الخاتمة

بدأ هذا العمل وانتهى بأبرز عصرين في تاريخ مصر الحديث، في الفكر الاجتماعي والثقافة عمومًا. ولم تكن المقارنة بين عصري محمد علي وجمال عبد الناصر مباشرة ولا على السطح، بل كانت متضمَّنة في السياق المعقد للنهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث. وربما كان هذا السياق القائم على طول المسافة بين قطبَي هذا العمل (مرحلة محمد علي ومرحلة عبد الناصر) هو نفسه أداة المقارنة الأولى بين كل منهما، فالتطور وحده هو الذي يوضح لنا لماذا كانت النهضة ولماذا كان السقوط، ويوضح من ناحية أخرى مصير كل منهما في منظور التاريخ الاجتماعي للثقافة.

وقد كان اختيار عصر محمد علي وعصر عبد الناصر إطارًا للبحث، اختيارًا لنهضتين سقطا بعد «إنجاز» تحقق في أرض الواقع علي غير النحو الذي صادفته النهضة الثانية في زمن عرابي حيث لم تتح لانتفاضته فرصة الإنجاز الفعلي بعد هزيمته علي يدي الاحتلال البريطاني خلال فترة قصيرة. وأيضًا على غير النحو الذي صادفته ثورة ۱۹۱۹م بقيادة سعد زُغلول، حيث لم تستطع الأغلبية الوفدية أن تحكم سوى فترة قصيرة، وانتهت الثورة تمامًا بتوقيع معاهدة التهادن مع الإنكليز عام ١٩٣٦م.

لذلك، فعلى الرغم من تَكرار ظاهرتي النهضة والسقوط في مختلِف مراحل تطور مصر الحديثة، إلا أنهما يتخذان سمة القانون الاجتماعي في المقارنة بين عصر النهضة الأولى وعصر النهضة الأخيرة، وبين عصر السقوط الأول وعصر السقوط الأخير. فقد أتيحَ لمحمد علي أن يؤسس الدولة المصرية الحديثة، كما أتيحَ لرفاعة الطهطاوي أن يغرس بذور النهضة. وقد أتيحَ لهما من «الزمن» ما كفل للتجرِبة أن تنهض وأن تسقط دون تعسف من التاريخ ودون إجهاض فكري من المجتمع. ووقع الشيء نفسه لدولة جمال عبد الناصر، فقد أسس الدولة المصرية الجديدة بعد حوالَي قرن ونصف من الحكم العلوي ومن الثورات المجهَضة، وأتيحَ له أن يبني مع جيل الأربعينيات من المثقفين المصريين مجتمعًا جديدًا، وأتاح لهم «الزمن» تجرِبة النهضة وتجرِبة السقوط في حيز تاريخي لا يقبل الإدانة، وفوق قاعدة اجتماعية عريضة لا تقبل الشك.

لذلك كانت المقارنة بين الفجر الأول للنهضة وسقوطها، والعصر الناصري الجديد، ليست بين رجلين ولا حتى بين دولتين ومجتمعين قد تغلب عليهما أوجه الاختلاف على أوجه التشابه، بل بين «عصرين كاملين» ارتفعت فيهما ظاهرتا النهضة والسقوط إلى مرتبة القانون الاجتماعي.

إننا في السياق بين هذين القطبين سوف نلاحظ أن النهضة والسقوط قد اتخذا ثلاثة مسارات مختلفة: أولها سقوط نظامٍ ما ونهضة طبقة لم يعد قادرًا على التعبير عنها. وثانيها سقوط طبقة ونهضة أخرى في وقتٍ واحد. وثالثها سقوط طبقة يليه ما يشبه «الفراغ» ثم نهضة طبقة أخرى في وقتين متباعدين. ولكن النقد الاجتماعي المقارِن الذي يستهدف من التاريخ اكتشاف قوانين حركته الفكرية لا بد وأن يلاحظ:

  • أن عصر محمد علي قد توازى مع الفكر ولم يتقاطع معه، فالطهطاوي كان مبشرًا ولم يكن معبِّرًا عن الدولة أو المجتمع.
  • المرحلة العرابية عرَفت اندماج الفكر بالثورة، بحيث إن حركة التغيير هي التي ولدت الفكر المواكب لها، كما تبنت الفكر السابق عليها، وأرهصت بالفكر الذي تلاها.
  • في المرحلة الوفدية — أو ثورة ۱۹۱۹م — عاد التوازي من جديد، ولكن مع التطابق بين الفكر والثورة لا بين الفكر والمجتمع والدولة.
  • المرحلة الناصرية أضحت فيها السلطة مصدر الفكر، دون أن يعني ذلك أن فكرها لم يلائم شرائح اجتماعية معينة؛ ودون أن يعني أن «الفكر الآخر» بمختلِف اتجاهاته كان حاضرًا وإن يكن مقهورًا.
إن البرجوازية المصرية التي كانت «حُلمًا» عند الطهطاوي لم تحقق ثورتها في أي وقت … ففي ظل محمد علي لم تكن قد ولدت. وفي ظل الثورة العرابية كانت جنينًا أجهضه العرش والإنكليز. ثورة ۱۹۱۹م شاركت في إجهاضها — بالإضافة إلى العنصرين السابقين — الفئات العليا من كبار الملاك والبرجوازية الكومبرادورية. وفي عام ۱۹٣٦م سلمت البرجوازية المتوسطة سلاحها. وفي عام ١٩٥٢م فاتها «قطار النهضة» الذي استولت عليه البرجوازية الصغيرة، وتغير المشهد الاجتماعي راديكاليًّا. وما حدث عام ۱۹۷۱م (الانقلاب) هو من أحد الجوانب تعبير معقد عن هذه الثغرة في مسيرة النهضة، ورد فعل لعدم إنجاز الطبقة الوسطى لثورتها، فقامت بعض فئاتها العليا بما يشبه الثورة المضادة في محاولة يائسة للعودة بالتاريخ إلى الوراء … ولكن في زمن متغير كيفيًّا عما كان عليه الوضع منذ ستين عامًا. فبعد الحرب العالمية الثانية أصبح متعذرًا على البرجوازيات المستقلة حديثًا أن تراكم رأس المال على النحو التقليدي، وفي ظل تخلف ما يسمى «العالم الثالث» وأزمة الرأسمالية العالمية، لم تعد التنمية الرأسمالية لهذه الأقطار ممكنة.

•••

وبينما يمكن القول بأن التحديث والتمصير والتعريب هي العناصر الرئيسية الثلاثة في تكوين «النهضة» ونقيضها في مصر منذ محمد علي إلى جمال عبد الناصر، إلا أننا يجب أن نلاحظ في ثنايا التطور أوجه الشبه وأوجه الاختلاف حول المحاور الفكرية والاجتماعية التالية:

  • السلطة الشخصية: التي تبدو واضحة في سلوك محمد علي أقرب إلى الأوتوقراطية والمناخ الاجتماعي الأقرب إلى الثيوقراطية، تقترب وتبتعد عن السلطة الفردية التي كانت لعبد الناصر. لقد ظل اعتماد محمد علي أساسًا على الفرق العسكرية الألبانية، وهو لم يطارد «الأجانب» من أتراك وجراكسة ومماليك حتى النهاية، بل كان يستخدمهم أحيانًا كثيرة إذا ما اضطرته عملية «التوازن» مع القوى المحلية إلى ذلك. ورغم أن المصريين هم الذين عينوه واليًا على مصر فإنه ظل يرى مصر ولايته الشخصية لا وطن المصريين، وكان يلجأ إلى كبارهم في المحن وإلى صغارهم في شن الحروب، ولكنه لم يتنازل عن المعنى الأوتوقراطي للسلطة في أي وقت، مما أقام عازلًا بينه — وهو الألباني — وبين أهل البلاد تسبب في تكريس الثيوقراطية في المناخ الاجتماعي العام رغم «دعوات» الطهطاوي. فالحقيقة هي أن أثر الطهطاوي لم يكن مباشرًا في عصره بل في العصور التي تلت. وقد كان عبد الله النديم في الثورة العرابية، وأحمد عرابي نفسه، أقرب إلى الطهطاوي من علي مبارك الذي عاصره.
    بينما يختلف الأمر كيفيًّا عند الحديث عن «سلطة شخصية» لعبد الناصر. فالتمثيل الطبقي لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م قد تطور على الصعيد التشريعي والقانوني من الحكم الملكي إلى الحكم الجمهوري، ومن تحديد المِلكية الزراعية بمائتي فدان للفرد إلى خمسين فدانًا للأسرة، ومن تمصير البنوك الأجنبية إلى تأميم الشركات المصرية الكبرى … وفي ذلك كله كان «الحكم» ينتقل من تمثيل طبقي إلى آخر. ولكن هذا التغير المستمر لم يتناقض يومًا واحدًا مع الانتماء الاجتماعي والأيديولوجي لغالبية الضباط الأحرار. ربما ازداد هذا «الانتماء» إلى الجسم الرئيسي للبرجوازية الصغيرة نضجًا وبلورة، ولكنه لم يفقد هُويته قط. هذه الهوية — الصدى العنيف لإفلاس ليبرالية الطبقة الوسطى عند نهاية الأربعينيات — هي دكتاتورية الشريحة الاجتماعية الوافدة إلى مسرح الأحداث منذ أوائل الخمسينيات، وأعني بها البرجوازية الصغيرة، أعرض قاعدة شعبية في مصر وأكثرها تناقضًا.١ إن عبد الناصر في هذا الصدد لم يكن أكثر من «الأنموذج» الذي جسَّد دكتاتورية الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها. وقد كان رفاقه في مواقع المسئولية على صورته تمامًا، إن لم يكن أكثر في بعض الأحيان. وبهذا المعنى فالسلطة في مصر الناصرية لم تكن «شخصية» بالتعبير الأوتوقراطي الذي ينطبق على عصر محمد علي، فعبد الناصر لم ينفرد بالحكم، ولكنه كان أبرز الشركاء في سلطة دكتاتورية بطبيعتها.

    ورغم «التنظيم السياسي الواحد» — أي غياب الديموقراطية البرجوازية — فإن العازل الذي عرَفه عصر محمد علي بين الحاكم والشعب لم يكن هو نفسه في مصر عبد الناصر؛ لأنه، أولًا، كان أول حاكم مصري صميم يحكم البلاد منذ سقوط الدولة المصرية القديمة، أي منذ عشرات القرون. ولأنه، ثانيًا، لم يحوِّل مصر إلى «ولاية شخصية» بل إلى وطن. رغم أن غياب الديموقراطية كان أحد العوامل الرئيسية في هزيمة هذا الوطن أمام الأجنبي من جديد، ثم هزيمته أمام الثورة الداخلية المضادة، عنيتُ انقلاب مايو (أيار) ۱۹۷۱م.

    غير أننا في هذه النقطة يجب أن نلاحظ السياق التاريخي للمجتمع المصري والذي يجعل من قضية «السلطة» مسألة بالغة التعقيد، فالأوتوقراطية والثيوقراطية عرَفتهما مصر منذ عصر الفراعنة الذين كانوا ملوكًا وآلهة في الوقت نفسه. ثم كانت سلطة الغزاة الأجانب من اليونان والرومان والفرس إلى المماليك والأتراك والفرنسيين والإنكليز.٢ ثم هي في جميع الأحوال «سلطة الدولة المركزية» العريقة بسبب نظام الري منذ القدم. وليست صدفة أن «الكفاح الدستوري» هو الحلقة الأساسية في نضال الثورتين المجهَضتين: ثورة عرابي وثورة ۱۹۱۹م. وليست صدفة كذلك أن هذا الكفاح ارتبط دائمًا بمسألتين هما: جلاء الاحتلال الأجنبي والاستقلال الاقتصادي. وليست صدفة أخيرًا أنه في ظل الدستور والقوانين والبرلمان السابق على ثورة ١٩٥٢م لم يحكم حزب الأغلبية الشعبية — الوفد — أكثر من سبع سنوات ونصف طيلة ثلاثين عامًا. بينما كانت حكومات الأقلية التي صادرت الصحف والتنظيمات النقابية والسياسية واعتقلت المعارضين هي التي حكمت أكثر من ٢٢ عامًا.
  • محاولات الوحدة البروسية: أو تعريب مصر الذي لم يكن عند محمد علي إلا انعكاسًا لموقفه من تمصير مصر. فكما أنه «استقل بمصر» عن السلطنة العثمانية، فإن فتوحاته، هو وولده إبراهيم باشا، للمشرق العربي كانت أقرب إلى الفتوحات الإمبراطورية منها إلى الوحدة العربية. ولا شك أنه يلتقي مع عبد الناصر في هذه النقطة من زاوية استراتيجية هي «الأمن». ولكنهما يختلفان جذريًّا، بعدئذٍ، في كل شيء رغم اشتراكهما في المظهر الخارجي وهو التصدير العسكري. وهو الأمر الذي وقع من عبد الناصر في حرب اليمن.٣ ثم النظام غير الديموقراطي، وهو الأمر الذي وقع من عبد الناصر في سوريا. ولكن عبد الناصر، المصري، كان يؤمن بالوحدة القومية وعروبة مصر. ولم يكن في ذلك مدفوعًا بتشجيع فرنسي كما يفسر البعض عروبة البعض الآخر من المفكرين السوريين واللبنانيين في القرن الماضي. ولم يكن مدفوعًا بتشجيع بريطاني كما يفسر البعض مساندة الإنكليز في تأسيس جامعة الدول العربية. ولم يكن بالقطع مدفوعًا من الأمريكيين الذين حاربوه بضراوة بعد أن قاد الحرب ضد «حلف بغداد» ورفض «ملء الفراغ في الشرق الأوسط» بمشروع أيزنهاور. ولم يكن مدفوعًا من السوفييت الذين تحفظوا على الوحدة مع سوريا منذ اليوم الأول، حتى إن الأمين العام للحزب الشيوعي السوري — خالد بكداش — القريب من تفكير موسكو، وكان نائبًا عن العاصمة دمشق، قد غادر البلاد عشية التصويت البرلماني على الوحدة. ولم يكن مدفوعًا من البرجوازية المصرية الباحثة عن أسواق، لأن هذه البرجوازية «إقليمية» الفكر والوجدان، وهي تفرح بالأسواق دون الحاجة إلى وحدة دستورية. وهي لم تكن منهمكة في الإنتاج لدرجة البحث عن الأسواق، بل كانت في ذلك الوقت تمامًا تسحب ثقتها من النظام. وهو ما رد عليه عبد الناصر بإجراءات ١٩٦١-١٩٦٢م عقب «الانفصال» الذي كان بدوره — ومن إحدى الزوايا — هلعًا أصاب البرجوازية السورية التجارية.
    ولكن عبد الناصر أقدم على الوحدة مع سوريا وحرب اليمن وأمدَّ الثورة الجزائرية بالسلاح لثلاثة أسباب: الأول هو إيمانه العميق بوحدة العرب وأن لا مستقبل لمصر الجديدة (ذات الثقل الاجتماعي بقاعدة جماهيرية عريضة من البرجوازية الصغيرة) إلا بالانتماء العربي. كان يدرك أن الخطأ الأيديولوجي الفادح لسعد زُغلول حين قال إن العرب هم «صفر + صفر + صفر» هو انعكاس فكري للأساس الاقتصادي الذي قامت عليه الطبقة الوسطى، أي نشأتها في ظل التجزئة والتخلف والانفصال عن البرجوازيات العربية وسيطرة الاحتلال الأجنبي. ولذلك كان يدرك، ولو بشكل غير واعٍ في البداية، أن الاستقلال الوطني لا ينفصم عن شقيه: الوحدة القومية والتغيير الاجتماعي. والسبب الثاني هو ذلك التيار الجماهيري الكاسح منذ أواسط الخمسينيات، والذي انعكس في وضوح أثناء العدوان الثلاثي على مصر، فقد كان تيارًا عربيًّا غلَّابا على ما عداه. وفي الوقت نفسه برزت شخصية ناصر كزعيم قومي عربي لا مجرد قائد ثورة مصرية محلية. وكان اللقاء بين هذين العنصرين من أهم المؤثرات التي دفعته إلى دعم الثورة الجزائرية وتجرِبة الوَحدة مع سوريا وقرار الاشتراك في حرب اليمن إلى جانب القوات الجمهورية. والسبب الثالث هو ما شعر به عبد الناصر في ميدان القتال عام ١٩٤٨م على أرض فلسطين حين كان ضابطًا في الجيش المصري، وما لمسه بيديه وهو حاكم عام ١٩٥٥م حين أغارت القوات الإسرائيلية على غزة، فقد تعززت لديه القناعة الاستراتيجية بأن الأمن الوطني لمصر هو الأمن القومي للعرب. وهي المقولة التي أكدتها من قبله أحداث التاريخ القديم والوسيط والمعاصر.٤

    ولقد سقطت «إمبراطورية» محمد علي بفاعلية العوامل الخارجية أساسًا، وهي العوامل ذاتها التي ناهضت التجرِبة الوَحدوية لعبد الناصر، إذ كان ولا يزال هدف العناصر المؤثرة في السياسة الدولية هو إضعاف مصر، وبالتالي إبقاء العرب في دائرة التخلف والتجزئة والتبعية. كذلك، فإن الحكم الأوتوقراطي وغياب الديموقراطية من بين العوامل التي قوضت أركان الإمبراطورية العَلَوية وهزمت التجرِبة الناصرية في سوريا. ولكن عبد الناصر لم يخسر الثورة الجزائرية وإن خسر أحمد بن بِلَّة، ولم يخسر اليمن الجمهوري وإن خسر عبد الله السلَّال. حتى سوريا نفسها أسقطت حكم الانفصال. ويبقى الحُلم الناصري قابلًا للتحقيق في أي وقت، لأنه ليس حُلمًا، فالأحداث تؤكد سلبًا أنه المصير الوحيد الممكن للعرب بدلًا من الانقراض. وإن احتاج الحكم للنقد الذاتي الذي أعلنه ناصر للملأ غداة الانفصال، أي لا بد من تغيرات جوهرية تتناول الأسلوب البروسي في تناول المسألة القومية.

  • العَلاقات الدولية وتوازن القوى العالمي: من أبرز المؤثرات الأجنبية في نهضة وسقوط كلٍّ من نظامَي محمد علي وجمال عبد الناصر. فلقد كان الضعف الذي يعاني منه «رجل أوروبا المريض» — تركيا — وتناقضات القوى الكبرى في أواخر القرن الثامن عشر، بين روسيا القيصرية وفرنسا وبريطانيا، من أهم العوامل التي أتاحت لمحمد علي أن «يناور» حتى استولى على الحكم في مصر. كذلك فإن وقوفه على أسرار التقدم في زمنه هو الذي حمله على إرسال البعثات إلى أوروبا، وخاصة فرنسا، حيث تمكن من إرساء قواعد التحديث الصناعي والعسكري والثقافي. وهي الأمور التي ساعدته في تأسيس جيش مصري قوي وترشيد تجارة مصرية قوية وغرس نواة التعليم المتمدن باستيراد المطابع والأفكار وإقامة المعاهد. ولكن «الطموحات الإمبراطورية» من ناحية واللعب على التناقضات الدولية المؤقتة من ناحية أخرى، سمح لميزان القوى العالمي أن «يتفق» على إسقاطه وهزيمته دون أن يُسقط «الأسرة العلوية» إلا بالتقسيط كما حدث للخديو إسماعيل والخديو عباس الثاني، أما السقوط الحاسم للحكم العلوي فلم يتم إلا بعد وفاة المؤسس بأكثر من قرن. ولكن المؤثرات الدولية في نهضة وسقوط محمد علي لا تنفي العوامل الداخلية التي أحسن استغلالها — وَفقًا لموهبة ودور الفرد في التاريخ — إذ كانت البلاد من شدة التمزق بين الأتراك والمماليك والمصريين، بعد رحيل الحملة الفرنسية، على شفير الانهيار. وأقبل محمد علي وكأنه المخلِّص أو «رجل الأقدار» الذي تهيأت خشبة المسرح لاستقبال بطولته في «إنقاذ» مصر.٥ كما ساهمت العوامل الداخلية أيضًا في إسقاطه، حين عاد في أواخر عهده عن إصلاحاته الأولى فتقرب من العناصر الأجنبية وتباعد عن الشعب وأقطع حاشيته الأرض وزاد في الضرائب، بالإضافة إلى انعكاسات هزائمه خارج الحدود.
    ومن الثابت أن العَلاقات الدولية قد كان لها أبلغ الأثر في نجاح الانقلاب الناصري عام ١٩٥٢م، وفي تثبيت سلطة الثورة عام ١٩٥٦م بعد عدوان السويس. كانت بريطانيا بعد الحرب الثانية قد تخلت عن مركزها القيادي في العالم الجديد. ولم تكن لدى الولايات المتحدة أية أوهام عن «الضرورة الاستراتيجية» لبقاء الحكم الملكي أو القوات البريطانية في مصر. وكان الاتحاد السوفييتي قد حقق التوازن النووي مع الغرب وخرج من وراء الستار الحديدي بعد رحيل ستالين وأصبح أكثر انفتاحًا على العالم الخارجي، وخاصة حركات التحرر الوطني. كل ذلك ساعد على ميلاد السلطة الجديدة لثورة ٢٣ يوليو (تموز) ١٩٥٢م. ولكن العامل الداخلي كان الأكثر حسمًا، فقد أعلن حريق ٢٦ يناير (كانون الثاني) ١٩٥٢م. نهاية النظام القائم على تحالف العرش وكبار الملاك والفئات العليا من البرجوازية المتحالفة عضويًّا مع الاستعمار. وحين أعلن مصطفى النحاس بعد توليه رئاسة الوزارة في انتخابات ۱۹٥٠م إلغاء معاهدة ١٩٣٦م كان يدرك مدى ضعف النظام الذي حاول الرد بالعملية الانتحارية (حريق القاهرة)، فلم تكد تمضي ستة أشهر حتى أقبلت الثورة من داخل الجيش، آخر معقل كان يُظن أنه سيقود التغيير. ولكن العَلاقات الدولية عادت مرة أخرى لتؤثر في مجرى الأحداث. والاختلاف الجوهري عن عصر محمد علي هو أن التناقضات العالمية في عصر ناصر لم تكن تناقضات المعسكر الواحد كما كان الحال في القرن الماضي والذي سبقه، بل كانت هناك تناقضات داخل المعسكر الواحد (الرأسمالية العالمية بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد) وبين هذا المعسكر مجتمعًا والمعسكر الاشتراكي الذي تمخضت عنه نتائج الحرب الثانية. وقد حاول عبد الناصر مع أقرانه فيما يسمى «بالعالم الثالث» كنهرو في الهند وتيتو في يوغسلافيا وبن بِلَّة في الجزائر ونكروما في غانا وسيكوتوري في غينيا وسوكارنو في إندونيسيا أن يتغلب على الاستقطاب العالمي بما دعاه «كتلة عدم الانحياز» و«مبادئ الحياد الإيجابي». وقد أفاد هذا النوع من الحياد هذه الأقطار زمنًا. ولكن الطريق الوسطي الذي انتهجته داخليًّا، والتراكمات السلبية للاستعمار القديم، وأشكال الحكم العلوية غير الديموقراطية في معظمها أفسح المجال واسعًا منذ عام ١٩٦٥م لانتكاسة النهضة في العالم الثالث بأكمله. على صعيد مصر، كانت محاولة الإخوان المسلمين المسلحة لقلب النظام في صيف هذا العام نفسه، وكانت أيضًا سنة النهاية لخطة التنمية الأولى والوحيدة والتي تدهور بعدها الحال حتى هزيمة ١٩٦٧م. وتوالى سقوط نكروما في أفريقيا إلى سقوط سوكارنو في آسيا، حيث استطاعت عناصر القوى الدولية المؤثرة في عالمنا المعاصر أن تضرب هذه النظم، إما من الداخل بواسطة انقلابات عسكرية تؤيدها طبقات قديمة اختيرت في السابق أو طبقات جديدة طامحة في السلطة، وإما من الخارج بواسطة عدوان أجنبي مسلح. وهو الأمر الذي وقع لمصر في الحرب التي شنتها «إسرائيل» عام ١٩٦٧م فأسقطت — موضوعيًّا — نظامًا كان آيلًا للسقوط من داخله. وهي الحقيقة الأساسية التي كشف عنها انقلاب ۱۹۷۱م. ولما كان القطب الدولي المؤيد لناصر — الاتحاد السوفييتي — قد اتبع خلال ١٥ عامًا سياسة التعامل الفوقي والاتفاقات العُلوية، فقد كان يسيرًا إزاحته من «المعادلة» بعد عام واحد على الانقلاب. وهكذا أصبح القطب الآخر — الولايات المتحدة — هو الطرف الأكثر فاعلية في مجرى الأحداث خلال السنوات الخمس الأخيرة. إن القائد العظيم لا يتجاوز مقتضيات التاريخ الاجتماعي. ومن هنا فإن تطور التمثيل الطبقي لعبد الناصر قاده في أقصى مراحل نموه إلى التطابق مع انتمائه الاجتماعي والأيديولوجي الأصيل، إلى شريحة البرجوازية الصغيرة. وهنا كانت نقطة النهاية في الطريق المسدود، لأن تطور المجتمع لا يطابق تطور القائد أو طموحات الشريحة الاجتماعية التي يجسدها. وفي التاريخ القريب تمنحنا أمريكا اللاتينية مثَلَين متناقضين ولكنهما يؤديان إلى نتيجة واحدة، فقد «قفز» فيدل كاسترو في كوبا، وهو في قمة السلطة، إلى صف الماركسية (ولم يكن الحزب الشيوعي الكوبي ذا تأثير على انتفاضته الناجحة ضد الدكتاتور السابق باتستا) فأصبح وهو الوطني الديموقراطي قائد الثورة أمينًا عامًّا للحزب الشيوعي. كما «قفز» الدكتور سلفادور الليندي إلى صف «الليبرالية»، بمعنى أنه وصل إلى قمة السلطة بواسطة الديموقراطية البرلمانية محترِمًا شروط اللعبة. فنجح الأول في الاحتفاظ بالسلطة، وذُبح الآخر في انقلاب فاشستي ما زال حاكمًا. أما عبد الناصر فقد اختيرت له نهاية تبدو كحلٍّ وسط، إذ عرَف كيف يموت في الوقت شبه المناسب. ولم يكن العامل الدولي وحده هو الذي حافظ على كوبا في أزمة الكاريبي الشهيرة، ولم يكن العامل الدولي وحده هو الذي أسقط الليندي في إحدى العمليات القذرة لوكالة المخابرات المركزية (CIA)، ولم يكن العامل الدولي وحده هو الذي أسقط عبد الناصر، بل كانت «الديموقراطية» هي الإشكال التاريخي الذي استغلته «الجغرافيا السياسية» في لعبة الأمم. إن أسلوب التصفية البوليسية الذي انتهجه عبد الناصر في معاملة خصومه لم ينجح أبدًا في تصفية الفكر المعادي للتقدم، ولم يمنع أبدًا نمو الطبقات الجديدة المعادية للتقدم. بالإضافة إلى أن الحدود القصوى لفكر البرجوازية الصغيرة ما كان يستطيع أن يتجاوز أسوارها الاجتماعية إلى «استئناف النهضة». وليس فارغًا من المغزى أن الجماهير المصرية منحت ناصر في ۹ و۱۰ يونيو (حزيران) ٦٧ وهو مهزوم «كارت بلانش» لإحداث التغيير في ظرف نادر هو انحلال السلطة، ولكن التغيير لم يحدث، بل السقوط.
  • الأرض: تعني وسيلة الإنتاج ورأس المال والفلاح في مصر الزراعية. وقد تسلم محمد علي الحكم في ذروة كفاحه ضد ما يسمى مجازًا بالإقطاع المملوكي. وبعد انتصاره على المماليك شرَّع أول قانون للإصلاح الزراعي في مصر الحديثة، وذلك عندما صادر أملاك الملتزمين الممتنعين عن دفع الضرائب عام ۱۸۰۸م، وفي العام التالي حرمهم من نصف الفائض. وفي عام ۱۸۱۲م وضع يده على جميع الأراضي التي كانت في حوزة المماليك. وفي عام ١٨١٤م ألغى نظام الالتزامات نهائيًا وقضى على تبعية الفلاحين الشخصية للملتزمين. وقد أمر محمد علي بدفع تعويضات للمتضررين كراتب تقاعدي، ولكن سطوتهم والعَلاقات الاجتماعية وكذلك القيم التي بنوها تقوضت. غير أن تحويل الأرض إلى «رأسمال الدولة» أفسح المجال لعودتها بعد أقل من عشرين عامًا (في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ويعتبر يوم أول ديسمبر (كانون الأول) ١٨٢٩م هو التاريخ الذي جرى فيه منح هذه الأراضي كهبة لأول مرة) لأن تصبح إقطاعيات خاصة حين وزع محمد علي الأراضي الأميرية على الأقارب والمقربين والأعيان وكبار الموظفين والضباط، أي فئات الطبقة «العلوية» الجديدة التي استملكت مئات الألوف من الأفدنة بمن عليها من الفلاحين. وكان محمد علي بين عامَي ۱۸۰۹ و۱۸۱٥م قد استملك أراضي الأوقاف أيضًا وراحت الدولة تنفق على رجال الدين وصيانة المساجد. ولكن معارضة المشايخ وتمرد المماليك سرعان ما شغل محمد علي عن هذا الإصلاح الراديكالي. إلا أن الزراعة تقدمت في عصره تقدمًا سريعًا، وخاصة في الإنتاج المعد للتصدير. وقد ساعده على النهوض بزراعة القطن نجاح الفرنسي جوميل في استنبات نوع جديد له قيمة عالية في السوق العالمية، وكذلك ترميم قنوات الري القديمة وإنشاء قنوات جديدة، والانتقال بالدلتا من نظام الري الحوضي (الدوري) إلى نظام الري الدائم، وبناء أول سد في مصر لحجز مياه النيل في منحدره شمال القاهرة (القناطر الخيرية). ونتيجة لذلك زادت مساحة الأرض المروية مائة ألف فدان، كما ازدادت مساحة الأرض المزروعة من مليوني فدان عام ۱۸۲۱م إلى ٣٫۱ مليون فدان عام ۱۸۳۳م. وقضى نظام «الاحتكار» بإشراف الدولة على الإنتاج الزراعي وتسويقه بأن أصبح للحكومة حقٌّ استثنائي في بيع وشراء المنتجات وتحديد أسعارها، بل وتحديد أنواع المحاصيل والمساحة التي تُزرع فيها. ولذلك فبالرغم من تخلص الفلاح المصري من المماليك والملتزمين فإن حاله الفعلية لم تتحسن. كان عليه أن يعمل بالسخرة شهرين سنويًّا في أراضي محمد علي وأعوانه. وكان يدفع الجباية (الضرائب) للدولة بنِسبٍ أعلى من تلك التي كان يدفعها للمماليك. ولم يكن حرًّا في تصريف منتجاته بل مرغمًا على تسليم الجزء الأكبر منها إلى الحكومة بأسعار منخفضة. ونتيجة لذلك وقعت انتفاضات شعبية عديدة: عام ۱۸۲۲م في القاهرة وعام ۱۸۲۳م في المنوفية وعام ١٨٢٤م في الصعيد (الوجه القبلي) وعام ١٨٢٦م في بُلْبَيس.

