الثقافة المصرية في مفترق الطرق
(۱) لا ينكر أحد أنه كان للثقافة المصرية في العصر الحديث أبعد الأثر في تكوين الأجيال العربية المتلاحقة على مدى قرنين من الزمان. فبدايةُ ما يسمى بفجر النهضة ظهرت في وادي النيل، حتى العناصر الراديكالية من المفكرين والفنانين اللبنانيين والسوريين وجدوا في أرض مصر تربة خصبة لأفكارهم وآرائهم.
على أنه أيًّا كانت «العلامة» التي يمكن اتخاذها كنقطة بداية، فإن ما لا شك فيه هو أن مصر كانت البداية، ولا شك أيضًا أنها كانت بداية قومية ولم تكن قط إقليمية، كما أنها كانت بداية ضد الاستعمار والتخلف.
وهكذا كانت ثقافتها …
نشأت في البداية مع فجر النهضة تصوغ إرادتَها الوليدة الممزقة بين القديم والجديد، تبحث عن ذاتها المستقلة ووعيها الخاص. تستمد زادها يومًا من التاريخ الفرعوني العريق، وكأنها تتوسل بالماضي ردًّا على تحدِّيَات الحاضر. هكذا وُلدت منذ البدء رومانتيكيتها لا إقليميتها كما يخطئ البعض حين يقرءون الأعمال المبكرة لطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى، والعقاد، وعبد العزيز فهمي، ومحمود عزمي، وعبد القادر حمزة. وهي تستمد زادها يومًا آخر من أوروبا أو ما يسمَّى حينذاك بحضارة البحر المتوسط. وربما كانت رواية «عودة الرُّوح» لتوفيق الحكيم هي التجسيد الأوفى لهذا التمزق الذي اكتوت به البرجوازية المصرية وفكرها الناشئ. كما أن الحوار العنيف الذي جرى بين الأفغاني وشُميِّل، وبين محمد عبده وفرح أنطون، وبين إسماعيل مظهر ويعقوب صَرُّوف، لم يكن حوارًا نظريًّا بين الدين والإلحاد، أو بين العلم والدين، أو بين نظرية التطور وأسطورة الخلق، بقدر ما كان صراعًا اجتماعيًّا في صفوف البرجوازية الضعيفة المتخلفة. وهو الصراع الذي أثمر في نهاية الأمر أعظم التقاليد الفكرية لثقافة العصر الليبرالي؛ كالديموقراطية بمشتقاتها المعروفة بحرية الرأي والاعتقاد والتنظيم، وكالعلمانية بمشتقاتها التي تفصل بين الدين والدولة. يستوي في احترام هذه التقاليد وترسيخها ودفع ثمنها، أولئك الذين انحازوا للعلم أو الذين انحازوا للدين، وأولئك الذين انحازوا لداروين أو الذين انحازوا للكتب المقدسة.
وبالرغم من «خصوصيات» البرجوازية المصرية؛ فإن تفاعلاتها العربية لم تتوقف بعد فجر النهضة، سواء داخل مصر أو خارجها. لقد شيد اللبنانيون والسوريون «معالم» حضارية في الصحافة والمسرح والسينما … هكذا كانت مَجلة «الجامعة» لفرح أنطون منارة الآداب الأوروبية الرومانتيكية، وخاصة الفرنسية، كما كانت «المقتطف» ليعقوب صَرُّوف منارة العلوم الإنسانية المختلفة، وفي مقدمتها علم النفس وفلسفة التطور، وكانت مَجلة «الكتاب» لعادل الغضبان نَموذجًا للأدب الرفيع. كذلك ما قامت به المؤسسات الإعلامية الكبرى كدار الهلال للأخوين زَيدان، ودار الأهرام لأسرة تَقْلا، وقد عمل فيها أنطون الجُميِّل، ودار المعارف للأخوين مِتْري. ولا ننسى العاملين في المسرح والسينما كجورج أبيض ونجيب الرَّيحاني، بالإضافة إلى الشاعر الكبير خليل مطران، ومئات الشوام — كما يسميهم المصريون — الذين عملوا بالريشة والقلم والوتر، وخلف الكاميرات وفي الكواليس. كان التفاعل العربي مع النهضة المصرية حتى أوائل الخمسينيات مثالًا ثقافيًّا بارزًا على أن البرجوازية المصرية لم تنغلق على نفسها حضاريًّا، وإن حاولت ذلك على الصعيد السياسي.
غير أن ثقافة العصر الليبرالي لم تكن لتستطيع أن تتجاوز مقتضيات التاريخ … فالبقايا الراسخة للهيمنة الإقطاعية المتحالفة مع العرش والاستعمار البريطاني ما لبثت أن جرَّت إلى هاويتها تلك الشرائح التي علت وتضخمت من البرجوازية المصرية. لم يكن التوازي محكمًا بين تطور مصر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وبخاصة في ظل مناخ بالغ التشابك والتعقيد، وتختلط فيه القيم الدينية بالقيم الإقطاعية، ويختلط فيه الولاء للطبقة بالولاء للسلطان، ويختلط فيه الانتماء للدولة بالعبودية والسخرة. من هنا لم يستطع الحزب الديموقراطي البرجوازي الوحيد والكبير — حزب الوفد — الحكمَ أكثر من سبع سنوات ونصف خلال عشرين عامًا سبقت ثورة يوليو ١٩٥٢م. بينما استطاعت أحزاب وحكومات الأقليَّات — كالسعديين والأحرار الدستوريين — فرضَ دكتاتورية سافرة طيلة تلك السنوات. ومن هنا أيضًا كان حزب الوفد، دون غيره، هو الذي وقع معاهدة التهادن مع الإنجليز عام ١٩٣٦م، وكان هو الحزب الذي أعادته الدبابات البريطانية في حادث ٤ فبراير الشهير عام ١٩٤٢م. وأخيرًا فهو الحزب الذي أعلن الأحكام العرفية في ٢٦ يناير عام ١٩٥٢م، واحترقت القاهرة وتوقف القتال العظيم على ضفاف القنال.
وهكذا مضت الثقافة المصرية منذ سقوط الديموقراطية الليبرالية قرب نهاية الثلاثينيات في طريق الاستقطاب العنيف. راح الرواد يولُّون وجوههم شطر التاريخ الإسلامي، وراحت الأجيال الجديدة تولِّي وجوهها من جديدٍ شطر أوروبا. كانت بداية الحرب العالمية الثانية والنازية تطل على دنيانا بأبشع ما عرَف التاريخ الإنساني من قيم، فأصبحت الديموقراطية هي قضية القضايا التي يكافح المثقفون من أجلها. وإذا كانت الديموقراطية البورجوازية في مصر قد سقطت، فإن الأجيال الجديدة راحت تبحث عن «مركب جديد» يمزج الديموقراطية والعدل الاجتماعي في وحدة ديناميكية حية. هكذا انتشرت في ربوع البلاد الأفكار الاشتراكية والآداب الاشتراكية والفنون الاشتراكية طيلة الأربعينيات، كما لم تنتشر من قبل … فبالرغم من غياب التنظيم الاشتراكي الكبير والموحد، إلا أنه كانت هناك عدة تنظيمات تنادي بالاشتراكية وتعمل من أجلها. ولعل المفارقة التي لم يتوقف عندها الكثيرون من المؤرخين لهذه المرحلة أن مصر قد عرَفت حزبًا شيوعيًّا واحدًا حتى عام ١٩٢٤م، إلا أنها مالت إلى التشرذم في الأربعينيات. أي إن المسيرة تبدو عكسية تمامًا، ففي الوقت الذي كانت فيه الطبقة العاملة ضعيفة نسبيًّا وقليلة العدد كان حزبها موحدًا. وعندما راحت البرجوازية تعلن إفلاسها التقريبي إزاء القضية الوطنية، وبدأت الطبقات الشعبية تقوى وتزداد عددًا، لم تبلغ الحد الأدنى من وحدة التنظيم.
وإذا كانت الملاحظة الأساسية على النشاط اليساري حينذاك أنه كان في أغلبه نشاطًا ثقافيًّا معزولًا إلى حد كبير عن الحياة الرُّوحية للجماهير العريضة، فإن المنابر التروتسكية بالذات كانت أكثر من غيرها بُعدًا عن ثقافة الشعب واقترابًا من ثقافة الغرب. كان رمسيس يونان، وكامل التلمساني، وفؤاد كامل، وأنور كامل، وغيرهم، مجموعة من المثقفين المنادين بوحدة الفنون تحت راية التروتسكية. هكذا أقاموا أول معرض للفن التشكيلي الحديث عام ١٩٣٩م، وأول من نشر لوحة بيكاسو «جرنيكا»، وكان أحدهم — رمسيس يونان — أول من ألف كتابًا عن «الرسم العصري» حول التكعيبية والسوريالية والانطباعية وبوادر التجريد عام ۱۹۳۸م. كما كان أحدهم — أنور كامل — هو الذي أصدر مَجلة «التطور» عام ١٩٤٠م مترجِمًا الشعر الدادي والسوريالي والمستقبلي.
وكانت «رسالتهم» هي رفض الواقع جملة وتفصيلًا، ماضيًا وحاضرًا، كما كان «أسلوبهم هو هدم الحواجز بين الشعور واللاشعور، وإقامة الجسور بين الماركسية والفرويدية والسوريالية. ولا شك أنهم ألقوا حجرًا صغيرًا في البحيرة الراكدة، فأثار بحِدَّته دوائر صغيرة من اهتمام الرأي العام المثقف غير أنهم كانوا مجرد رد فعل عنيف إزاء الجمود الجاثم، فسرعان ما تبخرت الموجة وانحسر التيار.
وينبغي الاعتراف بأن البرجوازية المصرية الكبيرة قد حصلت في الميدان الثقافي على مكاسب سلبية، إنها لم تجذب إلى صفوفها سوى الفاشست الذين يرفعون شعارات «مصر فوق الجميع» و«الإسلام»، ويعادون الأمة العربية والديموقراطية والقيم العلمانية. ولكنها استطاعت أن تكسب سلبًا بهروب الكثيرين إلى الماضي في التاريخ أو في النفس، كما استطاعت أن تكسب سلبًا بقوقعة المجتمع المصري داخل الحدود الإقليمية، وبالتالي فرضت بصورة اضطرارية وغير مباشرة نوعًا من الانطواء على الذات والانسحاب الداخلي على الثقافة المصرية. ولكن هذا لا ينفي التوقف عند ظاهرة لا تخرج عن نطاق البرجوازية، وإن ظلت على الصعيد الفردي امتدادًا استثنائيًّا للتقاليد العريقة التي أرساها رواد النهضة. تتجسد هذه الظاهرة في عدد قليل من الرجال:
- أولهم: خالد محمد خالد، فقد كان الصوت الأعلى أواخر الأربعينيات، صارخًا في البرية «من هنا نبدأ»، أي من قيم العلمانية والديموقراطية والعدل الاجتماعي.
- والثاني: هو نجيب محفوظ، فقد كان الموهبة الاستثنائية بين أبناء جيله من الروائيين المصريين في اتجاهه مباشرة نحو الواقع المصري المثقل بالأحزان والأزمات. ولم يكن اتخاذه العربية الفصحى لغة فنية مجرد صدفة أو نزوة أو عجزًا عن الكتابة بالعامية.
- والثالث: هو لويس عوض، إذ استطاع في مقدمات «بلوتلاند»٢٧ والأدب الإنجليزي الحديث٢٨ و«فن الشعر» لهوراس٢٩ و«بروميثيوس طليقًا»٣٠ لشيلي، أن يرسي دعائم النقد الواقعي الجديد.
- والرابع: هو كمال عبد الحليم في ديوانه «إصرار»٣١ الذي رفعه إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء في وجوه النواب عام ١٩٤٦م صائحًا: هل قرأتم هذا الشعر؟ البلد في ثورة، وأنتم نائمون.٣٢
ولكن مصر كلها كانت ترخي الستار — فجر ٢٣ يوليو ١٩٥٢م — على أحد فصول الدراما التي لم تكن قد انتهت بعد.
•••
(٢) بالرغم من أن طليعة الثورة — فجر ٢٣ يوليو (تموز) ١٩٥٢م — كانت تشكيلًا عسكريًّا، إلا أنها عكست بصورة ما في جوهر تكوينها جملة حقائق: أولها أن معظم الاتجاهات السياسية قد تمثلت فيها من اليمين إلى اليسار إلى الوسط، وبالتالي فإنها كانت تشير إلى أن الجبهة هي الصيغة الوحيدة القادرة على قيادة البلاد. والحقيقة الثانية هي أن اليمين كاليسار كانا أقليَّة، بينما كان الوسط هو الجسم الرئيسي لحركة يوليو، وقد كان ذلك يشير إلى أن البرجوازية المتوسطة هي المرشحة لقيادة السلطة. والحقيقة الثالثة هي أن تصدي القوات المسلحة للتغيير من موقع العمل الوطني لا من موقع المغامرة العسكرية يعكس عجزًا تنظيميًّا لدى الشارع المصري، سواء على مستوى الحزب الواحد أو على مستوى الجبهة القادرة على تغيير النظام وقيادة الوطن.
