الأسس الاجتماعية للثورة الثقافية
ولا يهمنا مرة أخرى مقدمات ونتائج ما حدث. ولكن المهم فعلًا هو أن هذا الذي حدث لا عَلاقة له بردم الهوة التي أشار إليها لينين بين المضمون الرُّوحي للثورة والواقع الرُّوحي للشعب، وبين عَلاقات الإنتاج والقيم الاجتماعية. وإنما أراد ماو — الرمز الأعلى للشرعية — أن يتجاوز المؤسسة الأم للشرعية، وهي الحزب، بضربها من خارج صفوفه، مستغلًّا رُوح العصر المتمثلة في حركة الشباب العالمية، والأخطاء الموضوعية التي يشكل هو شخصيًّا — بعبادة الفرد — أحد أسبابها، والنزعة الفوضوية الجاهزة دائمًا لدى الشارع غير المنظم. وكانت الحصيلة الختامية، بالإضافة إلى الانتصار الشخصي لماو وضربه الخصوم، هي «امتصاص» الثورة الثقافية الممكنة في الصين. أي إن ما قام به — بالضبط — هو نقيض لافتة «الثورة الثقافية» التي رفعها عاليًا، باختزاله رُوح الإنسان في الكتاب الأحمر، ونفيه التراث والحضارة والتاريخ خارج الوعي البشري للمواطن الصيني.
•••
•••
هكذا أخفقت «ثورات» الصين وأوروبا شرقًا وغربًا، رغم تباين أهداف الوسائل هنا وهناك، ولكنها تركت «مؤشرًا» لا يخطئ الحساب في المستقبل. لقد سجلت على الأقل أن هناك تغيرات عميقة في لوحة العصر لا بد أن تنعكس بهذه الدرجة أو تلك على أقطار العالم باختلاف نظمه الاجتماعية. سجلت الحاجة إلى ضرورة «الإسراع» في عملية التغيير حتى لا تقع «الكوارث الطبيعية» عن الجمود.
•••
وفي مصر يبدو المشهد الاجتماعي بعد أكثر من ربع قرن على قيام ثورة يوليو، هكذا:
-
البنية التحتية للمجتمع ما زالت منذ عام ١٩٦٢م مؤلفة من نسيج اقتصادي محوره «القطاع العام» و«الإصلاح الزراعي» بأشكاله المختلفة إلى جانب القطاع الخاص والزراعة الرأسمالية. ولا شك أن القطاع العام والإصلاح الزراعي خلقا عَلاقات اجتماعية جديدة أتاحت لها مشاركة العمال في الربح والإدارة، ومشاركة الفلاحين في التعاونيات الزراعية، والدخول في عصر الصناعة الثقيلة كالسد العالي، ومجمع الحديد والصلب، وكهربة الريف، أن تثمر — على مدى جيل — قيمًا اجتماعية جديدة. ولكن الذي لا شك فيه أيضًا أن القطاع العام لم يستطع قط أن يتحول إلى أرضية مادية تشكل مرحلة الانتقال نحو الاشتراكية، ويرجع ذلك أساسًا إلى نشأة «الطبقة الجديدة» — لنقل إنها البرجوازية الوارثة لامتيازات الرأسمالية القديمة — وهي طبقة كبار المديرين والفنيين. هؤلاء كوَّنوا مع الزمن شريحة طبقية متمايزة عن طريق الهيمنة البيروقراطية وخنق المبادرات وغياب الرقابة، بحيث أصبحوا رأسماليين من نوع جديد رأسماله «الوظيفة» السرية والعلنية، أصبحوا هم الأصحاب الفعليين للمصنع أو الشركة أو المشروع دون مغامرة الرأسماليين القدامى بأموالهم في السوق أو في البورصة. وكان لا بد لهذه الطبقة، ما دام هذا هو أسلوبها في الإدارة، أن تتبنى أفكارًا وأيديولوجيات محورها العداء للاشتراكية التي نفترض أنها الهدف النهائي الذي يسعى المجتمع — بواسطتهم — للوصول إليه. وكان لا بد لهذه الطبقة أن تتشابك مصالحها مع القطاع الخاص، وعلى وجه التحديد وجهه التجاري، وبصورة أكثر خصوصية عناصره الوصولية الطفيلية على الإنتاج من السماسرة ووكلاء الشركات الأجنبية. وهكذا تم تطويق القطاع العام من داخله ومن خارجه على السواء بحيث بات حاضره محفوفًا بالمخاطر ومستقبله مهدَّدًا في الصميم. لقد أصبح النسيج الاجتماعي «السيد» في البلاد هو البرجوازية بكافة صفاتها المتوارثة والجديدة. والإصلاح الزراعي في الريف المصري، سواء كان في طريق المِلكية أو التعاون أو الأراضي المستصلحة، لم يكن تغييرًا جذريًّا في أي وقت، ذلك أن تحديد المِلكية على مراحل، والحد الأقصى الراهن لها، وتشكيل الجمعيات التعاونية، كلها حددت سلفًا عَلاقة الأجير بالأرض على نحو سمح بتطور مثير للرأسمالية الزراعية. لقد مات الإقطاع ونمت عَلاقات اجتماعية جديدة، ولكن البرجوازية الريفية ورثت امتيازاته القديمة في التشريع والتنفيذ بحيث باتت تشكل جناحًا طبقيًّا قويًّا يؤازر أجنحة المدينة الصناعية والتجارية والمالية.١٢وهكذا أصبح هناك «شرخ بارز»١٣ في البناء الاجتماعي جوهره التناقض الحاد بين الشكل والمضمون في البنية التحتية للمجتمع المصري: الشكل هو هياكل الإنتاج المؤمم ومجموعة التشريعات والقوانين، والمضمون هو السيادة الفعلية للبرجوازية وما يستتبع ذلك من تحايلات على التشريع وخرق للقانون وتسلل إلى المواقع التشريعية والتنفيذية، وتبرير ذلك كله بأفكار وأيديولوجيات وسيطرة على أجهزة الإعلام المباشرة وغير المباشرة كالصحف والإذاعة والتليفزيون والمسرح والسينما.