    ولم تعرف مصر بعد ذلك إصلاحًا زراعيًّا إلا في عصر عبد الناصر. وكانت ملحمة القانون الأول الذي صدر في سبتمبر (أيلول) ١٩٥٣م هي البداية الفعلية للتناقض بين الضباط الأحرار والباشوات القدامى. فقد رفض علي ماهر باشا رئيس الوزراء وأقطاب الأحزاب تحديد الملكية بمائتي فدان للفرد. وانتهى شهر العسل بين العسكريين والأعمدة المدنية للنظام القديم سريعًا. واستمر تحديد الملكية في التطور حتى أصبح آخر الستينيات لا يتجاوز خمسين فدانًا للأسرة. كذلك كانت ملحمة «السد العالي» في أسوان عنوانًا على الاستقلال الوطني والمزيد من استصلاح الأراضي وسيادة الري الدائم طيلة شهور السنة وتوليد الكهرباء وإضاءة الريف. وقد خطط عبد الناصر لنظام التعاونيات الزراعية، كما وضع حدًّا أقصى للقيمة الإيجارية بأن جعلها توازي سبعة أمثال الضريبة على الإنتاج. وألغى مضاربات البورصة. ومن ثم فقد أجهز على آخر بقايا الرق الإقطاعي ورواسب القنانة. ولكن حلول أجهزة الدولة (الجمعيات التعاونية) مكان الباشوات القدامى في التعامل مع الفلاح لم يحل المشكلة تمامًا. وفي أحيان كثيرة كانت الرشوة واستغلال النفوذ من الآفات التي عانى منها الفلاحون. كما أن الرأسمالية الزراعية تطورت عبر مسارب جديدة في المجالات المفتوحة كالتجارة والمقاولات والعقارات، وتمكنت برأسمالها المتاح من استغلال التكنولوجيا الحديثة في الحرث والري والسماد، واستطاعت احتكار الزراعات المربحة كالفاكهة، مما أدى عمليًّا إلى ازدهارها والمزيد من بؤس الفلاحين.

  • الصناعة: كانت ترادف التحديث في عصرَي محمد علي وجمال عبد الناصر. لقد شرع محمد علي عام ۱۸۲۹م بعد تحطيم جميع سفن الأسطول المصري تقريبًا في واقعة نفارين، في بناء دارٍ كبرى للسفن هي «الترسانة البحرية» بالإسكندرية. وعام ۱۸۳۱م أنزل إلى البحر أول سفينة ذات مائة مدفع. وفي البداية كانت أغلبية عمال صناعة السفن من الأوروبيين. إلا أنه في وقت قصير كانت الكوادر الوطنية قد حلت مكانهم. إن الثمانية آلاف عامل ممن كانوا يشتغلون في دار بناء السفن كانت غالبيتهم العظمى من المصريين. ويذكر لوتسكي في «تاريخ الأقطار العربية الحديث» أن مشاهدًا أوروبيًّا قال: «إن دار بناء السفن في الإسكندرية التي كان العرب يقومون فيها بكافة الأعمال، والتي كان باستطاعتها أن تنافس كل دور بناء السفن في العالم، تشير بوضوح إلى ما يمكن عمله بهذا الشعب. وقد لا يتمكن الأوروبيون أبدًا من بلوغ مثل هذه النتائج المدهشة في مثل هذه المدة القصيرة» (ص٦٨ و٦٩ من الترجمة العربية). وقريبًا من ترسانة الإسكندرية هذه شيد محمد علي المصانع لصب المعادن والحدادة والبرادة، وصناعة أقمشة الأشرعة وفتل الحبال. كما أقام مصانع جديدة في القاهرة ورشيد، ومن بينها مصنع لصب الحديد طاقته الإنتاجية ألفا طن من حديد الزهر سنويًّا، وكذلك ثلاثة مصانع للسلاح بُنيت على الطراز الفرنسي المتقدم، ومصانع نترات البوتاس ومصنع بارود. كما شيد مصانع لغزل ونسج القطن والأجواخ والسكر والألبان. وكانت هذه المشروعات مملوكة للدولة أو للأسرة المالكة. وبالتالي فقد كانت غالبية الإنتاج الصناعي والحرفي تحت سيطرة الدولة العَلوية، وبحكم هذه السيطرة تحقق النظام «الاحتكاري» بين عامي ۱٨١٦ و۱۸۲۰م حيث كان جهازًا لتنظيم الإدارة المركزية المشرفة على حياة البلاد الاقتصادية. وإذا كان من المبالغة القول بأن هذا العهد قد شهد مولد البروليتاريا الصناعية المصرية كما يذهب بعض المؤرخين المصريين والأجانب، فإن أرجح الاحتمالات هو أن الملامح المبكرة للعامل المصري والحرفي المصري كانت قد وُلدت فعلًا. ولكن المصنع المصري حينذاك كان أشبه بمعسكرات الاعتقال أو المعمل اليدوي الإقطاعي أو القرى العسكرية ذات النظام الحديدي. وكان وقت العمال والحرفيين موزَّعًا فعلًا بين الثُّكنات والمصانع، بين تدريبات التجنيد الإجباري والتزامات الإنتاج الإجباري مقابل أجور زهيدة. وتشير ميزانية الدولة عام ۱۸۳۳م إلى أن مصروفات الجيش بلغت ۲۸ مليون فرنك، وأن مخصصات محمد علي بلغت ٣٫٥ مليون فرنك، بينما لم تزد نفقات المصانع وأجور العمال على ٢٫٧٥ مليون فرنك.
    والمؤكد أن الذي ربح من «احتكار» وسائل الإنتاج الرئيسية في عصر محمد علي (الأرض والصناعة) هو الجهاز البيروقراطي للدولة في جباية الضرائب والتجار الذين التزموا بشراء السلع المحتكرة بالجملة، على حساب البؤس المروع للطبقات الشعبية من عمال وفلاحين وجنود، الذين لم يلاحظوا تغيرًا فعليًّا من جراء التشريعات التي سحبت بساط السلطة من تحت أقدام الإقطاعيين السابقين. وليست صدفة أن يكون أغنياء الريف ودولة الموظفين بمثابة العمود الفقري للنظام غير الديموقراطي في مصر. الأولون بتخلف عَلاقات الإنتاج عن أساليب الرأسمالية الحديثة، والآخِرون بواسطة البيروقراطية ذاتها.

    وهما الجذران الأصيلان في بناء الدولة الناصرية أيضًا، فإذا كانت قوانين التمصير في الخمسينيات من هذا القرن والتأميمات في الستينيات قد أدت موضوعيًّا إلى تضخم جهاز الدولة الذي جسَّد تحالفًا عضويًّا بين التكنوقراط والبيروقراطية، فإن تأميم الصناعة والتجارة الخارجية وبعض مجالات التجارة الداخلية قد أفسح المجال واسعًا لنفوذ أغنياء الريف. ومن ثم كان التحالف على صعيد الهيكل القيادي للسلطة بين أغنياء الريف ودولة الموظفين (بما فيها الجيش) هو المصدر الموضوعي لغياب الديموقراطية في مصر الناصرية، حيث كانت البرجوازية الصغيرة المتعاظمة النمو هي القاعدة الجماهيرية المرتبطة عضويًّا بالأرض (صغار الفلاحين) أو بجهاز الدولة (صغار الموظفين والجنود وصغار الضباط). وهي شرائح راديكالية من حيث الطموح الاجتماعي، ولكنها في الأغلب «محافظة» من حيث أسلوب ارتباطها الهرمي بقيادتها المباشرة (صاحب الأرض ورئيس مجلس الإدارة والجنرال).

    وكانت البروليتاريا الصناعية المصرية قد استكملت ملامحها الطبقية قبل ثورة عبد الناصر بأكثر من ربع قرن في أحضان النهضة البرجوازية الوطنية بين العشرينيات والثلاثينيات. ولكن التصنيع الثقيل المرتبط بالقوة العسكرية، كما كان الحال في عصر محمد علي، بدا هدفًا رئيسيًّا وعاجلًا للثورة الناصرية. وما لم يعرفه عصر محمد علي هو أن الطبقة المتوسطة المصرية لطول عهدها بالتردد بين أهداب البرجوازية الكبيرة وكبار ملاك الأراضي وأذرع الطبقات الشعبية وفي مقدمتها الطبقة العاملة، نكصت عن تنمية البلاد وتخلفت عن قيادة التقدم الاجتماعي، بحيث بات متعذرًا إنجاز الثورة الوطنية الديموقراطية، أو بعض مهامها على أقل تقدير، بغير تمصير المصالح الأجنبية وتأميم بعض المصالح الوطنية. وهكذا نشأ نوع من رأسمالية الدولة الوطنية الحديثة الاستقلال، يعود مردودها الاقتصادي إلى قطاعات أوسع من الشعب بما فيه البرجوازية الوطنية نفسها. فقد أصبح مستحيلًا حماية الاستقلال السياسي بالمعاهدات مع الأطراف الدولية والنظام البرلماني في الداخل، كما كان طموح فئات الطبقة الوسطى منذ ثورة ۱۹۱۹م. بل كان لا بد من تأسيس القاعدة الاقتصادية المستقلة، بالتخطيط المركزي للإنتاج والتنمية، وبالترشيد الاجتماعي للاستهلاك والخدمات.

    ومن هنا أقبلت مشاريع التصنيع الثقيل في مصر الناصرية لتضع حجر الأساس في نهوض نقيضين هما العمال والتكنوقراط. ذلك أن «القطاع العام» الذي رافق التمصير والتأميم لم تكن له عقلية القطاع الرأسمالي الخاص في الإدارة والتنظيم ولا في التشغيل والإنتاج. كما لم تكن له العقلية الاشتراكية (ليست صدفة أن اليساريين المصريين في ذلك الوقت تمامًا (١٩٥٩–١٩٦٤م) كانوا في السجون والمعتقلات)، بل كانت له عقلية التحالف بين أغنياء الريف والجسم البيروقراطي للدولة، أي العقلية الأوتوقراطية المعادية لديموقراطية القرار. ولكنه من ناحية أخرى — بإنشاء حوالَي ألف مصنع والسد العالي ومجمع الحديد والصلب في حلوان — أتاح توسيع القاعدة العمالية الصناعية التي شاركت قليلًا في الإدارة وقليلًا في الأرباح. «قليلًا» لا بنص القانون المباشر، بل كصدًى لضرب التنظيم النقابي المستقل عن الدولة، ولانفراد التنظيم السياسي الوحيد (الاتحاد الاشتراكي) بالسلطة، ولمباشرة أجهزة الأمن لهذه السلطة بدلًا من هذا «الحزب» نفسه. ولم يكن ذلك لمجرد أن «رأسمالية الدولة الوطنية» الحديثة الاستقلال تجرِبة وسطية جديدة، بل لأن قيادة التحالف الحاكم غير ديموقراطية لطبيعتها الطبقية والفئوية، ولأن القاعدة العريضة لهذا التحالف كانت أساسًا أجنحة البرجوازية الصغيرة، مما يجعل «المصالح الاجتماعية» في النهاية هي الحدود الموضوعية لأية تجرِبة. ولا شك أن هذه التجرِبة التي غيرت من وسائل الإنتاج وعَلاقاته وقيمه بصورة كيفية قد حملت منذ بدايتها الاحتمالين معًا: إمكانية التحول إلى الاشتراكية وإمكانية العودة إلى فلك النفوذ الاستعماري. ولكن تضخم ما سمي بالطبقة الجديدة (الفئات العليا من التكنوقراطية والبيروقراطية والجنرالات والعسكريين الوافدين إلى الحياة المدنية كمكافأة فوقية على دورهم في قيام الثورة) أدى إلى تدهور خطة التنمية ابتداءً من عام ١٩٦٥م، ثم أقبلت الهزيمة في العام ١٩٦٧م فسقط النظام موضوعيًّا، ولكن فرصة «الانقلاب» هيأها الظرف الذاتي برحيل عبد الناصر عام ۱۹۷۰م حيث تم انفصام عرى التحالف الحاكم، فهُزمت البرجوازية الصغيرة البيروقراطية وانتصر أغنياء الريف وضموا إليهم التجار والعناصر الطفيلية على الإنتاج. ومن موقع السلطة أجهزوا تدريجيًّا على المجتمع الصناعي المتطور الذي شيدته التجرِبة الناصرية. وتأكدت اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا دوافع عبد الناصر إلى التمصير والتأميم، فإذا بهذا الإجهاز على القطاع العام والإنتاج الصناعي يواكب التفريط في الاستقلال السياسي والسيادة الوطنية. كما تأكدت من ناحية أخرى الخطيئة الناصرية القائلة بإمكانية تحول اشتراكي بغير الاشتراكيين، وإمكانية قيام ديموقراطية اجتماعية بغير ديموقراطية سياسية.

  • الجيش: في عصر محمد علي وفي عصر عبد الناصر — بالإضافة إلى رديفه من قوى الأمن — هما جهاز الحكم وأداة السلطة الأولى. كلاهما أقبل على رأس انقلاب عسكري، وكلاهما رحبت به الجماهير. كلاهما استهدف علنًا إقامة «جيش قوي» توغل به خارج الحدود، وخاض به الحروب، ومني بالهزائم. وكلاهما استهدف قيام «الجيش الوطني» من المصريين فأتاح لهم بعد عصور طويلة من تحريم السلاح أن يمسكوا به ويشهروه دفاعًا عن الأمن القومي أو تحريرًا للتراب الوطني. وقد كان محمد علي برتبة «عقيد» وعمره ٣٦ عامًا حين خضع الباب العالي لإرادة المصريين وعيَّنه واليًا على مصر في يوليو (تموز) ١٨٠٥م. وكان عبد الناصر بالرتبة ذاتها والعمر نفسه حين انفرد بسلطة الحكم في مصر بعد هذا التاريخ بقرن ونصف. وكانت «مصر» ولاية محتلة في العصرين من القوى النافذة فيهما. وإذا كان الإنجاز التاريخي لمحمد علي هو «تكوين» الجيش المصري، فإن الإنجاز التاريخي لعبد الناصر في هذا المجال هو «إعادة تكوين» هذا الجيش، بمزيد من الديموقراطية، حين سمح لأبناء العمال والفلاحين والحرفيين وصغار الموظفين أن يتخرجوا ضباطًا من الكليات العسكرية التي كانت محرمة عليهم قانونًا. وهكذا يمكن القول إنه، هو الآخر، خلق جيشًا جديدًا. وكما كانت التحولات الزراعية التي قام بها محمد علي قد مهدت الطريق لإصلاح الجيش، كانت هذه التحولات نفسها هي التي مهدت الطريق لإصلاح الجيش الناصري. وكما أن هذه الإصلاحات في عهد محمد علي قد جرت في ظروف الصراع ضد المماليك الذين أبدَوا مقاومة ضارية، فقد تمت هذه الإصلاحات في عهد عبد الناصر في ظروف الصراع ضد المماليك الجدد من بقايا النظام القديم. وكما أدرك محمد علي من الخاتمة الفاجعة للمصلحَين التركيَّين — سليم الثالث ومصطفى باشا بيرقدار — اللذَين سقطا صريعين عام ۱۸۰۸م على أيدي الرجعية، أنه يجب القضاء على الرجعية الداخلية لتكوين جيش نظامي قوي، كذلك فعل عبد الناصر.

    وقد شرع محمد علي منذ تسلم مقاليد الحكم في تأسيس هذا الجيش. ولقلة الكوادر والأسلحة مضت الأمور ببطء من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت النواة الأولى من أفراد الفرقة الألبانية التي تحيزت بالاشتراك مع الأتراك ضد تجنيد المصريين، ولكن ذلك لم يمنع محمد علي من تجنيد الفلاحين المصريين في الحملة على الجزيرة العربية (۱۸۱۱–۱۸۱۹م) وخاصة بعد الحملة على موره (١٨٢٤–۱۸۲۸م). وبفضل هذا الجيش المكوَّن من الفلاحين المصريين أحرز محمد علي انتصاره في سوريا. وفي البداية قام الخبراء الفرنسيون والايطاليون بتدريب آلاف الشباب المصري والسوداني، وكان أبرزهم ذلك الضابط الموهوب «سيف» الملقب عند المصريين بسليمان باشا الفرنساوي. ولوقتٍ قريب كان باسمه شارع رئيسي وسط القاهرة وتمثال ضخم. وقام محمد علي بفتح المعاهد العسكرية لتربية الكوادر القيادية كمدرسة المشاة في دمياط ومدرسة الفرسان في الجيزة ومدرسة المدفعية في طرة بالقرب من القاهرة. وعام ۱۸۲٦م افتتح أكاديمية الأركان العامة. وتم نقل الأنظمة العسكرية الفرنسية ولوائحها الداخلية إلى العربية، فكانت هيكلية الجيش المصري على النسق النابليوني. وقد أشار أحد مستشاري نابليون إلى أنه «يمكن مقارنة المدفعية المصرية بمدفعية الجيوش الأوروبية. وعند النظر إليها يعجب المرء دون إرادة منه بقدرة السلطة التي جعلت من الفلاحين جنودًا صالحين إلى هذه الدرجة» (لوتسكي، ص٦٨). وكانت الأسلحة تُشترى من أوروبا، والقليل منها يصنع في مصر. وفي الثلاثينيات من القرن الماضي اتسع حجم الجيش المصري النظامي فاحتوى عام ١٨٣٣م على ٣٦ فوجًا من المشاة قِوام الواحد منها ٣ آلاف جندي، و١٤ فوجًا من الحرس تبلغ جملتها ٥٠ ألفًا، و١٥ فوجًا من الفرسان قوام الواحد منها خمسمائة، وخمسة أفواج من المدفعية تَعدادها ألفا جندي. ويصبح المجموع العام ۱۸۰ ألف جندي. بالإضافة إلى وحدات غير نظامية رديفة للجيش (هي القوات الاحتياطية باللغة العسكرية الحديثة) تبلغ أربعين ألفًا.

    ولم يتوقف محمد علي عند تكوين وتنظيم القوات البرية، بل أكبَّ في عناية فائقة على دراسة إصلاحات بطرس الأكبر في روسيا، فقرر إنشاء الأسطول الوطني المصري. واكتسب الجنود المصريون بسرعة المهارات التكنيكية الحديثة بمقياس ذلك العصر. وكتب المشاهد الأوروبي المشار إليه من قبل يقول: «العرب — هؤلاء الناس المرنون المفعمون بالمزايا الممتازة — كأنهم خُلقوا لأن يكونوا بحارة.» وبالإضافة إلى ترميم الحصون القديمة وتعزيزها، شيد محمد علي حصونًا جديدة. ولكن في عام ١٨٤٠م حين اقترب الأسطول البريطاني من الإسكندرية، وكان «الحلم الإمبراطوري» لمحمد علي قد استعدى عليه شعوب المناطق التي فتحها، بما فيها الأقاليم العربية، واستعدى عليه أكثر الدول الأربع الكبرى (تركيا، روسيا، فرنسا، بريطانيا)، وافق محمد علي على اتفاقية نابير في ۲۷ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٨٤٠م، وانسحب من سوريا وفلسطين، وعاد الأسطول التركي لقاء مكافأة رمزية هي إبقاء الحكم في مصر والسودان وراثيًّا لأسرة محمد علي. وتقلص حجم الجيش المصري إلى ۱۸ ألف جندي، واعترف بتبعيته للسلطان، وتعهد بدفع الجزية من خزينة الدولة المصرية، وحُرم من حق تعيين الجنرالات ومن حق بناء السفن الحربية. وأصبحت مصر تحت الوصاية التركية شكليًّا، ولكنها دخلت منذ ذلك التاريخ تحت الوصاية البريطانية أساسًا. كما دخلت، بعباس الأول، مرحلة الانحطاط الطويل الذي انتهى عمليًّا بالاستعمار البريطاني المباشر عام ١٨٨٢م. وكان المجتمع المصري من الداخل قرب نهاية عهد محمد علي قد تأثر سلبيًّا إلى أقصى الحدود بوثوب الطبقات «العَلوية» الجديدة إلى مراكز المماليك، وبالفتوحات الإمبراطورية ذاتها التي امتدت إلى اليونان فاختل ميزان القوى الدولي لغير مصلحة مصر. ومن ثم أصبح طريق السقوط الشامل ممهدًا في أول عهد عباس، حيث بدأ الإغلاق التدريجي للمصانع والمدارس، ونُفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان، والعودة التدريجية عن الاستقلال الوطني واستعادة العناصر الأجنبية والكومبرادورية لمراكزها المفقودة.

    وهي «النهاية» ذاتها على وجه التقريب التي اختتمت بها مصر الناصرية ثورة ١٩٥٢م. كان الضباط الأحرار حول عبد الناصر كالفرقة الألبانية حول محمد علي، حلَّ هؤلاء مكان المماليك وحلَّ أولئك مكان الباشوات. فأصبح الضباط في هيكل الدولة والجيش الناصري جناحًا مهمًّا لسلطة التكنوقراط والبيروقراطية المعادية للديموقراطية. واستولى من تبقى منهم في الجيش على قيادة القوات المسلحة بعقلية العشيرة وأسلوب القبيلة، وكأنهم ورِثوا امتيازًا لا عَلاقة له بالتطور السياسي والعلم العسكري. واستولى من خرج منهم من الجيش على أجهزة الدولة ومؤسسات القطاع العام كأنهم ورثة أصحاب الشركات والمصانع ورءوس الأموال المؤممة. فكانت الهزائم العسكرية لثورة واجبة التصدير إلى محيطها العربي،٦ وكانت الهزائم الاقتصادية لخطة التنمية. إن السلوك غير الديموقراطي في الوحدة مع سوريا هيأ الانقلاب العسكري عليها. والسلوك غير الثوري في حرب اليمن هيأ الانقضاض الرجعي من داخلها وممن حولها. والتعامل الفوقي مع ثورة الجزائر لم يمنع سقوط بن بِلَّة. والانتصار السياسي في معركة السويس لم يمنع الهزيمة العسكرية. وتعاظُم نفوذ «الطبقة الجديدة» مهَّد للغزو الإسرائيلي عام ١٩٦٧م. والمناورة في عصر المتغيرات الدولية، ومهادنة الرجعية المحلية والعربية لم تحُلْ دون مجزرة أيلول في الأردن عام ۱۹۷۰م ورحيل عبد الناصر في قمة المصالحة، وتكريس انقلاب الثورة المضادة عام ۱۹۷۱م، والبداية الفعلية للارتداد عن مكتسبات المرحلة الناصرية وتطوير سلبياتها في مختلِف المجالات. حتى بدأ عصر الانحطاط الجديد، بالمظاهر نفسها: تصفية الصناعة وتقليص حجم الجيش وانحدار التعليم وهجرة المثقفين، والخضوع شبه المطلق لوصاية أحد أطراف المعادلة الدولية، والعجز عن تحرير التراب الوطني، والانكفاء على الذات الإقليمية، وشراهة مجتمع الاستهلاك ونهم الفئات الطفيلية على الإنتاج.٧
  • الثقافة: تبدأ في كلا العصرين بعَلاقة البنى الاجتماعية بالدولة. وحين قام محمد علي بإصلاحاته الإدارية لتقوية القدرة الدفاعية لمصر ألغى نظام المماليك القديم الذي يسمح لحكام الأقاليم بأعمال الاستبداد الكيفي، وأسس بدلًا منه الجهاز المركزي للدولة، فاستحدث عددًا من الوزارات على الطراز الأوروبي مع تحديد وظائفها بدقة، كالحربية والمالية والتجارة الخارجية والتعليم والخارجية والداخلية. وقسَّم مصر إلى سبع محافظات على رأس كل منها حاكم إقليمي يخضع للسلطة المركزية. وكل محافظة مقسمة بدورها إلى مراكز يرأس كلًّا منها «مأمور». وأصغر الوحدات الإدارية هي «الناحية» ويترأسها «الناظر». ومن الواضح أن هذا النظام الهرمي الصارم كانت له مزاياه وسلبياته، كشأن «الدولة» المصرية منذ القدم … فهو من ناحية «ثورة إدارية» تضمن سيطرة الحكومة المركزية على جميع حلقات جهاز الدولة. ومن ناحية أخرى يسمح بدكتاتورية البيروقراطية التي تمنع القاعدة الشعبية من المساهمة في صنع القرار، كما تجمد الكثير من القرارات في قنوات التنفيذ أو تنحرف بها عن الهدف السياسي المقصود من القيادة السياسية. ويؤكد أغلب المؤرخين لهذه المرحلة أن الانفتاح على أوروبا — وخاصة فرنسا — كان كبيرًا، فقد استدعى محمد علي الأطباء والمهندسين والمعلمين والقانونيين الفرنسيين الذين ساعدوه في «تحديث» البلاد وهيَّئُوا الكوادر المحلية لتسلُّم المسئولية بعد رحيلهم. كما أن وزارة التعليم أوفدت العديد من البعثات لدراسة العلوم الأوروبية. وقد تطلب تكوين الجيش وجهاز الدولة الجديد تأهيل المثقفين والمتعلمين بعلوم الغرب، خاصة العلوم العسكرية والهندسية والزراعية والطب واللغات والقانون. وكان هؤلاء يعودون للعمل ضباطًا وموظفين ومديرين ومهندسين في مراكز الحكومة، وبعضهم عُين وزيرًا. وهم في العادة أبناء «النبلاء» المصريين.
    وفي عهد محمد علي أُنشئت للمرة الأولى في تاريخ مصر المدارس العلمانية العامة، حيث كان في المدارس الابتدائية حوالَي ستة آلاف تلميذ بين ٨ و١٢ سنة من العمر، ويدرسون اللغة العربية والحساب. أما الذين تتراوح أعمارهم بين ١٢ و١٦ سنة فبالإضافة إلى ذلك كانوا يدرسون اللغات الأخرى كالتركية والفرنسية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا. وعقب الانتهاء من المرحلة الثانوية هذه كان التلميذ يستطيع الالتحاق بالمعاهد الفنية لفترة تصل إلى أربع سنوات، وكذلك بالمعاهد العسكرية. وكان طلاب هذه المعاهد يتقاضَون رواتب رمزية، ويقيمون في أقسامها الداخلية مجانًا. ومن الطريف أن محمد علي نفسه تعلم القراءة في وقت متأخر جدًّا حيث كان يبلغ الخامسة والأربعين من العمر. ولكنه كما نعلم هو أول من فتح دارًا للطباعة في مصر عام ۱۸۲۲م، وصدرت في عهده جريدة «الوقائع المصرية». وكان الطهطاوي — في عهده — بمثابة «وزارة الثقافة» للنهضة الأولى في تاريخ مصر الحديث. وكان من الممكن لعلي باشا مبارك صاحب «الخِطط التوفيقية» ورواية «عَلَم الدين» أن يستأنف القيادة الفكرية للنهضة بمشاركة الطهطاوي بعد نهاية حكم محمد علي. ولكن التدهور العنيف الذي شهدته البلاد في عهدَي عباس وسعيد في مختلِف المجالات، وفي مقدمتها الثقافة والتعليم، وكذلك طموحات علي مبارك «الرسمية» العسكرية والسياسية، ونفي الطهطاوي ثم العفو عنه، لم يُتِحْ لمسيرة النهضة استئنافًا متطورًا بعد عصر محمد علي، مما يؤكد على دور العَلاقة بين البنى الاجتماعية و«الدولة» في النهضة والسقوط معًا.٨
    وهي «العَلاقة» البارزة في مسيرة النهضة الناصرية وسقوطها معًا، حيث كان «تخلف الوعي» عند القيادة السياسية للثورة في المسألة الثقافية سببًا غير مباشر في ديموقراطية الثقافة لبعض الوقت، تخضع تمامًا كالمسألة السياسية أو الاجتماعية للانضباط العسكري. ويختلف الأمر من زاوية أخرى حين كان يساق المثقفون بالجملة إلى السجون أو التعطل أو المنفى أو الجنون بسبب عدم تكيفهم السياسي مع الموقف الرسمي للدولة. كذلك فإن خضوع الاستراتيجية الثقافية للتكتيك السياسي لم يكن يُمهل أي تخطيط وطني للثقافة الديموقراطية بالتنفيذ الطويل الأمد. ثم كانت الازدواجية بين الوجه الرسمي للثقافة والتعليم والإعلام في الوزارات والمؤسسات، وبين «الأقنعة»، عاملًا خطيرًا في الإبقاء على فعالية أعمدة التخلف من موقع السلطة التنفيذية طيلة عشرين عامًا.٩
    ولكن هذا لا ينفي أن القرارات الكبيرة كمجانية التعليم في مختلِف المراحل حتى الجامعة، وقانون التفرغ للأدباء والفنانين، وتأسيس وزارة للثقافة وقطاع عام لمختلِف الفنون التابعة لها، قد انتقل بالنهضة المصرية في الأربعينيات من مرحلة «الحُلم» إلى مرحلة «التحقق». كما لا ينفي الوجه الآخر للعملة، وهو أن الأسلوب غير الديموقراطي والإبقاء على أعمدة الرجعية الثقافية في موقع السلطة قد ساعدا انقلاب ۱۹۷۱م على البدء فورًا في عصر الانحطاط الفكري الذي لم تشهد له مصر مثيلًا في تاريخها الحديث، حتى أصبح بعض رواد النهضة الجديدة في الأربعينيات وأركانها في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، هم أنفسهم عناوين «السقوط» في السبعينيات بين براثن سلطة الانقلاب، فانقلبوا على تاريخهم بالذات وعلى تقاليد الفكر الديموقراطي العلماني في مصر، وأضحَوا مجرد أبواق لدعاية السلطان.١٠

    إلا أننا في التحليل الأخير نقول في مجال النقد الاجتماعي المقارِن بين عصري محمد علي وجمال عبد الناصر إننا نستهدف من التاريخ اكتشاف قوانين حركته الفكرية، حيث نرى أن محمد علي وإن لم يقضِ على نمط الإنتاج شبه الإقطاعي فإنه قضى على مخلفات القرون الوسطى الأكثر رجعية، وعمل في الوقت نفسه على تعزيز دولة المُلَّاك والتجار، وأنشأ جيشًا وأسطولًا وجهاز دولة قويًّا، وقام بعدد من الإصلاحات يجعل ما حدث بعده انحدارًا في مسيرة الزمن لا امتدادًا طبيعيًّا لما كان قبله. أي إنه كان — بسلبياته وإيجابياته — علامة فارقة بين عصرين، دعت ماركس لأن يصفه «بالشخص الوحيد» الذي كان في وسعه أن «يتوصل إلى استبدال العمامة المفتخرة — أي تركيا العصور الوسطى — برأس حقيقي.» كما وصف مصر في عهده بأنها كانت «القسم الوحيد (من الإمبراطورية العثمانية) الذي كان يتمتع بقوة وحيوية آنذاك» (لوتسكي، ص٧٤ و٧٥).