ولم يكن الشارع الثقافي موازيًا للشارع السياسي حين أقبلت الطليعة العسكرية لتُغيِّر. وإنما كان هناك ما يشبه الاستقطاب العنيف بين اليسار العريض واليمين الضيق الأفق؛ ذلك أن إفلاس الثقافة الليبرالية وانتهاء مسيرتها بالهروب الرومانتيكي المتعدد الألوان، قد أعد خشبة المسرح لصراعٍ ضارٍ بين اتجاهين في الفكر والأدب والفن لا ثالث لهما على وجه التقريب.
ولعله من المفيد القول بأن اختلاف الوضع الثقافي عن الوضع السياسي قبيل الثورة قد واكبه من جانب حركة يوليو اختلاف المنهج وأسلوب المعالجة، إذ إن إلغاءها للأحزاب مثلًا لم تُردفه بإلغاء مماثل لحرية التعبير في الآداب والفنون، كما أن استصدارها قانون الإصلاح الزراعي لم يلحق به قانون لإصلاح التعليم، كذلك فإنها حين ألغت الألقاب وأعلنت الجمهورية لم تعمِد في الوقت نفسه إلى محو الأمية ورفع سن الإلزام. وإنما اهتمت الثورة في البداية بالوجه المباشر للعمل السياسي — بالسلب والإيجاب — وتركت الجو الثقافي يمرح بلا ضوابط أو ضغوط. ولم يكن ذلك عن نهج ديموقراطي أصيل، بل كان أغلب الظن انشغالًا ولا مبالاة.
ويؤرخ الكثيرون بهذه المعركة الحوارية «النقدية» لبداية الانشقاق الحديث في الثقافة المصرية. والحقيقة هي أن هذه المعركة كانت «نقطة فاصلة» على الصعيد النظري فقط، بالرغم من هُزال الحصاد على هذا الصعيد بالذات، بانحدار النقاش إلى التبسيط المخل واضطراب المصطلح، وميكانيكية التطبيق والانفعال السياسي الجامح، ومبالغات التضخيم والتهوين. ولكنها بشكل عام كانت نقطة فاصلة بين القديم والجديد، بين الليبرالية والراديكالية، بين اليمين واليسار، بين الواقعية بمختلِف اتجاهاتها من جانب والرومانتيكية في أدنى مستوياتها من جانب آخر.
هذه النقطة الفاصلة — على الصعيد الفكري المبسط — لها مقدماتها الإبداعية ونتائجها التطبيقية … إذ كانت القضية قائمة قبل ذلك في عشرات النماذج الفنية، كما أنها ظلت باقية بعدئذٍ في عديد من الاتجاهات النقدية؛ ذلك أن التيارَين اللذَين انفصلا لم يلتقيا من ذلك الحين، بتعاظم الاستقطاب الاجتماعي في الواقع المصري واستيلاده تعبيرات ثقافية معبرة عن صراع المتناقضات داخله.
انعكس التناقض بين المضمون الوطني للحكم والأسلوب السياسي على الثقافة المصرية في ذلك البون الشاسع بين الواجهات الرسمية المعلنة والإنتاج الثقافي الفعلي. كذلك خضعت التعيينات القطبية للمؤسسات الثقافية لتكتيكات عارضة دون استراتيجية ثابتة. وقد أدت هاتان الزاويتان إلى تشييد الثقافة المصرية خلال العشرين عامًا الأخيرة على أسس «الأزمة» وليس الانفراج.
كيف ذلك؟
-
لقد تطورت الثورة المصرية منذ مؤتمر باندونغ عام ١٩٥٥م إلى عام الوحدة المصرية السورية ١٩٥٨م، مرورًا بمعركة السويس المجيدة عام ١٩٥٦م، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي أولًا. وكان «اليسار العريض» في الشارع الثقافي، هو الذي استجاب لهذا التطور في أدبه وفنه وفكره؛ هكذا كان أدب الشرقاوي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وصلاح حافظ، ونعمان عاشور، وألفريد فرج، وإبراهيم عبد الحليم، وصلاح جاهين، وكمال عبد الحليم؛ وهكذا كان فن حسن فؤاد، وزهدي، وجورج البهجوري، وآدم حنين، وعبد الغني أبو العينين، وسينما صلاح أبو سيف، وتوفيق صالح، ويوسف شاهين، وشيخهم أحمد كامل مرسي؛ وهكذا كان نقد محمد مندور، ولويس عوض، ومحمود العالم، وعبد القادر القط، وعلي الراعي، وأنور المعدَّاوي؛ وهكذا كانت كتابات أحمد بهاء الدين، وإبراهيم عامر، وفوزي جرجس في التاريخ والفكر السياسي. هكذا كانوا وغيرهم عشرات الشعراء والروائيين والمسرحيين والباحثين والنقاد، هم التجسيد الأوفى والأعمق والأكثر حياة لمنجزات الثورة الوطنية في كافة المجالات، كما كانوا هم أنفسهم التجسيد الأكثر تطورًا لتقاليد الفن ومقومات الجمال. كانت «الأرض» و«بين القصرين» و«أرخص ليالي» و«الناس اللي فوق» و«باب الحديد» و«درب المهابيل»، و«في الثقافة المصرية» و«في الأدب المصري المعاصر»، و«دراسات في الرواية المصرية»، و«الأرض والفلاح»، و«دراسات في تاريخ مصر السياسي»، و«من أب مصري للرئيس ترومان»، و«لا يا أيزنهاور»، و«قمر وطين». كانت هذه كلها، وغيرها كثير كثير، هي الثقافة المصرية، هي الثورة في الثقافة، ولم تكن «يونانيًّا لا يقرأ»٤٤ وإنما كانت — إلى جانب جرائد الثورة ومَجلاتها، خصوصًا جريدة المساء التي أسسها خالد محيي الدين٤٥ ومَجلة الغد، ودار الفكر، ودار النديم، وكتابات مصرية، والدار المصرية للكتب — هي زاد الشعب المصري وغذاؤه اليومي. بينما كان «أهل الثقة» من الضباط، كيوسف السباعي، وعبد القادر حاتم، وثروت عكاشة، وأتباعهم، هم الذين يتربعون فوق عرش السلطة الثقافية على رأس الوزارات والمؤسسات. وقد تسبب هذا التناقض بين من يمسكون بأيديهم سلطة «القرار» الثقافي، ومن ينتجون بأرواحهم ودمائهم «الإنتاج» الثقافي، في العديد العديد من المشاهد الهزلية والمأساوية في آنٍ. كان الناس — مثلًا — في العواصم العربية التي يُعقد فيها مؤتمر الأدباء العرب، يَذهَلون حين يرون الوفد المصري مكونًا من صالح جودت وإبراهيم الورداني وأنيس منصور وثروت أباظة وعبد العزيز الدسوقي دون غيرهم من الأسماء التي «تنتج» الثقافة المصرية فعلًا دون أن تحصل على جوائز الدولة من المجلس الأعلى للفنون والآداب. وهكذا حُرم الأُصلاء المبدعون من الاعتراف «الرسمي» بهم. من هذه المشاهد أيضًا إغراق الأسواق وخشبات المسارح وشاشات السينما بسيل داهم من الغثاء الأدبي والفني الذي يتكدس أحيانًا في المخازن مائدةً عامرة للفئران والصراصير، مما يؤثِّر بالضرورة في الإنتاج الجيد، لأن العملة الزائفة أحيانًا تطرد العملة الصحيحة.٤٦
-
وقد اتخذت الثورة إبان هذه الفترة أخطر قرارين ثقافيين على الإطلاق، وهما مجانية التعليم في مختلِف المراحل حتى الجامعة، وحق الأديب والفنان في التفرغ للعمل الأدبي والفني.
كان من نتيجة القرار الأول أن اتسعت الدائرة الديموقراطية من المثقفين المنتمين إلى طبقات الشعب الكادح. ولكن التناقض كان أليمًا بين هذه القاعدة العريضة من أبناء العمال والفلاحين وبرامج التربية والتعليم في المدارس والمعاهد والجامعات؛ ذلك أن بتر التاريخ المصري، وتحريم مادة الاشتراكية، وسيطرة المناهج السلفية والمتخلفة عن العصور المظلمة، قد فتح ثغرة واسعة بين عقول الأجيال الجديدة ووجداناتها، بين معاناتها اليومية وحياتها الدراسية.
كما كان من نتائج القرار الثاني أن استطاعت مجموعة من الأدباء والفنانين التفرغ للإنتاج الثقافي دون قلق على خبز الحياة اليومية. ولكن التناقض بين الهدف من المشروع ووسائله من اللجان المعيَّنة للتحكيم والاختيار، قد أتاح الفرصة لكثرة من المرتزِقة غير الموهوبين، وحَرَم الكثرة الأصيلة الخِصبة المبدعة من هذا الحق.
إن قانون التعليم المجاني وقانون التفرغ للأدباء والفنانين من أعظم التقاليد الديموقراطية التي أرستها ثورة تموز ١٩٥٢م في الميدان الثقافي، ولكن ثمارها القليلة لم تعطِ ما كان متوقعًا من حصادها؛ لهيمنة الأطقم الرجعية على مقاليد السلطة في الجامعات ومؤسسات الثقافة، مما أشاع بلبلة وتمزُّقًا عنيفين حول المفاهيم الأساسية للثورة الوطنية والاجتماعية، الأمر الذي خلق فيما بعدُ تشوهاتٍ عقليةً مريرة وأزماتٍ نفسيةً مدمرة.
-
وكان من أهم إنجازات الثورة تأسيسها لوزارة الثقافة عام ١٩٥٧م، ومؤسساتها في المسرح والسينما والنشر ومعاهد الفنون والثقافة الجماهيرية. ولا شك أن الهدف من إنشاء هذه الوزارة، وكذلك المضمون الذي عُبئت من أجله، كان هدفًا ثوريًّا ومضمونًا ديموقراطيًّا، إلا أن خضوع هذا الإنجاز العظيم لتكتيكات عارضةٍ بتعيين فلانٍ حين تميل الدَّفة يمينًا، أو فلانٍ حين تميل الدَّفة يسارًا، قد أدخل المؤسسات الثقافية المصرية — بمساعدة البيروقراطية العريقة التقاليد — إلى عنق الزجاجة، وظلت في حالة اختناق وأزمة شاملة بصفة دائمة، سواء من ناحية التخطيط الثقافي العام أو التنفيذ التفصيلي، وسواء في عَلاقة هذه المؤسسات بالثقافة ذاتها كأسلوب في التفكير والتغيير، أو في عَلاقتها بالمثقفين حسب اتجاهاتهم ومستوياتهم، أو في عَلاقتها بجمهور الثقافة ذاته. ولا شك أن هذه المؤسسات قد أتاحت للفكر الوطني الديموقراطي — أو ما أسميه باليسار العريض — أن ينتج ويبدع أكثر الوجوه نضارة للثقافة المصرية المعاصرة. ولو أن هذا البنيان الشامخ قد خلا من التغييرات القطبية السريعة المتلاحقة، ولو أنه اعتمد ديموقراطية التشريع والتنفيذ لتتلاءم مع ديموقراطية المضمون، لحققت الثقافة المصرية أضعاف أضعاف حصيلتها الختامية.
-
كذلك فإن علمنة الأزهر بتحويله إلى جامعة في يونيو (حزيران) ١٩٦١م (وكان كمال الدين رفعت وزيرًا للأوقاف) يتجاور داخلها الدين والعلوم الطبيعية من الهندسة إلى الطب إلى الزراعة إلى الصيدلة، قد فك حصارًا تاريخيًّا على هذا المعقل الخطير، فدخلته — رغم كل شيء — رياح العصر. ولكن وزيرًا ممتازًا كالدكتور محمد حلمي مراد قد سقط في فخاخ رد الفعل اليميني حين أدخل الدين مادة أساسية في مختلِف مراحل التعليم لا بد من النجاح فيها حتى يتسنى للتلميذ والطالب الانتقال من صف إلى صف (عام ١٩٦٥م). وكان ما زرعته الثورة بإحدى يديها راحت تخلعه باليد الأخرى، وكأننا نضع زيتًا على النار بأنفسنا، وكأننا لا نملك تاريخًا ثابتًا في الاتجاه العلماني المتطور. وكان هذا من شأنه ظهور النتوءات الرجعية المتعفنة التي أعاقت مسيرة الثورة، بل ووقفت في وجهها بالسلاح.