-
البنية الفوقية للمجتمع ما زالت تعتمد على فكرة التنظيم الواحد الجامع المانع، برغم تعدد الطبقات وتعارض مصالحها.١٤ وهو التنظيم البعيد عن جوهر «الجبهة الوطنية» القائمة على الاتحاد الحر للمنابر المستقلة. وهو أيضًا التنظيم البعيد عن حماية المكتسبات الإيجابية لثورة يوليو، لأنه لا يعبر عن التأثير في السلطة والفعالية الاجتماعية عن مصالح الطبقات التي استفادت من قرارات يوليو ٦٢، وغيرها من الإجراءات الوطنية التقدمية. وهو أيضًا التنظيم البيروقراطي الذي يشكل في خطوطه العامة وتفاصيله الدقيقة إحدى قنوات السلطة التنفيذية. إن هذا التنظيم الذي جسَّد البديل — لدى الثورة — للديموقراطية الليبيرالية، لم يجسد في أية مرحلة من مراحل تاريخه طموحات الديموقراطية الشعبية، وهو الوعاء الذي صُبَّت فيه وصُبَّت منه، مختلِف الأفكار المشوهة عن الاشتراكية، ومختلِف التنظيرات المعادية للديموقراطية، ومختلِف القيم الشوفينية. إنه يعكس بغير شك التناقض الفاجع في البنية التحتية بين الشكل الاجتماعي والمضمون السلطوي للبرجوازية، يعكسه في تناقض أفدح بين حتمية الجبهة الوطنية بتعدد روافدها المستقلة تنظيميًّا وفكريًّا، واعتساف التحالف بين أفرادٍ — مهما بلغ عددهم الملايين — فهم يخدمون موضوعيًّا، حتى إذا كان بينهم عمال وفلاحون ومثقفون ثوريون، مصالح الطبقة السائدة في المجتمع.
إن المضمون الاقتصادي للبناء الاجتماعي في مصر، وجد نظيره السياسي المطابق لأهدافه في الاتحاد الاشتراكي حتى عام ۱۹۷۷م، ثم في «قانون الأحزاب» الجديد الذي صدر في هذا العام نفسه حيث يمنع في صُلب مواده الأساسية تكوين أي حزب يعبر عن طبقة أو فئة اجتماعية.
-
كما أن إجراءات ثورة يوليو الاقتصادية أثمرت تحولات اجتماعية عميقة، فإنها أيضًا غيرت من مسار الثقافة المصرية تغييرات جوهرية. ولا يمل المرء تَكرار القول إن مجانية التعليم في كافة المراحل حتى الجامعة والمعاهد العليا كان أخطر القرارات الثورية في هذا الصدد. وكذلك قرارات تنظيم الصحافة، وقانون التفرغ للأدباء والفنانين، وتأسيس وزارة الثقافة بفروعها المختلفة في حقول الأدب والفن والمسرح والسينما والنشر وغيرها. وقد أثمرت هذه الإجراءات الوطنية التقدمية في الميدان الثقافي ملايين الخريجين وطلاب الجامعات. كما أثمرت أجيالًا متواصلة في الآداب والفنون، وأتاحت لإبداعهم فرصة النمو والازدهار. وأتاحت لشعبنا تذوق أعمالٍ ما كان من الممكن إنتاجها في ظل العهود الماضية.