    ومع الفارق بل الفوارق التاريخية والاجتماعية، يمكن تَكرار القول عن الناصرية.

•••

ولما لم يكن المقصود في هذا العمل هو التأريخ لفكر النهضة الأولى ولا لفكر النهضة الخامسة، فإن البحث ليس أطروحة في تاريخ الأفكار، بل محاولة لصياغة الاتجاه الرئيسي نحو استراتيجية حضارية لمصر تعتمد على: (أ) تأسيس منهج سوسيولوجي للثقافة العربية المعاصرة (حيث برهن السياق على استحالة طرح السؤال المصري إلا في الإطار العربي). وهو ليس تطبيقًا لمنهجٍ ما على واقعنا، بل استخلاص المعطيات النظرية من هذا الواقع في ضوء منجزات العصر الحديث. (ب) اكتشاف قوانين «الثورة الثقافية» الممكنة، في مصر خصوصًا، والوطن العربي عمومًا، (حيث برهن السياق على استحالة الجواب المصري إلا في الإطار العربي). والجواب يحدد: (أ) ماهية «الثورة» المقبلة، الواجبة والممكنة لاستئناف النهضة من حيث هويتها وقواها وقيمها. (ب) عَلاقة هذه «الثورة» — الاقتصادية الاجتماعية السياسية — بالرؤيا الحضارية الشاملة.

وفي نطاق سؤال النهضة وجواب السقوط، كانت «المقارنة» إحدى أدوات التحليل المتضمَّنة في تصنيف الظواهر الاجتماعية-الثقافية دون أن تكون إطارًا مفارقًا لمادة البحث، علويًّا، أو قالبًا تبسيطيًّا مباشرًا مفروضًا. كما كانت الماركسية رؤيا للتاريخ، وسوسيولوجيا المعرفة منهجًا في التطبيق. ومن ثم برزت في نتائج البحث مجموعة من الثوابت والمتغيرات.

  • أولها: أنه ليست الحملة الفرنسية على مصر ولا حكم محمد علي هما محور «النهضة» التاريخي، بل هما من العوامل المساعدة. أما العامل الرئيسي فهو العنصر الداخلي الحاسم في التطور. هكذا كان الأمر في الانتفاضات المتعاقبة ضد الأتراك والمماليك السابقة على حملة بونابرت وحكم محمد علي بقرن ونصف، لم تنقطع خلالها وثَبات البدو (العُربان) والفلاحين (المصريين) والتي انتهت قبيل منتصف القرن الثامن عشر بجمهورية «شيخ العرب همام» الذي كاد يستقل بصعيد مصر.١١ وهكذا كان الأمر في الانتفاضات المتعاقبة ضد الإنكليز منذ هزيمة عرابي، إلى ثورة ۱۹۱۹م، إلى مرحلة الغليان في أربعينيات القرن الحالي، إلى ثورة عبد الناصر. والقوانين ذات الصلابة النسبية التي يمكن استخلاصها من هذا التاريخ الاجتماعي هي:
    • (١) أن عروبة مصر، سواء كانت حُلمًا إمبراطوريًّا عند محمد علي، أو نقطة في جدول أعمال الثورة العرابية، أو جرأة على التنفيذ عند عبد الناصر، تعني من زاوية الجغرافيا السياسية تأمين حدود مصر الاستراتيجية، وتعني تقدمًا في الأسس المادية لنهضة المجتمع. بينما إقليمية مصر تعني الهزيمة العسكرية والتخلف الاقتصادي والتبعية للأجنبي والانحطاط الفكري وتحالف الأوتوقراطية مع الثيوقراطية في إحكام القبضة الدكتاتورية على المجتمع. هذا ما حدث منذ نهاية محمد علي إلى نهاية عباس حلمي الثاني. وهذا ما حدث بهزيمة عرابي. وهذا ما حدث بسبب ضيق أفق ثورة ۱۹۱۹م. وهذا ما حدث طيلة الفترة التي انتهت بمعاهدة التهادن مع الإنكليز عام ١٩٣٦م. وهذا ما حدث بعد سقوط النظام الناصري.
    • (٢) أن البناء الطبقي للمجتمع المصري، كلما تأكدت مركزية الدولة، لا يسمح بالحروب الأهلية، بل يسمح فقط بالانقضاض على السلطان أو على الغزو الأجنبي. فقيادة المدينة للتطور وحصارها للريف لم يُتِحْ لتمردات الفلاحين في أي عصر أن تتخذ شكل الحرب الأهلية. كما أن السلطة المركزية الواحدة لم تسمح لأية فتنة طائفية أن تتخذ شكل الحرب الأهلية. ولكن قيادة المدينة والسلطة المركزية أتاحتا حروب خلع الحاكم والحروب الوطنية ضد الغزاة. والأوهام القائلة، بتفسيرات جغرافية سطحية، إن طبيعة مصر هي الوسطية، وأن طبيعة المصريين هي عبادة الشرعية، لا يتعمقون — إن حسنت النوايا — هذا العنصر الثابت في حياة مصر والمصريين، وهو التراب الوطني فهو يوجز الاستقلال والديموقراطية والعدل الاجتماعي، ومن يدنس هذا التراب يتعرض للخَلع إن كان حاكمًا وللمقاومة إن كان غازيًا. إن مفهوم «الوطن» عند مصر والمصريين هو الذي يحدد معنى اليمين ومعنى اليسار ومعنى النهضة ومعنى السقوط دون أي «اعتدال» أو وسطية.١٢
    • (٣) أن الديموقراطية تعني في التاريخ الاجتماعي للثقافة المصرية، دعم التيار الأكثر تقدمًا، فلم يلجأ إلى الاغتيالات والحرائق والتخريب إلا الأقليَّات السياسية، ولم تنهزم التجارِب الوطنية إلا حين فصلت الشكل السياسي عن المضمون الاقتصادي، وإلا حين تجاهلت التنمية الاجتماعية أو خَشِيَتها. فالجبهة، على صعيد العمل السياسي، من الثوابت التي أكدتها متغيرات التاريخ المصري من عصر محمد علي إلى عصر عبد الناصر. حين كانت تُولد كانت النهضة، وحين كانت تُوأد كان السقوط.١٣
    • (٤) أن أدوار الجيش والمثقفين والدين منذ عصر محمد علي إلى عصر عرابي إلى عصر عبد الناصر من أبرز الأدوار، سلبًا وإيجابًا، في قيادة النهضة وسقوطها. فلقد برهنت أحداث تاريخنا الحديث على أن الطليعة العسكرية هي التي تحسم التغيير وتحميه، وهي نفسها التي تنهزم أو تتخلف أو تسقط بفرضها المباشر وغير المباشر العسكريين والنظام العسكري على المجتمع. فباستثناء التجرِبة العرابية التي لم يُتح لها الاستمرار لتكون على المحك، كانت العسكرية العَلوية والعسكرية الناصرية هي صاحبة الفضل في التغيير وصاحبة الذنب في تجميده والانتكاسة به. كذلك المثقفون من علماء الأزهر وأساتذة الجامعات والمهنيين والطلاب، كانوا دومًا صوتًا متميزًا في حركات التغيير يكاد «الكاتب» منهم أو المفكر أن يكون حزبًا بمفرده. ولكن انتماءاتهم الاجتماعية، سواء إلى الأرستقراطية الناشئة في أوائل القرن العشرين، أو الطبقة الوسطى الناشئة في العشرينيات والثلاثينيات، أو البرجوازية الصغيرة المزدهرة في العقود التالية، في ظل مجتمع متخلف ومستعمَر وغير ديموقراطي، جعل النرجسية الفردية وأحيانًا الجماعية وازدواج الشخصية، من الأمور التي أدت بهم إلى التشرذم الفكري والتنظيمي، حتى أصبح ضربهم أو إغواؤهم أمرًا سهلًا. على أنهم في نهاية المطاف هم الذين قادوا فكر النهضة في مختلف العصور، كما أنهم قادوا حركة التنمية. وإن ظلت تصفيتهم، لعدم ارتباطهم العضوي بقاعدة جماهيرية راسخة، من أيسر القرارات.١٤

    وفي قضية الدين، كان الأزهر باستمرار معقل الثورة والثوار، ومعقل الثورة المضادة في الوقت نفسه، على غير النحو الذي مضت فيه الجامعات العلمانية. ولكن «الإصلاح الديني» ظل بندًا مهمًّا في جدول أي نهضة، من رفاعة الطهطاوي إلى محمد عبده إلى طه حسين إلى جيل أمين الخولي وخالد محمد خالد ومحمد خلف الله. وفي الطرف الآخر كان «الإخوان المسلمون» والفرق المتفرعة منهم والمنشقة عنهم ترفع راية الدين ضد التقدم. ولكن الأزهر يبقى قبلة المصريين المسلمين أكثر من الإخوان، كما هو حال «الكنيسة القبطية الأرثوذكسية» مع المسيحيين المصريين. ولا مجال في أية ثورة ثقافية مقبلة لاستبعاد «الدين» أو تجاهله فضلًا عن محاربته، بل مزيدًا من «الإصلاح الديني» وبدءًا من علمنة الأزهر — الخطوة الناصرية المعروفة — وانتهاءً بعلمنة الدولة والمجتمع، أي الدخول الجِدِّي في عصر تنوير عربي، لا في عصر تنوير غربي.

  • النقطة الثانية: في جملة الثوابت والمتغيرات هي الأمة. فالأمة ليست تعريفًا سابقًا على تكوُّنها، وشروطُها في بلد وفي مرحلة، ليست هي نفسها الشروط في بلد آخر وفي مرحلة أخرى. ليست هناك أمة ميتافيزيقية لكل الأديان أو كل البيئات أو كل الطبقات. كما أنها ليست حاصل جمع العناصر الثابتة التي تثمر أحيانًا عنصريات مختلفة كالعنصرية الطائفية أو العنصرية الإقليمية أو العنصرية القومية. ولكن هذا لا يفضي بنا إلى تعريف سلبي للأمة، فالتجرِبة الإنسانية في خطوطها العامة تمدنا بجملة عناصر رئيسية لتكوين أية أمة، كالمكونات التاريخية والمقومات المصيرية والإرادة أو الوعي الذي قد يبلور مصالح طبقية متعارضة والذي يشير أيضًا إلى دور الزمن.١٥ وفي هذا الصدد نستطيع أن نستخلص من السياق البالغ التشابك والتعقيد من عصر محمد علي إلى عصر عبد الناصر جملة نقاط:
    • (١) لقد عرَفت مصر «عصر الإحياء الحضاري» بمعنى البحث عن الجذور، ولكنه المعنى المختلف كثيرًا عن المدلول الأوروبي لهذا المصطلح. فإلى جانب دعوة لطفي السيد «مصر للمصريين» كان هو الذي ترجم اليونان. ولم تكن الدعوة «المتوسطية» عند طه حسين أو العقاد بعيدة عن الارتباط بالغرب، وأيضًا العودة إلى الكلاسيكيات اليونانية في الوقت نفسه عند طه حسين بالذات. وبينما كان التاريخ الفِرعَوني يلقى صدًى عميقًا في دعوات عبد العزيز فهمي وعبد القادر حمزة ومحمود عزمي وسلامة موسى، كان حماسهم للغرب صوتًا لا صدًى. والإصلاح الديني عند محمد عبده هو العودة إلى الينبوع، أي الإسلام، ولكن دون مساس بمنجزات العصر التكنولوجية. والدعوة السلفية ذاتها تتخذ من الإسلام أيديولوجية. أما الحضارة الحديثة فهي قابلة للاستهلاك المادي لا للتفكير العقلاني. والدعوة العلمية لدى البعض تعني العلم الطبيعي وليس المنهج العلمي. ولقد أدى ذلك كله إلى نشأة الازدواجية الساكنة منذ عصر الطهطاوي، كبديل للتفاعل الديناميكي، سواء بين الإسلام والغرب، أو بين مصر وحضارة البحر الأبيض المتوسط، أو بين مصر وجذورها الفِرعَونية، أو بين مصر والإسلام. ومصدر ذلك أن ثقافة النهضة في خطوطها العامة كانت انعكاسًا ذهنيًّا للخارج (سواء كان الخارج هو الغرب أو مصر القديمة ذاتها أو الإسلام) وليست احتياجًا موضوعيًّا للواقع الاجتماعي.
    • (٢) أن «الخصوصية» في حياة المصريين هي تركيب تاريخي-اجتماعي، وليست خريطة جغرافية إلا فيما يخص الجغرافيا السياسية والأمن الاستراتيجي.١٦ إنها خصوصية تاريخية بمعنى أن الطبقات الحضارية للفراعنة واليونان والرومان والمسيحية والإسلام والأتراك والفرنسيين والإنكليز ليست رواسب حجرية في الوجدان المصري، بل عناصر حية متحركة، بفاعلية التغير المستمر لقوى الإنتاج وقيمه الاجتماعية، ومدى ارتباطها أو انفصالها بفكرة «الوطن» التي قال بها الطهطاوي وأعاد تفسيرها النديم وكاد يحققها عرابي وأنكرها سعد زُغلول وتحققت في زمن عبد الناصر وهُزمت أيضًا. وهي الفكرة «القومية» التي ارتبطت تاريخيًّا بظهور الإسلام ثم تطورت حضاريًّا بالفتح العربي لمصر فتوفرت لها — على مدى ثلاثة عشر قرنًا — عصور كاملة من الازدهار والانتكاس، ولكنها المتداخلة دومًا في السلم والحرب وفي الاقتصاد والسياسة بحيث تشكلت مع «الزمن» مكونات تاريخية: (أ) تربط مصر بالمحيط العربي مشرقًا ومغربًا وجنوبًا. (ب) ولا تفصلها عن البحر المتوسط والغرب شمالًا. (ج) ولا تجعل وحدة العقيدة الإسلامية مبررًا للرابطة القومية، بل تخوض الأقطار العربية كلها في أزمنة متقاربة حروبًا متصلة ضد الهيمنة العثمانية والخلافة. وهكذا تولدت نواة المقومات المصيرية الراهنة منذ أواخر القرن الماضي إلى اليوم، رفقة النضال العربي المشترك ضد الاستعمار الغربي والسلطنة التركية، ثم المشروع الصهيوني. وهي الخصائص النوعية التي أدت إلى «إرادة الوعي» عند العرب، بما فيهم المصريون، من أن الوحدة القومية هي ثمرة تاريخ النهضة، وأن التجزئة كانت على مر تاريخهم الوسيط والحديث هي الترجمة السياسية للسيطرة الأجنبية، سواء كانت إسلامًا عثمانيًّا حوَّلها إلى دويلات طائفية، أو استعمارًا غربيًّا كرسها بالمساهمة في سلخها من إمبراطورية الرجل المريض (تركيا) ووصاية الرجل القوي عليها (فرنسا وبريطانيا). ولم تكن صدفة تاريخية أنه ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى كانت أبرز متغيراتها هي إدخال المشروع الصهيوني إلى حيز التنفيذ على أرض فلسطين، ليحل استراتيجيًّا بشكله الإجلائي الاستيطاني محل الاستعمار التقليدي، دون تغيير للهدف، وهو الحيلولة دون وحدة العرب ومطاردة مصر إلى داخل حدودها بغزو هذه الحدود واحتلال الأرض مباشرة. ولكن «إرادة الوعي» القومي ليست مجرد حصيلة سيكولوجية من مكونات التاريخ ومقومات المصير، بل هي تجسيد طبقي أولًا. ومن ثم فهي إرادات متعارضة، أو هي وعي متعدد الأطراف والنقائض. فالتاريخ المضاد أيضًا، أي تاريخ عصور الانحطاط التي بلغت أكثر من ستة قرون من التجزئة والتخلف، قد كوَّن ماديًّا مصالح إقليمية لبعض الأطراف الاجتماعية داخل كل قطر عربي على حدة، كما كوَّن شعوريًّا وعيًا ناقصًا لدى مجموع الشعب بانتمائه القومي. وبعد الاستقلال السياسي عن تركيا والغرب كان «الأمر الواقع» هو التجزئة والمصالح الطبقية المتعارضة في قضية الوحدة القومية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن نشأة الدعوة القومية في تاريخ العرب الحديث تختلف جذريًّا عن نشأة القوميات الأوروبية، وعن ملابسات الوحدة القومية في بلدان كألمانيا وإيطاليا. كانت الأمة العربية مقهورة تحت سطوة الاحتلال الأجنبي والتخلف حين أدركت عصر إحيائها. ولم تكن قومية مزدهرة تبحث عن الأسواق. وكانت أمة متخلفة عن مكتشفات العصر الحديث، فلم تلتقِ بها إلا عبر هزيمتها أمام بونابرت. وظلت تناضل تركيا والغرب حتى بدأت رحلة استقلالها من خضم الحرب العالمية الثانية، فلم تُفِقْ حتى كان «الكِيان الصهيوني» يشق موقع القلب منها، واستمرت تحت سيطرة القهر الأجنبي إلى الآن، وهي السيطرة التي منعتها من إحراز استقلالها الاقتصادي وتنميتها الاجتماعية، وكونت مصالح طبقية متعارضة. فلم تعد الوحدة القومية «شعورًا» أو «رغبةً» أو «رمزًا»، بل ترجمة سياسية لمشروع الاستقلال الوطني والتنمية الاجتماعية. وهما أمران يتعارضان، في هذه الفكرة أو تلك، مع المصالح المباشرة لبعض الطبقات والنظم السياسية. وهي المصالح التي قد تجد غطاء شعبيًّا لها من «الوعي الناقص» لدى الجماهير — في مصر مثلًا — بالأهداف الحقيقية للوحدة القومية.
  • النقطة الثالثة: هي اختصار الأزمنة الأوروبية — كواقع وكضرورة وكنتيجة — في زمن عربي له سياقه التاريخي المختلف نوعيًّا ومستواه في التطور المختلف كيفيًّا. إن محاولة اختزال عصر النهضة، وعصر التنوير، والانقلاب الصناعي الأول، والثورة البرجوازية، وعصر الذرة، والانقلاب الصناعي الثاني، والعصر الإلكتروني، في مائتي عام من الزمن العربي دون مشاركة إبداعية في «إنتاج» الحضارة الحديثة قد ترك بصماته ومفارقاته الاجتماعية والثقافية. ترك مثلًا «الثنائية» في الفكر العربي الحديث دون «الجدل». وترك العناية بالمظهر الاستهلاكي للتكنولوجيا دون «الفكر» الذي يبطنها. وترك «الإحياء» في الشعر مثلًا يرتكز على بعث القصيدة الجاهلية، بينما كان «الإحياء» في النثر هو الانتقال من عصر المَقامة إلى قوالب القصة الأوروبية والمسرح. وليست صدفةً فنية أن يكون «تخليص الإبريز» للطهطاوي و«علم الدين» لعلي مبارك و«حديث عيسى بن هشام» للمويلحي محورها اللقاء الشرقي المبهور من الغرب. كما أنها ليست صدفةً فنية أن يكون «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم إلى «قِنديل أم هاشم» ليحيى حقي هي الانبهار المضاد الذي يؤدي، في رد فعله العنيف، إلى النقيض المتطرف، أي العودة إلى التخلف. ومن هذه المظاهر أيضًا ذلك التناقض أحيانًا بين الوعي والمصلحة الاجتماعية، حتى إن عبد الخالق ثروت باشا يقف عام ١٩٢٦م إلى جانب قضية العقل في معركة «الشعر الجاهلي» لطه حسين، بينما يقف سعد زُغلول قائد الثورة إلى جانب العاطفة السلفية للمحافظين.
  • والنقطة الرابعة: هي الفرق الجوهري بين المسيحية الغربية والإسلام العربي، وانعكاس هذا التباين على موقف العقل العربي من معنى النهضة. إن السياق التاريخي-الاجتماعي الذي قاد «النهضة الأوروبية» إلى «نقد السماء» يختلف عن السياق العربي الذي اتجه إلى «نقد الأرض». وعصر التنوير الذي رافق الكشوف العلمية التي طوت أساطير الكنيسة يختلف عن السياق العربي الذي يستعيد أمجاد المسجد والحضارة البكر للإسلام. هذا السلاح ذو الحدين في معركة النهضة العربية الحديثة. ومن هنا كانت العلمنة والديموقراطية والتحولات الاجتماعية في مصر والوطن العربي تحتاج إلى معايير وضوابط مختلفة كل الاختلاف عن مقاييس التقدم الغربي، مع استفادتها القصوى من منجزاته التي تقبل التعميم في الفكر والتطبيق.١٧
  • النقطة الخامسة: هي أن مصر التي تنتمي مجازًا إلى ما يسمى بالعالم الثالث وَفقًا لمعدلات التنمية الدولية لها خصوصيتها في الانتماء القومي والحضاري. إنها قوميًّا تنتمي إلى محيطها العربي ذي الوضع الاستثنائي عالم اليوم بازدواجيته المروعة بين الثراء بالطاقة والتخلف الاجتماعي. وهي حضاريًّا، وبحكم موقعها الاستراتيجي، تتميز عن مختلِف أقطار الوطن العربي بأرفع مستويات التطور، لما اكتسبه هذا الموقع الاستراتيجي عبر العصور من أغنى التفاعلات مع الحضارات المتعاقبة.١٨
  • والنقطة السادسة والأخيرة: يبدو فيها أي إبداع للثورة الثقافية في مصر المعاصرة ممكنًا حين تصبح الاشتراكية علاجًا حضاريًّا لإنقاذ النهضة، وحين تصبح الديموقراطية أساسًا اجتماعيًّا لهذه الاشتراكية بمحاورة مركزية الدولة القديمة من مواقع التسيير الذاتي — اقتصاديًّا وإداريًّا — في الأقاليم، وبمحاورة الريف من مواقع توزيع الأرض لا ملكية الدولة، وتحديث الزراعة لا «الإشراف التعاوني عليها»، وبمحاورة الجهاز البيروقراطي من مواقع الديموقراطية النقابية والمهنية لا بموجب «الثورة الإدارية».

وكما أن البرجوازية «الوطنية» لم تستطع إنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية في مرحلة التبعية الاستعمارية، وكذلك البرجوازية الصغيرة لم تنجز مهام التحول الاجتماعي في زمن الاستقلال، فإن الجبهة الوطنية الديموقراطية العريضة هي المرشحة تاريخيًّا واجتماعيًّا لإنقاذ النهضة من براثن السقوط الراهن، أي تصحيح التاريخ.

