يظهر بعد للوجود، فلا يمكننا أن نقدم صورة قاطعة عما سيكون عليه، وكل ما يمكن أن نقوله هو أن له الحقَّ في أن يوجد، فمكانه قد تَحدَّد مقدَّمًا … ولن يكون علم اللغة سوى جزءٍ من هذا العلم العام (الخط الذي يركز على هذه الجملة من وضعنا نحن)، والقوانين التي سيكشف عنها علم الإشارات هي قوانين قابلة للتطبيق على علم اللغة، وبذلك سيرتبط علم اللغة بمجال محدد تمامًا له وضعه وسط الوقائع الإنسانية.»
(فردينان دو سوسور: دروس علم اللغة العام، منشورات بايو، ١٩٦٤م، ص۳۳)
فإذا انتقلنا إلى منظور بارت، نجد الصيغة التي يطرحها سوسور قد انقلبت: فالقوانين التي تتحكم في حركة الإشارات تنبع أساسًا من النظام اللغوي (لأن خارج النظام اللغوي لا يمكن أن تتحقق أية عملية تبادل اجتماعي).
ولنعد إلى كتاب «أسس علم الإشارات».
يقول بارت:

«لا بد لنا في نهاية الأمر أن نتفق من الآن على أن من الممكن أن نقلب، ذات يوم، ما طرحه سوسور: إن علم اللغة لن يكون جزءًا من علم عام للإشارات، حتى لو كان العلم المميز، بل علم الإشارات هو الذي سيصبح جزءًا من علم اللغة.»

(أسس علم الإشارات، مَجلة كومانيكاسيون، منشورات لوسوي، عدد ٤، ١٩٦٤م)
(٤) يرجع إلى لوسيان غولدمان الفضل في أنه أول مفكر كان على وعي بأن العمل الأدبي ليس «نسخة» من الواقع، نسخة مهما أُجري عليها من تعديل فهي انعكاس لهذا الواقع، وبالتالي لا يتحدد العمل الفني على مستوى النقد، وعلى مستوى تاريخ الأدب والفن؛ بمعيار إخلاصه لتمثيل الواقع.
والواقع أن غولدمان، بتوسيع مجال استكشاف قيم الأعمال الثقافية، وبإدخال مفهوم «الشمولية» على علم الاجتماع الأدبي، لم يعد يحصر نفسه في دائرة تحليل «مضامين» أنواع الخَلق الفني، فمن الآن يصبح شغله الشاغل هو تعرية معادلات التناسب الشكلي بين أبنية الأعمال الفنية وأبنية التكوينات الاجتماعية التي ولدتها.
والواقع أن مواجهة المشكلة بهذا المنهج يعني قدرة غولدمان على تحديد مجال التنقيب الحقيقي، ما دامت نقطة البدء هي الموقف التاريخي المعيَّن الذي نبحث في إطاره عن البواعث التي أدت إلى ميلاد هذا العمل الفني أو ذاك، في قلب ظروف اجتماعية محددة بشروطها الخاصة.
ولقد عمل غولدمان على تبديل مركز الثقل في قضية «الواقعية الاشتراكية»، وذلك بإقامة نوع من التوازي بين العالم الخيالي الذي نستخلصه من الأعمال الفنية وبين الأبنية المكوِّنة لأشكال المجتمع، وهو بذلك يؤدي إلى هز مادية لينين نفسه والتشكيك بصحتها.
فلا يمكن البحث عن دلالة العمل الفني في مدى مطابقته لانعكاسات الواقع، بل على مستوى أسبقية الواقع بالنسبة للوعي الإنساني، فهناك مسافة بينهما، وهي نظرة من شأنها أن تقلب منظورات علم الاجتماع الثقافي، وتخلق لموضوع بحثه موقفًا جديدًا.
لأننا لو سلمنا بأن مع كل عملية تحوُّل اجتماعي لا بد وأن تظهر أشكال فنية جديدة تطابق هذا التحول، فكل بحث يدَّعي الموضوعية لا بد وأن يتركز حول القوانين التي أدت إلى هذه التحولات. وما إن يصبح الواقع الموضوعي هو هذه العَلاقة بين التكوين الاجتماعي والوعي الخلَّاق، فإن التغييرات التي تطرأ على هذه العَلاقة هي وحدها التي تحدد طبيعة مجال الواقع التاريخي الذي يعمل الناس على النفاذ إليه وفهم إشكاله، ويحاولون، من أجل ذلك، صياغة «نماذج» لإشكاله الكامل أو «رؤية للعالم»، إذا شئنا أن نستعير اصطلاح «جورج لوكاتش». ذلك أن بين أبنية الواقع أبنية اجتماعية، والأبنية التي تشكل رؤية العالم، وبين أبنية الفكر الإنساني تنشأ، على الدوام، مجموعة من الروابط. وهذه الروابط هي ما نسميه بالثقافة، أو الروابط الثقافية. وبمركزة هذه الروابط في بنية، في شكل اجتماعي، ينتهي بنا الأمر إلى التركيز على الطابع التاريخي للعمل الثقافي؛ فهو عمل تشكل حسب حتميات معينة، وما إن ينتهي أداء وظيفته حتى يصبح من الضروري أن نتجاوز شكله الفني، ما دامت الظروف التي تولد خلالها قد تطورت، وطرأ عليها تحول أدى إلى ظهور ظروف جديدة، وهي، بدورها، تقود إلى ظهور تكوينات اجتماعية، أكثر اتساعًا من السابقة، وأكثر تعقيدًا.
إلا أن علينا أن نبدأ بإزالة ذلك النوع من سوء الفهم الذي يبدو وكأنه يجثم على منهج غولدمان منذ صياغة مذهب «البنيانية النوعية». ولهذا نبادر إلى القول: إن الأمر لا يتعلق، كما تصور ذلك عدد كبير من النقاد، بإقامة «معادلات» صارمة، معادلات رياضية بين تركيب بنية الأعمال الثقافية وتركيب بنية التكوينات الاجتماعية، وذلك للتدليل على ما بينهما من توازٍ. لأن ما يبحث عنه غولدمان ليس التطابق، بل خضوع الاثنين لمبدأ التطور والتغيير. بعبارة أوضح، إن ما يبحث عنه غولدمان هو القوانين التي تؤدي إلى هذه التحولات التي تطرأ على العَلاقة بين الواقع وبين الوعي الإنساني.
وبإعراض غولدمان عن نزعة التحليل المألوفة لمضمون الأعمال الفنية، وبالنفاذ إلى التطابق بين ما يكشف عنه العالم الخيالي الذي ينسجه العمل الفني ورؤى العالم التي تعتنقها العناصر الإنسانية المكونة لكل شامل، هو البنية الاجتماعية، تم تحرير علم الاجتماع الثقافي من «ثنائية» لينين وجدانوف، وأدى ذلك إلى إقامة الجسر الجدلي الذي قطع بين أشكال الخَلق الثقافي والمجتمع الذي أدى إلى ميلادها.
وإذا كنا نعني بكلمة «بنية» نوعًا من التوازن (أو عقلانية جديدة) يسعى إليه الأفراد والجماعات المكونة لذلك الكل الشامل، أي التكوين الاجتماعي، فسيكون من البديهي أن الدافع إلى «استشفاف» تشكيل بنيوي جديد لحياتهم وتنبؤاتهم بما هو ممكن، لا بد وأن تكون ترجمة لوعيهم بالتعديلات الكَمية التي بدأت تقوم بعملها، في صمت، وفي السر، داخل الحياة الاجتماعية (أي قبل أن تتخذ شكلًا كيفيًّا). إن الكل يتساءل: إلى أي شكل جديد سينتهي الأمر بما يحدث حولنا؟ وهل يمكن تحقيق نوع من التغيير؟ وهي أسئلة تطرحها الجماعات الإنسانية على نفسها في هذه المرحلة أو تلك من مراحل التحول التاريخي. وهنا يجيء الفنانون الخلَّاقون، ففي أعمالهم نجد المواضع التي تتوالى فيها أسئلة الجماعة الإنسانية والتي تحمل تطلعاتهم إلى غد أفضل قد تبلورت في أعمال الفنانين وتولدت عن بلورتها صورة وجدانية، مصقولة، لما سوف تئول إليه حياتهم. وعلى هذا النحو تقوم الأعمال الفنية بدور «الأوتوبيا»، بدور الممكن القابل للتحقيق، إنها الوعي بالإمكانيات الحقيقية الكامنة في أحشاء عملية تشتمل على سلسلة من التحولات الاجتماعية.
والواقع أن إحدى المعطيات الأولية لمنهج لوسيان غولدمان تكمن في التركيز على عنصر أول: هو الطريق الذي يبدأ ﺑ «الواقع القابل للتحول» وبين الوعي، وهو طريق يؤدي إلى إحداث ثورة في رؤيتنا للقيم الثقافية، لأن ما يسميه غولدمان ﺑ «العالم الخيالي» للعمل الفني ليس سوى الإمكانيات البنيوية التي تنطوي عليها أشكال التكوين الاجتماعي، وبهدف بلورة هذه «الإمكانيات» تجد الأعمال الفنية مبرر وجودها.
ويبدو لي أن النقد الذي يوجَّه إلى غولدمان يرجع إلى أن النقاد لم يواجهوا أعماله في مجموعها، لأن هذا الفكر الذي يتميز باستمراريته المتطورة، لا يمكن أن يسلم لنا نبضه من خلال عمله الأول. وهناك حقيقة أخرى، هي أن غولدمان نفسه كان مشغولًا، في بداية نشاطه الفكري، باستخلاص دلالات الأعمال الفنية. وفي ضوء هذا الاعتبار بقيت المشكلات المتعلقة بتكوين وصياغة شكل الأعمال الفنية باقية في خلفية الصورة، شأنها شأن كل ما يتعلق بالجماليات، وهو وضعٌ لم يستمر طويلًا، بل كان وضعًا مؤقتًا.
ولا يعني ذلك أن الرابطة الجدلية التي تقوم عليها العَلاقة بين «الشكل/المضمون» لم تكن موجودة، بل على العكس تمامًا، فقد كان غولدمان على وعي كامل بها، ككل باحث يتخذ لنفسه مذهبًا جدليًّا.
يقول لوسيان غولدمان:

«إذا كان كل شعور، وكل فكر، وكل سلوك إنسانٍ، نوعًا من «التعبير» على التحديد، فلا بد لنا، داخل كل تكوين من التعبيرات أن نميز المجموعة الخاصة والمميزة التي تضم الأشكال الفنية، تلك التي تكون أشكال التعبير المتماثلة والمطابقة لرؤيةٍ ما للعالم على مستوى السلوك، أو على مستوى التصور العام، أو على مستوى الخيال.» (عن «العلوم الإنسانية والفلسفة»)

ها نحن أمام منهج لا يهمل، منذ البداية، وبسبب طابعه الجدلي، إرساءَ أسسه الخاصةِ المميِّزةِ للعمل الفني ولا يضحي بها.
ورغم أنه ليس في نيتنا، هنا، استعراض كتابات لوسيان غولدمان المتعددة، فإنني أود أن أقوم بمحاولة للنفاذ إلى أعماله بطريقة أخرى؛ غير تلك التي تمت في اتجاه موحد، دون تمييز للجوانب المتعددة في فكر غولدمان. وفي رأيي أن المشكلة الجوهرية التي تطرحها أعمال غولدمان تنحصر في معرفة ما إذا كانت منهجيته قد سعت — وهي مندفعة إلى أقصى ما يسمح به منطقها الداخلي — إلى النفاذ داخل الوَحدة العضوية للأعمال الأدبية أو للأعمال الفنية، هنا حيث ينصهر الشكل والمضمون في كلٍّ لا ينحل ولا ينفصل.
بعبارة أخرى: إن أي منهج قائم على المادية الجدلية، لا بد وأن يواجه، وهو يحلل الأبنية الفكرية، أشكالًا تمثل الواقع باعتبارها هي أيضًا «أشكالًا»، أي إن في وسع عملية التشكيل الفني نفسها أن تصبح ذات دلالة في حد ذاتها.
وها نحن نرى ما فعله غولدمان: فمنذ كتابه الأول «الإله الخفي»، وفيه يستخلص من أعمال مختلفة العصور مختلفة المؤلفين — هي أعمال لباسكال و«كانت»، ومسرحيات لجان راسين — المفهومَ العامَّ الذي تقوم عليه رؤيتهم التراجيدية للعالم. هنا نجد غولدمان يحلل تحليلًا يتميز باستشفافه للسمات البارزة، الموقف الذي اعتنقته طبقة النبلاء في القرن السابع عشر، موقف نكوصٍ تجاه الحياة المعاصرة يطابق الصدمة التي تلقتها تلك الطبقة عندما أخذت السلطةُ الفردية المركزية تجثم عليها بكل قواها. ويقوده هذا التحليل إلى أن يلحظ ظهور شكل جديد يطرأ على بلاغة العصر: إنها وحدة تعبيرية جديدة تتخذ، على المستوى الأدبي، مظهر اللجوء إلى «جملة التناقض»، وإلى استخدام جزئيات العبارة (العبارة التي لا تكتمل، بل شذرات لغوية).
صحيح هناك مؤثرات خاصة وراء فكر غولدمان هذا: إنها أفكار جورج لوكاتش. لكننا إذا تأملنا الموضوع عن قرب، سنلحظ أن ما كان لدى لوكاتش قِيمًا مطلقة وتوترًا، وقلقًا ينبع من الشعور بغياب أصالة القيم القادرة على إعطاء حياة كل واحد دلالتها الحقيقية، قد أصبح، لدى غولدمان، رؤية سياسية-اجتماعية؛ لأن ما يشكل موضوع البحث ليس حالة متفردة، بل مرحلة تاريخية معينة، مرحلة تتمركز ماديًّا في تطور المجتمع الفرنسي وهو يتجه نحو تحرير التجارة، ذلك التطور الذي يؤدي إلى سقوط طبقة اجتماعية عقيمة، سكونية (ستاتيكية)، هي طبقة النبلاء، وما يعقب ذلك من ظهور فئات من البرجوازية، قادرة على دفع المجتمع نحو الرخاء: فئة التجار.
إن نتائج هذا التحول الحاسم، وقمته، تجد في مسرحيات جان راسين التعبير الحقيقي عنها، وفي مواجهته، يلوذ آباء «بور رويال» (الرهبان الذين وضعوا أسس البلاغة المعروفة ببلاغة «بور رويال») وفي أعقابهم تلامذتهم، وعلى رأسهم باسكال، بموقف الرفض، ثم يسعون بعد ذلك في إيجاد «صيغة مصالحة» … أقول: إن نتائج هذا التحول الحاسم تحلل المنطق الذي يتحكم في وسائل التعبير، وبعثرة وتجزئة الوَحدة اللغوية المستخدمة في ذلك التعبير واللجوء إلى «جزئيات العبارة».
على هذا النحو نجد المنهج الجدلي، إذا ما اهتم بتحليل الأبنية الفكرية، مرغمًا على أن يجد أسباب هذه التحولات، ليس في أشكالٍ تمثِّل الواقع مباشرة، بل فيما يتحكم في عمليات التعبير، في العَلاقة التي تربط الواقع الخارجي بالوعي الإنساني، إنها العَلاقة التي تطرأ عليها عدة أطوارِ تحوُّل، وهي بدورها شَذْرة من ذلك الكل المتحرك الذي نلتقط في داخله حركة الواقع؛ أعني التاريخ.
أضف إلى هذا حقيقة أخرى لها دلالتها: عندما بدأ غولدمان يقيم نوعًا من التماثل بين بناء الرواية الجديدة وبنية المجتمع الغربي في عصر الرأسمالية الاحتكارية التي تدير مجتمعًا صناعيًّا متطورًا، نراه يدعو القارئ أن يترك جانبًا النقاد الذين لا يهتمون إلا بتحليل هذا التكنيك الروائي الجديد.
يقول غولدمان:

«لقد تحدثوا كثيرًا عن مشاكل التكنيك، وهم يتناولون روايات روب غرييه بالتحليل، وربما آن لنا أن نتحدث عن دلالة هذه الروايات.»

لكنه يضيف:

«لا يعني ذلك أن علينا أن نبحث في رواياته عن مضمون غبي وملغز، قائم على معادلات جبرية. فالبحث في الشكل الفني هو محاولة تهدف إلى إظهار مضمون روايات روب غرييه، وتجعله يبدو في أوضح صورة ممكنة، وإذا كان النقاد والقراء يعانون كثيرًا في استخلاص هذا المضمون، فالخطأ هنا ليس خطأ الكاتب، بل خطأ العادات الذهنية والمشاعر المسبقة وأنواع الريبة التي تسيطر على كل من يشرع في القراءة.»

ويرجع ذلك إلى أن غولدمان يرى أن وعي الكائن الإنساني في المجتمع الصناعي الغربي — حيث يتم التحكم في إرادة الأفراد آليًّا، ويتحولون إلى «كم»، إلى «أشياء» متبدلة، خارج حقيقتها الإنسانية — هو وعي لا يمكن أن يعبر عن نفسه من خلال منطق لغوي عقلاني، كما كان الحال في روايات النقد الاجتماعي التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين، حيث كان الفرد لا يزال — وهو يجتاز مرحلة الرأسمالية الليبرالية — يحتفظ بأهميته في الوسط الاجتماعي الشامل. لكن منذ أزمة الإمبريالية، أصبح من المستحيل أن يكتب روائي عملًا على طريقة زولا أو بلزاك، بل ولا حتى على طريقة رومان رولان، وإلا انتهى به الأمر إلى أن يقدم لنا مضمونًا سبق تكوينه، نعرفه جميعًا من قبل. ومنذ عملية تحطيم الشكل الروائي، وهي العملية التي قام بها «جويس» و«كافكا»، أصبح على الروائي أن يبحث عن أدوات تعبير قادرة على إظهار ما يعانيه من تمزق.
وفي نهاية هذه الدراسة، ينتهي غولدمان إلى أن يركز على ضرورة تعميق العَلاقة بين شكل الكتابة عند روب غرييه وبين التكوين الاجتماعي الذي يمثله هذا الشكل.
ويقول غولدمان:

«إن أعمال روب غرييه تطرح الكثير من المشاكل الجمالية. نأمل أن نستطيع مواجهتها في مقالاتنا القادمة، وهي مشاكل تتعلق — في المقام الأول — بتعديل الرؤية المتجددة التي يفرضها الشكل الفني على العالم الروائي.»