ولكن ذلك كله — وهو من مفاخر الثورة بغير جدال — لم يُلغ النسبة الفاجعة للأميين المتعلمين، ولا برامج التعليم وأساليب التربية الرجعية في المدارس والجامعات، ولا سطوة الأفكار المعادية للتقدم في أجهزة الإعلام.
وكانت النتيجة الحتمية لذلك هي تقهقر أكثر تقاليد الفكر المصري إيجابية كالعلمنة والديموقراطية، وحلت مكانها أكثر تقاليد هذا الفكر سلبية وفجاجة وسطحية، حتى أصبح منظر الطالبات اللواتي يرتدين «الطرحة»، والشباب المهووس بتحضير الأرواح وغيرها من الغيبيات، والتظاهر المثير ضد مشروع متقدم لقانون الأحوال الشخصية، والترنم بآيات المجتمع البدائي والعصر الذهبي للخرافات؛ أصبح هذا المنظر الغريب على مصر والنشاز في تاريخها الفكري والاجتماعي، شيئًا مألوفًا ومرغوبًا في السبعينيات من هذا القرن، أي بعد مضي أكثر من قرن ونصف على بداية «النهضة». فإذا أضفنا النغمات الإقليمية والنعرات الطائفية وقيم الانحلال والتفسخ الاجتماعي، لأصبح المشهد «فاجعة» حقيقيه وكاملة الأركان بغير زيادة ولا نقصان. إنه التناقض بين المقدمات والنتائج، بين الشكل والمضمون في الثقافة المصرية، في الرُّوح المصرية، وما بين المقدمات والنتائج يمتد «السياق» الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ليشكل العناصر الموضوعية لهذا التدهور: فالتناقض في البنية التحتية الاقتصادية، والتناقض في البنية الفوقية السياسية، يقودان بالحتم إلى التناقض الثالث: بين المضمون الرُّوحي للثورة والواقع الرُّوحي للشعب، بين الطليعة الثورية والقواعد الشعبية، بين عَلاقات الإنتاج والقيم الاجتماعية.
هذه المجموعة من التناقضات المركبة هي التي صاغت «الهوة» الراهنة والفجوة الواسعة بين حاضر مصر ومستقبلها. ولذلك كان المطلوب هو «ثورة ثقافية» شاملة بالمعنى الذي أورده لينين، مضافًا إليه في التطبيق الحي الخلَّاق ظروفنا الموضوعية الخاصة: ثورة تحل التناقض الاقتصادي والسياسي والأيديولوجي، فتردم الهوة الفاغرة فاها كالتنين وتحافظ على مكتسبات ثورة يوليو بتجاوزها؛ لأنه لا مكان للمراوحة «محلك سر» في تاريخ الشعوب.
•••
(٢) حين يقال: «مطلوب» ثورة ثقافية في مصر، ينبغي أن نستبعد من الخاطر — على الفور — فكرتين خاطئتين: الأولى هي تصور هذه الثورة وكأنها فقرة في برنامج أحد الأحزاب مطلوب تطبيقها، والثانية هي تصور هذه الثورة كطموح نظري أو حُلم لم يعرف طريقه إلى أرض الواقع بعد. الفكرتان خاطئتان لأن الثورة الثقافية تلبي — من ناحية — حاجة ملحة في باطن المجتمع، وتعيد التوازن إلى معادلة بلغت من الخلل حدًّا يهدد حاضر الوطن ومستقبله على السواء. أي أن الثورة «مطلوبة» من عمق أعماق الواقع الشامل للأرض والإنسان والحضارة، وهي — من ناحية أخرى — ليست أمنية تجريدية معزولة عن ممارسات العمل السياسي والاجتماعي في مصر. إن مجموعة المبادرات الشعبية التي شقت طريقها في الصخر غداة الهزيمة في ٦٧ إلى حرب أكتوبر ٧٣، ثم ما وقع بين يناير ۱۹۷٥م ويناير ۱۹۷۷م حيث كادت الانتفاضة الشعبية تبلغ ذروتها، تشكل في مضمونها الحي الإرهاص الواقعي للثورة الثقافية. ومعنى ذلك أنه في اللحظة التي وُلدت الحاجة إلى هذه الثورة وُلدت أيضًا المعالم الرئيسية لجنينها الذي حملت به بطن مصر عشر سنوات كثيفة مركزة. و«المطلوب» إذن هو الاستعداد النشيط لاستقبال المولود القادم، والإسهام بأقصى درجات اليقظة في تيسير عملية ولادته، والحيلولة، بأخطر ما نملك من وسائل، دون إجهاض الأم العظيمة التي أثمرته.