هوامش

(١) يعود الفضل إلى ميشيل كامل، المفكر الماركسي المصري، في كونه أول من تنبه بين الكتاب اليساريين المصريين إلى أهمية الخصائص النوعية للبرجوازية المصرية الصغيرة. وكان قد دار في سجون مصر ومعتقلاتها بين عامي ٦٠ و١٩٦٢م حوار في صفوف الشيوعيين المصريين حول تقرير للرفيقين فريد وعاصم (وهما اسمان مستعاران في ذلك الوقت لقائدين ماركسيين هما محمود أمين العالم وإسماعيل صبري عبد الله) وردت فيه عبارة حول الطبيعة الاجتماعية للبرجوازية المصرية الصغيرة، وهل هي أدنى شرائح الطبقة الوسطى، أم أنها طبقة كاملة. وأثبت كاتبَا التقرير في هامشٍ أنهما مختلفان حول هذه النقطة. وأقبلت دراسة ميشيل كامل (في مَجلة «الطريق» اللبنانية، عدد يناير (كانون الثاني) عام ۱۹۷۰م) كعمل رائد في مجال التحليل الاجتماعي لظاهرة البرجوازية الصغيرة في مصر من حيث نشأتها الاقتصادية وتطورها السياسي، أي من حيث دورها في عَلاقات الإنتاج ووظيفتها في حركة السلطة والمجتمع، منذ احتل الإنتاج السلعي الصغير مكانًا بارزًا في مصر عند نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، إلى الانتعاش المؤقت الذي رافق هذا القطاع أثناء الحرب العالمية الثانية. ولكنه ما لبث أن تدهور في ظل التطور السريع لمنشآت الطبقة الوسطى الصناعية. غير أن حجم هذه الفئة قد كبِر واتسعت قاعدتها الاجتماعية بعد ثورة ١٩٥٢م نتيجة إصدار قوانين الإصلاح الزراعي، وتمصير المصالح الاجتماعية، ثم تأميم بعض أجنحة الرأسمالية الكبيرة، وتنفيذ مشروعات التنمية، وإقامة القطاع العام، والتوسع في الخدمات، وخاصة التعليم المتوسط والعالي، وسياسة تشغيل جميع الخريجين، وكذلك تعاظم حجم القوات المسلحة وتيسير الالتحاق بها على أبناء فئات واسعة في مواجهة الاعتداءات الاستعمارية والإسرائيلية المتكررة.
وقد حدد ميشيل كامل في دراسته مجموعة العوامل التي صاغت مسيرة هذه الطبقة، كغلبة أسلوب الإنتاج السلعي الصغير على الأنماط الأخرى من العَلاقات الإنتاجية، وضعف النمو الرأسمالي التقليدي، وتفجر الحركة الوطنية في أعقاب الحرب الثانية، وانتشار هذه الفئة في الريف والمدينة وخروج الغالبية العظمى من المثقفين من صُلبها، حيث يتزايد نموهم وتأثيرهم في شعب تبلغ نسبة الأمية بين طبقاته الدنيا حوالَي ٧٥ في المائة، ويحظى المتعلمون في مثل هذا المجتمع باحترام متميز. وتابع الكاتب هذا التكوين التاريخي-الاجتماعي متابعة سردية تعتمد الوقائع الاقتصادية أساسًا للتوصيف السياسي. فالتحليل الأيديولوجي القائل — كلاسيكيًّا في الأدبيات الماركسية — بأن مثل هذا التركيب لإحدى الطبقات يقودها إلى اللقاء بالجماهير والخوف منها في الوقت نفسه حفاظًا على أسلوب «الملكية الخاصة». ولكن الكاتب لا يقتصر على هذا التحليل، بل يتوجه بتفسير «الاكتشاف البرجوازي الصغير» لما يسمى بالطريق الثالث بين الرأسمالية والشيوعية، باسم القومية حينًا، وباسم الدين حينًا، وباسم الانبثاق عن واقعنا حينًا ثالثًا. هذا الاكتشاف الذي عبرت عنه البرجوازية المصرية الصغيرة وهي في موقع السلطة قبل غيرها ليس أكثر من «اختيار أيديولوجي» يجسد الذبذبة والتردد الشديدين اللذين ينتهيان بها عادة إلى إحدى خاتمتين: إما السقوط والهزيمة أو الارتماء في أحضان العدو الطبقي والقومي. لذلك فهي تضع قاموسها الجديد في الاقتصاد السياسي هكذا: هناك رأسمالية غير مستغلة، هناك قوًى، لا طبقات، اجتماعية. كما أنها تخترع أسلوبها التنظيمي في «تحالف قوى الشعب العامل»، ذلك التنظيم السياسي المنفرد بالحكم، والذي ينفي أية معارضة منظمة خارجه ولا حتى داخله. فكم مرة حُلَّت منظماتُ الشباب التابعة للاتحاد الاشتراكي في مصر ودخل أعضاؤها السجون، وكم من مرة أُقصِيَت بعض العناصر القيادية عن مواقعها لكونها تعارض أسلوبًا أو قرارًا.
وقد تابع ميشيل كامل تصوراته عن البرجوازية المصرية الصغيرة، وزادها تأصيلًا في مداخلته بندوة لوفان المنشورة بعنوان «نهضة العالم العربي» بالفرنسية. وقد صدر من الكتاب طبعتان: إحداهما في بلجيكا والأخرى في الجزائر. وهذه الأخيرة هي التي أعتمد عليها هنا (من ص٣٦٦ إلى ص٤٢٦). إن ما يوجزه الكاتب السياسي في مقولات اقتصادية-اجتماعية عن البرجوازية الصغيرة في مصر يمكن استكشاف ملامحه البشرية في أغلب أعمال الروائي المصري نجيب محفوظ، بل وفي أسلوب هذا الروائي بالذات. ويمكن الاستنتاج بشكل عام أن «البطل البرجوازي الصغير» في الحياة المصرية تكمن مأساته من قبل أن يولد في حالة الفِصام داخله كفرد وكنسيج اجتماعي وكدور في عَلاقات الإنتاج وكوظيفة سياسية. وليس صحيحًا أن ما يسمى خطأً بالاعتدال المصري يجد جذره التاريخي في بناء هذه الطبقة. وكل ما نستطيع الحصول عليه من انعكاسات لهذا الفِصام هو «الوسطية» في نقد المطْلَقات والتطرف في نقد النسبيَّات. البرجوازيون المصريون الصغار يتلقفون «الثنائية الساكنة» في فكر النهضة الأولى والثانية لنقد الدين من موقع وسطي يدعم النمط الديني في النهاية. وليس صدفة مثلًا هذا السيل المنهمر من المؤلفات «اليسارية» المصرية حول الإسلام ومحاولة تجنيده لخدمة الاشتراكية بالتعسف في تفسير بعض الآيات أو الأحداث أو الرجال. وهي من ناحية العلم محاولة غير علمية؛ لأنها تعمم ما لا يقبل التعميم وتنفي السياق التاريخي. إن تقييم التراث الإسلامي أو الديني عمومًا بوضعه في سياقه التاريخي-الاجتماعي عمل مشروع ومطلوب دائمًا. ولكن فرض المصطلح المعاصر عليه لا يخدع «المؤمنين» ولا ينفع غيرهم. ولكن هذه «الوسطية» تختفي تمامًا حين لا يتعلق الأمر بالسماء، بل بنقد الأرض، فيصبح البرجوازي المصري الصغير يمينيًّا متطرفًا (الإخوان المسلمون – مصر الفتاة – التكفير والهجرة) أو يساريًّا متطرفًا يرى في الحكم الناصري نظامًا فاشستيًّا أولَ الأمر ثم يحل تنظيماته المستقلة وينصهر في النظام الناصري آخرَ الأمر، أو وطنيًّا متطرفًا يعتمد الفوضوية بغير معناها في الفكر الأوروبي، بل من حيث هي أسلوب مضاد للتنظيم ويعتمد الإرهاب والاغتيالات الفردية. على صعيد الفكر والفن سوف نلاحظ مثلًا طرازًا من الأدباء المصريين كتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس كانوا بعيدين عن الانتماء الحزبي السابق على ثورة ١٩٥٢م بدعوى فساد الديموقراطية، ولكن الأول في مسرحيته «شجرة الحكم» المأخوذة عن «اجتماع النساء» لأرستو فانيس، والثاني في الرواية-الفانتازيا «أرض النفاق»، والثالث في روايته المهمة «في بيتنا رجل» يقولون شيئًا واحدًا: اللعنة على الديموقراطية والبحث عن المستبد العادل. وليست صدفة أن يكون هؤلاء بالذات من أعمدة البناء الجديد لنظام ناصر، حتى ولو تناقضوا معه.
نرجسية البرجوازية الصغيرة ليست فردية بالمعنى البرجوازي الأوروبي، ولا المعنى المعروف عند الطبقات الوسطى في بلادنا. إنها الغطاء النفسي-الاجتماعي لمرض الفِصام الداخلي. على الصعيد الجماعي هي نرجسية قومية أو دينية، ولكنها في الحالين شوفينية. ومن المثير للانتباه في مسيرة البرجوازية المصرية الصغيرة أنها وهي تغطي فِصامها بالنرجسية، تقع في مصيدة ازدواج الشخصية بين الوجه والقناع. على صعيد الفرد يمارس الطقوس الدينية وهو قوَّاد أو مختلس أو تاجر مخدِّرات دون أي إحساس بالذنب أو التناقض، بل تحت شعار له نفوذ فولكلوري واسع هو «ساعة لقلبك وساعة لربك»، له مغزاه أيضًا. على صعيد العمل الوطني هي أكثر الفئات عداءً عنصريًّا لليهود وأكثرها ارتماءً تحت أقدام الدولة العبرية، وهكذا.
في كتابه عن اليسار الجديد «مع من وإلى أين» يقول الباحث السوفييتي «ف. بولشاكوف» في الفصل الأول — النقطة الخامسة — تحت عنوان «البرجوازية الصغيرة بين الرأسمالية وحثالة البروليتاريا»: «أثناء فترات الضعف والأزمات الاقتصادية، فإن رجل الأعمال الصغير يجري بين اليمين واليسار، متعلقًا بالصرخات النازية عن القانون والنظام» (ص۷۷ من الطبعة العربية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ۱۹۷۷م). وإذا كان المؤلف السوفييتي يتكلم عن الوضع في غرب أوروبا المتطور، فإن هذا الكلام يصدق أيضًا على الوضع في مجتمعنا المتخلف بتعديل بسيط هو: أن البرجوازية المصرية الصغيرة في مصر مثلًا تكرس فوضى التنظيم ما دامت خارج الحكم أو القاعدة الاجتماعية للنظام، وتتحول إلى الأسلوب النازي بمجرد وُثُوبها إلى السلطة وتَمَتْرُسها خلف الحِراب.
مأساة البرجوازية الصغيرة في مصر، بنهضتها وسقوطها معًا، ليست هي التراجيديا المصرية ولكنها جزء جوهري وأصيل من هذه التراجيديا، خاصة وأن بصمتها الفكرية على الثقافة العربية المعاصرة هي أكبر البصمات التي يمكن اكتشافها مهما تخفت في الألوان من أقصى درجات الأسود والأزرق والأخضر إلى أقصى درجات الأحمر. وهي بصمة لها قيمتها في ما انتجته هذه الطبقة العريقة التي اهتمت بالثقافة — كشهادة ميلاد طبقية — اهتمامًا استثنائيًّا.
(٢) باستثناء نابليون بونابرت الذي حاول إدخال نوع من الليبرالية في الحياة المصرية باستحداثه شكلًا وزاريًّا ودستورًا أوليًّا وما يشبه البرلمان (راجع الجزء الأول من كتاب لويس عوض: تاريخ الفكر المصري الحديث — الخلفية التاريخية — ص۱۰٤، ۱۰٥، ١٠٦؛ وكذلك كتاب «بونابرت في مصر» لكريستوفر هيرولد؛ وكتاب «فتح مصر» لأحمد حافظ عوض).
(٣) هنا لا بد من الإشارة إلى رأي أحد الخصوم الفكريين لنظام عبد الناصر، هو لويس عوض. ففي كتابه «أقنعة الناصرية السبعة» (دار القضايا، بيروت، ۱۹۷٥م) يخصص الفصل السابع لهذه القضية تحت عنوان «تصدير الثورة» فيقول: «كانت ثورة عبد الناصر ثورة تحريرية أكثر منها توسعًا إمبراطوريًّا» (ص۱۱۰) ثم يرجح «أن الثورة المصرية في ١٩٥٢م كانت صاحبة رسالة أقرب إلى رُوح الإنسانية وأدعى إلى تقدمها من كافة النظم العربية التي كانت محيطة بها. بهذا المعنى كانت الثورة المصرية واجبة التصدير إلى العالم العربي» (ص١١٤). ولكن لويس عوض يفرق بين الوجوب والإمكان فيقول أيضًا: «كان تصدير الثورة المصرية خطأً؛ لأن عبد الناصر لم يكن يسيطر على أعداء ثورته في الداخل» (ص١١٦). كما لا بد من الإشارة إلى رأي أحد القريبين من عبد الناصر ونظامه في إحدى الفترات، هو أمين هويدي، ففي كتابه «حروب عبد الناصر» (دار الطليعة، بيروت، ۱۹۷۷م) يخصص الفصل الثالث لهذه القضية تحت عنوان «حرب اليمن ١٩٦٢–١٩٦٥م» فيقول: «إن البعض يتحدث دائمًا عن تدخل مصر في حرب اليمن، ولا يتحدث إطلاقًا عن التدخل السعودي، علمًا بأنه من الثابت أن التدخل السعودي بدأ منذ اللحظات الأولى لقيام الثورة، مع فارق كبير بين هذا التدخل وذاك. فإن كانت مصر قد تدخلت بناء على طلب من الطليعة الثورية اليمنية التي كانت تمثل مطالب شعب اليمن ضد حكم الطغاة، تدخلت السعودية إلى جانب الإمام الذي ذاق الشعب اليمني حياة الذل والامتهان تحت حكم آبائه وأجداده» (ص۱۲۷) «ولم تكتف السعودية بذلك فأخذت تستأجر الجنود المرتزقة بأجور خيالية لتدفع بهم إلى داخل اليمن»، «وأخذت الولايات المتحدة تمد السعودية بالسلاح الوفير لتغذي حرب العرب ضد العرب» (ص۱۲۸) و«كانت بريطانيا تنفذ دورها في المخطط بنشاط مكثف فأخذت تدير شبكات التجسس من عدن ضد اليمن في حماية السلطات البريطانية هناك» (ص۱۳۰). في مواجهة هذا الدور العربي والدولي ضد شعب اليمن «اتجهت مصر بكل قواها لإنشاء جهاز للدولة لأول مرة في تاريخها.» كانت الأمور قبل الثورة لا تتجاوز سلطة الإمام الفردية بأسلوب القرون المظلمة في الإدارة «فأنشأت هيئة عليا للموظفين … ووُضِع قانون ينظم عملية التوظف» (ص۱۳۲) «ووُضِعت ميزانية للدولة لأول مرة في تاريخها الطويل»، «وأنشئ الجيش اليمني وسُلح بالأسلحة الحديثة»، «ثم وُجهت العناية لإنشاء المدارس والمستشفيات والطرق وتحسين الموانئ وإنشاء المطارات وبدأت حركة العمران تأخذ طريقها إلى الوجود» (ص۱۳۳). وقد انسحب الجيش المصري ذات يوم من اليمن، ولكن القرن العشرين كان قد وُلد تحت سماء هذا القطر العربي، وتركزت دعائم الجمهورية الوليدة.
والأمر يختلف إلى حدٍّ، لا بشكلٍ مطلق، عن فتوحات محمد علي. وربما كان جورج أنطونيوس في كتابه «يقظة العرب» هو أول من وصف هذه الفتوحات بالإمبراطورية، ففي معرِض حديثه عن انتصارات محمد علي وابنه إبراهيم باشا في المشرق يرى أن هذه الانتصارات جعلت صلتهما بالعالم العربي «صلة وثيقة، وأصبحت تتراءى لهما — وهما اللذان لا يمتان إلى العروبة بنسب — رؤى إمبراطورية عربية يطمحان إلى تأسيسها وإقامة أركانها» (ص۸۳ من الترجمة العربية، والكتاب موضوع أصلًا في الإنكليزية عام ۱۹۳۹م وأعيد طبعه عام ١٩٤٥م بعد وفاة المؤلف عام ١٩٤٢م). والذي يؤكد الطابع الإمبراطوري لفتوحات محمد علي هي أنه لم يتورع عن التدخل في أحداث اليونان منذ إرساله قوة لاحتلال جزيرة كريت عام ۱۸۲۲م إلى استيلائه على أثينا عام ۱۸۲٤م. وكان تدخلًا معاديًا للثورة اليونانية على السلطنة التركية. ولكنه عام ١٨٣٢م كان جيشه هو الذي فرق القوات التركية بالقرب من حمص، وكاد إبراهيم باشا يواصل طريقه نحو القسطنطينية. ومعنى ذلك أن فكرة «الفتح الإمبراطوري» هي التي سادت على طموحات محمد علي، سواء كانت فكرة حضارية أرست مثلًا قواعد الحكم والإدارة في السودان (۱۸۲۰م) وطهَّرت البحر الأحمر من أعمال القرصنة، أو كانت فكرة استعمارية تبطش بثورات الأقطار الأخرى كالثورة اليونانية. وسواء كانت أيضًا فكرة «عربية» تفتح شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام أو فكرة «غازيَة» لا تعرف حدودًا للغزو. ومن المهم التركيز هنا على أن محمد علي وابنه لم يكونا عربيين، ولكن من المفيد التفرقة بينهما بعد ذلك على الفور. فمحمد علي كان يستهدف إقامة «الإمبراطورية» في ذاتها، بينما كان إبراهيم يريدها قاعدة لتأسيس النهضة العربية الجديدة. وفي هذا الصدد يؤكد جورج أنطونيوس أن إبراهيم باشا أيقن «أن الإمبراطورية التي يحلم بها أبوه ستكون دعائمها أثبت إذا قامت على أساس النهوض بالعرب وإيقاظهم» (ص۹۰ من كتابه المذكور). وتأييدا لهذا الرأي يستشهد المؤرخ العربي بكتاب «بعثة البارون بوالكمونت» (تأليف ج. دوان، القاهرة، ۱۹۲۷م) الذي جاء فيه أن إبراهيم قال: «لقد جئت مصر صبيًّا فلوَّنت شمسُ مصر دمي وصيَّرتني عربيًّا» وأنه لم يكن يخفي عزمه على إحياء الوعي القومي العربي واستعادة القومية العربية وغرس رُوح الوطنية الصميمة في نفوس العرب واشراكهم «إشراكًا كاملًا في حكم إمبراطورية المستقبل» (ص۹۰ من الكتاب ذاته). وقد بذل إبراهيم — كما يقول جورج أنطونيوس — أقصى الجهد في نشر أفكاره عن نهوض العرب نهضة قومية. وكثيرًا ما كان في بياناته العسكرية يستخدم ألفاظًا حماسية تُذكِّر بعصور المجد والفخار في التاريخ العربي، «وحين تولى الحكم كان من أول ما عُني به إقامة جهاز جديد للحكم، واستحدث نظامًا للضرائب والقضاء والتعليم وحماية القانون والأمن، واستطاع في زمن لم يتجاوز عامًا أن يقيم نظامًا جديدًا يعتمد على المساواة في الحقوق الدينية والمدنية، وعلى ضمان الأرواح والممتلكات، وهو أمر لم تعرفه بلاد الشام منذ أيام الحكم العربي في دمشق» (ص۹۱). ولكنه تنفيذًا لأوامر أبيه فرض ضرائب جديدة وقرر التجنيد الإجباري ونزع السلاح من الأهالي، مما سهل رحيله عام ١٨٤٠م عن بلاد الشام بلا صديق «بين هؤلاء السكان الذين رحبوا بمَقدَمه قبل ثماني سنوات، واعتبروه محررهم» (ص۹۲). ويحدد جورج أنطونيوس أسباب انكسار الحلم الإمبراطوري لمحمد علي في معارضة بريطانيا وضعف الوعي القومي عند العرب (ص٩۳ و٩٤ و٩٥)، وفي أن المشروع قد تبناه رجلان غير عربيين. وإذا كان السبب الأول والأخير صحيحين فإن السبب الثاني ليس وجيها تمامًا؛ لأنه يبقى الفرق الكيفي الخطير بين «الإمبراطورية» و«وحدة الأمة العربية»، وهو الفرق التاريخي بين محمد علي وجمال عبد الناصر. ولقد كانت «النتيجة» متشابهة لاتفاق العصرين في معارضة الغرب لأية وحدة قومية للعرب، وبرغم أن عبد الناصر كان أول عربي صميم من تراب مصر يقيم أركان الدولة الجديدة. ويبقى القاسم الاستراتيجي المشترك بين المحاولتين هو «مصر» ذاتها التي تجد خلاصها الحضاري في الارتباط العضوي بمحيطها القومي من المشرق إلى المغرب فتُحقق أمنَها واستقلالها وقيادتها للمنطقة ويتألق دورها العالمي، والتي تنهزم وتشرف على الهلاك كلما انكفأت على النفس بين حدودها الإقليمية.
(٤) هنا سوف نقرأ باهتمام الجزء الأول من دراسة أنور عبد الملك «دور الجيش في التاريخ المصري» التي ضمَّنها كتاب «الجيش والحركة الوطنية» المؤلَّف تحت إشرافه لفريق من الباحثين في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا عام ۱۹۷۱م والمترجم إلى العربية (دار ابن خلدون، بيروت، تاريخ النشر غير مُثبَت)، حيث يقول: «انطبعت اليقظة القومية لمصر بطابع أسماء ثلاثة: الأول أحمس مؤسس الأسرة الثامنة عشرة (١٥٨٠–١٥٥٧ق.م) ومحرر مصر من نِير الهكسوس، ويبدو أنه هو الذي أوجد أول جيش وطني مصري. أما الثاني فهو تحوتمس الثالث (؟–١٤٤٧ق.م) الذي واصل النضال وكوَّن لمصر الفرعونية إمبراطوريتها في أفريقيا وآسيا. أما الأخير فهو رمسيس الثاني (۱۲۹۲–۱۲۲٥ق.م) وكان مخطِّطًا استراتيجيًّا وسياسيًّا كبيرًا رعى الإمبراطورية وحافظ عليها.» بعد ذلك يقول أنور عبد الملك: «كان فقدان الجيش المصري لهويته القومية في ظل بسماتيك يمهد للاجتياحات الكبيرة الفارسية واليونانية والرومانية» (ص٦٩ و٧٠ من الترجمة العربية).
نستطيع أن نضيف إلى هذا السرد الذي سنكتشف أهميته بعد قليل، أن بسماتيك — مؤسس الأسرة السادسة والعشرين وحكم مصر بين ٧١٢ و٦٦٦ق.م — نظر إلى هرم خوفو وفكر في استعادة مجد الأسلاف، فأحيا الشعائر القديمة وطالب بدراسة نصوص الديانة القديمة وبنهضة الفنون على مثال الأساليب القديمة. كان شعاره «عودوا إلى القدماء.» ويعلق سلامة موسى (۱۸۸۷–١٩٥٨م) أحد رواد الفكر المصري في نهضته الحديثة بكتابه «ما هي النهضة» (مكتبة المعارف، بيروت، ١٩٦٢م. أما طبعته الأولى فقد صدرت في مصر عام ۱۹۳٥م عن مطبوعات المَجلة الجديدة) قائلًا: «كان هذا شعاره، وكان شعار الإفلاس؛ لأن مصر كانت في عصره أسمى مما كانت أيام خوفو كما يمكن أن نعرف ذلك مما قام به خلَفُه نيخاو الذي هيأ سفنًا تدور حول أفريقيا. أين بناء الأهرام من مثل هذا العمل العظيم؟ إن ظروفًا جديدة نشأت في الدنيا المحيطة بمصر، وكانت تحتاج إلى استنباط جديد، ولم تكن تحتاج إلى الوراء نحو ٢٥٠٠ سنة تقريبًا. ولم تمض على مصر بعد ذلك مائة سنة حتى كان الأعداء من الآشوريين والفرس يكتسحونها ويغتالونها. ولم ينفعها شعار: عودوا إلى القدماء» (٦و٧).
ماذا نستخلص من هذه الوقائع المأخوذة من تاريخ مصر القديم، سوى أنه في وقت بالغ التبكير اكتشف المصريون حدودهم القومية خارج الحدود الإقليمية لوادي النيل. وسواء كان الفتح الإمبراطوري تجاريًّا أو حضاريًّا فإن «الأمن» هو البوابة الحقيقية للحدود، بانهيارها ينهار استقلال مصر وسيادتها، فلنتأمل هذه الحقيقة الموغلة في القدم: لا حل «أمني» وسط لمصر، فهي إما مرتبطة على نحوٍ ما بمحيطها، وحينذاك فهي مصر القوية والقائدة، وإما أنها منعزلة، وحينذاك فهي مصر المحتلة المقهورة. الفتح العربي الإسلامي لمصر، في هذا السياق، هو المبادرة الاستثنائية القادمة من خارج الحدود الإقليمية لتسترد مصر، بل ولتدفعها إلى تصحيح التاريخ. وليس من سبيل لتفسير تعريب مصر واستقرار هذا التعريب لآماد طويلة متصلة، إلا بأن المصريين اكتشفوا ذاتهم في الحضارة الجديدة، الذات المفقودة تحت سنابك الخيول الرومانية، اكتشفوا «الوجود الآمن المستقل». وليس من وليس من المستغرب أن تصبح القاهرة — بعد دمشق الأُموية وبغداد العباسية — هي معقل الأزهر وقائدة الفكر العربي الإسلامي حتى بداية فجر النهضة الحديثة التي واكبت بدورها تأسيس الدولة المصرية الحديثة بزعامة محمد علي وانفتاحه الإمبراطوري على المشرق. ثم كان محمد عبده عند نهايات القرن الماضي رائد الإصلاح الديني في الفكر الإسلامي. ومنذ النهضة العرابية وسقوطها، إلى النهضة الناصرية وسقوطها ظل الارتباط القومي بالعرب أحد المحاور الرئيسية للنهضة والسقوط معًا، ولكنه المحور الذي لم يعد مقصورًا على «التيار الحضاري المشترك» بل تجاوز هذه المرحلة التاريخية إلى مرحلة «النضال القومي ووحدة المصير». وبعد الحروب الصليبية المتتالية والحكم التركي فالبريطاني والفرنسي أصبح «المشروع الصهيوني» هو الرد التاريخي للغرب على نزوع الأمة العربية نحو تكامل مقومات تكوينها الذاتية — في مواجهة التخلف والتجزئة — رغم تحقق مقوماتها الموضوعية في التاريخ والجغرافيا والثقافة. الفتح العربي لمصر هو أهم حلقات التاريخ الإسلامي، لأنه من جانب الفاتحين اكتشاف مبكر لأقوى الركائز في وحيدة الأمة وتكوينها، ولأنه من جانب المصريين — بإقبالهم على الدين الجديد واللغة الجديدة إقبالًا فريدًا في تاريخهم الطويل — هو اكتشاف سريع للذات، وقد فهم الغرب هذا المعنى المزدوِج منذ تدهورت الدولة الإسلامية ومنذ بدأ رحلته الكولنيالية. فالمشروع الصليبي برفع راية المسيح والمشروع العثماني يرفع راية محمد، وكلاهما لم يخدع المصريين، والعرب عامة، عن جوهر الحقيقة التاريخية: الإضعاف الاستراتيجي لمصر يفك الحلقة الرئيسية لوحدة العرب، والمشروع الصهيوني هو الوريث المركب لمشروع الغرب الاستراتيجي، لمنع قيام مصر قوية، أي لمنع وحدة العرب، سواء كانت صحراؤهم آبارًا للنفط، أو كانت بحارهم ممرات للملاحة، أو كانت أراضيهم وسماؤهم متاخمة لحدود الشرق. تتعدد الأسباب والقضية واحدة هي الأمن، الذي حاولوا ضربه في السويس عام ١٩٥٦م، وحاولوا تصفيته في «الانفصال» المصري السوري عام ١٩٦١م، وحاولوا تكريسه الهزيمة العربية عام ١٩٦٧م، وحاولوا تشكيله في امتدادات طائفية ترسخ التجزئة في الحرب اللبنانية عام ۱۹۷٥م، ويحاولون طيلة ذلك كله عزل مصر نهائيًّا منذ عام ١٩٧١م إلى زيارة رئيسها للقدس المحتلة في ۱۹۷۷م التي تُوجت باحتلال جنوب لبنان في ١٩٧٨م.
(٥) كتب نابليون بونابرت من منفاه في جزيرة سانت هيلانة إلى الجنرال جورجود يقول: «ما فتئت الدولة العثمانية منذ اضمحلت أحوالها توجه التجريدات العسكرية ضد المماليك من غير أن تحرز عليهم فوزًا، إذ كانت تنتهي كل تجريدة بالفشل والانكسار. وقد أفضت هذه الحروب إلى تسوية تخوِّل المماليك حق الاستمرار على مباشرة السلطة والحكم مع إدخال تعديلات وقتية طفيفة عليه. والذي يقرأ بالتفاتٍ تامٍّ تاريخ الحوادث التي توالت على مصر في المائتي سنة الأخيرة (يقصد منذ عام ١٦٠٠م) يوقن أنه لو عُهدت إلى والٍ من أهل البلاد كما هو الحال في ألبانيا، بدلًا من أن تُعهد إلى اثني عشر ألفًا من المماليك لاستقلت المملكة العربية التي تتألف من أمة تخالف الأمم غيرها مخالفةً كليةً بعقليتها وأحلامها ولغتها وتاريخها، ولشملت مصرَ وبلادَ العرب وشطرًا من بلاد أفريقيا، كما استقلت مراكش من قبل.» دوَّن بونابرت هذه الملاحظات قبل وفاته عام ۱۸۲۱م، وقبلها كتب في مذكرة له عن الحملة الفرنسية على مصر قائلًا: «تتمنى ولايات الدولة العثمانية التي لغة أهلها العربية من صميم فؤادها تغييرًا عظيمًا، وتنتظر الرجل الذي يقع هذا التغيير على يديه» (نقلًا عن لويس عوض، تاريخ الفكر المصري الحديث، الجزء الأول، ص٦٦).
أليس من المثير للتأمل، أن يكون بونابرت، «رجلُ الأقدار» كما أَطلقَت عليه التسميةَ موسيقى فاجنر ومسرحية برنارد شو، هو نفسه الذي تنبأ برجل الأقدار محمد علي؟ أوليس مثيرًا للفكر النقدي أن هذا القائد الفرنسي التاريخي قد اكتشف «الأمة العربية» و«عروبة مصر» قبل وأعمق من بعض العرب، وبعض المصريين؟
(٦) تصدير الثورة القومية يختلف تمامًا عن فكرة «الثورة العالمية» كمصطلح أممي. وهنا يجب تحديد وظيفة المصطلح من ناحية، وتاريخيته من ناحية أخرى. وفي كتابه البالغ الأهمية «الماركسية والعالم الإسلامي» (المترجم إلى العربية عام ١٩٧٤م عن دار الحقيقة، بيروت) يعالج المفكر الفرنسي مكسيم رودنسون في القسم الرابع «الماركسية والقومية العربية» انطلاقًا من هذين التحديدين عبر مقدمات ونتائج وفروض وتطبيقات لا عَلاقة لها بالسياق الذي نحن بصدده. فليست هناك قومية مطلقة، بل هناك قومية في تاريخ، وليست هناك أممية مطلقة، بل أممية في تاريخ. ومعنى ذلك أن مصطلح «التصدير» ذاته يحتاج إلى تعديل بالحذف أو الإضافة أو التطوير أو التركيب الجديد، في الحالات النوعية المختلفة لاستخدامه: على صعيد «الأممية» مثلًا، ما الفرق بين تدخل حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨م، وقبلها المجر عام ٥٦، والتدخل الكوبي في أفريقيا عام ١٩٧٧م و١٩٧٨م؟ هناك فرق بكل تأكيد، فأين تقع الأممية هنا وهناك؟ على صعيد «القومية»: هل يمكن — في ساحة الشرق الأوسط — اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي صراعًا بين «حقين قوميين» كما يقول بعض اليسار الإسرائيلي وبعض اليمين العربي؟ وما الفرق بين القومية اليهودية في هذه الحال والقومية الكردية أو الأرمنية. اللَّبس وارد أصلًا في اعتبار الدين (اليهودي في مثالنا) قومية، بينما الأكراد كالعراقيين يدينون بالإسلام، والأرمن كفريق من اللبنانيين يدينون بالمسيحية. وهل كان من حق مصر التدخل المسلح في اليمن دون أي ارتباط دستوري مسبق، وهل كان من حقها عدم الإقدام على هذا التدخل في سوريا الموحدة دستوريا معها؟ أين الإشكال القومي في الصراع العربي الإسرائيلي (الذي يرتدي ثياب الدين عند الثيوقراطيين العرب والصهاينة في وقت واحد) وأين الإشكال القومي في التاريخ الكردي العراقي؟ وأين الإشكال القومي في حرب لبنان الأهلية؟ الجواب الثقافي-السوسيولوجي على هذه الأسئلة المعلقة يصوغ جوهريًّا مصطلح «تصدير الثورة» وما إذا كان دقيقًا. بالإضافة إلى تعارضه المحتمل، على أرضية الواقع المباشر، مع المفهوم الأممي والثورة العالمية. ولا يضيف جديدًا المثل التاريخي الدائم بأن هناك مفهومًا تقدميًّا للقومية وآخر ثورة مضادة، وبأن هناك أممية تقدمية وأخرى ثورة عالمية مضادة. في فيتنام كانت هناك سبعة جيوش آسيوية بقيادة الولايات المتحدة تحارب شعبًا واحدًا مقسمًا بين الشمال والجنوب. بعد هزيمة الفاشية في البرتغال تدخل الغرب كله للحيلولة دون اشتراك اليسار في الحكم الجديد. في زائير تدخلت القوات الفرنسية علنًا في القتال، إلى جانب أسلحة منوعة المصادر الأوروبية. ولكن «الجديد» قدمه القرن الأفريقي حيث تواجهت الجيوش العربية مواجهة استثنائية في تاريخنا الحديث: وقف بعض العرب في صف قومية أخرى هي الحبشة ووقف البعض الآخر إلى جانب الصومال وإريتريا، وتَحارب العربيَّان وجهًا لوجه. وأحيانًا كان هذان العربيان مختلفَين مع بعضهما البعض خارج القتال الأفريقي اختلافًا ينفي فيه أحدهما شرعية الآخر، ولكن سلاحهما توحد في مواجهة خارج الحدود الإقليمية للنظامين، وليس خارج الحدود الأيديولوجية. و«الجديد» أيضًا قدمته مصر في ٢٣ تموز ۱۹۷۷م و۱۹ تشرين الثاني من العام نفسه. في التاريخ الأول اقتحمت بالقوات المسلحة حدود ليبيا العربية، وفي التاريخ الثاني انحنى رئيسها للعلَم الإسرائيلي ولنُصْب الجندي المجهول-المعلوم، فهو الذي شن أربعة حروب في ثلاثين عامًا على مصر. خمسة عشر عامًا تفصل بين تدخل جيش الثورة في اليمن واقتحام قوات الثورة المضادة لليبيا تضع الإطار الوظيفي لمصطلح «تصدير الثورة» وتحدد سياقه التاريخي.
(٧) يعالج الباحث هذه المرحلة بالتفصيل في كتابه «الثورة المضادة في مصر ١٩٧١–۱۹۷۸م» (تحت الطبع في الفرنسية والعربية) وهو إحدى حلقات «مشروع العمل» الذي تُعتبر هذه الأطروحة حلقته الأولى. ولما كانت «سوسيولوجيا المقارنة النقدية» إحدى أدوات التحليل الرئيسية في هذا المشروع بأكمله، فإنني أكتفي هنا بالإشارة السريعة إلى أن الثورة والثورة المضادة في تاريخ مصر الحديث، كالنهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث ظاهرة واحدة مركبة، فمن سمات الخصوصية المصرية هذا التلازم الثنائي بين السلب والإيجاب والمد والجزر «داخل» الظاهرة في الزمن الواحد، لا بين الداخل والخارج ولا على فترات متباعدة. فالتعايش بين الثورة والثورة المضادة ظاهرة جدلية في جوهر الحركة الاجتماعية المصرية والتطور الفكري أيضًا. ولم تكن «ثنائية» الطهطاوي ومحمد عبده إلا المظهر التجريدي لهذا التناقض المركب. وهي الثنائية التي نلاحظها على الصعيد السياسي مرتين على الأقل: في ثورة ۱۹۱۹م التي وقف أشهر قادتها ضد عروبة مصر وضد اليسار الوليد وضد تجديد طه حسين، بينما كانت هي الثورة الشعبية التي أنجزت تصريح ۲۸ فبراير (شباط) ودستور ۱۹۲۳م. وفي ثورة ١٩٥٢م التي وقف أشهر قادتها مع عروبة مصر وضد الأحلاف الاستعمارية وضد سلطة التحالف الملكي-الإقطاعي-الرأسمالي الكبير إلى جانب القطاعات الأوسع من الشعب وتحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي والعسكري، وفي الوقت نفسه عجزت عن إيجاد الصيغة الصحيحة للديموقراطية، فصادرت حريات حلفائها الطبيعيين داخليًّا وعربيًّا، ولم تكتشف النتائج إلا مع الانكسارات والهزائم.
ولقد ساعد الثورة «المصرية» المضادة منذ البدء، أنها اقترنت بالسيطرة الاستعمارية العسكرية المباشرة مع هزيمة عرابي عام ۱۸۸۲م، فقد أصبحت هذه السيطرة على مختلِف المستويات ركيزة موضوعية في الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة، لقواعد الثورة المضادة … فأقبلت ولادة الطبقة الوسطى المصرية مشوهة من البداية، بهذا التداخل المعقد في نسيجها الاقتصادي الذي يهيمن عليه كبار ملاك الأراضي وكبار التجار والاحتكارات الأجنبية، مما أوجد شريحة اجتماعية داخل الطبقة الوسطى نفسها، تستفيد من الجانب المضاد لبناء الطبقة ككل، المضاد لثورتها بمعنًى أدق. هذه «البذرة» الأولى في جنين البرجوازية المصرية لم تمت قط، وبالتالي لم تستطع هذه الطبقة أن تنجز ثورتها في أي وقت. في زمن سعد زُغلول كانت «البذرة» حاضرة، وقد أعلنت عن نفسها عام ١٩٣٦م بمعاهدة التهادن مع الإنكليز، وبتوغل «الباشوات» في القيادة الفعلية لحزب «الوفد». وفي زمن عبد الناصر كانت هذه «البذرة» قائمة وقد أعلنت عن نفسها مرارًا، ولكن أكثر الإعلانات جذرية كان انقلاب ۱۹۷۱م. وهو الانقلاب الذي استضاف عناصر اجتماعية جديدة إلى تحالفه الطبقي، ولكن جذوره الاجتماعية كانت غائرة في أرض الثورة ذاتها ولم تكن غريبة عليها مطلقًا. في مجال المقارنة السوسيولوجية يمكن القول — المجازي بكل تأكيد — أن عبد الناصر قد أعاد تأسيس الدولة الحديثة في مصر التي بناها محمد علي قبل قرن ونصف، وأن انقلاب ۱۹۷۱م كرس نظامًا جديدًا يلخص العصور التي توالت منذ وفاة إبراهيم باشا وسقوط محمد علي إلى هزيمة الثورة العرابية، أي عصور عباس الأول وسعيد باشا والخديو إسماعيل والخديو توفيق. ومن البديهي أن «تلخيص عدة عصور» تعبير مجازي للغاية، ولكن المقصود به هو أن النظام الانقلابي الجديد في مصر السبعينيات من هذا القرن يعكس نفسه في مجموعة من المظاهر الاجتماعية الثقافية، تجد لها تراثًا موصول الحلقات في النصف الأخير من القرن الماضي في تاريخ مصر: تدهور الثقافة، الارتباط بالغرب، عزل مصر عن العرب، الاتفاق مع الاحتلال … إلى غير ذلك. ولكن السمة النوعية الجديدة التي يبدأ تاريخها بالاستعمار البريطاني وهزيمة عرابي تظل حاضرة، وهي ولادة الطبقة الوسطى المصرية، وفي داخلها تتعايش أسباب الثورة والثورة المضادة، والفرق هو أن الثورة تسود أحيانًا دون إلغاء لنقيضها الداخلي (بالإضافة إلى الخارجي المزدوِج: القوى الاجتماعية المضادة بطبيعتها للبرجوازية، والقوى الأجنبية كالاستعمار الغربي أو المشروع الصهيوني) أو العكس، وهو أن تسود الثورة المضادة دون إلغاء لنقيضها الداخلي والخارجي. فالوضع الراهن منذ عام ۱۹۷۱م في مصر هو سيادة الثورة المضادة دون أن يعني ذلك لحظة واحدة غياب الثورة. أي إن مصر السبعينيات من القرن الحالي ليست مجرد ثورة مضادة، فهذا التعبير يختزل المجتمع في السلطة الحاكمة وحدها، ولكن الرؤية السوسيوثقافية لمصر ككل تكتشف خيوط الثورة في النسيج الشامل للحركة الاجتماعية وفي ظل «نظام» الثورة المضادة ذاته. لذلك فالانحطاط لدرجة السقوط الحضاري ليس وصفًا دقيقًا لما آلت إليه مصر بعد عام ١٩٧٠م، رغم كافة الظواهر «الثقافية» على هذا الانحطاط، كالتفكير في تأجير هضبة الهرم، وبيع مؤسسة السينما لأحد المقاولين العرب، وانتعاش المسرح التجاري … هذه كلها تعبيرات عن إحدى الشرائح الاجتماعية (الطفيلية على الإنتاج)، ولكن مصر تتسع في الوقت ذاته لتعبيرات أخرى عن البرجوازية المنتجة المقهورة مع غيرها من فئات البرجوازية الصغيرة والعمال والفلاحين، بالإضافة إلى قوى المعارضة خارج البلاد في العواصم العربية وأوروبا، التي شكلت ظاهرة النزوح الجماعي للمثقفين للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث.
(٨) «الثقافة والسلطة» عنوان كتاب المفكر الفرنسي بول شومبار دي لوف، وهو يفيدنا هنا لا في مجال التطابق أو التناقض بين وضع هذه القضية في الغرب المتطور ووضعها العربي في مصر، بل في اكتشاف أن هناك «خصوصية» كاملة الملامح في دور المثقفين المصريين السياسي. الكتاب المذكور مثلًا، وهو أوفى دراسة حول الموضوع، لا يخطر على بال مؤلفه مطلقًا هذا الدور الاستثنائي «للمثقف» في تكوين مصر السياسي. إنه يناقش المقولات التقليدية والجديدة معًا، كدور المثقف في الإنتاج، وبالتالي طبقية ولا طبقية الثقافة، ودور الدولة في قهر الفكر المناوئ لها، وبالتالي صعود الأفكار وهبوطها، ودور التكنولوجيا في توسيع دائرة المثقفين، وبالتالي ظهور ما دعاه غرامشي ثم غارودي بالكتلة التاريخية التي تعدِّل في أسلوب صنع القرار مما يفسر التغيرات الأيديولوجية الراديكالية لبعض الأحزاب الشيوعية الغربية بدرجات متفاوتة كالحزب الإسباني والإيطالي والفرنسي، وخاصة ما يسمى بالشيوعية الأوروبية. هذه الاجتهادات كلها ثمرة مجتمع متطور حضاريًّا منذ عصر النهضة، وتكنولوجيًّا منذ الانقلاب الصناعي الأول، فالانقلاب الذري، فالانقلاب الإلكتروني، وديموقراطيًّا منذ الثورة الفرنسية. أما مصر التي يفاجأ الغرب دائمًا بالموقف المتطرف لأنظمتها المتعاقبة والمتناقضة من «المثقف» (نفي الطهطاوي ومحمد عبده وعبد الله النديم في القرن الماضي، وبيرم التونسي في عهد الملك فؤاد، بالإضافة إلى محاكمات طه سين وعلي عبد الرازق وعباس محمود العقاد وسلامة موسى، ثم طرد ٥٤ أستاذًا من الجامعة عام ١٩٥٤م بقرار من مجلس قيادة الثورة، وسجن مئات من المثقفين طيلة عشرين عامًا من المرحلة الناصرية، ثم فصل ۱۱۱ كاتبًا وصحفيًّا من العمل السياسي والمهني في بداية عام ۱۹۷۳م، ثم ملاحقة الكتاب المعارضين المقيمين في الخارج، أو المقيمين في الداخل ويكتبون في الخارج، ملاحقةً تصل إلى حد مطالبة الإنتربول بتسليمهم واتهامهم بالخيانة العظمى في منتصف عام ۱۹۷۸م) يفاجأ الغرب دائمًا بهذا التشدد المتطرف في معاملة المثقف المصري لاختلاف مضامين الأنظمة التي تمارس هذا البطش بهم وتَوحُّد أسلوبها؛ ولأن هذا الأسلوب ذاته يحتوي على مبالغة توجع الضمير الغربي الذي سرعان ما يتذكر النازية إذا كان أوروبيًّا، والستالينية إذا كان أوروبيًّا شرقيًّا، والمكارثية إذا كان أمريكيًّا. ولكن ثغرة الوعي قائمة أصلًا في تصور «الدور» الذي يلعبه المثقف العربي في مصر الحديثة، لا لأنه يتمتع بأخلاقيات نضاليةٍ ما، بل لأن هذا الدور وُلد أصلًا في غمرة استقلال مصر وتحديثها وتعريبها الإمبراطوري في ظل محمد علي، وتابع سيره في ظل النشأة الخاصة للطبقة الوسطى منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وبقي صامدًا حتى طموحات البرجوازية الصغيرة في السلطة بين الخمسينيات والستينيات في القرن الحالي، حيث تبلورت بعد هزيمة ١٩٦٧م في خضم حركات الطلاب المتعاقبة، ظاهرة «الثورة الثقافية الدائمة». وهو الدور الذي لم يخطر على بال سارتر في كتابه المهم تمامًا «دفاع عن المثقفين» (المترجم إلى العربية، دار الآداب، بيروت، ١۹۷۳م) رغم تصديه التفصيلي لماهية المثقف ووظيفته لا في الغرب وحده بل في العالم الثالث أيضًا. وإذا كان هناك ما يشفع لسارتر في عدم معرفته بهذا الدور (رغم زيارته لمصر واشتمال كتابه على المحاضرة التي ألقاها في جامعة القاهرة عام ١٩٦٧م)، فإنه ليس هناك ما يشفع لمفكر مهم هو المغربي عبد الله العروي في أطروحتيه «الأيديولوجية العربية المعاصرة» و«أزمة المثقفين العرب: تقليدية أم تاريخية»، والأول منهما يبحث في مرحلة النهضة والآخر يواصل البحث حتى المرحلة المعاصرة، ومع ذلك لا يعثر على أبعاد هذا «الدور» وهويته في البناء الاجتماعي للدولة والثقافة، وبالتالي في الثورة والتشكيل التاريخي.
لذلك لا بد من الإشارة، فقط، إلى حدود هذا الدور هكذا:
  • الأزهر فالجامعات فالصحافة هي المعاقل الثلاثة الرئيسية للقيادة الفكرية في البلاد، ودور الأزهر لم يقتصر قط على «الدين»، ودور الجامعات لم يقتصر قط على «العلم»، ودور الصحافة لم يقتصر قط على «السياسة»، في تاريخ مصر الحديث، بل كانت القلاع الثلاث — كأفراد وكحركات وكمنابر وتنظيمات — أحزابًا كاملة السمات الحزبية، توازي الحزب أحيانًا وتظل بديلًا له في غيابه أحيانًا أخرى. ليست صدفة أن يكون الطهطاوي ومحمد عبده وسعد زُغلول وطه حسين وعلي عبد الرازق وأمين الخولي وخالد محمد خالد ومحمد أحمد خلف الله من خريجي أو مجاوري الأزهر، وليست صدفة أن غالبيتهم احتكت، بطريق مباشر أو غير مباشر، بالفكر الفرنسي، وأنهم جميعًا من رواد التجديد والنهضة والثورة. وليست صدفة كذلك أن انتفاضات الطلاب المصريين وأساتذة الجامعات تمتد في التاريخ المصري إلى عام ۱۹۰٦م (مع مأساة دنشواي التي شنق فيها الاحتلال البريطاني بعض الفلاحين المصريين لمجرد احتجاجهم على صيد الحمام الذي ينتفعون به) إلى عام ۱۹۱۹م إلى عام ۱۹۳٥م إلى عام ١٩٤٦م إلى عام ١٩٥٤م إلى عام ١٩٦٨م وحتى وقتنا الحاضر، حيث تشكل الحركة الطلابية هوية اجتماعية-تاريخية-ثقافية متصلة الحلقات. وليست صدفة أن الصحافة المصرية في مختلِف مراحل تاريخية لم تكن مجرد «لسان» للحزب أو «مصباح» للتنوير الفكري، بل كانت دائمًا هي الحزب وهي أداة النضال، الهادفة والمستهدفة. (عام ۱۹۳۱م ألغى إسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء مصر ۲۱ امتياز صحيفة مصرية، وعام ١٩٥٣م ألغى مجلس قيادة الثورة جريدة «المصري» وأممت بقية الصحف، وعام ۱۹۷۸م صودرت جريدة «الأهالي»). لماذا هذا الثالوث؟ لأن قيمة «الوعي» تتضاعف في حالة كحالة بلادي، فمجرد «الوعي» — سواء كان هناك التنظيم أو لم يكن — من شأنه أن يصبح العمود الفقري للتغيير. ولعل ذلك يفسر — بأسلوب التقابل الرياضي — كثرة الانتفاضات العفوية في تاريخ مصر السياسي والتي تجعل الحكومات الدكتاتورية تردد مشدوهة أمام الظاهرة بأن هناك «أقلية منحرفة» تحرك الجموع. كما يفسر أيضًا اللاتنظيم في أكثر تنظيمات مصر الحزبية شعبية (باستثناء الإخوان المسلمين و«مصر الفتاة» وجهاز الأمن، فهي الأحزاب الثلاثة المنظمة جيدًا، ولكنها معًا لا تتمتع بالشعبية خارج حدود أعضائها). فالوفد في العصر الملكي والاتحاد الاشتراكي في العهد الناصري لم يكونا حزبين بالمعنى التنظيمي الدقيق لهذا التعبير، بل كان الأول «شارع سعد زُغلول» ثم «شارع النحاس» وكان الثاني شارع جمال عبد الناصر. والحالة ذاتها على نحو معقد في التنظيمات الشيوعية قبل عام ٥٢ وبعدها، حيث ظاهرة التشرذم على الصعيد التنظيمي، وظاهرة «التمركس» عند قاعدة أوسع من المثقفين، والظاهرة الاستثنائية وهي «حل المنظمات الشيوعية» لنفسها عام ١٩٦٥م والانضمام كأفراد إلى الاتحاد الاشتراكي.