ولعلني لست واحدًا من الذين يرون في وَحدة ١٩٥٨م سببًا في اعتقال الديموقراطيين واليساريين المصريين الذين آمنوا وناضلوا منذ وقت بعيد من أجل عروبة مصر. وإنما السبب كان في ظني هو تنامي الوعي التنظيمي لدى اليسار واقترابه من محطة التوحيد، وتركيزه على ضرورة حل التناقض القائم بين شكل الحكم ومضمونه، أي على مسألة الديموقراطية. فالانتصار في معركة السويس وتمصير الشركات الأجنبية وتقليص نفوذ الشرائح العليا من البرجوازية، قد أوجد مناخًا شعبيًّا — وثقافيًّا أيضًا — نسيجه الالتفاف حول قيادة جمال عبد الناصر والانعطاف به نحو أسلوب ديموقراطي في العمل السياسي، من شأنه أن يُثبِّت دعائم الاستقلال، وأن يرسخ قواعد التنمية الاقتصادية في طريق التقدم الاجتماعي.
وراحت أرقام التوزيع وأعداد المشاهدين تحمل الأنباء الفاجعة إلى مفكري «اليمين المتحضر»، فقد أصبح العقاد في ذمة التاريخ، ولم يعد السباعي وإحسان عبد القدوس، وأمين غراب، وعبد الحليم عبد الله فرسان الساحة، إذ تثاءبت رومانتيكيتهم على أرصفة الطرقات وأصبح القارئ والمستمع والمشاهد مشدودي الانتباه والمصير إلى أسماء أخرى.
فما العمل؟
واستغل «اليمين المتحضر»، وأقطابه المناضلون هم: زكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، ورشاد رشدي؛ استغلوا الشرخ القائم في البناء الديموقراطي، ووثبوا من ثغرة التناقض بين الشكل والمضمون، بين الواجهات الرسمية المعلنة والإنتاج الثقافي الحقيقي، بين السلطة والشارع.
وكانت معركة الستينيات المريرة.
•••
(٣) ما زالت الستينيات المصرية تُعَد إلى اليوم رمزًا للتحولات العميقة في مجرى ثورة ٢٣ يوليو، إذ هي بدأت بالانفصال، ومرت بالإجراءات الاقتصادية الوطنية، وعرَفت المؤامرة اليمينية المسلحة في صيف ٦٥، وكادت تنتهي بهزيمة حزيران في ٦٧، إلا أنها رحلت رسميًّا بغياب عبد الناصر في أيلول ۱۹۷۰م. وخلال السنوات العشر سقط الكثيرون، وبرز الكثيرون من الوجوه القيادية للثورة، وُلدت خصومات وماتت تحالفات، ونشأت جبهات، وانتهت صداقات، ولم يكن ذلك كله بعيدًا عن الشارع، ولا عن أكثر معالمه وضوحًا، وهي الحياة الفكرية والفنية في مصر.
كان غياب معظم الوجوه الثقافية اليسارية منذ عام ١٩٥٩م إلى عام ١٩٦٤م قد أوهم اليمين الرجعي بأن فرصة العمر حانت للانقضاض على الأسس الوطنية الجديدة للثقافة، والتي رسختها معركة السويس المجيدة عام ١٩٥٦م، ثم عقد صفقة الأسلحة السوفييتية والانتصار الناصري في معركة حلف بغداد. كان هذا المناخ السياسي منذ منتصف الخمسينيات من بين العوامل التي أرست هياكل جديدة لتطور الثقافة الوطنية، بذوبان الجليد في عَلاقة الثورة بالمثقفين سواء حين أقبلت في ردائها الكاكي عام ١٩٥٢م، أو حين أصرت على اللون العسكري عام ١٩٥٤م. كانت أكوام الجليد قد بدأت تذوب، وراحت العَلاقة تتوطد بين الثوار والمثقفين، حتى تعقدت الأمور من جديد في أواخر عام ١٩٥٨م.
ولكن هذا المشهد الجنائزي لم يكن في حقيقة الأمر هو المشهد الوحيد، وإن احتل مركز الصدارة في أجهزة الإعلام العربية والأمريكية في مصر … فقد كانت هناك أصوات ليبرالية لم تفقد شرفها الوطني في السيرك المنصوب وسط الميدان. كان هناك رجل نبيل كخالد محمد خالد، له من تاريخه المضيء أيام المَلِك ما يستند عليه في الدفاع عن الديموقراطية والعدل الاجتماعي بعد زوال المَلَكية. وكان خالد قد انضم إلى قافلة الديموقراطية منذ الأيام الأولى للثورة، فكتب «الديموقراطية أبدًا» و«حتى لا تحرثوا في البحر». وحين توجه هيكل إلى «الأهرام» عام ١٩٥٧م طلب من خالد أن يكتب عمودًا يوميًّا في الصحيفة، فراح الرجل يكتب بنزاهته التقليدية تحت عنوان «لله والحرية». ولم يكن خالد محمد خالد يساريًّا قط، ولكنه هو الذي كتب غداة موت ستالين «طبت حيًّا وميتًا يا رفيق» … فلما بدأ هيكل سلسلة مقالاته المعادية للاتحاد السوفييتي بعنوان «القيصر الأحمر يحكم روسيا» عن خروشوف، كتب خالد ردًّا عليه للنشر في عموده اليومي «لله والحرية»، ولم ينشر هيكل الرد، وطلب من الكاتب أن يكتب شيئًا آخر، فجاءه جواب خالد محمد خالد: «لقد كتبتُ ما كتبتُ ولن أكتب جديدًا إلا إذا نُشر القديم»، وكان آخر عهده بالأهرام رغم كافة المغريات. كان هذا عام ١٩٥٧م. وفي عام ١٩٦١م انتهى خالد من تأليف كتابه الشهير «في البدء كانت الكلمة» وهو منشور حماسي في الدفاع عن حرية الفكر والتعبير، يطلب فيه الحرية لليمين واليسار. وتلكأت الرقابة في الموافقة على النشر، وطلبه جمال عبد الناصر في منزله ليناقشه، وبعد حوارٍ دامَ أربع ساعات صدرت تعليمات الرئيس بالإفراج عن الكتاب فورًا.
وقد كان نجيب محفوظ في هذه المرحلة — بمفرده — حزبًا كاملًا، فتوالت أعماله الروائية ابتداءً من «اللص والكلاب» عام ۱۹٦٠م التي أخذها عن حادثة واقعية كاد فيها اللص أن يصبح بطلًا شعبيًّا لأنه صارع كلاب السلطة حتى «استشهد» بإحدى رصاصاتها. ولأن الفنان أضاف عنصر «الخيانة» التي قلبت كاتبًا وطنيًّا علَّم «سعيد مهران» مبادئ الثورة وكان هو أول من خانها. ثم كانت «السُّمَّان والخريف» عام ١٩٦١م التي جسَّد فيها الصراع العنيف بين مسار الثورة القائمة ومسار الوفد حزب الأغلبية الشعبية، ومسار المناضلين الاشتراكيين، وقد انحاز قرب الخاتمة بشكل حاسم إلى جانب «الشاب المبتسم دائمًا ويمسك بيسراه وردة حمراء»! وأقبلت «الطريق» عام ١٩٦٢م نشدانًا عميقًا للحرية والكرامة والسلام، ومن بعدها «الشحاذ» ١٩٦٣م الذي ضل الطريق إلى الثورة الحقيقية بانزلاقه في متاهات الصوفية والثراء والجنس والجنون. بالإضافة إلى عشرات القصص القصيرة التي أودعها «شفرة سرية» كان الناس سرعان ما يفكون رموزها فتفعل فيهم الأعاجيب.
هكذا كان الفنان العظيم. لم يكن شاهدًا، كان قاتلًا أو قتيلًا. بينما راح «المناضلون» ضد الشيوعية من أمثال يوسف السباعي في روايته «جفت الدموع»، وإحسان عبد القدوس في روايته «لا شيء يهم»، وثروت أباظة في كل ما كتب، يستكملون بالفن الرخيص ما عجزت عن تصويره أجهزة النشر الأمريكية-العربية في القاهرة، فالمناضل اليساري في هذه الروايات شاب مهووس حاقد يعاني وحده من الكبت الجنسي إذا كان من أصول فقيرة، ويعاني وحده من الارتواء الجنسي إذا كان من أصول غنية.
وكان اليساريون القليلون الذين أمكن الإفراج عنهم في أوائل الستينيات قد استطاعوا في «صفحة الرأي» بجريدة «الأهرام»، وكذلك في «الملحق الأدبي»، بالإضافة إلى من أفلت ولم يدخل أصلًا المعتقل في صحيفتي «المساء» و«الجمهورية» ومَجلتي «روز اليوسف» و«صباح الخير». واستطاع هؤلاء جميعًا أن يسدوا جانبًا من الفراغ المخيف، بكتابات لويس عوض، ولطف الخولي، وعبد الرازق حسن، ومحمد الخفيف، وعبد الرحمن الشرقاوي، في هذه الكتابات العلنية وغيرها مما كان يتسرب إلى مَجلات بيروت — خصوصًا «الثقافة الوطنية» — بأسماء حقيقية أو مستعارة، تمكنت الوقفة الشجاعة من أن تفتح ثقبًا في الديكور الديماجوجي، وأن تشعل ثقابًا في الظلمة الدامسة. لم يدخلوا قط من باب «المهاترات» المبتذلة (التي كانت تصد عنها عفويًّا أذواق الشعب البسيط، حين يقال له إن الاشتراكية ترغم الأخ على الزواج من أخته، وأن لينين أصبح ثوريًّا لأنه كان يقتل القطط في طفولته، وأن ماركس شيوعي لأنه يهودي … وهكذا). لم يدخل اليساريون القليلون ساحة الصراع من هذا الباب القذر، وإنما راحوا يناقشون خصومهم في الاشتراكية والديموقراطية والتحالف الوطني والاستقلال والتنمية، وغير ذلك من قضايا «حقيقية» تسقط أمامها كافة الدعاوى المزورة والشعارات الرخيصة.
وانفتح الستار على المسرح المصري الجديد، بدءًا برائده توفيق الحكيم الذي كتب حينذاك رائعته الباقية «السلطان الحائر» ١٩٥٩م، وفيها يعالج قضية السيف والقانون، أي مسألة الديموقراطية، وينتصر بوضوح — في قالب فني أخاذ — لحرية الإنسان. وكان ألفريد فرج قد كتب في السجن مسرحيته العظيمة «حلاق بغداد»، وما إن خرج في تلك الفترة حتى أمكن تمثيلها في المسرح القومي، وهي تتفق مع مسرحية الحكيم وتتجاوزه، لأن يصبح «منديل الأمان» من حق الناس جميعًا. وقام يوسف إدريس بتحويل قصته القصيرة «جمهورية فرحات» إلى مسرحية، ثم كتب «ملك القطن»، ودخل سعد الدين وهبة الساحة بمسرحيته «المحروسة» وألحق بها «السبنسة» ثم «كوبري الناموس». وكان نعمان عاشور أمينًا لبدايته الرائدة في «الناس اللي تحت». وفي تواضع شديد اقتحم الميدان كهل صعيدي ضعيف البنية، يعمل أستاذًا للكيمياء في الأرياف، بمسرحية «الدخان» التي كانت قنبلة ميخائيل رومان الأولى في الوسط المسرحي — بالاختلاف والاتفاق — حتى وصلت أصداؤها إلى الحَلْبة السياسية عبر صرخة حمدي الشهيرة: «اللي عنده السل ماركعشي»!
هكذا، وبالرغم من الموجة الوحشية الهادرة داخل الأسوار وخارجها، لم تصمت الأصوات الشريفة المناضلة، من مواقع مختلفة، والتي قامت — بعددها القليل — بمهمة تاريخية مزدوِجة: هي عدم السماح للأعشاب السامة الطافية فوق سطح الماء أن تسمم النهر بأكمله، ألَّا تنهدم أسس البناء الوطني للثقافة المصرية. ومن ناحية أخرى، ألَّا يحدث «فراغ» أو «فجوة» في مسار تطورنا الثقافي، بين أكثر تقاليدنا الفكرية أصالة ورسوخًا، ومستقبل العقل والضمير في مصر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المرحلة الأولى من الستينيات — أي حتى منتصفها — قد عاصرت إلى جانب «المواقف» الشجاعة للمثقفين الوطنيين والتقدميين، ترسيخًا وتثبيتًا وتأصيلًا وتعميقًا لظواهرَ وأشكالٍ وقيمٍ فنية وجمالية جديدة، وُلدت حقًّا في الخمسينيات، ولكنها مدَّت جذورها في أرض الستينيات. وقد كان أهم هذه الظواهر على الإطلاق المسرح والشعر. إن الأعمال المسرحية التي كتبها «الشبان» الجدد — أقصد الكهول بالطبع — في ذلك الوقت تجسد الانعطافة الحاسمة في تاريخ المسرح المصري بعد توفيق الحكيم. بل إن هذه الانعطافة قد جرَّت «الشيخ» إلى حدٍّ ما. وإذا كان فضل الخطوة الأولى يعود إلى نعمان عاشور، فإن الظاهرة لم تكن فردية قط، وإنما كانت حركة جيل. أما الشعر الجديد الذي كان فضل الخطوة الأولى فيه لعبد الرحمن الشرقاوي، ثم لعبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ونجيب سرور، وكمال عمار، وكامل أيوب، ومجاهد عبد المنعم، فقد تكامَل وتطوَّر وتبلوَر وتحدَّد في أصوات قليلة ولكنها غلَّابة ومؤثرة. وانسحب البساط نهائيًّا — على خشبة المسرح — من تلامذة الريحاني، وجورج أبيض، ويوسف وهبي، وإسماعيل يس، وفي حقل الشعر، من صالح جودت، ومحمود حسن إسماعيل، وعزيز أباظة، ومحمود غنيم، والعوضي الوكيل، وبقية مفتشي اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم.