(الأبنية الفكرية والخَلق الثقافي، ص١٨٦)
والخطأ الشائع لدى النقاد هو محاولتهم دفعنا إلى الاعتقاد بأن منهج غولدمان لا يقوم إلا على استخلاص خطوط التوازن بين أبنية الأعمال الثقافية وأبنية التكوينات الاجتماعية. والواقع أن غولدمان لم يضع لنفسه هدفًا يقوم على أن يثبت أن أبطال مسرحيات راسين هي صدى الاهتزازات والتحولات التي عانى منها لاهوتيو (فقهاء اللاهوت) «بور روال» أو التي أحدثت ردود فعل عنيفة لدى طبقة النبلاء، كما أنه لا يسعى إلى أن يثبت أن ماتياس، أو ماريك، أو الجندي التائه وسط التيه، أو أية شخصية أخرى من شخصيات روب غرييه؟ هم التجسيد الحقيقي لوضع الإنسان في النصف الثاني من قرننا العشرين هذا. ذلك أن هدفه الحقيقي هو أن يستخلص من دراسة مختلِف أشكال التكوين الاجتماعي، الطريقة التي تحدد مسلك الأفراد والجماعات تجاه كل ما يجعل حياتهم عبثًا، لا قيمة له؛ حياة «تشيأت». وأولى الخصائص المميِّزة لهذا السلوك تنتج عن أن الكائن الإنساني يتميز عن كل الموجودات بأن تكوين وعيه يدفعه دائمًا إلى أن يجد تماسكًا منطقيًّا، يجد دلالته، وهذه الخاصة، هذه «الماهية الإنسانية» هي ما تشكل محرك التاريخ.
لا ينبغي إذن أن تأخذنا الدهشة إذا كان لوسيان غولدمان قد جعل من مختلِف أطوار التحول الاجتماعي «مختبره» وحقل تجارِبه، وتحديد هذا المجال هو أهم بحث في العلوم الإنسانية بشكل عام، وفي علم الاجتماع الثقافي بشكل خاص.
هذا المفهوم الذي هو مِفتاح فكر غولدمان نجده يتلخص في عبارة غولدمان التالية:

«إن السمة الثانية للفكر والسلوك تكمن في أنه يوجد لدى كل فرد، وانطلاقًا منه لدى كل جماعة إنسانية، ميل إلى تحقيق تماسك منطقي شامل، تندرج تحته مختلِف القطاعات الخاصة من هذا النوع، وهو يميل إلى أن يوجِد — بمعزل عن النزعة الخاصة — دلالة لكل ظاهرة، تلك التي تشمل كل مجال تشكلت له بنية خاصة.»

ثم «أضف إلى ذلك أن داخل هذه النزعة إلى التماسك المنطقي الشامل توجد قطاعات جزئية تمارس عملها بكل ثقلها المختلف ذي الطابع الخاص، وهي أفعال تتوقف على العديد من العوامل، لكن علينا أن نذكر بينها تلك الأهمية «الكَمية» التي يتخذها قطاع الفكر هذا أو قطاع الحركة ذلك، أهمية لها فعاليتها في الوجود العقلي للبشر، وهي أيضًا التي تفسر لنا الإحساس بالتهديد الذي تستشعره، في لحظات معينة، أنماط السلوك الهامة.»
إلا أن الانتقال من هذه «الكَمية» في الاهتمام إلى كيفية التحقيق، لا تحدث إلا في وعي بعض الأفراد، وعملية تحقيقها تصبح، بالنسبة للجماعة الإنسانية، مجال التنبؤ بما يستوي عليه شكل المجتمع، إنها «أوتوبيا» إذا شئنا التعبير. وهذا ما يؤدي إلى تحقيق هذا الانتقال وما يقيم العَلاقة الجدلية بين التعديلات الكَمية — باعتبارها التي تشكل مجال الواقع الخارجي — وبين الوعي الإنساني الذي يستحوذ على هذه التغييرات، ويؤدي ذلك إلى صياغة نماذج ومفاهيم، هي الكمية أشكال الخَلق الثقافي.
ولكي يزيل غولدمان كل أنواع اللبس نجده ينتهي إلى إعادة تحديد مفهومه لكلمة «بنية»، فيقول:

«للأسف أصبحت لكلمة «بنية» أصداء صوتية سكونية (ستاتيكية)، ومن هنا لا نجد الكلمة من المصطلحات الدقيقة. والأحرى بنا ألا نستخدم كلمة «بنية»، فالأبنية بشكلها الكامل لا توجد إلا في النادر، ولفترة زمنية محدودة في حياتنا الاجتماعية، بل علينا أن نستخدم تعبير «عملية تشكيل البنية».