    الظاهرة الثانية إلى جانب الانتفاضات العفوية هي أن الديموقراطية الشكلية والنسبية والليبرالية تدعم دائمًا التيار الأكثر تقدمًا، ولا تستطيع الأنظمة التي تتشدق بها أن تحرص على «شكليتها» سواء كان ذلك في العصر الملكي (فؤاد وفاروق) أو في عصر «الانفتاح» بعد ۱۹۷۱م. فالديموقراطية في مصر وفي أبسط صورها تسحب الأرض من تحت أقدام اليمين. وحرية الكلمة تأتي في مقدمة الحريات. ومن هنا كان الدور البارز «للمثقف» المصري، فالفكر الحر قبل التنظيم المستقل، هو عصب الديموقراطية المصرية.

    في مواجهة «الوعي» الذي يرادف البنية الاجتماعية-الثقافية للثورة، يقف «التجهيل» وتسويد الأمية الأبجدية وأمية المتعلمين في صف الثورة المضادة. ويظهر على الفور — لهذا السبب — الدور المتميز لعَلاقة المثقف بالسلطة في مصر، فهو ليس مفكرًا فحسب، بل هو يفكر كما لو أنه في السلطة أو سيكونها، داخلها أو خارجها لا مستقلًّا عن «العَلاقة بها». الكاتب المصري، بهذا المعنى، يكتسب دور «الحزب». وهو أمر يختلف تمامًا لا عن «العالم الثالث» وحده، وإنما عن بقية الأقطار العربية المحيطة بمصر، حيث يغلب «التنظيم» على الحياة السياسية في سوريا ولبنان والعراق والسودان وتونس والمغرب على سبيل المثال، فالحزب معارضًا أو حاكمًا هو أداة التحرك الأولى مع أو ضد السلطة. أو يغلب الفراغ التنظيمي ليحل مكانه نوع من الثيوقراطية الدينية كما هو الحال في السعودية مثلًا. مصر ليست المجتمع «المنظم» سياسيًّا، وليست المجتمع «الفارغ» أو المفرغ، ولكنها مجتمع الصراع بين الوعي والتجهيل، وبين الديموقراطية والدكتاتورية، وبين الانتفاضة العفوية والقهر السلطوي. ولذلك كله سلبياته قبل إيجابياته، ولكن المهم هو أنه أسهم في حفر مكان خاص وبالغ الاستثناء لدور المثقف في دولة الإنتاج ومجتمع الاستهلاك على السواء.

  • المثقفون من علماء الأزهر إلى أساتذة الجامعات إلى المهنيين إلى الطلاب، ومن العسكريين إلى الكُتَّاب والفنانين هم طليعة التغيير في الاقتصاد والتنمية والقيادة السياسية. من عرابي إلى عبد الناصر كان الجيش الوطني هو أداة التغيير مهما كانت هوية التغيير ونتائجه. ومن سعد زُغلول وطلعت حرب إلى «القطاع العام» الناصري، كان التكنوقراط هم أعمدة الدولة والمجتمع الجديدَين. عقبة العقبات التي تصادفهم مثلثة الاضلاع: ثنائية فكر النهضة، أغنياء الريف، دولة الموظفين. إنهم ثالوث الأوتوقراطية والثيوقراطية والبيروقراطية، أي السلطة الشخصية للفرد الحاكم والمناخ السلفي المتطرف والدكتاتورية. تلك هي المصطلحات السياسية للبنية الاجتماعية-الثقافية من محمد علي إلى عبد الناصر، والتي ينتج عنها نوع من الانفصال الخطر بين الثقافة والمجتمع في مراحل المد الثوري، ونوع من التوحد الصوفي في مراحل الجزر. يحدث أيضًا التناقض بين الواجهة والبناء في زمن النهضة، وتتوحد الواجهة بالمضمون في زمن الثورة المضادة. يحدث كذلك التعارض بين العقل والوجدان لحظة الخطو إلى الأمام، ويتوحدان لحظة الانتكاس إلى الوراء. (أمثلة تاريخية: الطهطاوي يتكلم عن الدستور ومحمد علي حاكم مطلق يرعى منجزات الطهطاوي ولا يأخذ بحرف منها، وليست هناك الطبقة القادرة على الاستفادة منها – محمد عبده يخاصم الخديو ويتفق مع الإنكليز، يضع دستور الحزب الوطني وينشق على الثورة العرابية – سعد زُغلول يقود ثورة ۱۹۱۹م ويقف ضد الانفتاح العقلي لطه حسين – المحافظون المصريون من العقاد وعزيز أباظة إلى يوسف السباعي وثروت أباظة يملكون السلطة الثقافية في مصر الناصرية، والإنتاج الفكري والفني الحقيقي في هذه الفترة لغيرهم من الراديكاليين والديموقراطيين المصريين – انقلابات زيور ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وإبراهيم عبد الهادي ومحمود فهمي النقراشي وأنور السادات، في ظل الشعارات الليبرالية، تنسف كافة مظاهرها ولا ترتدي أية أقنعة، فتزيف الانتخابات وتحل البرلمانات وتلغي امتيازات الصحف وتدعم صحف الأقليات الدستورية).

    المثقفون المصريون هم قادة التنمية — الاقتصادية والاجتماعية والثقافية — طيلة نصف القرن الأخير، منذ طلعت حرب المؤسس الحقيقي لبناء الرأسمالية الوطنية في مصر وصاحب كتاب «علاج مصر الاقتصادي» عام ۱۹۱۰م. ولم يكن صدفة تاريخ افتتاحه لبنك مصر برأس مال وطني خالص وخبرة وطنية خالصة عام ۱۹۲۰م في أعقاب ثورة ۱۹۱۹م، ولا يخلو من المغزى أنه أسَّس في الوقت نفسه شركة مصر للتمثيل والسينما … إلى صبحي وحيدة عضو مجلس الإدارة المنتدب لاتحاد الصناعات المصرية وصاحب أخطر كتاب في تاريخ الفكر البرجوازي المصري على صعيد الاستراتيجية الحضارية هو كتاب «في أصول المسألة المصرية» عام ١٩٥٠م … إلى العسكريين والمدنيين من أهل الثقة وأهل الخبرة في مصر الناصرية الذين وضعوا حجر الأساس «المؤسسة الاقتصادية» عام ١٩٥٧م ومجلس الإنتاج، ثم القطاع العام ١٩٦١–١٩٦٢م، وخلال ذلك كله عمليات التمصير والتأميم التي كان يمكن أن «تشل» الحركة الاقتصادية للبلاد، لولا هذه الفئات الواسعة من المثقفين الذين عُنوا بالتخطيط والإدارة، رغم كل السلبيات، وانتشلوا البلاد من أزمة محققة بلغت ذروتها في عدوان السويس ١٩٥٦م وذرواتها الأخرى في تهريب الأموال إلى الخارج.

    هذا الحجم الاستثنائي لدور المثقف المصري في الإنتاج، من أهم الخصائص النوعية المستقلة في عَلاقة الثقافة بالسلطة في مصر الحديثة.

  • رغم المسافة الهائلة بين العمل الذهني والعمل اليدوي في مصر، كبقية أقطار العالم المتخلف في عصرنا، إلا أن الاتساع الاستثنائي للبرجوازية الصغيرة والتشغيل الكامل لخريجي الجامعات الذين يبلغون أيضًا حجمًا استثنائيًّا، يؤدي إلى مكانة فريدة للعمل الذهني في دورة الإنتاج المصري تكاد تشبه «الكتلة التاريخية الجديدة» في العالم المتطور. السبب «المصري» ليس تكنولوجيًّا كما هو الحال في الغرب واليابان، والنتيجة «المصرية» ليست الاستغناء التدريجي عن الطبقة العاملة الصناعية. السبب في مصر اجتماعي-ثقافي، ولكن النتيجة هي ذلك التمايز لا في دور المثقفين الاقتصادي والسياسي، بل في استحالة تصنيف مصر تلقائيًّا ضمن قائمة المجتمعات المتخلفة رغم فقرها وانفجارها السكاني وتدهور مستوى الخدمات فيها واستيلاء الطفيليين على سلطة نظامها، واحتلال جزء من أراضيها.

    إن هذه الكتلة الاجتماعية-الثقافية، كما أحب أن أدعوها، خلافًا لمصطلح «الكتلة التاريخية الجديدة» التي تنبأ بها الإيطالي غرامشي، وفُصل بسببها من عضوية الحزب الشيوعي الفرنسي غارودي، ثم أصبحت بديهية فكرية عند أكثر الأحزاب الشيوعية الغربية، لا عَلاقة لها بمتغيرات قوى الإنتاج (وسائل الإنتاج والعمال) بل لها عَلاقة بعَلاقات الإنتاج والقيمة المضافة والقيم الاجتماعية. إنها لا تنفي مثلًا الدور الطليعي والقيادي للطبقة العاملة المصرية ذات التقاليد العريقة في الإنتاج والعمل السياسي في مصر منذ ثلاثة أرباع قرن، ولكنها تضع في الاعتبار عاملين رئيسيين هما مستوى الوعي ومستوى التنظيم، فباستثناء الوعي النقابي تمزق الوعي البروليتاري الصناعي والتنظيم البروليتاري الثوري، لأسباب تاريخية اجتماعية، بحيث أضحت قيادتها للإنتاج لا ترادف بشكل تلقائي قيادتها للتطور. والفلاحون المصريون، رغم انتفاضاتهم المتصلة ضد الاحتلال البريطاني وكبار ملاك الأراضي المصريين والمتمصرين، إلا أنهم ظلوا دومًا أتعس حالًا في الوعي والتنظيم من العمال والحرفيين.

    وتُعَد حركة فبراير-مارس (شباط، آذار) عام ١٩٤٦م التي تزعمتها «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» هي التجسيد المباشر لمكونات ومقومات «الكتلة الاجتماعية-الثقافية» الجديدة في مصر. وهي الحركة التي فرضت على ضمير العالم اتخاذ يوم ۲۱ فبراير (شباط) ١٩٤٦م تاريخًا ثابتًا وعيدًا دائمًا تحتفل به الإنسانية و«طلابها». كانت تلك الوحدة الاندماجية بين مثقفي البرجوازية الصغيرة والعمال أكثر عمقًا وشمولًا من إطار «الجبهة» التقليدية. هذا العمق والشمول هو الذي أثمر غليان الأربعينيات المصرية وثقافتها التي أرهصت بالثورة. حركة ١٩٤٦م هي الجذر التاريخي-الاجتماعي لانتفاضة السنوات العشر ٦٨–۱۹۷۷م والفوارق بينهما تزيد تأصيل الظاهرة من قاعدتها التحتية إلى قمتها العلوية، أي من التكوينات الاقتصادية الاجتماعية إلى التركيب الذهني والشعوري في الآداب والفنون والفكر وأشكال التعبير المختلفة. وإذا كان طلاب ومثقفو وعمال الأربعينيات كانوا أبناء التنظيمات السياسية المختلفة، ففرضوا شكلًا أرقى يرد على جبهة التهادن عام ١٩٣٦م، فإن طلاب ومثقفي وعمال أواخر الستينيات وطيلة السبعينيات هم الذين فرضوا «التنظيم» على الشارع البرجوازي والبروليتاري غير المنظم، وهم الذين فرضوا على مناخ الهزيمة بعد ١٩٦٧م شكلًا أرقى لقيادة التطور: هو اللاتناقض بين الديموقراطية وتحرير الأرض والعدل الاجتماعي.