ولا بد هنا أيضًا من ملاحظة أنه قد «أمكن» ظهور الوجه الآخر للثقافة المصرية في زمن القمع عن طريق الأجهزة «الرسمية» ذاتها في الصحف، ودور النشر ومؤسسات المسرح والسينما وغيرها، مما يؤكد مرة أخرى أن موقف ثورة يوليو من الثقافة لم يكن منسجمًا تمامًا مع مواقفها السياسية، لم يكن مطابقًا، وإنما كانت هناك «ثغرات» نفذت منها إمكانيات الصراع، سواء باللامبالاة، أو بتركيب الرقابة، أو بالعَلاقات الشخصية، أو بالصراع داخل السلطة، أو بالخضوع أحيانًا لقانون السوق الرأسمالية بالعرض والطلب.
ولكن مما لا شك فيه هو أنه كانت مفارقة بين «الإعلام» الأمريكي الناطق بالعربية في مصر ضد اليسار والثقافة والشيوعية، وبين التحولات الاقتصادية والسياسية التي قادتها السلطة المصرية قبيل الانفصال وبعده مباشرة.
وفي «المؤتمر الوطني للقوى الشعبية» عام ١٩٦٢م، الذي حضر عبد الناصر جلساته بنفسه، انكشف الصراع بين مختلِف الأطراف، ولعب كل فريق بكل ما يملك من أوراق. كان جمال عبد الناصر يقود نضالًا أليمًا وباسلًا داخل أعلى مواقع السلطة، مع أصدقاء العمر ورفاق السلاح. وكانت البرجوازية المصرية قد خذلته بعد تأميم المصالح الأجنبية في الخمسينيات. وبعد إنشاء «المؤسسة الاقتصادية»، راحت تهرِّب أموالها أو تكدسها «تحت البلاطة» وترفض المساهمة الإيجابية في خطة التنمية. وانحاز عبد الناصر في لحظة تاريخية حاسمة إلى جانب الشعب ومستقبل مصر، وأجرى في وقتٍ واحد الجراحة الاقتصادية الدامية للفئات العليا من البرجوازية بتأميم عصب الإنتاج، والجراحة السياسية الدامية للأفراد والفئات التي رفضت التحول الاجتماعي الجديد، والجراحة الفكرية بالميثاق الوطني.
ولم يكن مسموحًا لليساريين والديموقراطيين والعلمانيين بالتصدي لهذه الحملة الغريبة، حتى أعلنت السلطة عن مؤامرة الإخوان المسلمين المسلحة في صيف ١٩٦٥م، والتي كانت تستهدف اغتيال عبد الناصر وصفوف عديدة من المثقفين الوطنيين. كذلك أعلنت السلطة عن اشتغال مصطفى أمين بالتجسس لمصلحة المخابرات الأمريكية. حينذاك فحسب قامت «الأجهزة» بالاعتقالات الواسعة في صفوف اليمين المتطرف ومصادرة مؤلفاته وصحفه، أي إن التصفية ظلت دائمًا — بالنسبة لليمين — إدارية وفوقية، ولم يُتَحْ للصراع الحر بين تيارات الفكر المصري المختلفة أن يأخذ مداه، وأن يخرج من السراديب المظلمة إلى ضوء الشمس.
ولكن أسباب الصراع كانت قائمة، باحتدام التناقضات الاجتماعية بعد إجراءات ٦٢ التقدمية. وقد كان ظهور مَجلتي «الطليعة» و«الكاتب» بردائهما السياسي الجديد في مواجهة «الرسالة» و«الثقافة» وغيرهما كفيلًا بإدارة الصراع بين اليمين واليسار في الثقافة المصرية، إلا أن غالبية اليسار استظلت بحل منظماتها، ودخلت غالبية اليمين جحورها موَقتًا، وتعاظمت قوى الطبقة الجديدة، وتزايد اندفاعها لضرب الديموقراطية وتعميق الشرخ في البناء الاجتماعي.
كان البيت آيلًا للسقوط، ولكن أصحابه هَيئُوا المناخ للعدو المتربص في صمتٍ أن يتعجل ضربته في هزيمة ١٩٦٧م.
•••
(٤) كان رد الفعل التجريبي هو «المنهج» الغالب على العمل السياسي لثورة يوليو، حتى بعد أن صدر الخط الاستراتيجي في «الميثاق»، إذا لم ننسَ أن صدوره والإجراءات التي صاحبته كانت أيضًا من قَبيل رد الفعل على موقف البرجوازية المصرية المتعنت، وانفصام عرى الوَحدة. لم يحظ هذا الخط الاستراتيجي في الانتقال من المجال النظري إلى ميادين العمل التطبيقي بالتخطيط الموضوعي المستقل عن الثقة في بعض الرجال وبعض الأشكال السياسية، والتفاعل مع الأحداث الجارية بمنطق الأهداف المحددة لا بتقديم الوسائل على الغايات.
لذلك رأينا مثلًا كيف يتم الانفتاح — المحسوب — على اليسار الثقافي في ظل هيمنة أقطاب اليمين على السلطة الثقافية الممثلة في وزارة الثقافة ومؤسساتها والمجلس الأعلى للفنون والآداب وجمعية الأدباء. وهو الأمر الذي سمح عمليًّا بتسلل الفكر المعادي للثورة إلى منابر الدولة.
ولم تكن الدولة «تستيقظ» من سُباتها العميق إلا حين يتعرض صدرها لرصاصة في القلب، حينئذٍ تبادر إلى معالجة «النتائج» دون أية عناية بالمقدمات الفكرية والسياق الاجتماعي. هكذا شنقوا وعذبوا واعتقلوا الإخوان المسلمين وانتهى الأمر. بينما كان «الهدف» من الإجراءات الاقتصادية في ٦٢ يتطلب تعديلًا جوهريًّا في بِنَى السلطة ومؤسساتها وتشريعاتها وأساليبها، كما كان يتطلب حوارًا سياسيًّا واسعًا مع مختلِف التيارات المناوئة لتغييرات المرحلة الجديدة. ولكن التناقض بين الهدف والوسائل، واعتماد منهج رد الفعل التجريبي، هو الذي أوجد «الثغرة» التي نفذت منها الضربة الصهيونية الاستعمارية في ١٩٦٧م.
وهي الثغرة التي ناضل المثقفون الوطنيون التقدميون في التحذير من خطورتها نضالًا مريرًا، حتى إن بعضهم دخل السجون مرة أخرى عام ١٩٦٦م ولم يخرجوا منها إلا بعد الهزيمة.
والدكتور عبد القادر حاتم نموذج آخر تربع فوق عرش السلطة الإعلامية والثقافية أكثر من عشر سنوات، لم تكن مصر تراوح في مكانها بحركة «مَحلَّك سِرْ»، وإنما كانت تتطور أحيانًا خلال هذه الفترة من السلب إلى الإيجاب. وإذا كان كمال الدين حسين في خاتمة المطاف «رجل عقيدة»، فالدكتور حاتم لم يكن على عَلاقة طيبة بالمبادئ والعقائد. ولكنه حين كان يجيء كبديل لثروت عكاشة، يتصور مباشرة أن المطلوب منه «إزالة» آثار العدوان اليساري على الثقافة والإعلام. لذلك يبادر بتغييرات قطبية في المؤسسات ويأتي بعتاة اليمين من عديمي المواهب. وحين يتغير بناء الهيكل، تتغير فورًا العبادات والطقوس. هكذا يصبح المطلوب في النشر «كتابًا كل ست ساعات»، وهكذا تُولد في بطن واحدة — هي التليفزيون — عشر فرق مسرحية، وهكذا يفتح القطاع العام في السينما خزائنه لإعانة القطاع الخاص. وهكذا تفضي «السياسة الثقافية» لرجل بلا عقيدة، إلى ازدهار اليمين بمختلِف أشكاله وألوانه ومستوياته، بدءًا من «الرجال الأشداء» كرشاد رشدي، وعبد الرحمن بدوي، وزكي نجيب محمود، وأنيس منصور، وإحسان عبد القدوس، الذين ترتفع أسهُم بعضهم في النشر والترجمة والمسرح والسينما والإذاعة والصحافة والتلفزيون إلى أرقام فلكية، وانتهاءً بالحثالات التي لا يسمع بأسمائها أحد. ثم يدخل الدكتور حاتم في «بيات شتوي» يقصر أو يطول، ثم يظهر من جديد محمولًا على الأكتاف، كلما دعت الضرورة التكتيكية العارضة إلى ذلك. ولكن آثار الرجل — إحقاقًا للحق وشهادةً للتاريخ — لا تدخل معه في بيات شتوي، وإنما هي تبقى من بعده حيةً شامخةً في مئات «المصالح» التي تكونت بحضوره ولا تذهب بغيابه، في مئات القوانين والتشريعات والنظم التي رسختها يداه، ولا يمكن اقتلاعها بزحزحة قدميه، وفي عشرات الألوف من الأعمال «الفنية» الرخيصة التي غزت القلوب والعقول والأخيلة بوسائلها السحرية.
والحق أن هذا الشكل من إحدى الزوايا، كان أحد عناصر «المضمون»، فالشعرة الرفيعة بين أن يكون القطاع العام أساسًا ماديًّا لتحول اشتراكي قادم، وأن يكون «رأسمالية دولة»؛ هذه الشعرة تكمن في الأسلوب السياسي أكثر منها في الإجراء الاقتصادي والإدارة البيروقراطية والتنفيذ التكنولوجي. ذلك أن قرارات ٦٢ التقدمية تستهدف — افتراضًا — سعادة الشعب العامل، وكان لا بد للميثاق الوطني أن يتيح للجماهير التي استقطبتها الإجراءات نظريًّا، سياجًا سياسيًّا تحمي به هذه القرارات لحظة التنفيذ ولحظات التطوير بالرقابة الديموقراطية الواسعة النطاق. أما الصيغة التنظيمية التي اقترحها الميثاق — وهي الاتحاد الاشتراكي — فكانت إبقاءً متعنتًا لفترة التنظيم الواحد التي أخفقت في «هيئة التحرير» و«الاتحاد القومي»، بالرغم من اشتمالها على نسبة ٥٠ بالمئة على الأقل للعمال والفلاحين. إن جوهر التحالف الوطني هو التنظيم المستقل لمختلِف الطبقات الوطنية، ولن يكون التحالف بأية حال حاصلَ جمع الأفراد كما حدث. وهو الأمر الذي لم يسمح للقطاع العام أن يكون بداية القاعدة المادية للانتقال إلى الاشتراكية، بل أتاح لكبار الفنيين والمديرين (عسكريين ومدنيين) أن يشكلوا ما سمي ﺑ «الطبقة الجديدة» المستفيدة أساسًا من أسلوب التأميم ووسائله.
وربما كان أفدح أشكال التناقض بين الشكل والمضمون في البناء السياسي هو «التشريع»، وقد أثر تأثيرًا سلبيًّا مباشرًا في الحركة الاجتماعية، وعلى الحياة الثقافية على نحو خاص؛ لا لأن القانون هو أحد عناصر البناء الفوقي للمجتمع فحسب، وبالتالي كان لا بد لهذا العنصر أن يتسق مع بقية العناصر الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، وإنما لأننا ورِثنا — على سبيل المثال — قوانين الحريات من عهود الظلام المَلَكية، وبالذات من عهد إسماعيل صدقي باشا. وقد بقيت هذه القوانين المعادية للشعب ولحركة الفكر الوطني، تقذف بآلاف المثقفين إلى غياهب السجون والمعتقلات في ظل الثورة، وتمنع رسميًّا أية أفكار تقدمية من الرواج والذيوع والانتشار.
فإذا أضفنا إلى هؤلاء جميعًا صرخة نجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النيل» على لسان الحكيم المصري القديم إيبور، تراءت لنا صورة «الفجيعة» ككابوس لم نستيقظ من هوله في حزيران ١٩٦٧م لأنه لم يكن حُلمًا … كان واقعنا الوحيد.