واستخدام تعبير «عملية تشكيل البنية» يؤدي إلى التركيز على الطريقة التي يسلكها الأفراد كما تسلكها الجماعات، وهي تتخذ طريقها نحو «شكل شامل»، نحو شكل حياة جديدة، نحو التقدم. باختصار، نحو نوع من التوازن، هو، أساسًا، توازن إنساني، يسعى إليه كل واحد. إنها عملية تتابع، أغلب الوقت، في الوعي، وتسوقنا إلى إعادة تحديد عَلاقة الإنسان بالمجتمع، وإلى تعديل رؤيته للعالم، وطرق تقييمه. في كلمة، إنها عملية تحويل الواقع إلى واقع إنساني. ومن هنا طابعها الثقافي.
لا ينبغي لنا حقًّا أن نخلط دراسة تطور فكر غولدمان بالمكتسَب الصُّلب الذي نستخلصه من منهجه في علم الاجتماع الثقافي. فما يهم في الحكم عليه هو هذا المكتسَب، وهو هنا منهج قائم على المادية الجدلية، منهج في اتساع دائم، وهو يدعو كل باحث إلى مزيد من تعميقه، وإلى أن يكشف عن الإمكانيات البنيوية الكامنة في قلبه.
ومع ذلك فما يهزنا في هذا المنهج هو طريقته في مواجهة التكوينات الاجتماعية. فرغم جدلية منهجه، لا نجد هناك أدنى صلة بينه وبين التناقضات التي تتفاقم في قلب كل جماعة إنسانية، بل حتى لو نظرنا إلى طبقة واحدة في حد ذاتها، نجد أفرادها في حالة صراع، بل إن الطبقة العاملة نفسها تعاني من الانقسامات، وهنا لا نجد شيئًا متجانسًا؛ ففي مواجهة الأيديولوجية التي تفرضها طبقة حاكمة، تستطيع طبقات أخرى، وفئات اجتماعية أخرى، أو طبقة بأكملها أن تعارض بوعيها الطبقي استعبادها الوحشي للنظام القائم، حتى لو كان قائمًا على الانتظام الذاتي. إن هذا الجانب في حياتنا، هذا «الصراع» هو وحده القادر، على مستوى الخَلق الفني، على توليد نوع جديد من الأشكال التعبيرية.
ولأن غولدمان قد ظل حتى نهاية حياته مفتونًا بتصورات لوكاتش ومنها مفهوم «غياب القيم» أو «الرؤية التراجيدية»، فقد ظلت، على غير وعي منه، فريسة نزعة أخلاقية كانتية. ولحسن الحظ لم يلبث هذا الجانب الكانتي أن يدخل في صراع مع منطق المادية الجدلية، صراع في غاية الخصوبة بالنسبة لعلم الاجتماع الثقافي، لأنه وحده الذي يساهم في صياغة المنهج الوحيد القادر على إصلاح النقد الماركسي وإيقافه مرة أخرى على قدميه بتحريره من الثنائية اللينينية، وبالعمل، في الوقت ذاته، على إقامة الوَحدة الجدلية التي تربط الوعي بالموضوع؛ بالواقع باعتباره واقعًا قابلًا للتغيير على نحو إنساني.
(٥) قبل أي تعميق لمفهوم «النهضة» ينبغي لنا أن نعمل على سحق الحكم المسبق الشائع لدى الكثيرين من المفكرين وعلماء الاجتماع والباحثين الغربيين، سواء كانوا ماركسيين أو مجرد مثاليين، وهو ذلك الحكم المسبق تجاه ما يسمى ببلاد «العالم الثالث». فهم يرون أن هذه البلاد لم تتخذ أمام انتشار نزعة الاستيطان والاستعمار الغربي سوى موقف الارتداد إلى تقاليدها القديمة، ولم تعبِّر إلا برد فعل واحد، هو التشبث بالنزعة السلفية، متخذةً منها درعًا يحمي تعبر هويتها القومية.
ومن تبسيط للظواهر إلى تبسيط إلى ما هو أبسط، ومن موقف «خارجي» على الظاهرة إلى «حسبة رياضية» لعملية التطور الاجتماعي، ينتهي الأمر بهؤلاء المفكرين وهؤلاء الباحثين إلى صياغة مخطط تجريدي نظري عن العالم الثالث، يتصورونه قابلًا للانطباق على أي بلد في أفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية؛ بينما التحليلات التي تُستخلص من أفكارهم تؤدي إلى نوع من سوء الفهم.
وذلك لأن من الضروري، قبل الشروع في أي دراسة، أن نميز، داخل عملية التحول الثوري التي تتم داخل هذه البلاد المسماة ببلاد العالم الثالث، بين منطقتين: منطقة التقاليد (ونجدها على الأخص في البلاد التي ترتكز على تقاليد تمتد إلى آلاف السنين وإلى ميراث ثقافي عريق، كالصين والهند ومصر)، ومنطقة «التكوين السياسي» (وهي خاصة بالبلاد التي نتج كيانها السياسي، وشكلها «كدولة» من تفتيت مسطح كبير، على أثر تحول أجزاء هذا المسطح من المركزية إلى اللامركزية، بسبب فقدان السلطة المركزية وعدم وصولها إلى شكل الدولة، وهذه المناطق تمارس وجودًا يخضع للنظم «القبَلية»، ويرتبط بما يصاحبها من عقائد وثنية ومقدسات، ومثال ذلك: الدول التي تكونت على أثر تفتت وحدة المسطح الذي كان يسمى بأفريقيا الغربية).
وإلى جانب الأهمية التي نعطيها للتكوين الاقتصادي والسياسي الذي بلغته هذه البلاد في عملية تطورها الاجتماعي، علينا أن نضع في اعتبارنا أن النمط الأول هذه البلاد يتميز ببنية اجتماعية تحتوي، في مجموعها، على ماضٍ عريق، مفعم بالتقاليد والتجارِب والحِكم والقدرة على التصرف، وهي صفات تدل على حضارة عريضة. وكل فرد داخل هذا التكوين الشامل يبدو، منذ صباه، وهو على وعي بأنه «مستودع» لثقافة عظيمة، حتى لو كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وهي حقيقة قابلة للملاحظة على مستوى الممارسة: فالفلاح الجاهل الذي لا يكتب ولا يقرأ، والعاجز عن حل أبسط مسألة حساب مكتوبة يتمتع بقدرة هائلة على حساب نسب المزروع في الحقل، ويصل إلى صورة دقيقة لحساب بيع هذا المحصول سواء بالقطاعي أو بالجملة، ويستطيع أن يُسدي نصائح عملية لمن حوله، وهي نصائح تُثبت التجارِب فعاليتها التي لا تُنكَر، خاصة عندما يصطدم أهل القرية حوله بمشاكل الري أو بأشكال المعمار التقليدي أو الحساب الزراعي. وهذه المعرفة الكامنة في فطرة الفلاح المصري ليست سوى «عملية ترسيب» لماضٍ محمَّل بقدر كبير من الكشوف الإنسانية، وهي كشوف امتدت على كل المستويات: على مستوى الكونيات، وعلى مستوى الزراعة وحساب الأرض وهندستها، وعلى مستوى المعمار، وعلى مستوى أشكال التعبير الفني.
وحتى بداية القرن التاسع عشر، كانت البلاد التي تنتمي إلى هذا النوع من الحضارات تمارس وجودًا يشعر فيه الأفراد بالاكتفاء الذاتي، فمجموع عمليات التبادل الاقتصادي والاجتماعي تسير في دورة كاملة، والأفكار تمارس دورة مماثلة، حتى لو كانت أفكارًا فولكلورية لا يتم تبادلها إلا في إطار أبنية ضيقة محدودة.
لكن مع ظهور الإمبريالية حدثت داخل بنية هذه المجتمعات عمليةٌ مزدوِجة: فبالاشتباك مع القوى الاستعمارية، ومع الحمَلات العسكرية المسلحة (مثل حملة نابليون) لم يحدث أبدًا أن انثنت هذه البلاد على نفسها متخذة موقف التشبث بالماضي (أو موقفًا سلفيًّا كما يقول دعاة الرأي النابع من الماركسية الميكانيكية، وأفكار جيرار شاليان أكبر مثل على ذلك)؛ لأن ما حدث له طبيعة مختلفة تمامًا: فإزاء تفوق الاستعمار الغربي تكنيكيًّا، أعادت هذه البلاد أطر القيم المتداولة في إطار في صيغة سؤال، وأصبحت على وعي بأن هذه القيم قد أظهرت تخلفها إزاء مستوى الحياة الذي يجب أن يبلغه كل كائن إنساني، وبدأت تشعر بحاجتها الماسة إلى أن تحمي كرامتها وتحتفظ بها، وبموازاة ذلك بدأت المسافة تتسع، في نظر كل فرد، بين ماضي بلاده العريق وبين الحاضر الهزيل، وعلى هذا النحو تم الانتقال إلى مرحلة رفض أشكال الحياة المتخلفة، ومن رفض هذه الأشكال انتقلت هذه البلاد إلى النضال من أجل مطالبها أولًا، ثم إلى النضال الثوري. وفي مصر مثلًا، كانت يقظة الشعب على عنصر التهديد الذي صحب الاستعمار البريطاني يقظة تصحبها عملية وعيٍ أنه لا يجوز البحث عن أسباب التخلف في مكونات أفراد الأمة (أي في طبيعة المصريين)، بل في الاستيطان العثماني. وهنا بدأ التركيز على الطابع القومي، وكانت بداية الحركة الوطنية في مصر تنبع من الرغبة في تأكيد هذا الكِيان القومي. وهو كِيان في حاجة إلى صياغة جديدة، ما دامت مجابهة الاستعمار الغربي قد خلقت ضرورة تاريخية، هي الوصول إلى مستوى الاستعمار تكنيكيًّا وذهنيًّا وعسكريًّا (ونضرب مثلًا بجهود محمد علي على أثر الحمَلات الفرنسية والإنجليزية والتدخل الثلاثي).
وإذا أخذنا بقول «جاك بيرك»، ونظرنا إلى عملية الانتقال هذه، وهي عملية نتجت عن الصدمة، ولا يمكن تعريفها إلا باعتبارها حركة تسعى إلى تمزيق الدائرة الضيقة التي رسمتها «المقدسات» (أي نمط الحياة القائم على التفسير اللاهوتي للواقع)، كي تتجاوزها وتدخل دائرة التاريخ الواسعة، فهنا نجد ما يمدنا بتفسير عملية «النهضة» وما يلقي ضوءًا جديدًا على هذه الظاهرة المزدوجة: بمدى ما نتجه نحو التكنولوجيا والفكر والثقافة الغربية، بمدى ما نرتد، في الوقت ذاته، إلى الماضي البطولي.
إن الإنسان المصري وقد أيقظه تفوق الغرب (والإنسان العربي بشكل عام) قد أصبح يدخل في اعتباره، في الوقت نفسه، أنه يحمل في أعماقه ميراث قيمٍ انحدر إليه من حضارة عظيمة، وهو ما كان يضفي عليه قيمة ذاتية جديدة، وما يدفعه إلى تحطيم قيود التخلف والخضوع، وإلى تمزيق الأطر الصُّلبة لهذه البنية الاجتماعية التي كشفت عن ضيقها، وعن وحدانية بُعدها.
ولكي يُخضع الاستعمار بلاد العالم الثالث لأوامره العليا، فرض، في المقابل، مثلًا أعلى للحياة يختلف تمام الاختلاف عن معايير السلوك القائمة في هذا البلد أو ذاك، وهو مثلٌ أعلى بعثَته عدوانية الاستعمار نفسها؛ وذلك لأن الصدمة التي أحدثها الغزو الخارجي لم تؤد إلا إلى نشر مزيد من الطاقة الإنسانية، وهذه الزيادة أدت إلى زيادة شِحنة نظام التبادل القائم عليه محور البناء الاجتماعي. وشيئًا فشيئًا، حسب السبل المتاحة، وحسب صلابة أو ضعف قيود التقاليد، كانت هذه الطاقة تفيض عن الإطار الضيق الذي يحيط بالبنية الاجتماعية في كل بلد، وبدأت الجماعات الإنسانية المختلفة تستشعر حاجة ماسَّة في أن تضع نفسها على قدم المساواة مع الآخر، مع الاستعمار، ذلك الذي لم يقهرها إلا بفضل تفوقه التكنيكي.
لِنَرَ الآن كيف يفسر «جيرار شاليان» عملية التحرر الوطني هذه. ففي مناقشته التي دارت في الندوة التي عقدتها جامعة «جوسيو» حول موضوع «العالم الثالث»، والتي نظَّمها الأساتذة والباحثون في أقسام الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع، يلخص شاليان نفس مفاهيمه الأساسية القائم عليها كتابه «الأساطير الثورية في العالم الثالث» (وقد نشرته مطبوعات لوسوي)، ومنذ الأسطر الأولى لحديثه تتكشف مواقفه، يصر على أن:

«في عصر انتشار الاستعمار الاستيطاني، من المهم أن نلحظ — في وقت واحد — أن ثمة سوقًا دولية قد تكونت، وأن اقتصاديات المجتمعات التقليدية قد بدأت تتشوه وتتحلل. لكن ما لا ينبغي أن نهمله، هو كيف استشعرت هذه المجتمعات التقليدية هذا الاتساع الاستعماري، هذا الانبثاق المفاجئ، وأي إجابة حاولت أن ترد بها عليه. والواقع أننا لا نجد سوى الاضطراب وعدم الفهم إزاء تفوق الغرب المذهل من الناحية التكنيكية، وهو وضع لا يختلف لدى المثقفين الفيتناميين أو المفكرين الصينيين أو لدى ممثلي الإسلام.»