ولا بد في البداية من التعرف الحميم على الواقع الخام، وطبيعة الحاجة الملحَّة التي ينبض بها حتى نستطيع تصور الولادة القادمة، واحتمالات العسر واليسر في حالة وقوعها، واحتمالات الإجهاض أيضًا. وفي البداية كذلك لا بد من الإشارة إلى أن الثورة الثقافية في مصر، لا تستهدف تغييرًا للبناء الفوقي وحده، وإنما هي تضع نصب عينيها ذلك التشابك المعقد بين القمة العلوية للهرم الاجتماعي «الثقافة» والقاعدة المادية «الإنتاج». أي إنها في حقيقة الأمر تزاوج بين تغيير عَلاقات الإنتاج والقيم الاجتماعية على السواء. كيف ذلك؟
إن المشهد الاجتماعي المصري يبدو من الخارج بالغ الاتساق، فهو صورة كلاسيكية للمجتمع الراسخ حضاريًّا إلى عمق سبعة آلاف سنة (من الفراعنة إلى اليونان والرومان، إلى المسيحية والإسلام، والعروبة، إلى العصر الحديث) يتميز بحكم موقعه الجغرافي بنوع قديم ومستمر من المركزية الصارمة التي هيأ لها وادي النيل ونظام الري، محاطًا على الضفتين بصحراء شاسعة تغري بالغزو والغزو المضاد، يتوسطها الشريط الأخضر الضيق الخِصب معًا، وينتهي عند البحر الأبيض المتوسط ليصبح قدَر مصر أن تكون همزة الوصل بين قارات ثلاث، ويتخذ هذا الاتصال مغزًى تاريخيًّا بشريان قناة السويس الذي يوحد — عبر البحر الأحمر — المغرب بالمشرق في مصير عربي مشترك.
ومن ناحية أخرى، فإن المركزية الثابتة على مدى السنين قد أثمرت حقًّا قيام «الدولة» في مصر منذ أمد بعيد، وهو دليل «التمدن» و«النظام»، ولكنها أيضًا كرست القهر والبيروقراطية جنبًا إلى جنب. إن ظهور مؤسسة المؤسسات منذ فجر التاريخ المصري هو تعبير مزدوِج الدلالة على تقدم العقل المصري والعبودية الاجتماعية في وقتٍ واحد. كذلك الشريط الأخضر الضيق البالغ الضيق، والذي وصفه هيرودوت بأنه «هبة النيل»، فإن خصوبته التي تتغنى بها الأشعار لا تقل أهمية في التحليل عن «الفقر» الذي صاحبها في توزيع غلة الأرض المحدودة. أما القدَر الجغرافي الذي يدعو البعض إلى التباهي، فإنه جعل مصر قبلة أنظار الغزاة على مر التاريخ، فهمزة الوصل بين القارات الثلاث ليست وردة جميلة فحسب، وإنما هي شوكة أيضًا ربما أدمت شبكات الاستغلال العالمية الواسعة في ظل الإمبراطوريات القديمة أو الحديثة، ولكنها أدمت أيضًا وفي المقام الأول، سكان هذه الجوهرة المتلألئة بين النيل والبحرين الأبيض والأحمر. وأخيرًا، فالصحارى الممتدة شرقًا وغربًا والتي يمكن أن تكون — وكانت يومًا — جسرًا بين عروبة أفريقيا وعروبة آسيا، كادت في أكثر الأحايين أن تكون سياجًا غير مرئية أوحت للكثيرين بمزيد من القوقعة (التي تصل أحيانًا إلى نقيض الغاية التاريخية، كحرب مصر وليبيا في تموز ۱۹۷۷م).