•••
واستطاع عبد الناصر أن يصفي اليمين الرجعي المتطرف في صيف ٦٥، وعلى الصعيد الثقافي صودرت مَجلاته ومؤلفاته ورموزه البشرية. كذلك قامت المنظمات الشيوعية بحل نفسها، وعلى الصعيد الثقافي صدرت مَجلتا «الكاتب» و«الطليعة» وأصبح الاتحاد الاشتراكي وجهازه الطليعي (السري) هما هاجس النظام وأداته الحزبية.
كان واضحًا أن الرجعية منذ قليل — على صفحات الرسالة طيلة عامي ٦٤ و٦٥ — تهاجم القومية العربية باعتبارها مؤامرة استعمارية على الوحدة الإسلامية، قائلة إن الإمبراطورية العثمانية هي أزهى عصور المسلمين، أما الآن فراحت تدغدغ حواس الملايين بالتركيز على الدين واللغة. حينئذٍ كتب أحمد بهاء الدين في افتتاحية «المصور» (بتاريخ ٢٤ / ١٢ / ١٩٦٥م) ما نصه: «ماذا نفعل وفي حياتنا الأدبية والفنية بالفعل من كانوا دائمًا عونًا للاستعمار والعرش وخصومًا للشعب؟ استخدام اللغة العامية عندهم كفر، أما ما كان من تجويع الشعب وإرهاقه، وفسق الحكام وفجورهم، وإبقاء الأمة في ربقة التخلف فهو في عرفهم لا يتعارض مع الإيمان الصحيح. ما حيلتنا وأجهزة في الدولة كثيرة لا تشجعهم فحسب، بل تضعهم بكل ما يعتمل في نفسهم من مرارة حيث يتمكنون من خنق أنفاس المحاولات الجديدة، وشن الحروب غير البريئة عليها.»
وقد كان أحمد بهاء الدين هو الذي وضع القضية في موضعها الصحيح، ذلك أن الحوار «الفني والعلمي» الواسع بين الأطراف المتصارعة منذ بيان لجنة الشعر، كاد أن يتحول في إحدى اللحظات إلى سفسطة بيزنطية، فالمفارقة كانت واضحة بين شعر الشرقاوي وعبد الصبور وحجازي وغيرهم ممن يرفعون علم الثورة والعروبة والاشتراكية، وبين شعر أباظة وجودت، ونثر الورداني والسباعي وغيرهم ممن يستهدفون احتواء الثورة لضربها من الداخل. كان بهاء هو الذي كشف المستور، فقال: إن الباشاوات القدامى والجدد يراوغون التحول الاجتماعي، وينصبون للمسيرة الثورية شباك الغواية والتهديد، متخفين وراء الأدب والفن … فما إن صدرت نشرة «الاشتراكي» عن الأمانة العامة للدعوة والفكر بالاتحاد الاشتراكي وفيها «دستور» عنوانه «نحو وحدة فكرية للمثقفين» (۱۳ / ١١ / ١٩٦٥م) حتى كان الرد جاهزًا في الخطاب الرسمي لعزيز أباظة ومقالات جريدة «الأخبار». كان الدستور يقول إنه «ينبغي أن نُدخل في الاعتبار أن الأعلام بين الفنانين قبل قيام الاشتراكية كانوا دائمًا إنسانيين، بمعنى أنهم عبروا عن زمانهم ومكانهم، ثم ارتفعوا عن حدود الزمان والمكان» وأنه يتعين على الاشتراكيين أن يؤكدوا في وضوح «ضرورة الالتحام العضوي بين الشكل والمضمون في العمل الفني الواحد، ويلحوا على أن العمل الفني الخالي من الجودة الفنية، لا يمكن أن يُعَد عملًا فنيًّا مَهْما كان تقدميًّا من الناحية السياسية.» ولا شك أن هذه الكلمات — في جو صحي — يمكنها أن تستقطب جمهرة المثقفين الحقيقيين، ولكنها أثارت في ذلك الوقت زوبعة هائلة عبرت عن نفسها — بالعنف — في انتخابات نادي القصة الذي يرأسه تشريفًا الدكتور طه حسين، ويرأسه عمليًّا يوسف السباعي.
كان هذا هو الاحتكاك المباشر بين اليسار واليمين في الثقافة المصرية، وكاد يصل عن طريق التشابك بالأيدي من مرحلة المجاز والتشبيه إلى مرحلة الفعل والعمل. على أية حال كان اليسار — معظم اليسار — قد تشبث بالمظلة الناصرية، سواء في منابره الصحفية (الطليعة – الكاتب – الجمهورية – المصور)، أو في مستويات الاتحاد الاشتراكي المختلفة، أو في التنظيم الطليعي. وكانت «الطليعة» أكثر التزامًا بالمنهج الماركسي، بينما كانت «الكاتب» أقرب إلى الجبهة المتعددة الاتجاهات الوطنية والتقدمية، وأكثر اقترابًا من المشكلات القومية والقضايا العربية.
وقد كان المسرح المصري بالذات ساحة رئيسية للصراع، واتجه في غالبيته إلى التاريخ والفولكلور يلتمس فيه مخرجًا من الرقابة، أو هو يعيد صياغة التراث العربي الإسلامي والتراث الشعبي، أو هو يجنح إلى التجريد. وربما كان يوسف إدريس هو بداية التجريد في المسرح المصري منذ كتب «الفرافير» عام ٦٤، إلى أن مُثِّلت له «المهزلة الأرضية»، وهو في الأولى يكاد يقول: إن مجتمع السيادة والعبودية لا يزول، وفي الثانية يكاد يقول: إنه ليست هناك حقيقة واحدة في هذا العالم.
وإذا كانت «السلطان الحائر» و«الدخان» و«حلاق بغداد» للحكيم ورومان وفرج، قد ناقشت (هذه المسرحيات جميعها) في بداية الستينيات قضية الديموقراطية من مواقع متباينة، فإن امتزاج الديموقراطية بالعدل الاجتماعي كان هو المحور شبه الموحد للمسرح «اليساري» منذ عام ١٩٦٥م، وربما كانت مسرحية «سكة السلامة» لسعد الدين وهبة هي أولى الأعمال التي وضعت ما يسمى بالطبقة الجديدة على مشرحة المسرح، ففيها يختار الكاتب بعض النماذج التي تشير بوضوح إلى انتمائها الاجتماعي، وهو الانتماء الطافح بالبثور على جسد المجتمع الجديد، يفضح المؤلف أساليبها وغاياتها، وهي أساليب منحطة كالرشوة والدعارة والاختلاس، وهي غايات تسد الطريق على تطور الثورة. يحجزهم سعد وهبة بين طريقين حين يتوقف بهم الأوتوبيس فجأة، وحين يهبط عليهم من السماء سائق سيارة يمكنه أن يأخذ منهم واحدًا فقط، فيتهالك الجميع على مقعد النجاة، ويعترفون له بأصلهم وفصلهم. وقد استكمل الكاتب فكرته في مسرحيته التالية «بير السلم» حيث يظل رب البيت غائبًا طول الوقت عاجزًا عن العمل، بينما أفراد الأسرة جميعًا — كما هو الحال في «المهزلة الأرضية» لإدريس — يريدون قتل بعضهم وسرقة بعضهم. وقد مُثِّلت هذه المسرحية عام ١٩٦٦م، وهو الموسم ذاته الذي مُثِّلت فيه «الفتى مهران» لعبد الرحمن الشرقاوي. وفيها يستعير المؤلف العصر المملوكي، ويبعث إلى الوجود الفن إحدى حلقات المقاومة الفلاحية في ذلك الوقت، حيث يظهر الفتى مهران صائحًا:
وقد استكمل الشرقاوي هذه المعاني الواضحة في روايته «الفلاح» التي كتب معظم فصولها قبل هزيمة ١٩٦٧م، وهي وثيقة سياسية أكثر منها عملًا فنيًّا.
وعلى الجبهة الأخرى كان رشاد رشدي في مسرحيته «اتفرج يا سلام»، وأحمد سعيد في مسرحية «الشبعانين» يردَّان على المسرح الوطني في ثياب رمزية أيضًا ولكنها شفافة لا تستر عورة. تدور «الشبعانين» في بغداد أيام غزو التتار، وبطلها شحاذ خفيف الظل (أمين هنيدي) يفتح علينا الستار وهو يخاطب ابنته: «أنا يا رُوح أمك، عايز العالم دي كلها تبقى زيي شحاتين.» وحين يتولى الشحاذ السلطة يجعل من الإمارة بيتًا كبيرًا للدعارة، فيصدر قرارًا سلطانيًّا يقول:
«يا رفاق … يا رفيقات … إحنا وكلناكم وشربناكم وفرفشناكم … مش فاضل غير حاجة واحدة بس … النسوان الحلوين الطعمين» ويأمر بإعداد كشف بأسماء الرجال والنساء لتمُرَّ كل امرأة على كل رجل «أظن بالشكل ده نبقى ضمنا عدالة التوزيع … عدالة الهنك والرنك.» لذلك فإن الخلاص من السردار الحاكم الباطش لا يتم بحكيم الزمان — ويدل عليه اسمه — وإنما بالقائد العسكري عماد الدين، ويدل عليه اسمه أيضًا. هكذا كانت «مسرحية» أحمد سعيد منشورًا دعائيًّا صريحًا للثورة المضادة، استخدم فيها أحط أساليب النازيين والفاشست والأمريكيين ضد اليسار عمومًا، وثورة يوليو خصوصًا. لم يكن في هذه الاسكتشات القذرة معبرًا عن رأي، بل محرضًا على انقلاب، ومع ذلك فهو الذي كان يقود «صوت العرب من القاهرة»! أما رشاد رشدي، ففي مسرحيته «اتفرج يا سلام» يعود بنا إلى العصر التركي المملوكي إبان القرن الثامن عشر حيث يحكم الوالي بالحديد والنار «ومع ذلك ما الوالي يمر حتى تحنو له الرءوس كأنه نبي من الأنبياء.»
وقد كان الشرقاوي ومحفوظ وحدهما اللذان ركَّزا على أن وحشًا جاثمًا على الحدود ينتظر اللحظة التي ينقض فيها على الوطن ليأتي عليه من الثغرات التي فتحها في جداره الصلب بعضُ أبنائه. ولكن الشباب الجديد أيضًا كان يبصر الخطر من ثقب الباب، فيقول محمد إبراهيم أبو سنة في قصيدته «غزاة مدينتنا» التي نُشرت عام ١٩٦٦م:
وكان صنع الله إبراهيم في روايته «تلك الرائحة» واحدًا من أبناء هذا الجيل الذي بدأ مسيرته عشية الهزيمة في حزيران، حيث قدم لنا شريحة من الماضي تحذر الحاضر وتنشد المستقبل، فبطله سجين أُفرج عنه حديثًا، صُفيت رُوحه وبقي جسده لا يحتاج إلا إلى المرأة والأكلة الشهية.
وظل الصراع محتدمًا بين اليمين واليسار، بين الثورة والثورة المضادة، بين الطبقة الجديدة والمجتمع، بين الشكل والمضمون في البناء السياسي، بين القديم والجديد في صراع الأجيال، حتى استيقظ الجميع يوم الهول العظيم في الخامس من يونيو ١٩٦٧م، وإذا بالثقافة المصرية طيلة الستينيات كانت الشهادة الحية على السقوط والنبوءة الفاجعة بالهزيمة.
•••
(٦) كان الالتفاف الجماهيري الواسع حول «شخص» جمال عبد الناصر مساء التاسع من حزيران ١٩٦٧م تأكيدًا عمليًّا من أرض الواقع الحي لصحة المقولة الفنية التي سادت مصر قبل الهزيمة، فقد أجمع الشعب المصري — طبقاته الوطنية والتقدمية بتعبير أدق — كإجماع الثقافة المصرية قبل ذلك، على أن القائد «وحده» هو الجدير بالتأييد، والتحذير ممن يحيطونه كالسوار حول المعصم. وقد كانت النبوءة الفنية للأدب المصري السابق على الهزيمة شاهدًا نافذ البصيرة على ما وقع بعد هذا التاريخ. ولكن تحقق النبوءة جاء تأييدًا ونفيًا للثقافة التي جسدتها، فالتأييد الشعبي التاريخي لقائد الثورة دون غيره من وجوه النظام، لم يكن قط تأييدًا سلبيًّا، وإنما كان حرصًا يشبه المعجزة، على كل ما يرمز إليه عبد الناصر من منجزات الماضي، وإشارة استثنائية بلغت أقصى درجات الاستثناء — في عفوية الانطلاقة وحجمها وشجاعتها — إلى حتمية «التغيير» المطلوب لكثير من الأسس والأجهزة والرجال والتشريعات التي مالت بالمسيرة منذ عام ١٩٦٥م. وقد كان واضحًا من سلوك الاتحاد الاشتراكي الذي قامت بعض مكاتبه التنفيذية — فور انتهاء الرئيس من خطابه — بنزع صور عبد الناصر وتعليق صورة زكريا محيي الدين، أن الثورة المضادة جاهزة خلف المتاريس، بينما الشعب في الشوارع يطالب بثورة جديدة لا تتجاوز نتائج الهزيمة، وإنما أسبابها الدفينة.