(كتاب جماعي: التعرف على العالم الثالث، الاتحاد العام للنشر، باريس، ۱۹۷۸م، ص۲۰۳)
وبعد هذه الفقرة ننتظر أن يرسم المؤلف خط الحدود الفاصل بين أنصار قضية التحرر القومي (ولا يمكن بلوغه دون تحطيم قيود التقاليد والسير في طريق التقدم)، وبين أنصار الاتجاه السلفي. إلا أن المؤلف يبدو مشغولًا بأن يطبق على كل بلاد العالم «باترون التفصيل» الوحيد لديه، لا يصل أبدًا إلى حد طرح القضية في حدود الصراعات الاجتماعية، ولا في حدود الصراع بين الأجيال، أو بين مفهومين للحياة، بين تقدميين ورجعيين، بل هو يجمع كل المثقفين في قائمة واحدة، هي قائمة «الصفوة التقليدية»، وما إن يصطدم بظاهرةٍ تشذ عن القاعدة وتبدو مثلًا صارخًا، وأعني بذلك وضع اليابان، حتى يتدارك، ويجعل من اليابان استثناء للقاعدة، ويواصل حديثه فيقول:
«لم يصل إلى صياغة إجابة على تهديد الاستعمار سوى اليابان، أما إجابة الصفوة التقليدية فتقوم على التشبث بالقيم السلفية والدينية والأخلاقية المنتشرة في مجتمعهم (وذلك في انتظار أن ينقضي عهد الاستعمار ويذهب) وعلى اللجوء إلى الماضي كأيديولوجية مقاومة (نحن الذين نركز على هذه العبارة) سواء كان ماضيًا فعليًّا أو ماضيًا يفترضون أنه كذلك؛ وهذا الوضع يؤدي إلى الاحتفاظ بالقيم القومية (بالنسبة للمجتمعات ذات التكوين القومي العتيق، مثل الصين وفيتنام ومصر)، لكنه يؤدي في الوقت ذاته إلى تجميد هذا الماضي، وإلى التشنج بالتشبث بالميراث، وهي ظاهرة تبدو محسوسة على الأخص في المجتمعات التي تبدو فيها صدمة «التجهيل» أكثر، كما هو الحال، مثلًا، في البلاد العربية.»
(المرجع نفسه، ص٢٠٤)
وبعد أن يركز شاليان على طابع «نزعة الارتداد إلى الماضي» باعتبارها سمة «الصفوة التقليدية»، يدرك على أثر ذلك أن المثقفين — على الأقل في البلاد العربية التي ذكرها — ليسوا «متجانسين» إلى حد اعتناقهم مخططه النظري. ولكي يتخلص من هذه الورطة، يبذل المؤلف كل جهده كي يعارض هذه الصفوة التقليدية بفئة أخرى؛ فئة المثقفين ذوي النزعة الغربية. ويضيف شاليان:

«أما الإجابة التي تلي السابقة، وبالتسلسل التاريخي، فهي التي تحاول أن تصوغها فئة أخرى من الفئات الاجتماعية، فئة وُلدت نتيجةً للاحتكاك بالغرب، إنها فئة الصفوة من سكان المدن الكبرى، ومن أصحاب الأصول الأرستقراطية، سواء كانوا إقطاعيين أو «كومبرادور»، وهم قليلو العدد، تغلغلت في نفوسهم الثقافة الحديثة، ويتحدثون ويعبِّرون عن أنفسهم بعدة لغات، وينصبُّ جهدهم في «نسخ» المؤسسات الأوروبية.»

ومع ذلك، فلا هذه الفئة أو تلك، من الفئتين اللتين حددهما شاليان، هما اللتان في وسعهما المساهمة في إطلاق عِنان عملية الانعتاق الوطني؛ ويرينا التاريخ الحديث — بكل وضوح — أن الصفوة التقليدية أو الصفوة الأرستقراطية تتلاشى دائمًا كلما تطور كفاح الجماهير، سواء كانوا أبناء الفلاحين المتعلمين أو هؤلاء الذين، باحتكاكهم بالغرب، قد أعدوا البلاد لهذه العملية التاريخية. وهناك دليل على ذلك بين عديد من الأدلة: مؤلفات رفاعة رافع الطهطاوي، وهو شيخ، أي أنه ينتمي بحكم الظروف إلى «الصفوة التقليدية»، لكن ما إن أرسله محمد علي في بعثة إلى باريس حتى أُعيدَ تكوينُه، وتحول بالاحتكاك بالفكر الاشتراكي الفرنسي، ثم ما إن عاد إلى بلده حتى بدأ يدعو إلى تحرير المرأة، وإلى التسيير الذاتي، وإلى المساواة … إلخ.
وعندما يعتمد الباحث على الوقائع، وعندما يجهَد في أن ينظر إلى هذه الوقائع من خلال منظور جدلي بعض الشيء، فإنه — أحيانًا بالرغم منه — يصل إلى منهج علم الاجتماع الثقافي الذي يعتنقه. لنأخذ مثلًا تفسير ظاهرة النهضة العربية الذي يمدنا به «أندريه ميكيل» في كتابه الصغير الذي كرسه لرسم صورة تخطيطية لتطور الآداب العربية، يخرج ميكيل عن إطار الكتاب المدرسي المبسط، وذلك لأنه ارتبط بمشكلة البحث عن العَلاقات بين الوقائع، ويقدم لنا هذا «الفهم» للنهضة العربية على مستوى تحليلي رائع.
يقول ميكيل:

«إن المرحلة التاريخية التي تبدأ ببداية القرن التاسع عشر هي، بالنسبة للبلاد العربية، مرحلة مجابهة الغرب الاستعماري. وتحت تأثير الغرب بدأ العرب يكتشفون عالمًا لم يسبق أن شكوا في وجوده، إلا أنه عالم يبدو مرادفًا للتقدم التكنيكي وللنزعة الوطنية. ولقد كان أول هذه الاكتشافات عنيفًا؛ فبينما مر الغرب على مراحل متوالية وبغير تدرج منتظم بهذه الهزات التي تسمى «النزعة الوطنية»، و«الثورة الصناعية» و«فصل الدولة عن الدين» و«الديموقراطية»، كان على الإسلام أن يواجه هذه الهزات دفعة واحدة.»

وعلى هذا النحو يتغلغل ميكيل إلى قلب هذه العملية التاريخية: فهنا تبدأ العملية بسؤال الماضي، ثم باستخلاص نواةِ مكتسَبٍ صُلب، وذلك بتخطي المراحل التاريخية دفعة واحدة، وبإلغاء المسافات، ولا يعني ذلك أن العرب حاولوا أن يتماثلوا مع هذا الكِيان الغربي، بل الأَوْلى أن نقول إنهم كانوا يسعون إلى أن يتساووا به.
ويستطرد ميكيل:

«تحت تأثير الصدمة، بدأ (الإسلام) ينزع إلى البحث عن تعريف جديد لنفسه، وأن يتقي في الوقت نفسه انعراجات هذا الغرب. كما عمل على أن يتجنب الرغبة في أن يقتفي أثره إلى النهاية في طريق التغيير؛ لأنه هنا يتعرض لخطر تشوه كِيانه أو الضياع. لكنه بموازاة هذه الحركة ترتسم، شيئًا فشيئًا، حركة أخرى؛ حركة القومية العربية، وهي التي توجِّه إلى قلب الغرب سلاح الأفكار نفسه الذي حاول أن يشهره «في وجه العرب».»

وبهذا المنظور يرتكز بعث الثقافة العربية الخالقة على ثلاثة تصورات: تصور الميراث الثقافي، وتصور أسس العدالة الاجتماعية، وتصور المسئوليات التي يحددها كل عربي لنفسه كي يعوض تخلفه، ويلحق بالغرب، خاصة في مجال التكنولوجيا والتصنيع.
وهذه هي الركيزة الصُّلبة لهذا المنهج. ومع ذلك، نجد هذا المنهج، في مجال علم الاجتماع الثقافي، قد مضى إلى أقصى نتائجه كي يكشف، خلف الوقائع، عن دلالاتها الإنسانية، وعن لغتها الكامنة، وعن الطريقة التي تُتابع بها الأفكار دورتها، وكيف تترك المشاعر والقيم داخل «كلٍّ» اجتماعي. وهنا يطرح مطلبًا لا تجيب عليه سوى أعمال جاك بيرك، وهنا لا نجد أي أثر للمخططات الذهنية التجريدية تُطبَّق كيفما اتَّفق على هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الثقافة العربية (أو على ثقافة أي بلد من بلاد العالم الثالث)؛ وذلك لأن منهج جاك بيرك يقوم على واقع مَعيش قبل أن يتحول إلى فكر، وهو يتميز بأنه يضع المظاهر الخاصة في عَلاقة جدلية مع الاتجاه العام لكل اجتماعي معين. ومن هنا أصالته. ونضرب مثلًا واحدًا أكثر دلالة: في كتابه «تحرر العالم من المِلكية» (وهو في رأيي كتاب جوهري، يشتمل على نواة منهج بيرك)، نجد المؤلف قد كشف خلف الظواهر الاستعراضية، كظاهرة «الرقص الديني»، وخاصة «الزار» عن الرابطة التي تربط الماضي البطولي بلحظة استعادة فرحة الحياة في حاضرٍ توَّجه الحصول على الاستقلال. هنا نجد انبثاق ما هو راقد في قرارة النفس العربية، علامة لحضارة عريقة تبدو غائرة في هذا المستودع الخالد؛ أعني الذاكرة العربية.
وإلى هذه الدقة والنعومة في التغلغل إلى درجات المعنى الراقدة خلف المظاهر الثقافية تضاف «خصوصية» المنهج. فمع قبول بيرك لبعض التصورات الماركسية التي تعيد تحديد العَلاقة بين الاستعمار والمستعمر، إلا أنه لا يكتفي بتعميم ما هو خاص، بل يجهَد بالأحرى إلى إثراء هذه التصورات بتجاوزها، وبالاعتماد على تحليل للخصائص المميِّزة لمظاهر حياة العرب، ويرينا ذلك بوضوح مَثلٌ نتخذه من «نزع مِلكية العالم». إنه تحليل العَلاقة القائمة بين السيد والمستعبَد.
يقول بيرك:

«إذن لقد فرض الاستعمار شكلًا من أشكال الوعي في الوقت الذي فرض فيه شكلًا من أشكال تسيير العمل ويبدو الأمر كما لو أن المستعمِرين في ذلك العصر عملوا على تحويل الواقع حسب مشيئتهم، وأنهم قد عملوا على تعبئة فائض قيمته الهائلة، أي مجموع الأشكال والأشياء. والواقع أن مفهوم «فائض القيمة» هذا قد استمد كل أهميته من التفسير الماركسي، فهو يركز على أنواع من التماثل المحسوسة بين الاستغلال الاستعماري في عهد الاستعمار الاستيطاني وبين الاستغلال الرأسمالي (داخل المجتمعات الرأسمالية. نحن الذين نضيف هذه الجملة)؛ وذلك لأن صاحب العمل كان يحوِّل فائض العمل البشري لصالحه، وكانت ظروف الاستعمار تسمح له، بهذا الشكل، أن يوسع من هذا الاستنفاد للطاقات البشرية بسبب انخفاض الأجور التي تُدفع لسكان البلاد الأصلية، بل أحيانًا لأنه لم تكن تُدفع أجور على الإطلاق.

ومع ذلك هناك صورة معينة تبدو ماثلة في ذهننا، هي التي تعيد تكوين المنظر العام الطبيعي للمشروع الاستعماري على أفضل شكل. فعن طريق الفلاحة، وعن طريق جمع الثمار، وعن طريق هذه الألعاب المسماة «تنقيب عن المناجم أو عن مصادر المياه»، وهي لا تقتصر أبدًا على الزراعة، بل تمتد إلى الصناعة، أو إلى الخدمات المثمرة، بفضل هذا كله استخرج الاستغلال الاستعماري فائدته الكبرى، بهذا الشكل من «المباشَرة» الذي سمح له بأن يستحوذ لا على فائض العمل وحده، بل أيضًا على فائض الطبيعة.»

(جاك بيرك: نزع مِلكية العالم، منشورات لوسوي، باريس، ١٩٦٤م، ص١٩٥٦)
وبالتركيز على طابع المباشرة الذي تتخذه هذه العملية، يشير بيرك إلى أولى مراحل عملية تاريخية طويلة، وبتحليل العَلاقات بين الاستعمار والمستعمرات، على أساس مادي، يُبرز ويحدد الخطوط الرئيسية لمنهجه. لكن هذا ليس كل شيء، فلكي تُفهم العملية جدليًّا، لا بد من تحديد المجال الذي يحيط بالقطب الآخر، أي السلوك الذي يسلكه ابن المستعمرات ويعبِّر به عن ردود أفعاله تجاه المستعمر.
هل هم كمٌّ هامد، مجرد وعاء سلبي، أداة، كائنات «تشيأت»، وأصبحت ذريعة لأي بلاغة سياسية تركز على أثر الاستعمار كقوة محطمة، دون أن تبين، مع ذلك، ما يتتابع وأقل وعي كل فرد من أبناء المستعمرات، دون أن ترى في هذا الوعي أدنى مظهر من مظاهر الثقافة، بل باتخاذ موقف الاستعمار نفسه، وذلك بمعاملة أبناء المستعمرات ككائنات مجردة من الثقافة؟
وفي نهاية تحليلٍ دقيق للعَلاقة بين الاستعمار والمستعمرات، ينتهي الأمر ببيرك إلى أن يواجه المشكلة على المستوى الأنثروبولوجي، وبالتالي على مستوى الثقافة، فيقول:

«حقًّا الإنتاج هو العمل القائم على مبدأ السببية والاستجابة للسبب بالدرجة الأولى، رغم أنه، من ناحية أخرى، تتداخل مع هذا المبدأ عَلاقات ليست على هذا القدر من المباشرة، وتسلسلها المحكم يبدو في نقطة تماسٍّ مع واقع المستعمرات. ودائمًا نجد أن ما يفقده الواحد، وما يستحوذ عليه الآخر في صورة «فائض قيمة»، من الممكن تحديدهما، بل وقياسهما تقريبًا. صحيح بطريقة أقل دقة، لكنها طريقة قابلة لأن يعترف بها الجميع. وهناك أيضًا بعض أشكال السيطرة الاستعمارية تدخل في إطار الحتميات والمظاهر المتطابقة نفسها. لكن من العملية نفسها يمكن أيضًا استخلاص متماثلات بدأ تكوينها قبل ذلك. ألا يمكنني أن أقول — إلى حد ما — إن كل تعبير، لغويًّا كان أو اجتماعيًّا، لا يصدر إلا كنتيجة للحصار والعزل المفروض على الواقع؟ على هذا الواقع الذي تشع حيويته بشكل مبهم، لا تبرز لغة التعبير والنظام المتحكم فيه، بل وأيضًا أنماط السلوك والمؤسسات وكل الصيغ الاجتماعية بشكل عام، إلا وهي توسِّع من قدرتها على النهب. وعلى هذا ففائض القيمة لا يصبح هنا اقتصاديًّا أو سياسيًّا فحسب، بل أيضًا — وهذا هو الأخطر — أنثروبولوجيًّا.

(المرجع نفسه، ص٥٨)
(٦) ثمة ملاحظة تفرض نفسها هنا: خلال ما يقرب من أربعين سنةً عمل أنصار مذهب جدانوف على أن يُلحقوا مُنظِّري فن الشعر الجديد، هؤلاء الذين يعرفون باسم «الشكليين الروس»، باتجاه الفن من أجل الفن، وبذلك ساهموا، مع نقاد آخرين، في إسدال غشاوة على الطريق الذي استكشفته حركة الشكليين، وهو طريق ثوري بحق.
يقال عادةً إن الشكليين يرفضون الاعتراف بالطابع الاجتماعي للعمل الأدبي، ولنتفق معهم على هذا الرأي، لكن في مواجهة تعصب عقائدي «دوجماتية» تعمل على استخدام الأدب والفن لتحقيق غايات لا توائم طبيعة عملية الخلق الفني نفسها، لم يكن أمام مُنظِّري فن الشعر الجديد إلا أن يتشبثوا بالخاصة النوعية للعمل الفني، وأن يُبرزوا ما يميز «تعبيريته» التي لا يمكن أن ترتد إلى أي وَحدة أبسط منها، عن مختلِف أنواع النشاط الإنساني الأخرى، وهو موقف لم يكن ثمة مفر من اتخاذه في مواجهة النقد الرسمي الذي تدشنه الدولة، وهو نقد يعزُف منذ البداية عن تحليل عناصر النص الأدبي.
ومع ذلك لا يوجد في منهج الجماعة المسماة ﺑ «الشكليين» ما يسمح بالاعتقاد بأن جهدهم لم يكن منصبًّا إلا على تحليل «المفاصل الحركية» للبناء الشكلي للعمل الأدبي، وأنهم لم يبحثوا، في شتى أنواع الخَلق الفني، إلا على نسق التراكيب اللغوية، وصيغ تشكيل أجزائها وعَلاقة كل جزء بالبناء الكلي.
والواقع أن الهيكل العام النظري لخط الشكليين الروس نجده ملخصًا في نصٍّ لرومان جاكوبسون، أحد الملامح البارزة للحركة، وفي هذا النص، وقد أصبح اليوم من النصوص التي يرددها أكثر الباحثين، تتحدد المحاور الثلاثة التي يدور حولها هذا الهيكل العام النظري.
يقول جاكوبسون:

«يمكن، بكل إيجاز، أن نلخص المراحل الثلاث الأولى التي قطعتها حركة الشكليين على النحو الآتي:

  • (١)

    تحليل الجوانب الصوتية للعمل الأدبي.

  • (٢)

    طرح مشاكل المعنى في إطار نظرية لفن الشعر.

  • (٣)

    الانتقال إلى مرحلة اندماج الصوت والمعنى في بناءٍ كلِّي لا يقبل التجزئة.