ومن أبرز مظاهر التخلف أيضًا ذلك الفِصام الجماعي بين «استهلاك» منجزات الحضارة العصرية و«الرفض» الشعوري أو اللاشعوري لمجموعة القيم والأفكار العصرية. هذا الفِصام يشمل الأمي والمتعلم والمثقف على السواء، بحيث باتت معدلات التطور الرُّوحي للشعب من البطء، للدرجة التي تهدد معها تطور الإنتاج. إن التصنيع الخفيف والثقيل، والعلوم الطبيعية، والتحديث الآلي في الزراعة، كل ذلك يخلق — في ظل القطاع العام والإصلاح الزراعي — نوعًا جديدًا العَلاقات الاجتماعية، سواء بين أدوات الإنتاج والأيدي العاملة والقوى الذهنية للتكنوقراط، أو بين القوى العاملة يدويًّا وذهنيًّا. كما أن هذه العَلاقات الجديدة التي اشتملت بالضرورة على أسس جديدة للتعامل بين الفلاح والأرض، وبين الفلاح والدولة، وبين الفلاح والفلاح، كان لا بد أن تثمر في خاتمة المطاف مجموعة جديدة من قيم التفكير، وانفعالات الوجدان، وتعابير السلوك. ولكن الحقيقة الصارخة بالألم، هي أن الفجوة بين التطور المادي في مصر — قبل وبعد ثورة يوليو ٥٢ — والتطور الرُّوحي للشعب، تبلغ من الاتساع حدًّا مخيفًا. وإذا كان البعض يزهو — بالحق — لأن فلاحي مصر وعمالها وطلبة جامعاتها قد تعاملوا مع الأسلحة المتطورة في حرب أكتوبر ۷۳ تعاملًا أنجز انتصارات الأيام الأولى، فإن هذه الحقيقة الرائعة والجديرة بالتخليد لا تنفي الظاهرة بل تؤكدها. إن بيئة الحرب — الجيش — بهدفها المحدد وهو التحرير، وبتدريباتها الصبورة على عناق الآلة الحديثة، وأسلوبها العصري في التفكير العسكري هي التي أنجزت «الاستثناء»، وبقيت القاعدة الراسخة سارية في التفكير السياسي — مثلًا — الذي يتحمل أساسًا وزر الأخطاء التي وقعت أثناء وبعد القتال. ومع ذلك، فلم تكن الملائكة والرسل والأنبياء هم الذين يقاتلون، كما أعلن ذلك شيخ الجامع الأزهر، وإنما كان البشر وقد خلَوا إلى حد كبير — لأسباب اضطرارية — من مرض الفِصام الجماعي. وهو المرض الذي يفصلنا عن الأسرة الإنسانية الصانعة للحضارة، ويحرمنا شرف وحق المشاركة في بناء العصر، لاسترخائنا في غيبوبة الاستهلاك الحضاري (إن جاز التعبير عن استعمال الطائرة والسيارة والثلاجة والتليفزيون … إلخ)، وابتعاد مخيلتنا عن حلم الإنتاج الحضاري (بالقبول غير المشروط لفكر العصر).
ولقد ترتب على هذا الفِصام الخطير — الذي يدفع أستاذًا جامعيًّا إلى تدريس أحد العلوم الطبيعية في المعمل صباحًا، ويذهب إلى غرفة مظلمة لتحضير الأرواح مساء — أن تولَّد عنه نوع خطير من أنواع انقسام الشخصية هو ما يمكن تسميته بازدواجية الفكر والسلوك. إننا هنا نطرق باب الأخلاق التي يصر المجتمع المصري — ظاهريًّا — على التمسك بألبابها، والحقيقة هي أنه من أكثر المجتمعات بعدًا عنها بأي مقياس من هذه الزاوية. فالتفكير يدور في حلقة مغلقة على ذاتها كالدائرة، وكذلك السلوك، بلا تماسٍّ حقيقي أو تفاعل بين الدائرتين المغلقتين. ومن هنا كانت مختلِف الأمراض الخُلُقية المتفشية لا تخرج في جذورها المتشعبة عن حدود الازدواجية بين الفكر والسلوك، بين الوجه والقناع. وهكذا فالإنسان المصري عمومًا لا يساوم العصر فقط، ولا هو يساوم الموروث الشعبي فقط، وإنما هو يساوم نفسه أولًا وأخيرًا. ولربما كانت نسبة الجرائم في مصر قليلة بالنسبة لغيرها من دول العالم، ولكن الجرائم التي لا تصل أبواب المخفر، والتي لا تقع عليها عينا شرطي، والتي يمكن إدراجها تحت عنوان الازدواجية، ترتفع نسبتها إلى درجات مذهلة، عمودها الفقري هو الكذب على النفس وعلى الآخرين. ومن الطبيعي أن تختلف دواعي هذا الانقسام بين الطبقات العالية والطبقات الفقيرة، بين المثقفين وأنصاف المتعلمين والأميين، بين والمدينة، ولكن اختلاف الأسباب لا ينفي الظاهرة الشاملة للمجتمع. وهي الظاهرة التي أثمرت «الشخصية الفهلوية» على صعيد السلوك، و«التحشيش» على صعيد العادات، و«عبادة الموتى» على صعيد القيم.