كان هذا المشهد الأسطوري يكاد يكون الاستجابة والتحدي للثقافة المصرية المعاصرة. وهي الثقافة التي تنبأت — أكرر — بما حدث، ولكنها في أهم رموزها توقفت عند حدود النبوءة، تمكنت من التشخيص ومعاينة موضع الداء، ولكنها لم تتوفر على دراسة العلاج وإنقاذ المريض من الموت، حتى إن بعضًا من أقطابها فوجئوا بالهزيمة التي سبق لهم التحذير من وقوعها.
لماذا؟ هناك سببان رئيسيان: أولهما أن غالبية الكُتَّاب والمثقفين «الغاضبين» وقتئذٍ كانوا قد انتمَوا بصورة أو بأخرى إلى نسيج الطبقة الجديدة، فهم قد ارتقَوا خلال خمسة عشر عامًا من مصافِّ البرجوازية الصغيرة في الأغلب، إلى مصافِّ البرجوازية المتوسطة البيروقراطية. فضابط الشرطة، والمحامي الناشئ، والصحفي الطموح، والمعلم، وسكرتير الوزير قد تحولوا إلى وكلاء وزارات ورؤساء مجالس إدارة، ورؤساء تحرير، ومديري عموم، بالإضافة إلى «دخولهم» من السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون. أي إن وضعهم الاجتماعي في حقيقة الأمر قد تغير كيفيًّا. ولكن الموهوبين منهم والشرفاء أيضًا، لم يتحولوا تلقائيًّا إلى المعسكر المضاد للثورة. غير أن انتماءهم الاجتماعي الجديد، الذي وضع أيديَهم وفتح عيونهم على أسس الفساد، هو نفسه الذي شل الأيدي، وأغمض العيون عن رؤية ما هو أعمق، وما هو أبعد من الهزيمة والسقوط. هو الذي جمَّد بصائرهم في حدود رؤية المثقفين للواقع. إن الفصل المتعسف بين القمة القائدة للنظام، وأركان هذا النظام كان مبعثه الباطني هو الإيمان الميتافيزيقي المطلق بقدرات الفرد الذي صنع «معجزات» الماضي، كما أن اللون الأسود الحالك السواد الذي غطى أعمالهم كان حزنًا على خراب البيت القائم خاليًا من أي تفكير في تشييد بيت جديد. كانت نظرتهم الأحادية الجانب ثمرة عادلة لانخراطهم بوعي في صفوف الطبقة الجديدة وتحذيرهم دون وعي من خطر هذه الطبقة في اللحظة عينها. ولكن الحصيلة الختامية لرؤياهم هي الاستمرار، وإن رفعوا شعار التغيير، مرموزًا إليها بالسلطان أو الأمير أو الوالي الطيب العاجز الغائب، والمفارقة التي يصنعها التناقض الخفي بينه وبين الحاشية أو البطانة. إنهم أدباء وفنانون ومثقفون شرفاء حقًّا، ولكن دورهم القيادي في حياة المجتمع انتهى موضوعيًّا في منتصف عام ١٩٦٧م، ذلك أنهم — موضوعيًّا كذلك — أحد أعمدة البناء الذي تهدم، أحد خيوط النسيج الاجتماعي الذي اهترأ.
والسبب الثاني هو أن الغالبية العظمى من هؤلاء المثقفين ينتمون إلى جيلٍ مهَّد وواكب ثورة يوليو، وهم بالإضافة إلى تكوينهم الاجتماعي المستفيد من الثورة ونظامها، قد تبلورت مقوماتهم الفكرية عشيتها وغداتها، ولم يعد في مستطاعهم — بحكم الزمن — أن يكونوا رموزًا لثورتين. وقد جاء حل المنظمات اليسارية لنفسها برهانًا من ناحية ومناخًا من ناحية أخرى. إنه برهان على أن أكثر الفئات ثورية قد أوجزت في قرار عام ٦٥ نقطة النهاية لمسيرة جيل، بكل ما تخلل هذه المسيرة من أمجاد وسلبيات، ومن شد وجذب. كما أن هذا القرار خلق «مناخًا» انعكس على كافة مجالات الحياة المصرية، ولكنه انعكس بشكلٍ مكثف على حياة المثقفين بالذات، فلم يعد لهم جدار يستندون عليه ويحتمون به سوى السلطة، والنظام، والأفراد، والشطارة الشخصية. ولم يقتصر هذا الانعكاس على المثقفين الملتزمين سابقًا بالتنظيم الشيوعي، وإنما وصلت أصداؤه بالحتم إلى المتعاطفين والأنصار والأصدقاء، من الوطنيين، والديموقراطيين، والتقدميين بصفة عامة.
كان الجيل من الزاويتين الاجتماعية والفكرية قد انتهى مع الأشياء الكثيرة التي انتهت في صيف ١٩٦٧م، فلم يضف نجيب محفوظ جديدًا بعد «ميرامار»، بل جاءت قصته القصيرة «تحت المظلة» وأخواتها تعبيرًا كابوسيًّا معادًا لأهوال «ثرثرة فوق النيل». ولم يضف توفيق الحكيم جديدًا بعد «بنك القلق»، بل جاءت تمثيليته القصيرة «كل شيء في محله» وأخواتها من «الحمير» تكثيفًا لما سبق أن قاله عن دولة المخابرات. صرخ سعد الدين وهبة في «المسامير» على لسان خضرة: «اضرب يا عبد الله»، وفي «سبع سواقي» بدأ الفدائيون عملهم في سيناء. أما ألفريد فرج، فراح يكتب «عسكر وحرامية»، ونعمان عاشور «عطوة أفندي قطاع عام» يهاجمان الفساد والرشوة والاختلاس في مؤسسات الدولة وشركاتها. وحين أراد ألفريد أن يقول كلامًا جادًّا في «الزير سالم» أتاح للزبانية أن يتهموه بالدعوة إلى «السلام». وعاد عبد الرحمن الشرقاوي إلى ثيمته المعروفة في «الحسين ثائرًا وشهيدًا». ولم يخرج صلاح عبد الصبور عن حدوده في «مسافر ليل». حتى ميخائيل رومان وصف أروع أعماله «العرضحالجي» بأنها في التمثيل خيبت أمله، لأنها أراحت الجمهور، وقامت بدور «التنفيس» عن كظومه. أما يوسف إدريس في «المخططين» فقد مزج بين رُوح الفرافير والقيمة السائدة عن الزعيم المغلوب على أمره، دون أن يقدم «تركيبًا» يتجاوز به المأزق. والمسرح الرجعي بدوره في «بلدي يا بلدي» لرشاد رشدي و«فهلاو ٦٧» لأحمد سعيد لم يتفتق ذهنه عن غير الأسلحة التقليدية التي سئمها الجمهور.
وربما كان تعليق ميخائيل رومان على مسرحيته — التي أثارت أعنف العواصف — هو أصدق تحليل لمسرح الغضب المصري، بل لأدب الغضب بأكمله الذي سبق ولحق الهزيمة من المواقع الفكرية والاجتماعية ذاتها. فالتنفيس نقيض التعبئة، والرمز العالي هو عنوان النظام، والشكل السياسي هو امتداد للمضمون الاجتماعي، والمثقفون المصريون قدموا للناس «كابوسًا» استيقظوا منه على أنه الحقيقة، ولم يقدموا لهم «حُلمًا» قابلًا للتحقيق في المستقبل.
وقد عرَفت نهاية ٦٧ وأوائل ٦٨ معارك طاحنة حول هذه المعاني على صفحات الجرائد والمَجلات، وعبر الأثير والشاشة الصغيرة، ولكن الانتفاضة الطلابية الأولى في فبراير (شباط) ١٩٦٨م، والتي شملت جامعات مصر كلها فور إعلان الأحكام العسكرية على قادة السلاح الجوي، كانت البشارة الأولى التي أثمرت الوجه الآخر للهزيمة. وكان التحرك العُمَّالي في حلوان بمثابة التأييد لهذه الولادة المفاجئة من تحت الركام. ذلك أنه على مدى خمسة عشر عامًا لم يعرف الطلاب المصريون التظاهر والإضرابات والاعتصام، فجاءت انتفاضتهم بغتةً وكأنها الولادة غير المتوقَّعة. ومرة أخرى كان جمال عبد الناصر وحده الذي عانى طيلة الشهور الثمانية التالية للهزيمة فظاعةَ الكارثة من ناحيةٍ، وضراوةَ «رفاقه» المتشبثين بالسلطة لدرجة التآمر عليه من ناحية أخرى، كان هو الذي التقط مغزى الاندفاعية الطلابية الهادرة، فأصدر بيان ۳۰ مارس (آذار)، وأعاد تشكيل الأجهزة والمؤسسات، وفتح أبواب بعض السجون والمعتقلات. ولعلها تلك الأيام التي ارتفع فيها لأول مرة شعار «سيادة القانون». كان الميثاق الوطني بموجب أحد بنوده يتطلب إعادة نظر بعد عشر سنوات من صدوره، أي عام ۱۹۷۲م، ولكن عبد الناصر جمع حصيلة المناقشات التي جرت بعد الهزيمة وأصدرها في «البيان» الذي جاء إضافة فكرية متقدمة. وفي تلك الأيام قال عبد الناصر كلمته الشهيرة: «الشعب يريد وأنا معه» مركِّزًا المطالب الديموقراطية التي علت بها الأصوات بذاك.
ولكن الظاهرة الجديدة التي اقتحمت الساحة السياسية والفكرية في ذلك الوقت هي أن جيلًا مصريًّا جديدًا وُلد في اللحظة التي انتهى فيها دور الأجيال السابقة. ومرة أخرى تبرهن الثقافة على أنها لا تواكب الأحداث فحسب، وإنما هي تسبقها أيضًا في الظهور، فقد كان الجيل الأدبي الجديد في رحم المجتمع منذ أواسط الستينيات يجاهد المخاض العسير، حتى أقبلت الهزيمة في ٦٧، وكأنها صرخة الموت والميلاد في آن. وربما كانت «منظمة الشباب» في الاتحاد الاشتراكي، من البواكير السياسية الرائدة لظهور الجيل الجديد. وربما كان التنظيم الطليعي والمعهد العالي للدراسات الاشتراكية من المنابع الرئيسية التي انبثقت عنها شرايين هذا الجيل. وربما كانت مَجلتا «الطليعة» و«الكاتب» من المنابر البالغة الأهمية التي أثرت في تكوين هذا الجيل. ولكن الذي لا شك فيه هو أن الجيل الجديد قد تجاوز في تكوينه ومسيرته واتجاهه، على الصعيدين الثقافي والسياسي، هذه الروافد مجتمعة؛ لأنه كان نبتًا في أرض جديدة مختلفة تمامًا عن الأرض التي أنبتت أساتذته ومعلميه. كان قانون مجانية التعليم في مختلِف المراحل قد أتاح لمئات الألوف من أبناء العمال والفلاحين أن يدخلوا الجامعات، وكان الانفتاح النسبي على المعسكر الاشتراكي قد سمح للعديد من أمهات الفكر الاشتراكي العلمي أن تغزو الأسواق المصرية، وكانت معركة السويس المجيدة أهم الجسور التي أقيمت بين مصر والوطن العربي. من هنا نمت بذور الجيل الجديد في مناخ اقتصادي واجتماعي وثقافي مختلف عما كانت عليه الحال في الأربعينيات. إنه ليس جيل ثورة يوليو إلا من زاوية أنه تربى بين جدران نظامها، ولكنه في الواقع كان جيل الثورة الجديدة. لهذا السبب لم تنفع كافة الأطر «الشرعية» التي صنعوها له، وبدت المفارقة واضحة كلما نجحت دورة في المعهد الاشتراكي أو حلقة في منظمة الشباب، لا تصل بعدها إلى حقول العمل السياسي، بل تنفتح لها أبواب السجون والمعتقلات، وكأنها التتمة الطبيعية للدورة والدروس المكملة للحلقة. ذلك أن الجيل رغم حداثة سنه كان أكبر من قنوات النظام. وبالرغم أيضًا من برامج التربية والتعليم ومناهج الإذاعة والسينما والتلفزيون، كان الجيل أنضج وأعمق بفاعلية التناقض اليومي الذي يحياه في أدق التفاصيل الاقتصادية والاجتماعية. وبالرغم، كذلك، من هيمنة أقطاب الثقافة الرجعية على مؤسسات النشر، فإنه استطاع أن يشق مجراه في الصخر.