(٩) يعالج الباحث هذه النقطة بشيء من التفصيل في فصلين: الأول هو «الديموقراطية والثقافة وحركة ٢٣ يوليو» بكتابه «ثقافتنا بين نعم ولا» (دار الطليعة، بيروت، ۷٢، ص١٦ إلى ص٥٠)، والثاني هو «عبد الناصر والمثقفون» بكتابه «مذكرات ثقافة تحتضر» (دار الطليعة، بيروت، ۱۹۷۰م، ص٣٦٩ إلى ٤٢٢).
(١٠) لا أحد ينكر الدور الرائد لأعمال توفيق الحكيم المسرحية وأعمال نجيب محفوظ الروائية وأعمال لويس عوض النقدية وأعمال حسين فوزي التاريخية وأعمال عبد الرحمن الشرقاوي الدرامية والشعرية. ولا أحد ينكر الدور الاجتماعي-السياسي لهذه الأعمال في تطوير بنية الوعي المصري ونقد السلبيات الناصرية أحيانًا. ولكن البداية لا تصلح شفيعًا للخاتمة، والتاريخ ليس وسيطًا للحاضر ولا سمسارًا للمستقبل. فهم حين يؤيدون من مواقع مختلفة ذروة الانقلاب السلطوي في مصر السبعينيات (زيارة القدس) ولا يعترضون على مذبحة الحريات الديموقراطية (مايو (أيار) ۱۹۷۸م) فإنهم يخونون أنفسهم أولًا وتاريخهم بالذات، الذي هو جزء من تاريخ عقلنا ووجداننا.
(١١) يقول الدكتور لويس عوض في الجزء الأول من «تاريخ الفكر المصري الحديث» إن «ثورات المصريين سواء على الحكم الأجنبي أو على العَلاقات الإقطاعية كانت لا تنقطع في فترات عديدة من هذا العصر الكئيب، وكانت آخر هذه الثورات قبل مجيء بونابرت بسنوات قليلة، وكانت ثورة عاتية انتهت بانفصال الصعيد الأعلى وتوزيع أرضه على الفلاحين وقيام حكم شبه جمهوري فيه على يد زعيم الهوارة شيخ العرب الأمير همام الكبير» (ص۱۱).
ويجب أن نتابع لويس عوض بالتفاتٍ شديد؛ لأن سرده الموضوعي الأمين وتحليله التاريخي الاجتماعي البصير، لا يؤديان به إلى «تركيب نظري» صحيح. ورغم «الشكل» غير الأكاديمي لكتابه البارز فإن محتواه أكاديمي من طراز فريد. في هذه النقطة مثلًا، يعتمد بأصالة وحذق على أعظم المؤرخين: المقريزي في «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» و«السلوك لمعرفة دول الملوك»؛ ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»؛ القلقشندي في «صبح الأعشى»؛ الظاهري في «زبدة كشف المماليك»؛ ابن إياس في «بدائع الزهور في وقائع الدهور»؛ الجبرتي في «عجائب الآثار». وهي مصادر كافية تمامًا لأن تمده بالمادة الخام التي استطاع أن يستخلص منها — مثلًا — أن سلطنة العصر المملوكي قد حالت «دون تكوُّن طبقة برجوازية فعالة يمكن أن يكون لها كِيان مستقل أو إرادة مستقلة عن إرادة السلطان» وذلك لأنه كان يصادر أموال التجار بين الحين والآخر. ولأن أولاده كانوا يحتكرون الإنتاج الزراعي، فقد حال ذلك أيضًا «دون نشوء طبقة أرستقراطية في مصر، وبالتالي حال دون تبلور النظام الإقطاعي» (ص١٤).
وفي تقديري أن هاتين نقطتان مهمتان، فالأولى لا تفسر ما وقع في تلك الفترة من تاريخ مصر وحدها، بل تفسر لماذا لم تتدعم برجوازية عربية إسلامية منذ وقت مبكر، وقد أتاح لها الدين الجديد والحضارة الجديدة والفتوحات الجديدة وتقدم العلوم والكشوف وبعض تيارات الفلسفة مقومات «النهضة» التي كان يمكن أن تستمر، لولا سقوط «الدولة» الإسلامية في براثن التشرذم، ثم هيمنة السلطنة العثمانية على أقدار العرب المسلمين عدة قرون، يصفها الدكتور علي حسني الخربوطلي في كتابه «التاريخ الموحد للأمة العربية» قائلًا: «كان الفتح العثماني للأقطار العربية حركة توسعية، تضم إلى رقعة هذه الدولة أقطارًا أخرى، وتبرز عظمتها الدولية. وقد أدركت الدولة العثمانية ضعف الدول العربية فرأت أن تبتلعها كما يأكل القوي الضعيف. ورأت الأطماع الأوروبية تهدد البلاد العربية، فرأت أن تظهر بمظهر المنقذ المحرر. وكانت الأقطار العربية تضم الأماكن المقدسة الإسلامية، فرأت الدولة العثمانية أن تضفي عليها حمايتها، حتى يصبح السلطان العثماني حاميَ الإسلام وراعيَ المسلمين، وظهر هذا الاتجاه واضحًا في حرص السلطان سليم، كما يرى كثير من المؤرخين، على تنازل الخليفة العباسي بالقاهرة له عن الخلافة، رغم أن الخلافة كان يتولاها دائمًا عرب قريش. فقد فطن السلطان سليم أن العرب حريصون على الاحتفاظ بنظام الخلافة، كما ظن المسلمون بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد بعد اجتياح المغول لها وقتل الخليفة المستعصم، أن العالم قد انتهى، وأن الشمس لن تشرق في اليوم التالي. ولذا أدرك السلطان سليم أنه إذا اتخذ لقب الخلافة كان له سلطاتها، فيضمن ولاء العرب والمسلمين له، باعتبار أن الخليفة هو في الواقع خليفة رسول الله، وأنه ولي الأمر الذي يجب على المسلمين طاعته، وحتى يجمع السلطان الخليفة بين السلطتين السياسية والدينية» (ص۱۹۱).
بهذا المعنى يصبح الفتح العثماني نقيضًا للفتح العربي، رغم «وحدة الإسلام» التي تجمع بينهما. إنه أشبه ما يكون بالثورة المضادة للحضارة العربية (بفك عُرَى الوَحدة التي أقامها الإسلام بين العرب) والحضارة الإسلامية (بإدخال ممارسات غريبة على النص والرُّوح والممارسة الإسلامية الأولى، وقريبة من الفكرة البابوية المسيحية — ظل الله على الأرض — والكنيسة الكاثوليكية). وقد أدى ذلك كله إلى إحباط أي طموح لإقامة برجوازية عربية توفرت لها في العصر الوسيط كافة مقومات النهوض. فإذا عدنا إلى لويس عوض نراه يؤكد هذه الحقيقة في تطبيقها داخل الحدود الإقليمية للقطر الواحد، وهو مصر في مثالنا، فلم تنشأ بها أرستقراطية مصرية ولا برجوازية مصرية في وقت مهيأ اجتماعيًّا لذلك، بسبب النظام الأوتو-ثيوقراطي الأجنبي. ونتيجة لعدم ميلاد الظاهرة في موعدها سوف نكتشف هذا الخيط المتواصل من المفارقات التاريخية: انتقال مركز النهضة من العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية إلى أوروبا التي كانت تحيا «عصورها المظلمة» – تفتت الأقطار العربية إلى دويلات طائفية أو عرقية، وإلى حدود غير طبيعية تفتعلها مصالح الأجنبي – تراكم التخلف عن مجرى النهضة في الخارج حتى نلتقي بها في ظروف غير متكافئة، فتضعنا أمام مأزق تاريخي: حاجتنا إليها ودفاعنا عن استقلالنا، ويشكل هذا المزدوِج منذ بونابرت تحديًا ماديًّا وفكريًّا للعرب المعاصرين – عندما يتشكل الإقطاع والبرجوازية متأخرَين، وعلى نحوٍ مغايرٍ لنشأتهما في الغرب، يحدث التداخل والتشابك والتعقيد في النسيج الاقتصادي-الاجتماعي-السياسي-الثقافي الذي يحتاج إلى «الإبداع الفكري» في اكتشاف القوانين الخاصة للتطور، حتى يمكن تلمُّس الحلول الصحيحة.
يتابع لويس عوض: «وقد كان من أهم ما تميزت به ثورات مصر الشعبية طوال عهد المماليك خلوها من كل أيديولوجية دينية» ويعتمد على تفسير أ. ن. بولياك في مقاله «الثورات الشعبية في مصر في عصر المماليك وأسبابها الاقتصادية» (المنشور في ريفيو ديزاتود إسلاميك، ١٩٣٤م، الكراسة ۳، ص٢٥١–۲۷۳) حيث يرى أن «رجعية رجال الدين من جميع الفئات في مصر طوال هذا العصر ورضاهم بأن يكونوا أدوات في أيدي الحكام» هي السبب في هذه الظاهرة (ص١٥) باستثناء ثورة عبيد القاهرة عام ١٢٦٠م بقيادة الزاهد الشيعي الكوراني، والثورة المهدية، وثورة ابن الفلاح الشعشاع الذي أعلن أنه المهدي المنتظر وألغى بعض المحرمات الدينية (ص١٦).
وقد كان حريًّا بلويس عوض أن «يركِّب» من هذا السرد التحليلي منطوقا نظريًّا عكسيا تمامًا لما جاء به، فهو يقطع بأن حملة بونابرت كانت الحد الفاصل بين عهدين في تاريخ مصر (والعرب عمومًا ربما)، ويقطع بأن نقطة البدء في التاريخ «القومي» للمصريين هي القومية المصرية. وليس هذان الاستنتاجان صحيحين على الإطلاق. فحين يهتم الطهطاوي بأن يذكر جمهورية همام في كتابه «تلخيص الإبريز» ويقول إن ما رآه في فرنسا يذكره بهذه الجمهورية المصرية، لا يستطيع المؤرخ الاجتماعي أن يقطع بأن حملة بونابرت كانت الحد الفاصل بين عهدين؛ إذ كانت عناصر المناخ الموضوعي لولادة «التحديث» متوفرة في مصر قبل أوروبا، بالاعتماد على لويس عوض نفسه، رغم التواءات التاريخ الوسيط وسقوط الدولة الإسلامية والاحتلال التركي. كذلك حين نلاحظ أن جمهورية همام هذه، والانتفاضات السابقة عليها، كانت قواها الاجتماعية من البدو والفلاحين، أي من العاربة والمستعربة، وأن هذه القوى هي التي كانت دومًا تحصل على «استقلال مصر» وازدهارها، بينما حين تنكفئ مصر على ذاتها بالمعنى الإقليمي تُغزى حدودها من الأجنبي وتُسحق ديموقراطيتها وتُهدر مصالح غالبية شعبها. والقانون الذي يمكن استخلاصه من هذه المقارنة النقدية هي أن عروبة مصر تعني استقلالها وتقدمها الاجتماعي، وأن الدعوة الإقليمية — مهما حسنت النوايا — تقود إلى الهزيمة والاحتلال والدكتاتورية والقهر الاجتماعي. ولا جدوى مطلقًا من تبني الليبرالية والعدالة ومعاداة الفكرة العربية في الوقت نفسه. فحتى المحاولات العملية لتعريب مصر حين افتقدت شرطًا واحدًا من هذه الشروط سقطت. إن الخصوصية الاجتماعية-التاريخية لمصر تقول:
  • (أ) إن عروبة مصر ليست مجرد وحدة مصير أو قدر قومي، بل تجرِبة تاريخية-اجتماعية برهنت على أنها باب الخلاص الوحيد للمصريين لاستئناف مسيرتهم الحضارية.
  • (ب) إن الديموقراطية لا تفيد سوى القطاعات الواسعة من الشعب المصري، وتضر في جميع الأحوال «بالسادة» مصريين وأجانب.
  • (جـ) لذلك كان جوهر الديموقراطية في مصر هو الارتباط القومي العربي من ناحية، والاستقلال الوطني من ناحية ثانية، والتقدم الاجتماعي لمصلحة الغالبية من ناحية ثالثة.
إن شرارة النهضة في العصر الحديث أسبق من الاحتكاك بالغرب ومن حكم محمد على معًا، والتوقف عند أحد العاملين كالجمع بينهما خطأ تاريخي؛ لأن العامل الذاتي للتطور كان حاضرًا جسدته في ذروة تاريخيةٍ جمهوريةُ شيخ العرب الأمير همام زعيم قبيلة الهوارة في صعيد مصر. هو العامل الذي يمكن اختصاره في «عروبة مصر الحديثة».
(١٢) كافة المغريات تقود إلى هذه الفكرة اللامعة «وسطية مصر واعتدالها»، وهي الفكرة التي لم تفارق خيال المؤرخين والجغرافيين وعلماء الاجتماع المصريين منذ ألحَّ عليها شفيق غربال في كتابه المتميز «تكوين مصر» وحسين مؤنس في أهم كتبه «مصر ورسالتها» إلى نعمات فؤاد في أطروحتها للدكتوراه «النيل في الأدب المصري» وكتابها الشاعري «شخصية مصر». ومن سليمان حزين في دراسته «سكان مصر ودراسة تاريخهم الجنسي» إلى حسين فوزي في «سندباد مصري» وصبحي وحيدة في «في أصول المسألة المصرية». ومن عباس محمود العقاد في كتابه «سعد زُغلول سيرة وتحية» وطه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» وسلامة موسى في كتابه «مصر أصل الحضارة» إلى أحدث كتابين ظهرا عام ۱۹۷۰ و۱۹۷۲م على التوالي وهما «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان» لجمال حمدان أستاذ الجغرافيا السياسية، و«وحدة تاريخ مصر» لمحمد العزب موسى. الكتب السابقة عليهما تغطي مساحة زمنية من التأليف المصري المستمر حول الموضوع تغطي حوالَي نصف قرن. ولكن هذه الكتب السابقة تناقش وسطية مصر واعتدالها من منظور إقليمي، جغرافيًّا كان أو تاريخيًّا أو حضاريًّا أو عِرقيًّا، فتتوزع «وسطية مصر» في تلك المؤلفات بين الانتماء إلى حضارة البحر المتوسط، أو إلى الاستمرار الفرعوني، أو إليهما معًا، أو إلى الجذور الأفريقية، أو جنوب غرب أوروبا، أو إليهما معًا. تلك المؤلفات — باستثناء الكتابين الأخيرين اللذين صدرا أول السبعينيات أكرر — لا تخلو من المنهج الأكاديمي في البحث، ولكنها لا تخلو أيضًا من الانفعال العاطفي والهوى السياسي المتدرج من التعبير عن ثورية الطبقة المتوسطة المصرية إلى نكوصها وارتدادها، من طموحاتها في «نهضة» مرتبطة بالغرب منعزلة عن الشرق وإخفاقاتها في الاستغاثة بالمجد المصري القديم ليدفع عنها قهر الوجه الآخر للنهضة الغربية وهو الاستعمار. وكانت هذه الوسطية أو الاعتدال تبريرًا أيديولوجيًّا للدعوة إلى اشتراكية تدريجية وديموقراطية موجهة على السواء، بل هي التي أثمرت في الأغلب نظرية «المستبد العادل» عند توفيق الحكيم من رواية «عودة الرُّوح» عام ١٩٣٤م إلى الكتاب النظري «التعادلية» عام ١٩٥٥م إلى دعوته المثيرة «لحياد مصر» عام ۱۹۷۸م.
أما كتابا حمدان والعزب موسى فهما يخلوان أولًا من المنظور الإقليمي، وثانيًا من الانحياز الطبقي للبرجوازية الوسطى. ورغم ذلك فأولهما — كعالم جغرافي — يقول بوسطية مصر على الصعيدين الطبيعي والبشري (الفصل ۱۲، التوسط والتوازن، من ص٤٥١ إلى ص٤٧٠)، ويؤكد على الوحدة في الثنائية وعلى الانسجام في التناقض، وينتهي إلى القول: «ولعل هذا يؤكد كيف أن شخصية مصر الكامنة هي دائمًا في مَلَكة الحد الأوسط وفي عبقرية الحل الوسط» (ص٤٧٠). وأما الثاني فهو — كمؤرخ — ينظر إلى تطور مصر التاريخي كعملية متوازنة قامت بها الحضارة المصرية على مر العصور، إذ استوعبت حلقات التاريخ الكبرى: الفرعونية، المسيحية، الإسلام، لتفرز بعدئذٍ «مصر العربية الحديثة» كمركب للأقانيم الثلاثة يميز مصر عن غيرها من أقطار العالم الحديث والعالم الإسلامي والعالم العربي دون أن يبتر صلتها العضوية بالعوالم الثلاثة.
والنتيجتان اللتان ينتهي إليهما الجغرافي والمؤرخ صحيحتان، ولكنهما ناقصتان؛ فالوسطية الطبيعية والاعتدال السلوكي والتوازن التاريخي — والباحثان رصدا الكثير من مظاهر العناصر الثلاثة في توصيفٍ أقرب إلى الدقة لشخصية مصر — لا يقود ذلك كله إلى «الاستنتاجات» العفوية أو المتعمدة عند غيرهما ممن يقولون بأن السماحة المصرية والصبر المصري هما خلاصة الفكر والفعل في حياة المصريين، حيث تصل صراحة القول في هذه «القيم» إلى حدود البراغماتية والانتهازية وانعدام الشجاعة والخضوع للقهر والاستسلام للذل. المؤلفان لا ينتهيان بالقطع إلى هذه النتائج، ولكني قلت إن نتائجهما ناقصة وغير كافية. وكنت أقصد أن «الحيثيات» الصحيحة التي يوردانها من الممكن أن تبرر لغيرهما الوصول إلى نتائج غير صحيحة على الإطلاق.
فالوسطية المصرية كاعتدال جغرافي وتوازن تاريخي، تؤدي إلى «أسلوب» متميز في معالجة التطور الوطني والاجتماعي، ولكنها ليست بأية حال «مضمونًا» ثابتًا لهذا التطور. إن هذا الأسلوب هو جزء من «الخصوصية» المصرية التي لا تلغي القوانين العامة، بل تتفاعل معها على نحو متمايز عن غيرها، فالمصريون الذين قدموا أربعمائة ألف شهيد (مسيحيين ووثنيين) في يوم واحد تبدأ به السنة القبطية تخليدًا لذكرى المذبحة التي أقامها الطاغية الروماني دقلديانوس، هم أنفسهم الذين دخلوا في دين الإسلام أفواجًا، فهل كانوا شجعانًا في الواقعة الأولى وجبناء في الثانية، أم أن الأمر يحتاج إلى تحليل حضاري أعمق لشخصية مصر؟ والمصريون الذين لم يصمتوا لحظة واحدة طيلة الحكم التركي المملوكي هم أنفسهم الذين رحبوا بمحمد علي واليًا عليهم مستقلًّا بهم. والمصريون الذين افتتح الخديو إسماعيل برلمانهم الأول فشكروا «الحضرة الخديوية» على هذه «المنحة» هم أنفسهم الذين قالوا له بعد وقت قصير «نحن نواب هذه الأمة». والمصريون هم الذين قاتلوا إلى جانب عرابي وسعد زُغلول وعبد الناصر، ضد العرش والاستعمار البريطاني وكبار الملاك، وهم الذين سخَوا في عطاء الدم خلال أربع حروب ضد إسرائيل بين ١٩٥٦ و۱۹۷۳م، وهم أنفسهم الذين قدموا أكثر من ٣٠٠ شهيد في أحداث ۱۸ و۱۹ يناير (كانون الثاني) ۱۹۷۷م، وهم الذين انتفضوا على هزيمة ١٩٦٧م سواء في ظل عبد الناصر عام ١٩٦٨م أو في ظل الذين جاءوا بعده بين عامي ۷۱ و۱۹۷۸م في عمل سياسي متصل لم تعرفه الأقطار العربية الأخرى، رغم بشاعة القهر ووسائل التعذيب النفسي والبدني وسياسة التجويع والتشريد والنفي.
إن مصر كمجتمع طبقي تكاد تنعدم فيه النتوءات الطائفية (العرقية أو الدينية) يعرف اليسار واليمين في قاعدته الاجتماعية وتعبيراته الفكرية على السواء، كما أنه يعرف «الوسط» تعبيرًا عن الطبقة المتوسطة العريضة بأجنحتها المتعددة. وهو مجتمع يعرف العنف والتطرف كغيره من المجتمعات، ولكن أسلوبه الخاص يطبع هذا العنف والتطرف بطابع مميز اكتسبه من خبراته التاريخية مع الدولة المركزية العريقة في القدم ونظام الري والجهاز البيروقراطي الموغل في التاريخ والحضارة الزراعية، وموقعه الاستراتيجي بين القارات الثلاث. أي من خلال خبرته في الوعي واللاشعور الجمعي مع «السلطة» الوطنية و«الغزو» الأجنبي على السواء. هنا تتخذ المقاومة السلبية للشعب المصري أساليب محددة كالنكتة والإشاعة، ذلك الجهاز الإعلامي السري والأكثر خطرًا من الإعلام الرسمي العلني. المقاومة الإيجابية لا تعرف «الحرب الأهلية» ولكن وسائل الاحتجاج السلمي كالتظاهر والإضراب والاعتصام، أي الرقابة الإيجابية على السلطة، ولكن هذا السِّلْم يتحول إلى نار ودم في مواجهة الغزو الأجنبي، هنا يتحول المصريون إلى «وحوش ضارية» كما وصفهم الإسرائيليون. ولكن السلطة الدكتاتورية واليمين المتطرف والغزاة الأجانب يواجهون هذه الخصوصية في نضال الشعب المصري بنقيضها: التخريب لدرجة حرق القاهرة من جانب عملاء الحكومة، لتشويه الاحتجاج الشعبي ولتبرير إجراءات السلطة الدكتاتورية. الاغتيالات الفردية من جانب اليمين المتطرف: الإخوان المسلمون ومصر الفتاة والحزب الوطني في الأربعينيات، وجماعة التكفير والهجرة في السبعينيات. إرهاب المدنيين من جانب الغزو الأجنبي ابتداءً من ضرب الإسكندرية بمدافع الأسطول البريطاني عام ۱۸۸۲م إلى ضرب بورسعيد بمدافع الأساطيل الإنكليزية والفرنسية والإسرائيلية عام ١٩٥٦م إلى ضرب مدرسة «بحر البقر» وعمال «أبي زعبل» عام ١٩٧٠م إلى ضرب السويس عام ١٩٧٣م. واليمين المصري يصل في تطرفه إلى درجة الاعتراف بالعدو الوطني والطبقي والقومي عام ۱۹۷۷م. واليسار المصري تطرف يومًا في اعتبار ثورة تموز ١٩٥٢م انقلابًا فاشستيا، وتطرف يومًا آخر بأن حل منظماته السرية وانصهر في بوتقة النظام. و«الوسط» المصري تطرف يومًا لدرجة الإقدام على حرب ١٩٦٧م، وتطرف يومًا آخر لدرجة القبول بمشروع روجرز. وهكذا، فوسطية مصر واعتدالها قد تكون مقولة جغرافية وتاريخية صحيحة، ولكن الجغرافيا شيء والجغرافيا السياسية شيء آخر، والتاريخ شيء والاقتصاد السياسي شيء آخر، والاقتصار على المصطلح الجغرافي وحده ليس قصورًا سياسيًّا، بل فكر سياسي أيضًا.
(١٣) ثورة القاهرة الأولى وثورة القاهرة الثانية ضد الاحتلال الفرنسي خلال ثلاث سنوات (۱۷۹۸–۱۸۰۱م) كانتا تتويجًا جبهويًّا لمختلِف الانتفاضات السابقة واللاحقة، فجبهات البدو والفلاحين ضد الأتراك والمماليك منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وجبهة المصريين مع محمد علي ضد السلطنة العثمانية منذ بداية القرن التاسع عشر، لا تؤصل تاريخًا فقط بل تصوغ إحدى خصائص النضال المصري، فالثورة العرابية والوفد المصري والثورة الناصرية هي حلقات ثلاث في تطور «الجبهة» المصرية التي لا سبيل لحكم مصر بغيرها إلا الحكم المنفرد من جانب الأقليات الدستورية أو الغزو الأجنبي. فالطبقة المتوسطة العريضة بأجنحتها المتباينة من المنبع إلى المصب تفرض على المجتمع المصري تكوينًا سياسيًّا مغايرًا للاستقطاب. ومن هنا كانت «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» عام ١٩٤٦م البديل الموضوعي لجبهة الأحزاب الموقعة على معاهدة ١٩٣٦م، كما أن انتفاضة ١٩٦٨م و۱۹۷۷م كانت البديل الموضوعي لغياب الجبهة الحزبية المنظمة. لذلك كانت الجبهة وستظل لأمد طويل هي قدر التيارات السياسية المصرية، وهي التنظيم الوحيد القادر على تجسيد الديموقراطية في بلد كمصر.
(١٤) هنا يجب أن نقرأ باهتمام المؤلفات الرئيسية لرفعت السعيد في التأريخ للحركة الاشتراكية في مصر، بدءًا من أطروحة الدكتوراه التي تنتهي بعام ١٩٢٤م ثم كتاب «اليسار المصري» بين ١٩٢٥ و١٩٤٩م، فرغم أية تحفظات على منهجية البحث وانحياز الباحث سلفًا لتيار سياسي معين، فإن جملة الوقائع تؤدي إلى توصيف عام لظاهرة «الشرذمة» في صفوف اليسار المصري منذ نشأته، وهو أحد أجنحة البرجوازية الصغيرة التي طبعت الماركسية بطابعها الأيديولوجي والتنظيمي فلم ينجُ مناضلوها من هذا «الوباء». فليس كافيًا تبرير تفتتهم بالتسرب البوليسي والعمل السري والضربات المتلاحقة من جانب حلفائهم، فلقد عرَف غيرهم من المناضلين في أقطار أخرى ما يشبه هذه الظروف لدرجة أو أخرى، ولم يكن نصيبهم التمزق لدرجة الذوبان في إحدى الفترات، في تنظيم الحكم الناصري.
(١٥) منذ رفاعة الطهطاوي إلى وقتنا الحاضر لم ينته الجدل في الفكر المصري الحديث حول تعريف «الأمة» فبين التعريف «المصري» والتعريف «الإسلامي» والتعريف «العربي» سجال لا ينتهي، لا يؤرخ فحسب لتطور الوعي المصري أو الطبقات الاجتماعية المصرية، بل يعبر عن «الزلزال» الذي أصاب «الهُوية» في مصر منذ فجر النهضة الحديثة.
  • بعض المؤرخين غير المصريين، وبالذات محمد عزة دروزة في كتابه «عروبة مصر قبل الإسلام وبعده»، يرون مصر جزءًا من الأمة العربية منذ فجر التاريخ المكتوب إن لم يكن قبله، على أساس «العِرق». وهم يردون ذلك حينًا إلى الهجرات الآسيوية إلى مصر، حتى يعتبرون الهكسوس عربًا، أو هم يرون وحدة الدم في المنطقة الأفريقية الآسيوية كلها، والتي تُعرف الآن بالعالم العربي. أما بعد الإسلام فهم يضيفون عامل «الدين» في توحيد شعوب الأمة العربية، وأحيانًا «الشعب العربي» الواحد. ومن هؤلاء أيضًا المؤرخ المصري علي حسني الخربوطلي في «التاريخ الموحد للأمة العربية» الذي يفرق بين الأمة العربية والوحدة العربية والدولة العربية؛ فالأمة تقوم على أساس العنصر، والوحدة تقوم على أساس اللغة، والدولة تقوم على أساس الدين، وبالتالي فمصر عربية منذ فجر التاريخ وعربية إسلامية منذ الفتح.

    ونقطة الضعف المركزية في هذا التيار هو أنه يحول «الاجتهاد» إلى يقين فيغلق دون قصد باب الاجتهاد، فهو قد يعثر في شواهد التاريخ والكشوف العلمية ما يؤيد وجهة نظره، ولكن خصومه بدورهم — سواء كانوا مع الدين وحده أو العنصر العربي وحده أو العنصر المصري وحده — يعثرون هم أيضًا على شواهد مضادة في التاريخ نفسه والكشوف العلمية الأخرى. ولما كان «التاريخ» في النهاية علمًا متطورًا يغتني بكشوف الآثار والمناهج الأنثروبولوجية الجديدة وجب التحفظ قليلًا بنسبة الاجتهاد إلى «وجهة نظر» لا إلى «حقيقة علمية»، خاصة وأن «الأمة» في النهاية تكوين سياسي، ثقافي، اجتماعي، قد لا يقبل تعريفه في عصر ما وبيئة ما ما يقبله في عصر آخر وبيئة مغايرة. فالعِرق والدين، على سبيل المثال، لم يعودا من المقومات الرئيسية في تعريف «أمم» عصرنا، على غير النحو الذي كان فيه ذلك صحيحًا في عصور مضت.

  • وهو الإشكال نفسه الذي يقع فيه دعاة «الأمة المصرية» في تاريخ الفكر المصري الحديث منذ محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وعبد القادر حمزة وسليمان حزين وشفيق غربال وحسين فوزي وتوفيق الحكيم ولويس عوض ونعمات فؤاد، وحتى بعض جوانب فكر جمال حمدان. وبالطبع فهم يختلفون بعضهم مع بعض، ومراحل تفكيرهم تتعدد في هذه القضية لدرجة التناقض، ولكنهم بشكل عام يرون أن هناك «أمة مصرية» من قبل التاريخ المكتوب إلى يومنا هذا، تستوعب الحضارات المختلفة وتتمثلها وتضيف بها إلى تكوينها، ولكن خصائصها الجوهرية ثابتة رغم المتغيرات التي تؤثر على القشرة الخارجية.

    ولم تكن هذه الفكرة «المصرية» في بدايتها نقيضًا للفكرة العربية، بل نقيضًا لفكرة الجامعة الإسلامية. وكانت الفكرة العربية في بدايتها عند أقلية من مثقفي مصر — كزكي مبارك وأحمد حسن الزيات — مختلطة بالدين. على أن الترجمة السياسية لهذه الدعوة منذ بداية القرن الحالي إلى قرب منتصفه ظلت تتراوح بين الاعتراض على الحكم التركي والتقارب مع الغرب. أما الترجمة الحضارية فكانت الاعتماد على جذور الماضي المجيد في شرعية التواصل مع الحضارة الأوروبية الحديثة. غير أن الحرب العربية الإسرائيلية عام ١٩٤٨م، ثم ثورة تموز ١٩٥٢م، وضعت هذه الدعوة أمام مفترق طرق واختيار صعب؛ إذ لم يعد الحكم التركي واردًا منذ ثورة أتاتورك، ولم يعد التفاعل مع الحضارة الغربية الحديثة محتاجًا إلى شفيع رومانسي من المجد الفرعوني، بل أضحى المصير «المصري» جزءًا لا ينفصل عن المصير العربي المحيط شرقًا وغربًا وجنوبًا بمصر. هنا تَدَخَّل العنصر الطبقي في تعريف قومية المصريين. وقد حدث ذلك في خضم صراع معقد داخل المجتمع وداخل الفكر وداخل السلطة طيلة ربع القرن الأخير. ولكن الذي يجمع الأطراف هو العنصر المنهجي الذي يُسقط الحاضر على الماضي كله، وهي عملية تناقض «التأصيل» التاريخي-الاجتماعي للظاهرة المعاصرة. وكثيرًا ما تناقضت أيضًا المصلحة الاجتماعية، السياسية، الثقافية مع التعبير الفكري والتنظيمي عنها. فالبرجوازية المصرية، خاصة فئاتها العليا، صمتت كثيرًا، ولكنها أعلنت مرارًا أن مصر لا عَلاقة لها بالعرب. وليست صدفة أن أكثر الفترات ازدهارًا لهذا الصوت يحتل المرحلة التالية لانقلاب ۱۹۷۱م حتى اليوم. لنرصد الظواهر الملازمة للدعوة: الصلح مع إسرائيل على صعيد قضية التحرير الوطني، التبعية للاحتكارات الأجنبية وسيطرة الفئات الطفيلية على الإنتاج، على الصعيد الاقتصادي والسياسي. القطاعات الواسعة من شعب مصر، اكتشفت وجهها العربي على نحو ليس له مثيل، بفضل جمال عبد الناصر الذي طرح القضية على مستوى الشارع للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث بعد أن كانت مناظرات مترفة في حلقات ضيقة من المثقفين. ولكن «التعبير» عن هذه القطاعات عاد إلى المقولات الكلاسيكية ذاتها التي كانت في العشرينيات والثلاثينيات، بالبحث عن العِرق والدين كأساس لقومية «العرب» من المصريين، أو بالبحث عن مقومات «الأمة» في كراسة ستالين، والقول من ثَم بأننا أمة في مرحلة التكوين. الفريق الأول أسقط الحاضر على الماضي فأصبح أحمس وتحتمس ورمسيس الثاني رموزًا للانفتاح على الاستعمار والصهيونية. والفريق الثاني أسقط الحاضر على الماضي فأصبح الخلفاء الراشدون أو اللينينيون هم رموز النضال ضد الاستعمار والصهيونية. وهنا يجب الاعتراف بأن الشعب المصري الذي لم يكن يومًا من بين الشعوب الباحثة عن هُوية، لم يقدِّم بعدُ المفكر الاستراتيجي — لا الكاتب أو الصحفي — الذي يؤصل عروبة مصر، على غير النحو الذي حدث، مثلًا، في «بر الشام»، حيث قدَّم أبناؤه السوريون واللبنانيون والأردنيون والفلسطينيون إسهامات لا شك في أهميتها للفكر القومي العربي وحتى بالنسبة لعروبة مصر، فإن كتاب أنيس صايغ «الفكرة العربية في مصر» وكتاب ذوقان قرقوط «تطور الفكر العربي في مصر ۱۸۰٥–١٩٣٦م» هما أهم مصدرين — على صعيد التأريخ السياسي — لدراسة مصر «العربية».