ويتجسد هذا الفِصام في تلك الهوة الشائنة بين القرية والمدينة المصرية، وكأن الوطن أُمَّتان، وكأن العِرق جِنسان، وكأن المجتمع شعبان. إن المجتمع المصري في جوهره مجتمع طبقي كلاسيكي يخلو تقريبًا من النتوءات العشائرية والطائفية والعنصرية، ولكن المسافة بين الريف والمدينة في مصر تغطي على هذا الجوهر بأكثر السحب سوادًا، بحيث يهتز هذا الجوهر — غير الساكن أبدًا — اهتزازات عشائرية وطائفية وعنصرية في بعض الأحيان. إن احتقار العمل اليدوي، وارتفاع شأن العمل الذهني، واحتقار المرأة وارتفاع شأن الرجل، واحتقار الفرد وارتفاع شأن الأسرة البطريركية، واحتقار العمل الحر وارتفاع شأن الميري وترابه (العمل في الحكومة)، واحتقار العقل وارتفاع شأن الغيب، واحتقار «الأهالي» وارتفاع شأن «السلطة» … كلها من القيم «العامة» في مصر، ولكنها من القيم «الخاصة» التي يتميز بها الريف المصري عن المدينة، بحيث أصبح الفلاح «منبوذًا» أما ابن المدينة فهو السوبرمان. إن طبقية العَلاقة بين القرية والمدينة المصريتين تكاد تشكل ظاهرة متكاملة، فإلى جانب تقسيم العمل، هناك الانقسام الحضاري المروع، فبالرغم من المصالح المشتركة بين أغنياء الريف وأغنياء المدينة، وبين أُجَراء القرية وعمال المدينة، إلا أن المدينة ككلٍّ تمارس قهرًا اجتماعيًّا وحضاريًّا ضد الريف، فهو صاحب الأيدي الرخيصة والمادة الخام، وهو السوق الذي تصدَّر إليه المنتجات المصنعة، وهو أيضًا الحقل الواسع الأطراف الذي يستمع إلى الترانزستور، وقد أصبح ميسورًا أن يعلقه الفلاح في عنق البقرة وهي تشق بالمحراث قلب الأرض، فالمدينة تصدِّر أيضًا بضاعتها الإعلامية وثقافتها ليظل الريف في إطارها منضبطًا لا يحيد.
ما هو السبب؟ ليس القهر وحده؛ فالأحزاب التي كانت في السلطة لم تنجُ من التهرؤ. وإذا تحدثنا عن التنظيمات الشيوعية فهي مأساة كاملة رغم البطولات والتضحيات الجسورة، ورغم الدور الفكري الرائد الذي قامت به في تاريخ الثقافة العربية، ولكنها أيضًا، رغم امتلاكها لنظرية كاملة في التنظيم الثوري، ظلت على الدوام أشتاتًا متناثرة. هل هو التخلف؟ ربما، ولكنها أحد مظاهره البارزة فقط، فهناك دول أخرى — كالهند — استطاعت رغم التخلف أن تؤصل فكرة التنظيم في تربتها تأصيلًا عميقًا. هناك أمريكا اللاتينية وأفريقيا — الحزب الغيني مثلًا — والكثير من أقطار الوطن العربي مشرقًا ومغربًا.
لا شك أن للتخلف نصيبًا موفورًا في نشأة هذه الظاهرة الغريبة، ولكنه بمفرده لا يفسر شيئًا، لأنها ظاهرة بالغة التعقيد، فالقول مثلًا إن عشرين عامًا من ثورة يوليو قد أخلت الساحة السياسية من الأحزاب، قول مردود بالتجرِبة البرتغالية المشهودة، حيث إن خمسين عامًا من القهر لم تَحُلْ دون النشاط الحزبي تحت الأرض، حتى إنها ظهرت في أوفر عافية غداة سطوع الديموقراطية.
على أية حال، فإن التخلف الحضاري لبلد يزهو بعض بنيه بالمجد الحضاري التليد هو المقولة الأولى، في ثورة مصر الثقافية: إنها ليست حوارًا فوقيًّا مع مجموعة الأفكار المتداولة على المسرح السياسي لمصر المعاصرة، كما أنها ليست تغييرًا تحتيًّا للبنية الاقتصادية والتكوين الاجتماعي، وإنما هي حل المعادلة الصعبة بين القمة العلوية للهرم وقاعدته المادية. فالاقتصار على الحوار الفوقي يَزيد الأزمة اشتعالًا؛ ذلك أن تأليف وترجمة وإبداع مئات الألوف من الكتب قد يُشبع نهم ٥ بالمئة من سكان مصر، ولكنه بالتأكيد لن يمس وجدان ٩٥ بالمئة يحيا ٧٥ بالمئة منهم في ظلمة الخرافة، وال ١٥ بالمئة الباقون تراودهم الغواية. بل إن هذا الكم الهائل من «الثقافة» سوف يصل بالتناقض الأليم إلى غايته القصوى حين تصبح «المكتبة في الرءوس» ديكورًا لكوخ مهجور أو لمقبرة نائية. كذلك فإن الاتجاه إلى التصنيع والتحديث الآلي وحده سوف يجعل من الكوخ ماكينة ضخمة ومن المقبرة جهازًا إلكترونيًّا بالغ الرقي، وكلاهما خالٍ من الإنسان، فيُمسيان قصرًا مسكونًا بالأشباح.