وقبل صدور بيان ۳۰ مارس في ثوبه القانوني، وقد طرحه عبد الناصر على الجماهير غداة الانتفاضة الطلابية الشاملة، كانت السوق الإعلامية قد حفلت بصراع «اجتماعي» عنيف حول تعريف العامل والفلاح، وحول التكنولوجيا والأيديولوجيا، وحول الديموقراطية والاشتراكية. وكانت «الطليعة» قد أصدرت ملحقًا أسبوعيًّا يُدعى «البيان»، لم يصدر منه سوى أربعة أعداد، ودعا لطفي الخولي على صفحات «الأهرام» إلى لجان ۳۰ مارس الشعبية الحرة من أية قيود. وبالرغم من أن مجرد التفكير في تعريف العامل والفلاح يشي بأن تلاعبًا ممكن الحدوث في تمثيل العمال والفلاحين، إلا أن التعريف الجديد جاء حلًّا وسطًا بين الحقيقة الاجتماعية والزيف القائل بأننا جميعًا عمال وبأننا جميعًا أبناء الفلاحين. أما لجان ۳۰ مارس، فلم يكن من الممكن أن تنعقد أبدًا أو تتشكل، فقد ظلت صيغة الاتحاد الاشتراكي هي الإطار التنظيمي الوحيد. ولمعت فكرة «المجالس القومية المتخصصة» كتجسيد أوفى لقضية الدولة العصرية. ولكن عام ١٩٦٨م لم ينته إلا بتحرك طلابي جديد في نوفمبر (تشرين الثاني)، ركبت موجتَه في المنصورة والإسكندرية بعضُ التيارات اليمينية المتطرفة، ولكن هذا الركوب لم ينفِ عن التحرك جوهرَه الوطني القلِق على مصير البلاد.
ولكن الجيل الثقافي الجديد في مصر كان قد وُلد، سواء نشرت له المطابع المصرية — على حسابه الخاص أو بمعونة بعض الأخيار — أو المطابع اللبنانية والسورية والعراقية. كان الجيل قد وُلد في الرواية والشعر والنقد والقصة القصيرة، والمسرح والسينما، والفنون التشكيلية. إن جماعة «السينما الجديدة» على سبيل المثال ظهرت كنقيض للسينما القديمة شكلًا ومضمونًا، وبمختلِف اتجاهاتها. ظهر علي عبد الخالق، وسمير فريد، وفؤاد التهامي، ويوسف شريف رزق الله، وشادي عبد السلام، وغيرهم من المخرجين والنقاد.
أما الجيل السابق فراح يكتب الذكريات وشهادات البراءة، أو هو راح يصارع — بين «الأهرام» و«الجمهورية» — الحل السلمي، والحلى العصري، والحل الجماهيري، وغيرها من الحلول «الورقية» البعيدة عن الجوهر.
وفجأة، رحل جمال عبد الناصر!
•••
(٧) كان المشهد التاريخي في جنازة عبد الناصر تعبيرًا سياسيًّا من الطراز الأول، وليست العبرة فحسب أن خمسة ملايين إنسان قد ودعت قائدها، وإنما العبرة الحقيقية هي «نوع» الناس الذين التفوا حول جثمان الزعيم، ونوع الشعارات التي رفعوها … إنها باعتراف جميع «الشهود» المحايدين والأعداء قبل غيرهم، كانت الطبقات الشعبية المسحوقة هي التي خرجت ذلك اليوم في أكبر مظاهرة سياسية عرَفها تاريخ مصر الحديث، ودَّعت الرمز، واستبقت الأمل في التغيير بشقيه: تحرير الأرض وتحرير الإنسان. إن الفزع الأسطوري للشعب المصري في تلك اللحظات — أعمق بكثير وأبلغ من حزن المآتم — كان على مصير الثورة والوطن. فبالرغم من كافة السلبيات التي عانت أهوالها هذه الجماهير بالذات قبل وأكثر من غيرها، فإن عبد الناصر ظل دائمًا في المخيلة الشعبية بمثابة «فارس الأمل». وقد أدركت بحسها الغريزي وفطرتها السليمة أن غيابه المفاجئ هو نفسه «انقلاب» دون حاجة إلى المراسيم التقليدية للانقلابات.
ولا شك أن رحيل عبد الناصر كان توقيعًا نهائيًّا على نهاية جيل وعصر ونظام، بعد أن تم التوقيع بالأحرف الأولى على هذه النهاية في هزيمة ١٩٦٧م، ويومها أيضًا التفَّ الشعب المصري حول عبد الناصر — الرمز — التفافه المشهود، وكانت الإرهاصات الدالة على الخاتمة قد تبلورت عام ١٩٦٥م. ومن المثير حقًّا أنه جنبًا إلى جنب مع الإرهاصات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شكلت بداية النهاية منذ عشر سنوات، أقبل رحيل عبد الناصر التراجيدي في منتصف العَقد تمامًا، وكأنه يتوج ظاهرة ثقافية دعوتُها من قبل بالموت والميلاد. وهي لم تكن ظاهرة فكرية فقط، وإنما كانت ظاهرة عضوية أيضًا، تشابهت ملامحها لدرجة لافتة … فبين عامي ٦٥، ۱۹۷۰م مات محمد مندور، وأنور المعداوي، ورمسيس يونان، على سبيل المثال، موتًا دراماتيكيًّا غريبًا. كان مندور قد تطور فكريًّا من مرحلة الراديكالية الوفدية إلى آفاق الاشتراكية العلمية، ولكنه أيضًا كان أحد المفكرين القلائل الذين تشردوا من الجامعة عام ١٩٥٤م، ومن صحيفة «الجمهورية» بعد ذلك، حتى أصبح محاضرًا بالقطعة بين معهد الدراسات العربية ومعهد الفنون المسرحية وكاتبًا بالقطعة بين «الجمهورية» و«روز اليوسف»، ومتحدثًا بالقطعة بين الإذاعة والتليفزيون. وانحدرت الحال بمندور، أحيانًا على حساب كرامته الشخصية وتاريخه المضيء، حتى أصبح يكتب ويقول كلامًا أتاح لأعدائه الأيديولوجيين النيل منه. وكان طيلة الخمسينيات والستينيات في صراع لا يهدأ مع رشاد رشدي حول التقدمية والرجعية في الأدب والفن. وكان آخر مقال له في «روز اليوسف» — لم يتسنَّ له أن يقرأه كحلاوة الرُّوح — دفاعًا عن مسرحية «الحصار» لميخائيل رومان، وكان دفاعًا شجاعًا لم يعبأ كثيرًا برأي السلطة. وبالرغم من أن الدكتور مندور كان مريضًا منذ أُجريت له جراحة في المخ، إلا أنه كان قادرًا على الاستمرار لولا المناخ السيِّئ الذي لم يضعه في مكانه، ولولا تنازلاته الشخصية التي أسهمت في التعجيل برحيله المفاجئ إثر نوبة قلبية حادة، ولم يكن قد تجاوز الخامسة والخمسين بكثير.
أما أنور المعدَّاوي فمأساته أفدح. لقد ظل منذ عام ١٩٥٩م على وجه التقريب صامتًا لا يكتب، والأرجح لا يقرأ، مكتفيًا بالجلوس على مقهاه الأثير في الجيزة ثم الدقي. كان هو الآخر قد تطور كثيرًا إلى آفاق الالتزام في الثقافة والأدب، على أن نزاهته الصارمة وكبرياءه العتيد لم يتغيرا. ظل حريصًا على نقائه الشخصي وضميره، ولكنه تعرض لمهانة زَرِيَّة من البيروقراطية التي بقيت تناور حول انتقاله من وزارة التربية والتعليم إلى وزارة الثقافة. وكان عارًا ليس بعده عارٌ أن يظل أديب كبير في وزنه وحجمه «ملطشة» لكل من هب ودب. وأخذ حزنه في أغوار النفس يتراكم، وهو يرى تلامذته يتسابقون إلى أعلى المناصب. وحين استقر به المطاف بعد عذاب في «المَجلة» برفقة يحيى حقي، كان يتقاضى أربعين جنيهًا! ولم تكن قط هذه مشكلته، بل كانت رمزًا مريرًا في حناياه لما يجري. وفوجئ أصدقاؤه ذات صباح أنه ترك كل شيء في صمت، وتوجه إلى مطوبس، قريته في البحيرة. وهناك ارتدى ثياب الفلاحين رافضًا — حتى — قراءة الصحف أو سماع الإذاعة. وتولى عنه يحيى حقي مهمة تقديم شهادات مرضية إلى البيروقراطية، ولم يكن يعلم أنه مريض بالفعل. لم يكن ينام أكثر من ساعة، وذهبت به الأسرة إلى طبيب أعصاب في الإسكندرية فأكد الحدس، بأن أعصابه ملتهبة، ويحتاج إلى الراحة النفسية الطويلة. غزته الكآبة والانكفاء على الذات، والرغبة الحادة في الرحيل من حيث أتى. وجن جنون أصدقائه في القاهرة، وراحوا يتوسلون إليه العودة ولكنه رفض. أخذ أحدهم كتابه «علي محمود طه»، وكان قد طُبع حديثًا في بغداد، وقدمه إلى مسابقة جائزة الدولة في النقد الأدبي. وكتب عنه لويس عوض مقالًا حارًّا بعنوان «رفض الحياة»، تحركت على أثره وزارة الثقافة تحركًا بطيئًا دعائيًّا. ولكن البيروقراطية كانت قد حجبت عنه مرتبه بحجة تغيبه عن العمل واستنفاده كافة الإجازات المرضية والعرضية والاعتيادية والسنوية.
أما رمسيس يونان، رائد الاتجاهات الحديثة في الفن المصري، فقد عاد عام ١٩٥٦م من باريس مطرودًا من السلطات الفرنسية، لأنه رفض — وهو المذيع العربي — إذاعة أنباء معركة السويس من وجهة نظر المعتدين. رفض وعاد إلى وطنه بلا عمل. راح يكتب مقالًا هنا ومقالًا هناك حتى صدر قانون تفرغ الأدباء والفنانين. وحصل رمسيس على منحة التفرغ التي أنجز خلالها أهم إبداعات التجريد المصري المعاصر. ولكنه كل عام كان عليه أن ينتظر شهرًا أو شهرين أو ثلاثة بغير مورد للرزق حتى يجددوا له التفرغ أو لا يجددون. وكان غريبًا أنه كلما انتهى التفرغ تظهر على يديه بثور مائية كريهة لا تذهب بدواء، وإنما تختفي بمجرد حصوله على التفرغ. وفي ليلة عيد الميلاد عام ١٩٦٦م مات رمسيس يونان فجأة وبلا سابق إنذار.
هؤلاء مجرد أمثلة على نهاية الجيل الذي جاء غياب عبد الناصر المفاجئ والمروع رمزًا مكثَّفًا له، يختتم مرحلة بكاملها في تاريخ الثقافة المصرية، إذا أخذنا بالمدلول الواسع العميق الشامل لكلمة الثقافة. وليست وفاة المفكر اليساري الدكتور محمد الخفيف، والفنان فؤاد كامل بعد ذلك بنوبة قلبية مفاجئة، وليست مفاجأة أمراض العصر التي تتالت على أحمد بهاء الدين، ولطفي الخولي، ويوسف إدريس إلا استكمالًا لهذا المعنى. إن أحدًا من هؤلاء لم يمت أو يمرض في حادث أو بسبب الشيخوخة. لذلك كان تشابه الحالات وتوقيتها يحمل في طياته ما هو أبعد من الخلل العضوي.
والنموذج الآخر هو الشاعر المسرحي الناقد نجيب سرور، ذلك الشاب المتوقد دومًا بشرارة الخَلق والإبداع والعشق الصوفي للوطن والثورة. في عام ١٩٥٩م سافر إلى موسكو ضمن بعثة من زملائه المعروفين: كرم مطاوع، وسعد أردش، وغيرهما ممن تعلموا في إيطاليا وفرنسا، وهناك لم يستطع إلا أن يكون مصريًّا واشتراكيًّا، فدافع عن مصر والاشتراكية دفاعات تناقضت يومًا مع مصر وأيامًا مع الاتحاد السوفييتي. وبعد خمس سنوات من المد والجزر العنيف عاد نجيب سرور إلى القاهرة، ولكن رصيده عند الأجهزة كان مدينًا، فلم تشفع له فتوحاته في الشعر والمسرح والنقد من أن يبدأ حياته الجديدة من نقطة طبيعية. لذلك، على الصعيد الرسمي، ظل متخلفًا عن زملائه. ولأنه هو الآخر مفرط الحساسية والذكاء فقد ارتبكت حياته الخاصة والعامة على السواء، بالرغم من مشاركته الفنية غير المنكورة في «آه يا ليل يا قمر»، و«ياسين وبهية»، وغيرها من الأنشطة الفنية والنقدية. وبدأت حالته العصبية تسوء يومًا بعد يوم، وكان يختفي فجأة لأمد يقصر أو يطول خلف الأسوار العالية، سواء كانت سجنًا أو مستشفى. وفي كل مرة كان يخرج تعيسًا بالغ التعاسة حتى وصل به المطاف إلى أرصفة المقاهي والبارات والشوارع، تائهًا زائغ البصر ممزق الشكل والمضمون.