  • والفضل يعود إلى أدبيات «حزب البعث العربي الاشتراكي» و«الناصرية» و«الماركسيين العرب» في استبعاد العِرق والدين من بين العوامل الصانعة للقومية العربية، كما يعود إليهم الفضل في تطبيقاتهم العملية إلى اقتران الفكر القومي بالفكر الاشتراكي. ويبقى القول إن الأمة العربية وُجدت منذ فجر التاريخ — أو الأمة المصرية أو الأمة السورية — كالقول بأن هذه أو تلك وُجدت على نسق القوميات الأوروبية في السوق الرأسمالي أو أنها «توجد» بالتدريج حسب مواصفات ستالين للقومية: حاصل جمع اللغة والتكوين النفسي والتاريخ والاقتصاد والأرض، فإذا نقص عنصر كانت القومية «قيد التكوين». إننا نستطيع بالنسبة للأمة العربية أن نضع مجموعة من الفروض ومجموعة من التجارِب، ثم نصوغ تعريفًا ديناميًّا لا يُسقط الحاضر الاجتماعي بل يؤصل الواقع التاريخي:
  • لنكن متحدرين من أعراق أو أجناس مختلفة نحن أبناء هذه المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج، فالمؤكد حتى الآن أننا قبل التاريخ المكتوب وبعده بكثير كنا قبائل وعشائر ثم طوائف ما زالت بصماتها تكوي مجتمعاتنا إلى الآن مما يثبت حضورها رغم البعد الزمني الشاسع. ومن الممكن القول إنه في ظل الحضارات الأساسية القديمة في المنطقة من النيل إلى الفرات انتقلنا من مرحلة الرعي أو الصيد أو الحرب — كوسائل للإنتاج غير المستقر في المكان — إلى مرحلة «الشعوب» المستقرة على ضفاف الأنهر وفي الوديان وعلى شواطئ البحار وفوق الجبال. لم ينته الرعي أو الصيد أو الحروب، ولكن الزراعة ثم التجارة غيرت من وسائل الإنتاج وعَلاقاته وقيمه أي من هياكله، فأصبحنا «شعوبًا» لا تنفي القبلية والعشائرية والطائفية ولكنها تحاول استيعابها في وَحَدات أكبر.
  • سواء كنا مسلمين أو غير مسلمين لا بد من الإقرار بأن الإسلام التاريخي لعب دورًا توحيديًّا جديدًا لشعوب هذه المنطقة. وأن الإسلام الثقافي — عبر اللغة العربية — بقي عنصرًا حضاريًّا مؤثرًا في التكوين العقلي والوجداني لهذه الشعوب. ولكن الإسلام كعقيدة دينية ليس خاصًّا بالعرب وحدهم، وقد استضاف على مر العصور إسهامات غير عربية شكلت إطاره العام رغم الجوهر العربي، فمن خراسان في أقصى الشرق إلى إسبانيا في أقصى الجنوب الغربي، أضافت الشعوب غير العربية إلى الإسلام إضافات غنية. ومن ثم، فهناك جانب من الإسلام يدخل ضمن عوامل الوحدة بين العرب، هو دوره السياسي الأول في التوحيد وهو أيضًا دوره الثقافي المتصل الحلقات. وهناك جانب آخر من الإسلام لا عَلاقة له بالتوحيد العربي هو العقيدة الدينية المتجهة في الأساس لمخاطبة الإنسانية جمعاء لا أمة بعينها. وهنا أحب أن أَلفِت النظر والانتباه الشديد إلى دراسة موجزة ولكنها بالغة الثراء وغنية بالإيحاء والتوجيه إلى جذور «مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ» — وهو عنوانها الرئيسي — لدراسة «مدلول الأمة في التراث العربي والإسلامي» وهو عنوانها الثانوي، لناصيف نصار (دار الطليعة، ۱۹۷۸م). والدراسة في فصول خمسة تبحث مفهوم «الأمة» في القرآن وعند الفارابي والمسعودي والشهرستاني وابن خلدون، أي في الأصل الديني وفي الفلسفة وفي التاريخ وفي الفقه وفي علم الاجتماع، كما عُرِف ذلك كله في ذروة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية إبان العصر الوسيط. ونكتفي باستخلاص التباين (لا التنوع) بين معاني «الأمة» في صدر الإسلام وفي ظل الدولة الإسلامية، بحيث لا يجوز سلخ أيٍّ من معانيها عن سياقها اللغوي أو التاريخي أو الفقهي أو الديني أو الاجتماعي، وإلصاقها بما نقصده نحن الآن من هذا اللفظ. وكل ما يمكن قوله في هذه النقطة هو أن تيارًا حضاريًّا شاملًا قد ساد هذه المنطقة بعد استيعابٍ دقيق لتراثاتها المختلفة، وأن هذا التيار قد آذن بوحدة شعوب هذه المنطقة في «أمة» لها كِيانها القومي العام ولها خصائصها النوعية المستقلة في آن واحد.
  • مع تدهور الدولة الإسلامية وبزوغ الإمبراطورية العثمانية في ظل الخلافة غير العربية، وقعت على مختلِف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأحيانًا الثقافية، «ردة» على الخطوات الأولى نحو الوحدة القومية، فاستعادت الكيانات القبلية والعشائرية قوتها تحت أغطية طائفية رسخها نظام السلطنة وأسلوب الخلافة معًا، ومن ثم انتقلت في ظل الإسلام نفسه، قُبيل الحكم التركي وبعده، أي إبان عصور الانحطاط، أول تجزئة سياسية تعهدتها الدول الغربية الكبرى منذ الحروب الصليبية إلى الاستعمار الحديث في القرن التاسع عشر بالري الدائم والرعاية الفائقة، وابتكرت لها الأشكال الدستورية والمبررات العصبية والعائلية والدينية بهدف تكريسها كأمر واقع. ولكن النقيض الشعبي كان هو الآخر حاضرًا كبذرة تقاوم تحدي الأمر الواقع، ففي مواجهة الاستعمارين التركي باسم الإسلام والفرنسي والبريطاني باسم المسيح، تكونت منذ أواخر القرن الماضي النواة «القومية العربية الحديثة» بمعنى وحدة المصير. وتلك كانت النقلة الثانية بعد فتوحات «التيار الحضاري» للإسلام.
  • وأقبلت النقلة الثالثة مع أخطر المشاريع الاستعمارية للغرب على الإطلاق، وهو المشروع الصهيوني، حيث يمكن القول بأن وعد بلفور عام ۱۹۱۷م، حيث أعطى من لا يملك من لا يستحق، هو نفسه تاريخ الفكر والعمل القوميين العربيين. هذا لا ينفي ما سبق هذا التاريخ ابتداءً من هرتزل وانتهاءً بالهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين. ولكن ما وقع بعد هذا التاريخ من جانب العرب واليهود والعالم، هو الأكثر أهمية، فقد كرس المشروع قيام الدولة العبرية بعد الوعد البريطاني بثلاثين عامًا، وكرس نقيض المشروع في الوقت نفسه. فقد كانت مشاركة الجيش المصري في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، مهما كانت التحفظات على الملك فاروق وحكومة النقراشي، ومشاركة المتطوعين المصريين مهما كانت التحفظات على الإخوان المسلمين، هي البداية الحاسمة لاكتشاف مصر لوجهها العربي. تلك المهمة التاريخية التي أرسى دعائمها جمال عبد الناصر بثورته عام ١٩٥٢م، وبأربع حروب مع إسرائيل بعد هذا التاريخ.
  • تطبيقًا للفروض السابقة على الهوية القومية لمصر لا أجد ما أضيفه إلى ما سبق أن قلتُه في كتابي «عروبة مصر وامتحان التاريخ»: «لا يثير أية مخاوف أن يشعر المواطن العربي في مصر، بإحدى درجات التكامل الحضاري أو ما يشبه الاكتفاء الذاتي. ولكن المخيف هو استغلال هذا «الشعور» سواء بالمزايدة أو المناقصة. ولقد حدث في مراحل مختلفة أن استفزت أطراف متعددة الشعور «القومي» لدى المواطن العربي في مصر استفزازًا سياسيًّا مرتبطًا بجذور اقتصادية أو أيديولوجية لا عَلاقة لها بالسياق التاريخي والواقعي للمشاعر القومية عند المصريين.
وقد كان الاستفزاز الأول هو الخلط الشديد بين القومية والدين من جانب بعض الذين رأوا في «الإسلام» جذرا يتيمًا لوحدة العرب. وكانت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية عند جمال الدين الأفغاني تحمل بشكلٍ ما مضمونًا معاديًا للاستعمار. ولكن المصريين الذين لاحظوا الامتداد العثماني الدعوة الإسلامية، تحفظوا عليها وقالوا بأن «مصر للمصريين» وليست للأتراك أو للإنكليز. وحين عادت الفكرة الإسلامية إلى الظهور مع «الإخوان المسلمين» تناقضت بوضوح مع الفكرة العربية باعتبارهم لها مخطَّطًا يحول دون وحدة العالم الإسلامي الشاملة. وقد تسبب ذلك كله في بلبلة الإحساس القومي للمصريين الذين لا يتخلون عن شعورهم الديني، ولكنهم لا يخلطون بينه وبين الشعور القومي.
وكان الاستفزاز الثاني من جانب «بعض» دعاة القومية العربية الذين خلطوا بين العِرق والأمة بحيث بات الأمر مقصورًا على هذا «الشكل العنصري» المعادي لأي مضمون اجتماعي متقدم. وهكذا كادت الفكرة القومية التي قدمها هؤلاء أن تكون تبريرًا نازيًّا للأسلوب الفاشستي في نظام الحكم. ولأن الديموقراطية كانت «الجوع» المصري، فقد رفض المصريون بفطرتهم — التي رفضت من قبل التطرف الديني — هذه الراية العنصرية وحلمها الإمبراطوري العربي.
وكان الاستفزاز الثالث هو الإقليمية المصرية التي تتمسح حينًا بالإسلام وأحيانًا بالعروبة، ولكنها في جميع الأحوال ترفع شعار «مصر فوق الجميع» الذي جسدته فرق القمصان الخضر لحزب مصر الفتاة. إن التناقض الحاد بين الكِيان القومي المغلق والصراع الطبقي العنيف الذي عرَفته مصر بعد الحرب العالمية الثانية، دفع المصريين إلى رفض هذه العنصرية الجديدة المضادة للصراع الاجتماعي والتطور.
وقد كانت هذه الاستفزازات الرئيسية الثلاثة ردود فعل مشوهة، ورؤية وحيدة الجانب، لحقيقة التكوين القومي في مصر. هذه الحقيقة التي ينبغي النظر إليها موضوعيًّا بمعزل عن مشاعرنا الدينية والعرقية والأيديولوجية حتى نحصل في البداية على مقومات صحيحة، تقودنا من ثم إلى نتائج صحيحة.
هذه الحقيقة التي يمتزج فيها التاريخ بالجغرافيا في سياق حضاري موحد، تقول:
  • (١) إن هناك طبقات تكاد تكون جيولوجية وأنثروبولوجية على صعيد الحضارة التي بدأت بالمرحلة الفرعونية ثم اليونانية الرومانية فالقبطية والإسلامية. وقد عرَفت المرحلة الأولى (مصر القديمة) عصور الانفتاح والانغلاق بمعنى الانتصارات والهزائم. أي إن مصر في ذلك الوقت البعيد لم تكن تستطيع الحياة إلا وهي على اتصال بالعالم الخارجي، وكانت تموت حين تفقد هذا الاتصال وتهزمها الجيوش المغيرة. أبدًا، لم يتمكن الفراعنة من الحل الوسط أو الانكفاء على الذات والانكماش داخل الحدود. كانوا إما منتصرين على الجيران القريبين والبعيدين، وإما منهزمين من هؤلاء وأولئك.

    المرحلة الثانية عاشت مصر تحت سلطة اليونان والرومان، ولم تك حركاتها الاستقلالية إلا تمردات بقيادة الولاة الذين «استقلوا بمصر» عن أثينا أو روما. كانت إعلانًا للعصيان أكثر منه استقلالًا لمصر. وفي هذه المرحلة عاشت مصر المسيحية أسوأ العصور على الإطلاق. هو عصر البطولات حقًّا (أكرر أن السنة القبطية تبدأ بعام الشهداء الذي قتل فيه دقلديانوس ألوف المسيحيين المصريين) ولكنها البطولات التي أثمرت أديرة الصحراء والموسيقى الكنسية الحزينة.

    وأقبلت المرحلة الثالثة والإمبراطورية الرومانية تترنح وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، بينما كان الإسلام حضارة فتية استوعبت الفلسفات القديمة والمعاصرة وحملت مشعل الحضارة إلى عصر النهضة بعد أن أطفأته بيزنطة. وبالرغم من الاختلاف العقائدي بين المسيحية والإسلام، وبالرغم من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لفتوحاته، فإن انتشاره السريع في مصر كان انتصارًا على الرومان لا على المصريين. وتدل الكتل البشرية العريضة التي دخلت الإسلام فورًا، على أن الأمر لم يكن «غزوًا» بالمعنى الاستعماري الحديث، وإلا لأبقَوا على دينهم رغم الاستعمار. وإنما يدل ذلك أولًا على أن «جماهير الفقراء» التي بادرت إلى اعتناق الدين الجديد قد تسلحت به في مواجهة الإمبراطورية العجوز، تمامًا كما حدث لنفس الإمبراطورية قبل ذلك في فلسطين حين كانت تدين بالوثنية وظهرت المسيحية كعقيدة جديدة للفقراء وسلاح أيديولوجي للعبيد. وحين اتخذ قسطنطين قراره السياسي باعتماد المسيحية دينا رسميًّا للدولة، للسيطرة الدينية على الفقراء والعبيد، كانت الكنيسة الوطنية في مصر أبعد نظرًا وأكثر صلابةً، فالتمست عديدًا من الفروق الجوهرية بين الكنيسة البيزنطية والكنيسة القبطية، مما أبقى على رُوح الخلاف الأصيل: التناقض بين السادة والعبيد، بين المستعمِرين وأصحاب الوطن. وحين أقبل الإسلام، حل المشكلة اللاهوتية الطافية على السطح بجذورها المادية الممتدة في الأعماق، وأصبح — في أيدي المصريين — سلاحًا فكريًّا رفيقًا للكنيسة الوطنية في مطاردة الاستعمار الروماني بثيابه المسيحية المستعارة.

  • (٢) إذا كانت قد صاحبت الإسلام في البداية مظاهر الفتح، فقد كان ذلك موجهًا في الأساس ضد الرومان. كما أن دخول الغالبية الساحقة للمصريين في الدين الجديد قد سحب الأرض من تحت أقدام الفاتح باسم الاستعمار الاقتصادي والاستبداد السياسي. ذلك أنه لم يعد من حق الحاكم الجديد — إذا كان انتشار الإسلام غايته وليست الجزية — أن يفرض على المؤمنين الجدد شيئًا. لقد تساوى الفاتح بالمفتوحين، وتساوى المؤمنون المصريون بالمؤمنين في الحجاز ونجد. وهكذا حصلوا على استقلالهم من جديد. ولكننا بعيدًا عن معاني الاستقلال في ظل الدولة الإسلامية المتشعبة الأطراف والمتعددة المراحل، نقول إن الإسلام الذي توغل في آسيا وحدود أوروبا لم يضف إلى التكوين المصري بعدًا عقائديًّا فحسب (يشترك فيه جميع المسلمين) وإنما كانت إضافته الكيفية إلى الرُّوح المصرية هي البعد العربي. لم يكن ذلك لأن لغة القرآن هي العربية (فقد ظل المصريون يتكلمون القبطية فيما بينهم أكثر من ثلاثة قرون) وإنما لأن الحضارة التي ظهر فيها القرآن، بكافة مقوماتها المادية والفكرية وبمختلِف أبعادها التاريخية والجغرافية، قد تفاعلت مع الحضارة المصرية تفاعلًا إيجابيًّا حاسمًا لا نظير له في تركيا وإيران وإندونيسيا والهند وطشقند، بالقارة الآسيوية، كما أنه بلا نظير في كثير من أقطار الشمال الأفريقي بالمغرب وحتى إسبانيا في أوروبا. إن هذا التفاعل البعيد المدى والخطير الأثر هو الذي أدخل مصر، مع الفتح الإسلامي، رحاب مرحلة جديدة تمامًا في تاريخها الحضاري المتصل. وهي المرحلة التي ظلت طيلة قرون تغلي بعديد من التفاعلات الداخلية والخارجية السلبية والإيجابية، حتى أثمرت فيما بعد ما ندعوه بمصر العربية الحديثة.
  • (٣) إن مصر العربية الحديثة ليست امتدادًا كَمِّيًّا للعالم الإسلامي، وإنما هي ثمرة كيفية للعالم العربي الذي خرج منه الإسلام، فلم يكن بالنسبة لها مجرد عقيدة دينية، وإنما كان إضافة حضارية لقسماتها القومية المميزة. ومصر لم تفقد مسيحيتها بالإسلام بقدر ما هي ربحت عروبتها. عروبة لا عَلاقة لها بالعرق أو العنصر، رغم كل ما يقال عن الهجرات القديمة والوسيطة والحديثة من هنا إلى هناك وبالعكس. عروبة ليست وهمًا ميتافيزيقيًّا هابطًا من أعلى، وإنما هي داخل السياق التاريخي للمجتمع المصري تشكل رافدًا يتجاوب بالمد والجزر والشد والجذب مع المكونات الأصيلة والمستحدثة لسكان وادي النيل. عروبة تستمد جذوتها المتقدة من نيران الطبقات الشعبية ذات المصلحة الدائمة، منذ الفتح الإسلامي، في التقدم الاجتماعي. عروبة تحقق لمصر الاستقلال عبر الانتماء المنتصر لا بالانفصال المهزوم: وهو المعنى الرابض في التقاليد العريقة لمصر القديمة. عروبة تضيف لمصر ولا تنقص منها. عروبة لا تذيبها في بحر بلا حدود ولا قرار، ولا تحاصرها كجزيرة مهجورة.
    وإذا كان القانون الداخلي لمصر — على مر التاريخ — هو أنها لا تستطيع الحياة المستقلة إلا عبر ارتباطها بالآخرين، وأن البديل الوحيد لذلك هو الهزيمة، فقد برهن السياق التاريخي تأكيدًا لصحة هذا القانون على عدة نقاط: (أ) الأولى: هي أن ثمة «تيارًا حضاريًّا مشتركًا» بين شعوب المنطقة العربية قد بدأ مع الفتوحات الإسلامية وازداد تبلورًا في مواكبة الأحداث السياسية والاجتماعية. (ب) النقطة الثانية: هي أن هذا التيار الذي تجلت ذروة ازدهاره في العصر الوسيط قد دخل مرحلة مظلمة من تاريخه مع سيادة الإمبراطورية العثمانية، وأنه قد استفاق على هراوة الحضارة الحديثة منذ حوالَي قرنين من الزمان، تَكوَّن خلالهما ما يمكن تسميته «وحدة المصير العربي» في مواجهة الاستعمار التركي والغربي بكافة جنسياته ومراحله. (ج) النقطة الثالثة: هي أن «مصر مركز هذا المصير» بأحداثها الداخلية وعَلاقاتها الخارجية، هي العامل المؤثر الحاسم، وإن لم يكن الوحيد، هي العنصر الموجِّه، ضعفها يضعف بقية الأطراف، وقوتها تقويها. (د) النقطة الرابعة: هي «الرُّوح العلمانية» التي بزغت مع بواكير اليقظة القومية لا للَّحاق بركب الحضارة الحديثة فحسب، وإنما لاستعادة جوهر الازدهار الذي عرَفته الحضارة العربية الإسلامية في أوج مجدها. (ﻫ) والنقطة الخامسة: هي «التقدم الاجتماعي» فقد أثبت السياق التاريخي أيضًا أن الطبقات صاحبة المصلحة في كل ما تقدم من اعتبارات هي القادرة على تغيير بوصلة التحول الاجتماعي (النظم والهياكل الإنتاجية والأبنية التحتية والفوقية) نحو الأرقى والأكثر فاعلية وتقدمًا على طريق النهضة والاستقلال والمشاركة في صنع المصير البشري العام.
  • (٤) كانت الجغرافيا المصرية ولا تزال «إطارًا» حضاريًّا ينبغي الوعي به وعيًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا. إن هذا الشريط المائي الممتد طولًا وسط الصحراء من الجنوب إلى الشمال قد أثمر هذا الوادي الأخضر الخصيب والضيِّق في آن. هكذا تصبح الكتلة البشرية الكثيفة — والتي تتعاظم كثافتها مع الزمن — في مأزق الاحتياج الدائم، وهكذا أيضًا يصبح صراعها عنيفًا من أجل العدالة. وهكذا أيضًا حاول فراعنتها وأباطرتها وولاتها وحكامها وملوكها وأمراؤها أن يحلُّوا المشكلة بالغزوات المتتالية. ولكن المعادلة الصعبة لم تكن لتُحل، لأن الغزو والغزو المضاد لم تكن لهما في أغلب الأحيان سوى ضحية واحدة هي الشعب البائس. لقد ظل الشعب المصري آلافًا من السنين أسيرًا للاختيار الصعب: أن يكون وقودًا رخيصًا في العجلة الحربية للحكام، أو أن يكون أرضًا تدوسها أقدام المحتلين.

    كما أن هذا الشريط المائي الطويل بنظام الري التقليدي العريق قد أدى سلبًا وإيجابًا إلى مركزة الحكم مركزة شديدة صارمة. لقد أدى مثلًا إلى ظهور «الدولة» بأجهزتها البيروقراطية المعروفة، في زمن تاريخي بالغ الاستثناء والتبكير. ولم يؤد — مثلًا أيضًا — لأن يكون الإقطاع المصري كشبيهه في أوروبا، مجموعة من الدويلات المستقلة بنبلائها الأباطرة الصغار. ذلك أنه لم توجد قط في مصر حواجز دائرية أو مستطيلة أو مربعة تشكل مانعًا حصينًا بين كل إقطاعية وأخرى، وإنما كان استواء الأرض وتجاورها وتشابهها تشكل استمرارًا مستقيمًا بين الإقطاعيات المصرية ولا تتيح — بنظام الري — إلا سيطرة واحدة للحكومة المركزية. وهكذا كانت الدكتاتورية والقهر والعبودية جنبًا إلى جنب مع التنظيم والتمدن.

    كذلك كان من شأن هذا الشريط المائي الطويل بواديه الأخضر الخصيب والضيق معًا، أنه ينبع من قلب أفريقيا ويصب في البحر المتوسط ليصبح قدر مصر الجغرافي، أن تربط بين قارات ثلاث: موقع يكاد يكون أسطوريًّا بمناخه المعتدل وصحاريه في الشرق والغرب تبدو كبوابة ذات وجهين، أحدهما يغري بالانكفاء على الذات والانكماش على النفس والآخر يغري بالغزوات والهزائم.

    وقد حصدت مصر وشعبها سلبيات وإيجابيات موقعها الجغرافي الدقيق. إنها إذا لم تكن موئل حضارة الإنسان الأول كما تذهب مدرسة كاملة من مدارس التاريخ الحضاري في العالم، فهي إحدى أهم الحضارات الإنسانية القديمة. وقد اتسمت، ربما لكثافة السكان والموقع الجغرافي نفسه، بالقدرة على الاستيعاب الإيجابي الفاعل. إنها بمرحلتها الفرعونية، ومرحلتها اليونانية الرومانية القبطية، ومرحلتها الإسلامية فالعربية الحديثة، تصوغ اتساقًا حضاريًّا نادرًا، احتفظت في إطاره الحي المتدفق بكل جديد أتاها من هنا وهناك، وجسَّدت من «الكل» بناءً متكاملًا ذا طوابق متعددة. وكان الجنين الحضاري في بطنها يحمل بعضًا من صفات الآباء والأجداد. هكذا نرى التفاعل بين دياناتها وأفكارها وقيمها رغم انتماء هذا الدين أو ذاك إلى مرحلة سحيقة في التاريخ، وانتماء هذه الأفكار أو تلك إلى مرحلة وسيطة أو حديثة.

ويجب أن نتوقف طويلًا عند بعض الظواهر «الفولكلورية» التي تدفع الكثيرين من المصريين المسلمين إلى زيارة مقام قديس مسيحي والعكس أيضًا. بل واستمرار بعض الشعائر القديمة وقد ارتدت ثيابًا مسيحية أو إسلامية. لا يكفي محاربة هذا «التخلف» أو «الوثنية» أو ما شئت لها من أسماء، وإنما يجب تأملها أولًا ودراستها بعمق. وحين يضع المصريون تمثال رمسيس في أحد أكبر ميادينهم، أو حين يعيد العراقيون أسماء بابل ونينوى إلى بعض محافظاتهم، فإن هذا لا يعني انحرافًا عن العروبة إلا لدى الذين يرون المسائل مقلوبة بعيون دينية أو عنصرية. فمصر التي تهتم اهتمامًا عظيمًا بالآثار القديمة هي نفسها التي تهتم بالآثار القبطية والآثار الإسلامية. وأُراني أركز على هذه النقطة بالذات، لأنني أرى القسمات النوعية المستقلة في العالم العربي لا تتناقض مطلقًا مع الفكرة العربية. بل إنه بمنهج مختلف تستطيع هذه القسمات أن تغني العروبة وتثريها. منهج يضع كلتا يديه على الخصائص المميزة للشعوب، بدلًا من أن يتجاهلها فتكون هزائم الانفصال والإقليمية هي الحصاد المر.
إنني أتصور هذا المنهج، بصدد تناوله لعروبة مصر ومعالجته للظواهر الانعزالية التي تقضي عليها، مؤسَّسًا على الدعائم التالية:
  • أولًا: الرؤية التاريخية الجدلية، أي النظرة الاجتماعية الحية المتحركة البعيدة كل البعد عن أن تكون وحيدة الجانب ساكنة خارجة عن السياق المادي لوجود الإنسان. بهذه الرؤية نستطيع القول بأن الأهمية العظمى للإسلام — كثقافة وحضارة — هي أنه هيأ الأرض المشتركة لتطور شعوب هذه المنطقة من العالم تطورًا متفاعلًا في اتجاه التوحيد. إنه بداية «التيار الحضاري» الذي انتظم مسار هذه الشعوب منذ الفتح العربي. ولم يكن هذا التيار حضاريًّا بالمعنى التجريدي العازل للظاهرة الحضارية عن محتواها الاجتماعي، بل إن المقصود بالتعبير نقيض ذلك تمامًا، هو يعني شمول الظاهرة وتركيبها من عناصر متعددة مادية ومعنوية، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية ونفسية، إلى غير ذلك من مكونات. هكذا يصبح الإسلام بتشريعاته ولغته وقيمه نقلة حضارية جديدة لمصلحة الطبقات المسحوقة في ذلك الوقت، وهكذا جاء انتشاره في مصر تعبيرًا عن اتجاه التقدم لهذه الطبقات نحو الاستقلال عن الإمبراطورية الرومانية. إنه لم يكن استقلالًا بالأرض وحدها، وإنما بالإنسان أيضًا. لم يكن الأمر «استعانة بقوات أجنبية» لتحرير البلاد من «أجانب آخرين»، وإلا ما استطاع الفتح الإسلامي الصمود في وجه حضارة عريقة كالحضارة المصرية، فقد كان من المحتم في حالة الاستعانة به — كأجنبي — ضد أجنبي آخر أن يبرز التناقض من جديد بين المصريين والإسلام، ولكن العكس تمامًا هو الذي حدث، إذ بدأت التناقضات الأولى تذوب شيئًا فشيئًا. وقد تجسد ذلك في نقطتين هما: الانتشار السريع للإسلام كعقيدة، ثم انتشار اللغة العربية واستقرارها بل وتطورها. وأكرر أن الإسلام لم يجئ إلى مصر كما لو كانت بلدًا بلا تاريخ أو كما لو كانت شعبًا بلا وطن. وإنما هو قد أقبل على بلاد غنية بالتاريخ والحضارة. ومن ثم فلا بد أن هناك مناخًا موضوعيًّا استقبل الإسلام كإضافة جعلت منه امتدادًا لهذا التاريخ المتصل والحضارة المستمرة، ولم تجعل منه شيئًا زائدًا مُغِيرًا يستوجب التخلص منه. هكذا لم يتحول الأمر — بعد جلاء الرومان — إلى صراع بين المصريين والإسلام، بل إلى تفاعل. والنقطة الجديرة بالانتباه المركز هي أن جماهير الفقراء هي التي بادرت إلى اعتناق الإسلام دينًا. ولا يمكن أن يتم ذلك بالإرهاب لشعب يتخذ من عام الشهداء بداية لتاريخه (السنة القبطية). إن من دفع الجزية هم الأغنياء، ومن فضل الدم هم أولئك الذين يشدهم الموروث نفسيًّا ورُوحيًّا إلى الوراء. أما الغالبية الساحقة التي اعتنقت الإسلام فلا سبيل إلى وصفها بالجبن أو الجهل، لأنه لا يمكن وصف حركة تاريخية لشعب كامل، حركة بقيت واستمرت وأبدعت، بالجبن أو الجهالة. وإنما التفسير الصحيح هو أنها اكتشفت بحاستها الاجتماعية التي لا تخيب أن الفتح الإسلامي لا يطرد الغزاة الأجانب لمصلحته وحدها، وإنما لمصلحتهم الطبقية قبل كل شيء.

    غير أن الإسلام القادم إلى مصر قد اختلف عن الفتوحات الفرعونية القديمة للأقطار المجاورة. الظاهرة هذه المرة عكسية في كل شيء، رغم اقترانها بأوجه شبه عديدة. كانت الغزوات المصرية القديمة للجيران بديلًا للانفجارات الداخلية واتقاءً لهجمات المُغِيرين. لذلك لم تشكل «زياراتهم» لفينيقيا أية نواة وحدوية أو تفاعلًا صحيًّا بين الشعوب. وإنما كان «الصراع» هو جوهر العَلاقة بين مصر الفرعونية والساحل الفينيقي. والقانون الذي يمكن استخلاصه من الصراع القديم هو أن مصر لا تستطيع الحياة المستقلة بمعزِل عن ارتباطٍ ما بالجيران، لأن البديل لذلك هو الهزيمة أمام الغزاة.

    وحين جاء الإسلام إلى مصر حقق لها استقلالها، لأول مرة، دون أن تكون غازية أو مغزوة، حقق لها ارتباطًا جديدًا هو التيار الحضاري المشترك بين شعوب المنطقة، والذي كان الإسلام مصدره الرئيسي في اتجاه التوحيد.