أما المقولة الثانية فهي الديموقراطية، بمعنًى أدق انعدام التقاليد الديموقراطية. والتقاليد الديموقراطية أشمل من مسألة الديموقراطية السياسية وأبعد غورًا في تلافيف الكِيان الاجتماعي؛ فالديموقراطية الرأسية هي التي تتصل بنظام الحكم ومؤسساته وتشريعاته، وأدواته التنفيذية، والديموقراطية الأفقية هي التي تتصل بالموازين والرؤى السائدة على برامج التعليم ونظام الأسرة، وعَلاقات الإنتاج وعَلاقات الاستهلاك. الديموقراطية الأولى تختص بالعَلاقة بين المواطن والدولة، والديموقراطية الأخرى تختص بالعَلاقة بين المواطنين وبعضهم البعض. ولعله من المفارقات الداعية إلى التأمل أن حزب الأغلبية الشعبية قبل ثورة يوليو لم يحكم طيلة ربع قرن أو يزيد أكثر من أربع سنوات ونصف في ظل ما سمي حينذاك بالنظام الليبرالي. ومن المفارقات أيضًا أن النظام الجديد لم يتوصل قط إلى صيغة ديموقراطية صحيحة تتسق مع مضمون إجراءاته الوطنية، بل ارتفعت لافتات الاشتراكية والاشتراكيين في غياهب السجون. وبعد رحيل عبد الناصر وإعلاء شعار «سيادة القانون» أصبح المقصود هو سيادة القوانين المعادية للقانون الديموقراطي! وهكذا، فمنذ دستور ۱۹۲۳م حتى الآن — أكثر من نصف قرن — في تاريخنا الحديث، لم يحصل المواطن المصري على الديموقراطية بأيٍّ من معانيها، باستثناءات نادرة. ومن جراء هذا الوضع المشين للديموقراطية المصرية — رغم الشهداء والكتابات — ترسخت اعتقادات ومُثُل، وشاعت أفكار وانفعالات وعادات ومشاعر تعادي جوهر التقدم وتحطم عنق النهضة.
ومن السخف السؤال التقليدي عن الدجاجة والبيضة، أيهما أسبق: التخلف أم الدكتاتورية؟ فالحق أن التعبيرين كلاهما يختزلان ملايين التفاصيل الصغيرة التي تتشابك فيما بينها على نحو مكثف وعميق الأبعاد، بحيث يصبح السؤال الأهم عن هوية الثورة الثقافية المصرية: ماذا تكون، وإلى أين تسير، وماذا تحقق؟
•••
(٣) حين تجلت مظاهر الاحتجاج والسخط على هزيمة ٦٧ في بداية العام التالي، فوجئ بها معظم المراقبين، سواء من ناحية الكم أو النوع أو الشعارات المطروحة. كانت غالبية الحشود من العمال والطلاب. وكانوا بالذات من بين عمال المصانع الحربية وطلاب الجامعات، وقد تبلورت الهتافات — على وجه التقريب — حول شعار الديموقراطية. وكان مصدر المفاجأة هو أنه منذ عام ١٩٥٤م لم تعرف «العواصم» المصرية أي نوع من المظاهرات المضادة للحكم، لقد عرَفت هذه العواصم مظاهرات التأييد المطلق والنسبي أيام السويس عام ١٩٥٦م، وأيام الوَحدة عام ١٩٥٨م، وأثناء زيارة خروشوف ١٩٦٤م، ولكنها لم تعرف الإضرابات والاعتصامات الكبيرة الحجم والصريحة في مناوأة أسلوب الحكم منذ أزمة مارس (آذار) ١٩٥٤م. وكان التحليل الجاهز لدى المراقبين هو أن هزيمة حزيران بلغت من الضخامة والمفاجأة هذا الحد الذي انعكس في تحركات العمال والطلاب منذ فبراير (شباط) ١٩٦٨م، ولكنهم — مع ذلك — ظلوا مشدوهين بعاملين هما: أن مصر قد خلت رسميًّا من المنظمات السياسية والأحزاب طيلة تلك الفترة، وأن أيديولوجية النظام هي الفكر السائد على أجهزة الإعلام الواسعة الانتشار، وإذن فمن أين جاءت «الأجيال الجديدة» بأفكارها وقدراتها التنظيمية المباغتة التي تتجاوز كونها مجرد رد فعل للهزيمة؟
للرد على هذا السؤال لا بد من القول إن مصر لم تخلُ يومًا من الأفكار التي تختلف إلى هذه الدرجة أو تلك مع أيديولوجية السلطة السائدة. وربما كان ذلك أمرًا طبيعيًّا في أي مجتمع طبقي تتعارض فيه المصالح الاجتماعية، بل وتتباين وجهات النظر أحيانًا حول المسألة الوطنية. فبالرغم من أية قيود تفرضها السلطة القائمة على بقية الأيديولوجيات المختلفة معها، لا بد وأن الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية تبحث لنفسها أولًا عن ثغرات في جدار النظام القائم (سواء في مؤسساته السياسية أو أجهزته الإعلامية أو تشريعاته)، وفي الوقت نفسه تنحت لنفسها ثانيًا قنواتها السرية ونصف السرية والعلنية، أيًّا كان الثمن الذي يمكن أن تدفعه في البحث عن الثغرات أو في نحت القنوات.