وعام ١٩٧٣م عرض شاب لا يبلغ الخامسة والعشرين هو الفنان ثروت فخري بعض لوحاته في «أتلييه» القاهرة. كان شابًّا متمردًا على كلية الفنون والأصول الأكاديمية متفجرًا بالجديد الذي يغلي في العروق قبل أن ينتقل إلى أصابع اليد. وكان واعدًا غاية الوعد، وفقيرًا غاية الفقر لا يحتمل عملًا غير الفن والحياة الكفاف. ولكنه ذات يومٍ أخذ جرعة من سيانور البوتاسيوم ولفظ أنفاسه في دقائق ومات.
وكان زميله شاعر العامية المصرية أحمد عبيدة ما زال داخل السجن في قضية الطلاب، حين أخرج جميع أشعاره وكل ما تحتويه مكتبته وصب عليها الكيروسين واشتعلت النيران، فابتسم للمرة الأخيرة وألقى بنفسه بين ألسنة الجحيم واحترق ومات.
ولا يمكن أن تكون هذه الأمثلة — وهي أمثلة فقط — مجرد مجموعة متلاحقة من مصادفات القضاء والقدر. فإذا كان القاسم المشترك الأعظم بين نهايات الجيل السابق هو «الموت فجأة» — عنوان قصيدة لأحمد عبد المعطي حجازي، وإذا كانت الظاهرة الرمزية عند أبناء الأجيال التالية هي الانتحار والجنون، فإن القضية التي اتخذت لها عنوانًا هو «الموت والميلاد في الثقافة المصرية» تتأكد على الصعيدين العضوي والعصبي، بعد أن برهن الرحيل المفاجئ والمدوي لجمال عبد الناصر على «النهاية الكاملة» لعصر، وإذا اعتبرنا موته المباغت في الوقت نفسه انقلابًا يشي بالمخاض الأليم لعصر جديد. ولم يكن الانتحار والجنون في صفوف الجيل الجديد إلا من البشائر السلبية لولادة العنقاء الجديدة، فهي البشائر التي لا يمكن عزلها عن الفراغ الحزبي والسياسي. ولكنها أيضًا لا تنفصل عن النشاط الإيجابي لحركات الطلاب والعمال والفلاحين والمثقفين والإنتاج الأدبي والسينمائي والمسرحي والتشكيلي للشباب.
كان المخاض عسيرًا غاية العسر، فالأرض محتلة لا تزال، والطبقة الجديدة-القديمة، تستضيف فئات طفيلية على الإنتاج، وفئات متخلفة من البرجوازية الريفية، أي أن تغيرًا في بناء السلطة قد وقع بتسلل هذه الشرائح الرجعية إلى مؤسسات النظام الدستورية: التنفيذية والتشريعية والحزبية والإعلامية. إن جوهر النظام الناصري لم يُصَب بسوء، ولكنه حوصر بحيث يصعب تطويره ويسهل الارتداد عنه. وتمت المواجهة الأولى بين السلطة الجديدة والمثقفين أول عام ۱۹۷۲م، حين تجمع الأدباء والفنانون في نقابة الصحفيين، وأصدروا بيانًا يؤيد حركة الطلاب التي بدأت في أواخر عام ١٩٧١م. ولا ريب أن التشكيل الجديد لمجلس النقابة المنتخب في منتصف ذلك العام كان مفاجأة لأدوات النظام، فالوجوه الناصرية — وليست اليسارية! — هي التي ربحت المعركة، تمامًا، كما حدث مرة أخرى عام ۱۹۷٥م. ولكن بين التاريخين كان صراع مرير … فبالإضافة إلى اعتقال العديد من المثقفين والكتَّاب والفنانين خلال السنوات الأربع، تشكلت لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث لمصر ما سمي حينذاك «لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي». وبالرغم من أنه خلال العام الموجع (أول يناير (كانون الثاني) ۷۲ – أول يناير (كانون الثاني) ۷۳) كانت حركة المثقفين قد استقطبت إلى جانب الانتفاضة الطلابية العمالية الفلاحية، بعض النقابات المهنية كالمهندسين والمحامين، فإن الكتَّاب والفنانين هم الذين تمتعوا أكثر من غيرهم ببركات لجنة النظام الشهيرة. ولم يكن بين أعضاء هذه اللجنة — للحقيقة والتاريخ — سوى عضوٍ واحدٍ نظيف من الاتهامات الجنائية والخُلقية هو الدكتور كمال أبو المجد وزير الإعلام حينذاك (۱۹۷٥). أما محمد عثمان إسماعيل، وأحمد عبد الآخر، وحامد محمود فقد كان أحدهم متهمًا في ۲۲ قضية اختلاس أمام محكمة أمن الدولة، وكان الآخر متهمًا في جريمة قتل، وكان الثالث وكيلًا لحسابات أحد الأمراء العرب (!) وجميعهم مشبوهون في قضايا الفتنة الطائفية التي اشتعلت في عام ۱۹۷۲م، وبعضهم وصف أمثال هيكل وتوفيق الحكيم بالشيوعية، والبعض الآخر نادى علنًا بإزالة آثار العدوان الناصرية قائلًا بالحرف: «ولا يُغفر للسادات نفسه إلا أنه قام بحركة التصحيح»! وكان منطقيًّا أن يُصدر هؤلاء القضاة «حكمهم بإعدام ما يزيد على المائة كاتب وصحفي من الناصريين والماركسيين، وذلك بفصلهم من أعمالهم وأية أعمال أخرى!»
كانت مذبحة، بدأت على أثرها أخطر ظاهرة في تاريخ الثقافة والصحافة المصرية، وهي أن أفواجًا من ألمع الكتَّاب والأدباء راحوا يولون وجوههم شطر عواصم الوطن العربي أو عواصم العالم الغربي. كان هذا هو البديل الوحيد أمامهم، ولا يزال، بدلًا من الصمت أو الزيف أو الانتحار أو الجنون. وهو بديل لا يشكل قدوة ولا دعوة لبقية المثقفين إلى الهجرة؛ ذلك أنه بديل معقد، يفقد المثقف تأثيره داخل الحدود، ولا يقيه مزالق التشرد ومرارته خارجها. ولكنه في جميع الأحوال ليس هربًا من معركة تفتقر إلى الحدود الدنيا من التكافؤ والندية والضمانات، وهو أيضًا ليس هربًا من القهر، لأن الغالبية العظمى من الذين غادروا عاشوا زهرة أعمارهم بين السجون والمعتقلات. وبالرغم من أنهم يشكلون بالقطع ظاهرة لها دلالتها، إلا أنها ليست الظاهرة الوحيدة ولا الأكبر حجمًا، فقد بقيت في مصر الغالبية، تناضل وتدفع الثمن.
ولم يكن الثمن فحسب هو السجن، أو الاعتقال، أو الفصل من العمل، فقد أعاد الرئيس السادات جميع الصحفيين والكتاب إلى أعمالهم عشية حرب أكتوبر المجيدة. كما أن القضاء في معظم الأحوال كان يفرج عن المتهمين. ولكن أجهزة الأمن تمكنت منها شهوة الانتقام، بحيث لفقت ذات يوم ما سمي بجريمة «سمير تادرس» الصحفي بدار أخبار اليوم. واضطرت الأمور أن يقرأ رئيس الجمهورية «وثيقة» الاتهام أمام مجلس الشعب، ويذكر هذا الكاتب بالاسم. وبعد شهور طويلة من التعذيب أمرت النيابة بالإفراج عنه — دون محاكمة — لعدم ثبوت الأدلة! إلى هذا الحد وصل التلفيق والتضليل وتوريط أعلى مراكز المسئولية في الدولة.
وأقبلت المذبحة الثانية — بعد عودة الصحفيين — بإقالة مجلس تحرير مَجلة «الكاتب» واتهام أحد أعضاء أسرة تحريرها (صلاح عيسى) بالخيانة العظمى من جانب وزير الثقافة شخصيًّا (يوسف السباعي). ومرة أخرى يقبل القاضي طلب المحامي بالمعارضة في حبس المتهم، ويأمر بالإفراج عنه. ولكن «الكاتب» كمنبر أُفرغت من محتواها الوطني التقدمي، وأُعطيت لحاشية الوزير.
ثم جاءت التعديلات الصحفية المتوالية لتحكم بسيطرة اليمين الرجعي المتخلف على الصحافة المصرية ذات التقاليد العريقة؛ وذلك بعد إغلاق مَجلة «الطليعة» اليسارية وتغيير قيادة دار «روز اليوسف» عام ١٩٧٧م.
في هذا المناخ كانت قد بدأت الهجمة الضارية على جمال عبد الناصر وثورة ٢٣ يوليو، ومشت في شوارع الصحافة المصرية هياكل عظمية تكوَّن نخاعها على مائدة صاحب الجلالة فاروق الأول ملك مصر. إن الجيل الجديد لا يسمح للباشوات القدامى والجدد الذين يحولون إيجابيات المرحلة الناصرية إلى سلبيات وسلبياتها إلى إيجابيات، فالقطاع العامُّ والسد العالي ومجانية التعليم والإصلاح الزراعي، وتأميم قناة السويس، وتمصير البنوك الأجنبية، وتأميم المصالح الرأسمالية والتصنيع الثقيل؛ هو الذي أفقر مصر وأجاعها! تشاركهم في العزف جَوقة من الذين أكلوا على موائد كافة العهود، ولم تمسسهم ثورة يوليو ولا عبد الناصر بأذًى في أرزاقهم أو أجسادهم أو أرواحهم.
ولكن المفيد — سلبًا بطبيعة الحال — هو أن التناقض بين الواجهة الرسمية للثقافة والمضمون الفعلي أخذ في التناقص؛ ذلك أن الانفتاح على القطاع الخاص في السينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون، كان لا بد أن يؤدي إلى هزيمة المسرح القومي وسينما الشباب وأدب الجيل الجديد، بعد أن تحول القطاع العام — مؤسسات وزارة الثقافة — إلى مجرد خزينة تنفق على أفلام تذكرنا بالموجة التي صاحبت كباريهات الحرب العالمية الثانية. وبعد أن أصبح كاتب وطني تقدمي — لا شك فيه — مثل عبد الرحمن الشرقاوي يكتب شيئًا كمسرحيته «النسر الأحمر»، وبعد أن تحولت راقصة — لا ينكر تاريخها أحد — كتحية كاريوكا إلى بورصة في المزاد العلني تبيع مصر بأبخس الأثمان لأعدائها المحليين والأجانب. وبعد أن أصبح ممكنًا لشويعر مغمور أن يكون عضوًا في الوفد المصري بمؤتمر الأدباء العرب في الجزائر، وهناك يقرأ القصيدة-الجريمة ضد عبد الناصر، فيطرده الجمهور من المنصة، ويُضطر الجزائري المضياف إلى إلغاء الجلسة!
ثم يجيء أخيرًا قانون المجلس الأعلى للصحافة ليسحب الضمانة الديموقراطية للصحفي المصري من نقابته، ويبرهن تشكيله وملابسات هذا التشكيل على النوايا المعادية لجوهر الديموقراطية.
في ظل هذا المناخ تمضي الثقافة المصرية نحو نهاية الطريق المسدود، لأنها تشكل ثورة مضادة، لا على الناصرية وحدها، بل على أعظم تقاليد الفكر المصري. إنها تمضي في ثبات نحو الطريق الموحش إلى الإقليمية والفاشية والثيوقراطية. إنها ثقافة ضد الثقافة، لأنها تمضي في الخط المعاكس للديموقراطية والعلمانية وتحرير الأرض والوَحدة العربية والاشتراكية. ولذلك لم يعد المثقفون الناصريون والماركسيون في مصر — داخلها وخارجها — مطالبون بالرد على الإنتاج الرجعي الغث بإنتاج فكري أو أدبي أو فني تقدمي جيد. وإنما هم مطالبون، في ظل الاستقطاب العنيف بين الثقافتين، أن يعيدوا للثقافة مدلولها الحضاري الشامل، فهم وحدهم المرشحون تاريخيًّا لاختراق الحائط المسدود، بحل التناقض بين الشكل والمضمون في بناء النهضة المصرية، أي بثورة ثقافية شاملة.
انظر: ص۹۲، ٩٥ من الترجمة العربية للكتاب، دار النهار، بيروت، ١٩٦٨م. كافة الاستشهادات من هذا الكتاب مأخوذة عن الترجمة العربية ومراجعة عن الطبعة الإنجليزية.