(رومان جاكوبسون: ثمانية أسئلة يطرحها فن الشعر، منشورات لوسوي، مجموعة «بوان» (نقاط)، ص۷۷، طبعة ۱۹۷۷م)
وحسب قول جاكوبسون نجد أن ما كان يحتل بؤرة اهتمام المجموعة المسماة بالشكليين هي صيغة انتظام عناصر العمل الفني في كل أنماطه، أي ما يُملِي على المعنى طريقة اتساقه، وما يجعل القصيدة شعرًا، وما يجعل الرواية سردًا، وما يجعل المسرحية عملًا دراميًّا. وعند هذا المستوى من البحث نجدهم قد عملوا على صياغة مفهوم واحد، مفهوم يتحكم في شبكة العَلاقات التي توزع جزئيات العمل والتي تشتمل على هيكل الشكل الفني: إنها «النغمة السائدة» [أي النغمة الرئيسية التي يقوم عليها مبدأ الترديد النغمي وما يسمَّى بلغة الموسيقى (٥/١) خُمس النغمة الأولى أو Dominant].
إلا أن مفهوم النغمة السائدة لا يستعصي على أي تحليل. فما إن شرع الشكليون الروس في عقد مقارنة بين مختلِف الأشكال الفنية حتى اصطدموا بحقيقة رئيسية، هي أن الأشكال الفنية المجردة لا تُفلت من قوانين التطور التاريخي؛ ففي عصر تاريخي بعينه كانت «القافية» هي معيار «شاعرية» القصيدة، وفي عصر تاريخي آخر نجد ما يميز الشعر هو التلوين الصوتي والإيقاعية.
ولنرجع إلى جاكوبسون:

«اليوم، وقد توقف التشيكيون عند حل واحد، [بالنسبة لفن الشعر] هو الشعر الحر بمعناه الحديث، لم تعد القافية ولا أي نموذج لانتظام المقاطع الصوتية من الأمور الضرورية لخلق القصيدة، وبدلًا من ذلك كله، نجد العنصر السائد يرتكز حاليًّا على «التلوين النغمي». بعبارة أوضح أصبحت النغمة السائدة في الشعر هي عنصر التلوين النغمي، وإذا عقدنا مقارنة بين الشعر المنظوم، القائم على الوزن السكندري، وهو سمة الشعر التشيكي الكلاسيكي، وبين الشعر الحالي، وهو شعر موزون ومُقَفَّى في آنٍ واحد، سنجد في الحالات الثلاث العناصر نفسها: القافية، والهيكل التخطيطي لانتظام المقاطع، ووحدة التلوين النغمي، وكل الخلاف في إعطاء الأولوية لهذه القيمة أو تلك، والتركيز على خاصية عنصر دون العناصر الأخرى، وهذه الفوارق في درجة التقييم ضرورية للغاية.»

(رومان جاكوبسون: المرجع السابق نفسه، ص۷۸)
وإذا تركنا جانبًا هذه الأبحاث المتعلقة بالشكل الفني، واتجهنا إلى القانون الذي يتحكم في التحولات المتوالية التي طرأت على مراكز الاهتمام في «تشكيل» الشعر نفسه، سنجد على الفور أن أهم ما يوضع في الاعتبار، هنا، هو إيضاح التناسب والتطابق بين التكوينات الاجتماعية وما يقابلها من تغييرات طرأت على بناء العمل الفني، وعلى تصور الفنانين والنقاد له، وعلى إدراكه فنيًّا. بعبارة أخرى، إن «النسبية» كمعيار لإدراك العمل الفني لا يمكن أن تتضح إلا على المستوى التاريخي.
وهذه «النسبية» ليست سوى الخطوة الأولى في عمل الشكليين الروس. لكنهم بدلًا من أن يبحثوا في الوَحدة القائمة بين البنية الاجتماعية وبنية العمل الفني عن العَلاقة التي تتحكم في عملية الخلق الفني، اتخذوا مكانهم في مستوى الأبنية العليا للمجتمع (دون القاعدة المادية)، وهو موقف يعبر عنه مقال جاكوبسون الذي استشهدنا به، وسنجده، بعد الفترة السابقة بقليل، يؤكد أن الشكليين، وقد سيطر عليهم وسواس «النزعة العلمية» (أو الوضعية إذا شئنا القول)، ركزوا اهتمامهم على البحث عن قانون، عن نظام تنبع منه القوانين المتحكمة في عملية الخَلق الأدبي، ولهذا لم يتوقفوا عند هذا العمل الفني أو ذاك، بل اتجهوا نحو الخصائص المشتركة في الإنتاج الفني لعصر بعينه.
ويحدد جاكوبسون هذه النقطة، فيقول:

«يمكننا أن نبحث أيضًا عن وجود النغمة السائدة ليس فحسب في عمل شاعري لفنان فرد، ولا في القانون الشعري أو مجموع معايير مدرسة شاعرية بعينها فحسب، بل أيضًا في فن عصر تاريخي بأكمله، عصر نعتبره المكوِّن لكلٍّ شامل.»