    ثم أخذت الظاهرة الحضارية تتبلور أكثر فأكثر حتى بلغت مرحلة «وحدة المصير العربي» في غمرة النضال ضد الاستعمار التركي والصراع مع الحضارة الغربية الحديثة منذ حوالَي مائتي عام. كانت المأساة العربية مع السلطنة العثمانية دليلًا قاطعًا على أن الدين كعقيدة لاهوتية لم يكن — ولن يكون — هو عماد التكوين القومي. لقد أدى الإسلام دورًا تاريخيًّا في قيام تيار حضاري عام، ولكن حين طفت على السطح السياسي مظاهر الطغيان التركي باسم الخلافة الإسلامية برزت المسألة «القومية» بمعزِل عن الفكرة الإسلامية الجامعة للشعوب بالقهر. وكان المسيحيون من عرب المشرق من كبار دعاة القومية العربية لهذا السبب: «الدين لله والوطن للجميع» وليس للمستعمِرين باسم الدين. وكانت مصر هي مركز الدعوة العملية إلى العروبة، كما تجلى ذلك في تجرِبة محمد علي ومن بعده إبراهيم باشا. إن محمد علي مؤسس الدولة الحديثة في مصر حقًّا، ولكن طموحه الحقيقي كان «الدولة العربية الحديثة». وقد أخفقت التجرِبة لكون محمد علي — مع الفارق — يشبه الولاة الرومان الذين «استقلوا بمصر» لحسابهم، ولم يحققوا لمصر استقلالها لحسابها؛ ولأن عصره كان مختلفًا عن عصر الفتح الإسلامي الأول حيث كانت استجابة المصريين للحضارة العربية الوافدة ترتكز على أكثر من دعامة راسخة. ورغم أن الإمبراطورية الخديوية في عهده كانت في زمن الشيخوخة إلا أن الإمبراطوريتين الغربيتين — الإنجليزية والفرنسية — كانتا في عز الشباب.

    ولأن مأساة محمد علي، من إحدى نواحيها، أنه لم يكن عربيًّا، فقد أبرزت تجرِبته — وتجرِبة إبراهيم باشا من بعده — المعنى الحقيقي لوحدة المصير العربي. لم تَعُد «الجامعة الإسلامية» هي قلعة النضال ضد الاستعمار (وتلك مشكلة الأفغاني أيضًا) ولم يعد التيار الحضاري المشترك كافيًا لأن يكون راية هذا النضال. وإنما تحددت شعوب المنطقة «العربية» وتقاربت مصالحها في مواجهة الأعداء الجدد تقاربًا شديدًا. لم تعد «وحدة العالم الإسلامي» هي الحُلم الذهبي الذي مرغه العثمانيون في الوحل، وإنما أضحت «وحدة المصير العربي» هي الهدف. والمصير العربي الواحد هو المقدمة الطبيعية لميلاد الأمة الواحدة وكمال تكوينها.

    وعند نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط قد أثمرت الظاهرة القومية ونقيضها: موضوعيًّا توفرت كافة مظاهر الأمة الواحدة، وذاتيًّا حالت الخريطة السياسية التي كرستها قوى الاستعمار الأجنبي والرجعية المحلية دون تجسُّد هذه الأمة في قومية واحدة. لقد وُلد حينذاك النفي والإثبات معًا، وهي مفارقة تراجيدية نادرة الحدوث في التاريخ. والملاحظة التي يجب ألا تغيب عن بالنا مطلقًا هي أن تداخل البرجوازيات القومية في المشرق طيلة نضالها ضد الاستعمار القديم والجديد هو السبب الحقيقي في تعاظم الشعور بالوحدة القومية بين شعوب هذه المنطقة، بينما كانت هناك «مصر» في الوسط تتمتع برجوازيتها بما يشبه الاستقلال النسبي، فكانت الفكرة العربية شبه غائبة، أما المغرب العربي الذي يكاد يكون خاليًا من المسيحيين فقد كانت الرابطة الإسلامية تعني سلاحًا وطنيًّا ضد الاستعمار الذي يرفع راية الصليب. ورغم هذا الاختلاف في مستويات الشعور بوحدة المصير «العربي» كمقدمة للشعور بالأمة العربية الواحدة، فإن ما حدث غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى عام ۱۹۱۸م يدعو للتأمل العميق، فقد بدأت ثورة ۱۹۱۹م في مصر وثورة العشرين في العراق وثورة ٢٥ في سوريا، وهكذا طيلة الثلاثينيات والأربعينيات، توازت تواريخ الثورات من المحيط إلى الخليج حتى انتهت الحرب العالمية الثانية والحرب العربية الإسرائيلية الأولى، وقامت حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م في مصر.

    لقد أكدت هذه الأحداث جميعها الملامح الوليدة للأمة الواحدة، هذه التي كان الإسلام — كثقافة وحضارة — من العوامل الأساسية التي خلقت النطفة الأولى والتي ندعوها «تيارًا حضاريًّا مشتركًا»، ثم كان غذاؤها الدامي في أتون الصراع مع الإمبراطوريات الإسلامية والمسيحية على السواء فيما ندعوه بوحدة المصير العربي حيث تشكلت الصفات الرئيسية للجنين الذي سرعان ما تنبهت القوى الاستعمارية — بنظرتها التلسكوبية — إلى خطره عليها في المستقبل، فحاولت بكافة الحيل والألاعيب أن تحول دون مولده، حتى إنها صنعت الدمى الشبيهة له وألبستها ثيابًا براقة لتكون البديل للمولود الحقيقي. ولكن كافة الدمى المزيفة باسم الإسلام وباسم العروبة تحطمت وتناثرت في مهب الريح المناضلة من أجل الولادة الشرعية. الولادة العسيرة، وإن تكن محتوية، فالمناخ — الأرض والإنسان — مهيأ موضوعيًّا لأن يستقبل التاريخ أمة واحدة من المحيط إلى الخليج.

  • ثانيًا: الرؤية الطبقية للمسألة القومية، فإذا كانت القوميات الأوروبية قد وُلدت في «السوق» فإن القومية العربية تُولد في غمرة النضال ضد الاحتكارات الإمبريالية، أي ضد السوق الرأسمالي العالمي. وإذا كانت البداية في رحلتنا القومية هي أن ثمة تيارًا حضاريًّا مشتركًا قد انتظم شعوب المنطقة العربية بالفتح الإسلامي، فإنه يجدر بنا ألا ننسى أن الإسلام كان ثورة اجتماعية لمصلحة الفقراء. وبالتالي فإن تطور هذا التيار إلى مرحلة «وحدة المصير العربي» كان على أحد الوجوه نضالًا وطنيًّا ضد الاستعمار، وعلى وجه آخر كان تجسيدًا لطموحات طبقات جديدة حريصة على الأرض وأسواقها معًا، هي البرجوازيات الوطنية العربية. أما حركة القومية العربية — هوية الأمة العربية — التي تطمح لإقامة دولة واحدة من الخليج إلى المحيط، فإنها كانت تخفق كثيرًا وتسبب مرارة الغالبية الساحقة من العرب حين كان ينفصل شكلها عن مضمونها في مخيلة دعاتها. إنها ليست فحسب حركة معادية للاستعمار، وإنما هي حركة الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في الوحدة العربية. لقد آن الأوان لحركة القومية العربية أن تتطور إلى مرحلة أرقى؛ لأنها بالضرورة في عصر مختلف، من مرحلة التيار الحضاري ووحدة المصير، إلى مرحلة النضال من أجل الدولة الاشتراكية العلمية الحديثة الواحدة. إن «إسرائيل» هي أحدث وآخر المشاريع الاستعمارية للحيلولة دون كمال التوحيد القومي للعرب، فاستقرارها تكريس للتجزئة السياسية. ومواجهتها — بهدف اقتلاعها من مكان القلب في أمتنا — لا يتم وَفق استراتيجية تقليدية تهدف إلى تحرير سيناء أو الجولان أو حتى فلسطين. وإنما يتم ذلك وَفق استراتيجية ترى أن لا وحدة عربية بغير زوال إسرائيل، وأن هذه الاستراتيجية لا يمكن تجسيدها وفق المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في الواقع العربي الراهن. ذلك أن عديدًا من الطبقات «الوطنية» المتربعة على عرش الحكم أو بعيدة عنه لا تشعر «بخطر إسرائيل» على كِيانها الاقتصادي إلا حين يزحف هذا الخطر إلى حدودها، وعندئذٍ فأقصى ما تستطيعه هو الدفاع عن هذه الحدود و«بتسويات» سلمية إن أمكن. إن «إسرائيل» كمشروع استعماري فريد من نوعه في عصرنا، يستهدف القضاء على الأمة العربية ودولتها الواحدة؛ لأنه يستهدف أصلًا القضاء على التقدم الاجتماعي للعرب. لذلك كان النضال ضد هذا المشروع ليس كفاحًا وطنيًّا فحسب من أجل تحرير الأرض، إنما هو أيضًا ثورة اجتماعية في بنية الأنظمة العربية بهدف توحيد الأمة العربية. وكما أن المفارقة المؤسية هي أن كافة مظاهر التكوين القومي للأمة العربية متوفرة، دون أن تتجسد هذه المظاهر في عناصر مادية فاعلة، فإن المجابهة المطلوبة هي الأخرى لتجاوز المفارقة القائمة هي مجابهة استثنائية تتطلب النضال على عدة جبهات في وقت واحد: جبهة التغيير الاجتماعي والتحرير الشامل للأرض والوحدة القومية الكاملة.

    ومصر هي مركز الدائرة في هذه المعادلة الصعبة. إنه قدرها شاءت أم أبت، فسيناء مسألة عربية كما أن فلسطين مسألة مصرية. وإذا كانت بعض القيادات المصرية قد فهمت العروبة أحيانًا على أنها تمصير العرب فقد آن الأوان لتفهم القيادات المصرية أن المطلوب هو تعريب مصر. والعروبة بالنسبة للمصري ليست الشعار الأجوف والكليشيه المزيف. إنه ينبغي أن يفهم أن الوجود الإسرائيلي في سيناء لم يكن «بسبب العرب أو الفلسطينيين» وإنما العكس هو الصحيح، فالإسرائيليون في فلسطين بسبب مصر. الوجود الإسرائيلي في فلسطين العازل الاستعماري بين مصر وبقية أجزاء الوطن العربي، هو محاصرتها بهدف القضاء عليها اقتصاديًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا. والانتماء العضوي الحي للأمة العربية هو الجسر الوحيد الممتد بين المصريين ومستقبلهم على كافة الأصعدة والمستويات.

    ولكن تعريب مصر يعني اقتصاديًّا التحول إلى الاشتراكية، فالعمال والفلاحون والجنود المصريون هم الرقعة الأوسع بين الجماهير الشعبية ذات المصلحة الحقيقية في الانتماء العربي. والارتداد إلى الاقتصاد الرأسمالي هو ثورة مضادة للوحدة القومية، لا لتحرير فلسطين بل لتحرير سيناء نفسها؛ إذ إن مصير مصر الرأسمالية لن يكون أفضل حالًا من مصير تركيا أو اليونان. وتحرير كيلومترات من الأرض بهدف عزل مصر عن انتمائها العربي هو لب اللباب في المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية الراهنة.

    وتعريب مصر يعني التحول إلى الديموقراطية، ديموقراطية الجماهير الوطنية كلها وحريتها في التنظيم المستقل وحقها الكامل في الحركة والتعبير. ذلك أن التفاعل العربي يحتاج إلى المناخ الديموقراطي، أما القهر فيولِّد الصراع غير الصحي الذي يؤدي حتمًا إلى حركات الانفصال المريرة. الديموقراطية داخل مصر، خطوة إلى الأمام على طريق الوحدة العربية، على طريق الشعور الحار بالانتماء إلى الأمة العربية، فالقهر القومي بغياب الديموقراطية يؤدي إلى التعصب الشوفيني والنازية.

    وتعريب مصر يعني «العلمانية» أعرق تقاليد الفكر العربي الإسلامي وأكثر تيارات الفكر المصري الحديث أصالة ومعاصرة. إن مصر التي أنجبت طه حسين والعقاد وسلامة موسى هي نفسها التي أنجبت محمد عبده وعلي عبد الرازق وأمين الخولي وخالد محمد خالد. وربما كان دستور الثورة العرابية هو أول دستور علماني في الوطن العربي.

    بالاشتراكية والديموقراطية والعلمانية تتعرب مصر، وبالرأسمالية والدكتاتورية والثيوقراطية تنعزل مصر لتصبح جزيرة مهجورة محاصرة بالغزاة من كل صوب. وحين تصبح العروبة في وعي المصريين هي كل ذلك، لن يتردد أحدهم في النضال عنها حتى الموت؛ لأنه حينئذٍ يتوحد معها بكافة أبعاد كِيانه المادي والمعنوي. أما حين تتمزق الأوصال بين وجدانه المرشح للانتماء العربي وفكره المستلب، فإنه يظل بين شقي الرحى غائبًا عن الوعي.

  • ثالثًا: اختلاف مستويات التطور الاجتماعي هو حقيقة موضوعية مستقلة عن رغباتنا الذاتية. إنه لا يلغي الهُوية القومية لأمتنا العربية الواحدة، ولكنه يضيف أبعادًا جديدة والتزامات عديدة. وتحتل مصر الآن، بالنسبة لبقية أرجاء الوطن العربي، أعلى مستويات التطور لأربعة أسباب رئيسية هي:
    • مجتمع طبقي كلاسيكي (لا طائفي).
    • رسوخ مفهوم الدولة.
    • تكوين حضاري متصل ومنفتح (الثقافة).
    • كثافتها البشرية (طاقاتها الإنسانية المختزنة).

    وليس من شك في أن التيار الحضاري المشترك بين شعوب المنطقة العربية (الإسلام)، كما أن وحدة المصير العربي (النضال ضد الاستعمار) قد أثمرا تاريخًا ولغة وثقافة وتكوينًا نفسيًّا لشعوب هذه المنطقة، مضافًا الأرض بطبيعة الحال. ويبقى «الاقتصاد المشترك» هو الحلقة الغائبة، بانعكاساتها الاجتماعية والسياسية لتتم حلقات التعريف العلمي الكلاسيكي للأمة وهويتها (القومية). لهذا فالقول بأن الأمة العربية في دور التكامل والتكوين لا يعني بصورة ميكانيكية مبتذلة أنها غير قائمة أو مستحيلة القيام، بل على العكس فهو يعني ضرورة النضال من أجل حضور العنصر الغائب بانعكاساته الخطيرة الأثر في التوحيد القومي وهو الاقتصاد المشترك. وقد برهن الاقتصاد الرأسمالي في الوطن العربي على أنه عنصر مضاد للتكوين القومي الكامل. إنه في عصر أفول الاستعمار لا يستطيع أن يكون شريكًا للإمبرياليات العالمية ولا مستقلًّا عنها في نفس الوقت. وإذا كانت «إسرائيل» هي المشروع الاستعماري الراهن لعزل الأمة العربية بعضها عن بعض، ولعزل مصر بالذات عن انتمائها العربي، فإن الاقتصاد الرأسمالي العربي يلعب هنا دورًا سلبيًّا. ولا يمكن لاختلاف درجات التطور الاجتماعي أن يختفي بمجرد إعلان الوحدة بين بلدين، وإنما بانتهاجهما «اقتصادًا مشتركًا» قابلًا للتطور. والطريق الوحيد المفتوح للتطور الاقتصادي العربي هو الطريق الاشتراكي.

    إن تجاوز واقع التجزئة كتكريسها تمامًا. فالديماجوجية القائلة بأن لا فروق بين شعوب الوطن العربي تؤدي في خاتمة المطاف إلى نازية مقنعة أو طفولة يسارية، كلاهما يعادي جوهر الثورة العربية المطلوب إنجازها لتحقيق الوحدة وتحرير فلسطين على الصعيد السياسي، والتحول الاشتراكي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

    واحتلال مصر لأرفع مستويات التطور الاجتماعي العربي، يضعها في مركز المسئولية ومركز الأحداث معًا … فأي تطور داخلي في مصر نحو التقدم هو نقطة تحرزها الثورة العربية في الطريق إلى الوحدة، وأية انتكاسة داخلية في مصر هي رِدة للثورة العربية عن طريق الوحدة. إن الشعب المصري العظيم الذي عرَف أول وحدة في التاريخ حين قادها الملك مينا من جنوب الوادي إلى شماله منذ آلاف السنين، هو نفسه الذي دخل الإسلام على نحوٍ لم يعرفه المستعربون، وهو الشعب الذي قاده عبد الناصر إلى آفاق جديدة للعروبة، يعرف عن سلبياتها أكثر من إيجابياتها أن قدره الوحيد هو أن يكمل المشوار» (ص۱۲۳ وما بعدها).

    ويمكن في هذا السياق، الاطلاع على «رأي آخر» لسمير أمين في كتابه «الأمة العربية – القومية وصراع الطبقات» (منشورات مينوي، باريس، ١٩٧٦م) وخاصة ما يتعلق بمصر قبل الاستعمار (ص۲۲) ثم النهضة والمقاومة في القرن الماضي (ص٣٩) والفقرة الخاصة بمصر في هذا الفصل المعنون «عصر الإمبريالية ١٨٨٢–١٩٥٢م» (ص٤٦) وأخيرًا مصر الناصرية (ص٦٨).

(١٦) «الجغرافيا السياسية» يركز عليها أنور عبد الملك في أعماله الكثيرة الخاصة بهذه النقطة، ويناقشها بوضوح تام في محاضرته عن «الخصوصية والأصالة» التي ألقاها في ندوة الكويت حول «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي»، وقد ضمها إلى كتابه «الفكر العربي في معركة النهضة» (من ص۱۹۷ إلى ص۲۱۲)، وخاصة ص۲۰۸ التي استخدم فيها الباحث تعبير «القومية المصرية». وهو تأصيل حديث لأنصار الفكرة المصرية من المفكرين الليبراليين الرومانتيكيين المصريين في العشرينيات والثلاثينيات.
أما «الأمن الاستراتيجي» فيركز عليه لويس عوض في أعماله الكثيرة الخاصة بهذه النقطة، والتي تجد لها صياغة مركزة في مقاله «أساطير سياسية» المنشور في «الأهرام» بتاريخ ٧ / ٤ / ۱۹۷۸م، حيث يؤكد على أن الأمن الوطني لمصر يحتم عليها نوعًا من العَلاقة مع بوابتها الشرقية «بر الشام»، ولكن هذه العَلاقة لا تحتم تذويب «القومية المصرية» الحقيقية في «قومية عربية» وهمية.
إن الخصوصية المصرية والأصالة المصرية فكرتان صحيحتان، بشكل عام. كذلك الجغرافيا السياسية والأمن الاستراتيجي. ولكن في سياق التاريخ الاجتماعي للشعب المصري والثقافة المصرية، تختلف النتائج كليًّا عن هذه التي يتوصل إليها عوض وعبد الملك. على صعيد الشعب أوضحنا في النقطة السابقة ديناميكية العَلاقة بين الشعب المصري والأمة العربية، فالهُوية القومية لمصر ليست عنصرًا ميتافيزيقيًّا ستاتيكيًّا خارج المجتمع وحركة التاريخ منذ الأزل، كما أنها ليست مقولة رياضية لا تتكامل إذا نقص رقم عدد العوامل الصانعة للقومية واحدًا أو أكثر. فالشعب المصري أحد عناصر الأمة العربية في تطورها، والقومية العربية ليست في «مرحلة» التكوين رغم غياب «دولة» الوَحدة العربية.
على الصعيد الثقافي، يجب رصد بعض الظواهر:
  • (١) مثلًا، انتقال ديكارت — الفيلسوف الفرنسي — إلى الفكر العربي بواسطة «الناقد الأدبي» طه حسين في تطبيق على الشعر الجاهلي. إنها رحلة بالغة التعقيد، حتى ولو قيل إن طه حسين قد عرَف مقالًا لمرجليوث سابقًا على تأليف كتابه. إن التأليف (عقلية الأزهر والسوربون) وردود الفعل السياسية والدينية هي الظاهرة. ولكن جوهر الخصوصية هنا أن منهجًا فلسفيًّا قد انتقل إلينا عبر الأدب بالتطبيق على مادة لم تخطر على بال ديكارت.
  • (٢) مثلًا ثانيًا، هو الغياب المستمر لمناهج النقد الأدبي في مصر الحديثة، وبلاد العرب عامة. فالنقد الأدبي، على غير الرواية أو الشعر، وثيق الارتباط بالفلسفة، والفلسفة وثيقة الارتباط بالمستوى الحضاري؛ لذلك كان النقد أقرب إلى الفكر الاجتماعي والعلوم الإنسانية منه إلى الخَلق الفني الخالص، فالإبداع من الممكن أن يخترق حاجز التخلف الحضاري ويصبح شاعر أفريقي أو آسيوي أو من أمريكا اللاتينية في مستوى، أو أكبر من، الشاعر الأوروبي والأمريكي. أما الناقد الأدبي فلا يستطيع «إنشاء» نظرية في النقد ومجتمعه في دائرة التخلف. أقصى ما يستطيعه هو بلورة «اتجاه» نقدي لا «منهج في النقد» إذا كانت التجرِبة الأدبية المحلية هي مادته، أما إذا اشتغل بآداب الغرب المتطور فهو على الأرجح لن يضيف شيئًا جديدًا. من هنا يغلب النقد التطبيقي في لغتنا، ويقتصر النقد النظري في الأغلب على تلخيص نظريات الغرب والعرب القدماء.

    هذا لا ينفي أن المجال النظري مفتوح على مصراعيه أمام النقاد الحرب، ولكن في اكتشاف القوانين الخاصة لآدابهم الوطنية، لا في ميدان القوانين العامة لنظرية الأدب أو النقد.

  • (٣) مثلًا ثالثًا، هو الداروينية التي انتقلت إلينا عبر ثلاثة مفكرين أساسيين هم: شبلي شميل وسلامة موسى وإسماعيل مظهر. في صفوف المثقفين تحولت إلى نقاش حول العلم والدين، ولكنها انتهت على صعيد المجتمع إلى دروس في التشريح لتلاميذ المرحلة الإعدادية والثانوية. ولم ترتبط مطلقًا، وما كان يمكن أن ترتبط، بفلسفة عقلانية شاملة؛ لأنها خرجت عن سياقها الحضاري، ولم تحرث التربة المحلية قبل محاولة غرسها. كانت أوروبا قد مرت بعصر النهضة فالانقلاب الصناعي الأول فعصر التنوير فالثورة الفرنسية. وحين أقبلت نظرية التطور في كتاب «أصل الأنواع» لداروين كانت فروضها العلمية في الهواء الذي يتنسمه البشر، كانت جزءًا من الحضارة التي في سبيلها للسيادة على العقل الغربي. مسارها في الفكر العربي اقترن بالتناقض بين العلم والدين، وبدت كأنها ترادف الإلحاد. وبعد فترة من الزمن اقترن «الإلحاد» بنظرية سياسية هي الشيوعية. وكان من شأن هذا «القفز» إلى النتائج دون التسلح بالمقدمات أن أثَّر سلبًا على العقل العربي. إن الإلحاد فكر برجوازي أصلًا ولدته ماديات القرن الثامن عشر في أوروبا. ونظرية داروين كنظرية كوبرنيكوس كنظرية غاليليو كنظرية أينشتين كنظرية نيوتن، فروض علمية تمتحنها حقائق الطبيعة في مسائل كروية الأرض والنسبية واكتشاف البخار، وغير ذلك من فروض تطور «نظرية المعرفة»، ولا عَلاقة لها بالإيمان. حتى إن دولتين في عصرنا وصلتا «القمر» بواسطة العلم، كانت إحداهما الولايات المتحدة «المؤمنة» رسميًّا، والأخرى هي «الاتحاد السوفييتي» الذي يوصف بعدم الإيمان.

    مثلًا رابعًا، هو الاشتراكية التي ربما تكون قد وصلت إلينا عبر رحلة السان سيمونيين الفرنسيين إلى محمد علي، وربما تكون قد وصلت عبر رحلة سلامة موسى إلى الفابيين الإنكليز، وربما تكون قد وصلت عبر رحلة ماركس إلى حسني العرابي والحزب الشيوعي المصري الأول في بداية العشرينيات. وربما تكون قد وصلت مفاهيمها العامة جدًّا عبر رحلة الناصرية مع القطاع العام والإصلاح الزراعي والتأميمات والتصنيع ومشاركة العمال في الأرباح والإدارة وغير ذلك مما قد يكون أقرب إلى «الاشتراكية البرجوازية الصغيرة» حسب تعبير لينين. ولكن مجموع التجارِب في الفكر والتطبيق يقول بطريق «خاص» إلى الاشتراكية بلا تناقض مع الديموقراطية، بل ثبت أن الديموقراطية وحدها هي القادرة على حماية الاشتراكية من الانقلاب عليها.

هذه مجرد أمثلة قليلة على أن هناك خصوصية، ولكنها حصيلة التاريخ الاجتماعي للشعب والثقافة لا حاصل جمع الجغرافيا السياسية والأمن الاستراتيجي. وتَبيُّن تفاصيلها مهم لاكتشاف ما يمكن أن تضيفه إلى القانون العام، وما يمكن أن تغتني به من تطبيق «العام» على أصالتها.
(١٧) إن مصر التي يتواجه ويتجاور فيها الأزهر والحسين، أو التي يتواجد فيها الأزهر ودار الحكمة، أي التي تجمع بين معقل السُّنة ومعقل الشيعة، كما جمع تاريخها بين المرحلة الفاطمية وبقية المراحل، بل وبين المرحلة المسيحية والإسلام، لها خصوصيتها في الإحياء الحضاري والنهضة. إن «الإحياء» في تاريخها الحديث هو أحد أشكال النهضة وليس النهضة ذاتها، فالنهضة العربية لا تزال منذ كانت في صدر الإسلام «حوارًا» مع الآخر لا مجرد بعث للقديم. محمود سامي البارودي، كشاعر، هو رائد نهضة الشعر المصري بمعنى «الإحياء» للكلمة العربية الكلاسيكية، الجاهلية والمعاصرة للإسلام الأول. أما الرواية والمسرح والقصة القصيرة فكانت حوارًا مع الغرب. نقد «الشعر» لذلك كان من أحد جوانبه إحياء للقديم، بينما أقبل نقد «النثر» حوارًا مباشرًا، ولا يزال، مع الغرب.
هذا الموقف من التراث والعصر يعترف بالثوابت والمتغيرات، ولكنه الاعتراف الجدلي، بمعنى ترشيد الثوابت والتكيف مع المتغيرات. دولة مصر المركزية من الثوابت الاجتماعية، وبقية التفاصيل الجغرافية أو الطبيعية أيضًا. ولكن أسلوب التعامل مع هذا العنصر «الثابت» ممكن التغير، أي بالتشديد على الديموقراطية في مصر أكثر من أي بلد آخر حتى تبقى «الدولة» على وجهها الإيجابي في عصور المجتمع الطبقي وهو المدنية، وتنفي القهر والاستبداد. الزراعة والبيروقراطية هما عماد التخلف، فيصبح التصنيع الزراعي واللامركزية الإدارية هما «وسائل» درء التخلف، وهكذا.
والتكيف مع المتغيرات لا يعني البراغماتية، بل أن تكون الاحتياجات الموضوعية للواقع الاجتماعي — في اتجاه التقدم التاريخي — هي معيار «الحوار» مع الغرب.
(١٨) ليس هناك عالم واحد متخلف في عصرنا، هناك عوالم متخلفة. ومصر، والعرب عامة، في دائرة التخلف بالمعايير الاقتصادية والتكنولوجية للتقدم. ولكن هذا «الوجه» الخارجي مستمد من التعميم الرياضي مهمِلًا التخصيص التاريخي الاجتماعي الذي يظل «كامنًا» في أزمنة القهر الحضاري إن جاز التعبير عن القحط الذي تحدثه أنظمة سياسية في ظروف دولية محددة. إن مصر المعاصرة مثلًا في «حالة كمون»، ولكن هذا لا يضمها تلقائيًّا إلى قائمة الدول المتخلفة؛ لأن العناصر الكامنة عناصر حية في نسيجها الذاتي، بينما عناصر القهر الحضاري خارجية عابرة. فمصر التي كانت مؤهلة لأن تسبق أوروبا في مضمار الحضارة الحديثة ما زالت تستطيع مواصلة «النهضة». ومن هنا يتكاتف لإضعافها الغرب وبعض العرب، ولا مانع لديهما معًا من استخدام «حصان طروادة» لغزوها من الداخل بواسطة بعض بنيها، كما حدث لها بعد سقوط عصر محمد علي وبعد سقوط عبد الناصر. ظل «العامل الخارجي» يلعب دورًا استثنائيًّا في سقوطها، كما ظل «العامل الداخلي» يلعب الدور الرئيسي في إنهاضها. وبين النهضة والسقوط، ملحمة شعب وحضارة لا يموتان منذ سبعة آلاف سنة.
عندما سقطت إمبراطورية الفراعنة في براثن الفرس واليونان انتصرت مصر عليهم بالمسيحية، وعندما سقطت مصر المسيحية في براثن الرومان انتصرت عليهم بالإسلام، وعندما سقطت الدولة الإسلامية في براثن الإمبراطورية العثمانية انتصرت عليها مصر بالعروبة في عصر محمد علي. وعندما سقطت دولة محمد علي في براثن الغرب الاستعماري بدأت مصر ثورتها المستمرة، جنبًا إلى جنب مع الثورة المضادة في مسيرة جدلية واحدة من عرابي إلى سعد زُغلول إلى جمال عبد الناصر. هذا قدرها مع النهضة والسقوط، كأي بطل تراجيدي، تحمل الثورة في أحشائها جنين الثورة المضادة، ويحمل نظام الثورة المضادة في داخله مقومات الثورة. ولكن ليس كسيزيف تمضي مصر دورتها العبثية في الوجود، تطلع بالصخرة إلى الجبل ثم تنحدر إلى السفح. كلا، فهي في كل دورة تستضيف عنصرًا جديدًا فتستحيل تركيبًا جديدًا وكيفًا جديدًا؛ فالمسافة بين مصر الناصرية ومصر محمد علي ليست مسافة طولية في الزمان الموضوعي، بل هي مسافة نوعية بين مصرين لا بين عصرين. تبقت أشياء من مصر الفرعونية وأشياء من مصر المسيحية وأشياء من مصر الإسلامية، ولكن جوهر الأشياء هو «مصر العربية الحديثة» من محمد علي إلى جمال عبد الناصر. ما زال هذا الجوهر يختزن في اللاوعي انتصارات وهزائم التاريخ، ولكنه في العمق يتفاعل مع مكونات الحاضر ومقومات المستقبل. مكونات الاستقلال الوطني والعلمنة والديموقراطية، ومقومات التحول بهذا التراث نحو الوحدة القومية والاشتراكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