(جاكوبسون: المرجع نفسه، ص٧٩)
لكننا نلحظ أن مختلِف اتجاهات البحث في الشكل، ابتداءً من هذه النقطة، تتوقف على نحوٍ متناقض في المناطق التي تتدرج عند التقاء مفاصل القوانين الشكلية بمفاصل التكوينات والأبنية الاجتماعية، دون أن يبذل أي جهد لإقامة الوحدة الجدلية للعملية التي يتولد عنها الأثر الفني.
ونضرب مثلًا محسوسًا، مثلًا له دلالته بالنسبة لهذه النقطة، هو: مفهوم «الحلقة» (أو السلسلة)، وهو مفهوم صاغه «تينيانوف»، أهم منظري المدرسة الشكلية الروسية قبل أن يتبدل مركز ثقل الحركة بعد انتقالها إلى حلقة براغ اللغوية. هنا نجد ما يندرج لدى جاكوبسون تحت فئة «عصر تاريخي» وما يحدده باعتباره «فن عصر بعينه»، كان يجد لدى تينيانوف في مصطلح «الحلقة» ما يحدد خصائصه. وهو تصور يردُّ المفهوم الكلاسيكي للغاية، مفهوم «رُوح العصر»، إلى تعريف جديد للتصور نفسه، بينما المسألة كلها تدور — سواء هنا أو هناك — حول استخلاص ما يميز الإنتاج الثقافي الذي يتولد في إطار تكوين اجتماعي معين، والظروف التي تنجم عنها التغييرات المتلاحقة في الأبنية الفكرية، وفي «الرؤية الشاملة» للعالم لدى جماعة إنسانية معينة.
وهناك حقيقة أخرى لها دلالتها: بربط القوانين المتحكمة في الشكل بمفهوم «الحلقة» اكتشف تينيانوف أن الخصائص البنيوية الكامنة في أي حلقة تُطابق، بعَلاقة توالٍ، الأبنية التاريخية للعصر الذي تبدأ به في الظهور.
ومن جديد تبدو «النظرة النسبية»، وتكشف عن ذلك، بكل قوة، هذه الفقرة التي يشتمل عليها نص لتينيانوف نشره بعنوان: «عن التطور الأدبي»، فهو يقول:
«في العشرينيات، كان تيار أنصار العودة إلى القديم قد أشاع موضة إحياء الشعر الملحمي، وهو شعر يقوم بوظيفة تربوية وشعبية في الوقت ذاته. وارتباط الأدب بالحلقة التاريخية ارتباط متوالٍ (نحن الذين نركز على هذه الجملة) قد أدى إلى إطالة العمل الأدبي. إلا أن عناصره الشكلية القديمة لم تعد هي هي، فقد تلاشت لأن الحلقة لا تتعادل مع المطلب الأدبي، فالمطلب الأدبي قد ظل بلا إجابة. وقد بدأ البحث عن العناصر الشكلية.»
(نص يضمه كتاب ت. تودورون: «نظرية الأدب – نصوص للشكليين الروس»، باريس، منشورات لوسوي، ١٩٦٥م، ص٩٢٩)
ولا يوجد ما هو أكثر من هذا النص قدرةً على الكشف عن اهتمامات الشكليين الحقيقية. فالنص دليل على اهتمام تينيانوف بمواجهة العمل الأدبي مواجهة راديكالية، وفي الوقت نفسه يشير إلى سعيه لإقامة الجسر الديالكتيكي بين الأسس التي تقوم عليها عملية «توليد» العمل والقوانين التي تؤدي إلى ظهوره وتحديد مجال التنبؤ في عملية التطور الأدبي التي يستخلصها من منظورات تاريخية.
وليس من قبيل الصدفة أن نجد، لدى تينيانوف، أن من بين الروابط العديدة التي تربط الشكل الأدبي بالحلقة الاجتماعية، وتجعله لاصقًا بها، هناك الرؤية العامة التي يتجه إليها الأفراد الذين يشكلون بنية كلية تتحكم فيه الحلقة.
وإذا وجدنا الجماعات التي تغلق عليها الحلقة ليست في مستوًى يسمح لها باستقبال شكل فني ما، فلا بد أن يرجع ذلك إلى أن التغيير الذي حدث لم تتم بعدُ بلورته في وجدان كل فرد، وأن «تشكيل بنية» الأعمال التي أُنتجت (داخل الحلقة نفسها) لا تستجيب بعدُ لمطالب الوضوح التي لا بد وأن تسير جنبًا إلى جنب مع مطالب الواقع. بعبارة أخرى، معنى ذلك أن الدلالات التي تومئ لها عناصر الشكل الفني لا تجد مرجعها في «النظرة الشاملة» أو في «رؤية العالم» التي تسود الجماعة، وذلك لوجود تناقض بين المحرك (أي العمل الفني) وبين جهاز الاستقبال (أي الجماعة).
على هذا النحو نجد أن تمثُّل الوسط الاجتماعي في عمليات الخلق الفني الفردية يشكل، لدى الشكليين الروس، المرحلة الثالثة التي يسلكها بحثهم في الشكل، وهي مرحلة لا بد أن يقودنا إليها أي بحث يلتزم بمنهج التحليل المادي للشكل الفني. وهذا هو السبب في «تقوقع» الشكليين، وقد وجدوا أنفسهم في مجتمع أيديولوجيته قائمة على إخضاع العمل الفني لمبدأ سيطرة الحاكم. وإذا ما ردَّدنا قول النقاد وعلماء الجمال الستالينيين بأن الشكليين الروس لم يخرجوا عن دائرة «الشكل» الضيقة، فهنا نساهم في توسيع الهوة بين المنهج العلمي الحقيقي و«المادية الجدلية»، ونعلن عن اتخاذ موقف قائم على «المادية الفجة» Vulgaire «المادية السوقية»، وبذلك نؤكد جهلنا بأن كل عملية تشكيل لبنية العمل الفني تكشف عما هو «اجتماعي» في مادية النص نفسه. وما هو هام هنا ليس الحكم على الأعمال الفنية حسب تطابقها مع تفسيرات الواقع التي انتهى إليها الحزب أو الدولة أو «العرف الشائع» شبه الماركسي الذي ينتشر في مجتمع في طريقه إلى الاشتراكية، حتى لو كان ذلك المجتمع قائمًا على أسس ماركسية-لينينية، بل المهم هو، على التحديد، أن نستخلص من المادية التاريخية نواتها الجدلية، وأن نتمثلها ونحن نواجه عمليات الخَلق الثقافي والفني، وهي ليست أبدًا «الانعكاس المتطابق» لما يحدث على سطح المجتمع، بل ما ينبع من الوعي الإنساني وهو يعمل على تغيير الواقع، وهي ازدواج هذا الوعي الفردي بكل مكتسبات المعرفة الإنسانية، وقد احتواها تكوين اجتماعي محدد ذو وسيلة للكائن الإنساني في التعبير عن وجوده بتأكيد انتقاله.
على هذا الاعتبار نجد مذهب «الواقعية النقدية» الذي نادى به جورج لوكاتش ومذهب «الواقعية الاشتراكية» الذي تمت صياغته داخل المجتمع السوفييتي، وأصبح مذهب الدولة الستالينية، يرتدان إلى النزعة المثالية، لأن مطلبهما هو أن يعمل الكُتَّاب والفنانون على نشر أفكار «مسبقة»، وهو اتجاه لا يؤدي في النهاية إلا إلى تقديم «مضامين» جاهزة، سبق أن تكونت وذاعت، وإلى تحويل العمل الفني إلى مرآة تعكس ما سبق رؤيته، وبذلك تبعده عن وظيفته، وهي تقوم، أساسًا، على «الكشف» عن التحولات التي تطرأ على عَلاقة «الوعي الإنساني» بالمظهر الخارجي لواقع في طريقه إلى أن يتغير من واقعٍ صنعته الطبيعة تلقائيًّا إلى واقع يشكله الإنسان بنفسه.
وتزداد «دوجماتية» هذا الوضع عندما يؤدي، مباشرة، إلى قطع كل الجسور بين الأبحاث القائمة على التحليل المادي للعمل الفني ودراسة ما تومئ إليه رموز الشكل في الخارج الاجتماعي. وإذا كان الشكليون قد وصلوا بتحليلاتهم إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وذلك بعد تكوين «حلقة اللغويات» ببراغ، مما أدى إلى أن يكشفوا — وربما عن غير وعيٍ منهم — عن الأيديولوجية خلف الشكل الفني، (ولا بد أن تقودهم إلى ذلك نزعة الدقة في البحث العلمي التي تحركهم)، لكن ها هي نزعة الوقوف عند مستوى المرحلة الأولى وحده تعود إلى الظهور لدى الشكليين، ويصبح اهتمامهم منصبًّا على تحليل «أداة» العمل الفني دون أدنى عَلاقة تربطها بالتكوينات الاجتماعية.
فمثلًا أعمال تودوروف الحاليَّة (رغم أنه من أكثر دعاة الشكلية والذي قدَّم الحركة إلى أوروبا) نجد هذا الوضع الذي يبدو نكوصيًّا إلى حدٍّ ما. ففي الفصل الافتتاحي لكتابه «فن الشعر» نرى تودوروف لا يعمل على وضع إضافة الشكليين الروس في السياق العام للمجتمعات المعاصرة، بل يبتعد عن ذلك مؤكدًا المبدأ غير الجدلي، مبدأ دراسة الأشكال الفنية في حد ذاتها، وتناولها بمعزل عن أي ظاهرة أخرى، فينتزعها بذلك من الواقع الاجتماعي الحي. وفي تصوُّر مؤلف كتاب «فن الشعر» يوجد «مخطط ذهني» شائع لدى كل الأعمال الفنية، مخطط تتفرع منه القوانين العامة المتحكمة في تصور مختلِف الأنواع الفنية، وذلك المخطط هو ما يسميه تودوروف: «فن الشعر».
ويوضح تودوروف هذا المخطط فيقول:
«ها هو فن الشعر يجيء ليضع حدًّا للسيميترية (التساوق) القائمة بين «التفسير» و«العلم» في مجال الدراسات الأدبية، وهو إذ يقف في مواجهة مبدأ «تفسير» الأعمال الخاصة لا يتطلع إلى تحديد معانيها، بل يهدف إلى معرفة القوانين العامة التي تتحكم في ميلاد كل عمل. وهو إذ يقف أيضًا في مواجهة هذه العلوم المسماة «علم النفس» و«علم الاجتماع» (نحن الذين نركز على المصطلحين) … إلخ، يقوم بالبحث عن هذه القوانين داخل الأدب نفسه. وعلى هذا ففن الشعر هو منهج ينفذ إلى الأدب بوصفه عملًا «تجريديًّا» ويدرسه من «الداخل» في الوقت ذاته.»
وأن يكون للأعمال الفنية خصائصها النوعية المتفردة هي حقيقة لا تقبل الجدل، فكل منهج يقوم على المادية الجدلية (أو على المادية منفصلة عن الديالكتيك) يبدأ بدراسة «مادية» العمل الفني. إما أن تتولد الأشكال الأدبية لكي تكشف وجودها الشكلي فحسب، فهذا ما يحوِّل العمل الفني من مظهر «مادي» للتعبير عن وعي إنساني إلى «كم مثالي» يعمينا عن عقدة تشكيله تلك التي تتحكم، كما يمكننا أن نحدس بذلك، في عملية لها طابعها المشكل.
إن «هذه العملية ذات الطابع المُشكِل» هي وحدها التي تشكِّل أساس كل دراسة اجتماعية علمية للثقافة. إن العمل الفني، وهو شكل قبل كل شيء، هو نتاج معنًى، ومولِّد لسلسلة من المشاعر والتأملات والأحاسيس والرؤى … إلخ. والدورة التي تسلكها هذه السلسلة في حركتها الذاتية تبدأ من الأبنية السفلى للمجتمع وتتجه إلى الوعي الخلَّاق، ثم تهبط من الوعي الخلاق إلى الجماعة الإنسانية في المجتمع المحدد، وهي تكون عملية كاملة، ولا بد من النفاذ إليها كي تكشف عن الأيديولوجية وهي جنين في رحم النص (أي الشكل الفني)، ودراستها هو مركز اهتمام كل الذين يتخذون موقف الانتماء إلى علم الاجتماع. أما الخلط بين الوسائل والغايات فهو يؤدي إلى تحديد المضمون قبل أن تتم صياغة العمل الفني، ويستتبع ذلك الوقوع في خطأ ممارسة نزعة الأحكام المسبقة» الكانتية واستمرار الثنائية اللينينية، لأننا هنا ننتزع المادة من أصولها الوجودية.
لكن ما إن نتخذ منهجًا علميًّا، وحتى لو كان محور دراستنا هو الشكل، فسنُدخل في اعتبارنا باستمرارٍ ما يشكِّل الخاصة النوعية لأي ظاهرة نتناولها.
ومع ذلك ها هما رومان جاكوبسون وييري تينيانوف يسمحان لنفسيهما، في نصٍّ عمِلَا على صياغته معًا ونُشِر بعنوان «مشاكل الدراسات الأدبية واللغوية»، بطرح المشكلة في إطار قوسين يفتحانهما خارج الموضوع، لكنهما يبدوان لنا في غاية الأهمية للكشف عن هذه النقطة.
يقول الكاتبان:

«إن النظر إلى عَلاقة التوالي في النُّظُم دون أن نأخذ في اعتبارنا القوانين اللاصقة بكل نظام، هو سلوك منهجي ضار وفاسد.»

يبقى أن نتساءل عما إذا أصبح من الممكن، ذات يوم، إقامة حوار بين أكثر التيارات الشكلية تقدمًا (وتجسده أعمال جاكوبسون)، والمناهج الاجتماعية التي تدرس مضمون العمل الفني حسب التكوين الاجتماعي الذي ظهر في إطاره، وهو حوار لن يتحقق بدونه أي نفاذ منهجي مادي إلى الأعمال الأدبية، وهو أيضًا حوار سيؤدي، في مجال دراستنا، إلى وضع الظواهر الثقافية في منظور جدلي، باعتبارها جهودًا بشرية تُبذل من أجل الاستحواذ على الواقع، وكانت أولى الخطوات التي قطعها الإنسان وهو يسلك هذا الطريق، عملية اسقاط الواقع (على أساس أنه واقع في طريق التحول، في طريق اكتساب الصفة الإنسانية) في وعيه، ذلك الوعي الذي يتطلع إلى تغيير الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