وهكذا، فإن إرهاصات الثورة الثقافية في مصر، والتي بدأت رسميًّا غداة الهزيمة — أي في بداية عام ١٩٦٨م — لم تولد في فراغ. لقد كانت هناك على الأقل أربعة تيارات فكرية رئيسية تملأ خياشيم الرئة المصرية ثقافيًّا وسياسيًّا: أولها الاتجاه الديني الذي تجسده تنظيميًّا جماعات الإخوان المسلمين، والشبان المسلمين، وشباب محمد وغيرها من التسميات الجديدة على مصر؛ كحزب التحرير الإسلامي، وما سمي بعدئذٍ بجماعة «التكفير والهجرة». والاتجاه الثاني هو اليسار الماركسي؛ وتجسده المنظمات الشيوعية قبل أن تحل نفسها، والمنظمات الجديدة التي وُلدت بعد هذا الحل. والاتجاه الثالث — وقد يسمى بالأكثرية الصامتة — هو التيار الليبرالي، وهو يتجسد في شخصيات وكتابات أكثر مما يتمثل في تنظيمات وأحزاب. والاتجاه الرابع — وقد يُدعى بالأكثرية الشائعة — هو التيار اليوليوي الذي يفكر من خلال المنجزات المادية لثورة يوليو، ومن خلال ميكروفونات الإذاعة، وقد تطور جزء لا يستهان به من هذا التيار بعد رحيل عبد الناصر بحيث أصبح من الممكن تسميته بالتيار الناصري الذي يصوغ مقولته الأيديولوجية من مجموعة القيم والأفكار الرئيسية لجمال عبد الناصر.
ولا بد من التأكيد على أن هذه الاتجاهات — باستثناء الأخير — كانت قائمة قبل الثورة، ولا بد من التأكيد أيضًا أن هذه الاتجاهات، كتيارات فكرية، قد غزت معظم الطبقات الاجتماعية قبل وبعد الثورة، ولا بد من التأكيد أخيرًا أن نسيج البرجوازية الصغيرة هو أعرض الأنسجة الطبقية في المجتمع المصري، وبالتالي فهي الخامة الرئيسية التي دارت من حولها ونبعت من صُلبها أحيانًا، وعملت في صفوفها أغلب الاتجاهات الفكرية المتصارعة. وينبغي أن نتوقف طويلًا عند هذه الظاهرة، فلا يمكن القول مثلًا إن المناخ الاجتماعي الذي ترعرع فيه الفكر الاشتراكي هو الطبقة العاملة المصرية، ولا يمكن القول أيضًا: إن الفكر الديني قد ازدهر في صفوف الفلاحين، ولا يمكن القول كذلك: إن الفكر الليبرالي قد اقتصر على البرجوازية المتوسطة، ولا يمكن القول أخيرًا: إن الفكر الناصري لم يتجاوز مفعوله أبناء وأحفاد الضباط الأحرار والمديرين والفنيين الجدد الذين تعاونوا مع الثورة. لقد دخل الفكر الديني صفوف الطبقة العاملة، وكذلك الفكر الناصري والفكر الاشتراكي، كما دخل الفكر الماركسي صفوف البرجوازية، وكذلك الفكر الليبرالي، والفكر الناصري، ولكن الحقل الاجتماعي الرئيسي لتطور هذه الاتجاهات وغربلتها وبلورتها — ولا أقول نشأتها وظهورها — كان البرجوازية الصغيرة بفئاتها المختلفة اختلافات دقيقة، والمتداخلة فيما بينها على نحوٍ غاية في التشابك والتعقيد.
ولا بد من الاعتراف المزدوِج بفضل البرجوازية الصغيرة على نشاطها الفكري المتقد من ناحية، وبانعكاس قيمها الداخلية الدفينة على مختلف التيارات الفكرية من ناحية أخرى، فالبصمة الأساسية التي تكاد تكون قاسمًا مشتركًا أعظم بين هذه التيارات هي بصمة البرجوازية الصغيرة، وهي الشريحة الطبقية التي طال حول تشخيصها الجدل في صفوف الماركسيين المصريين زمنًا، هل هي المرحلة الدنيا للبرجوازية أم هي طبقة كاملة السمات النوعية والخاصة؟ وربما كان مصدر الجدل هو الاقتصار على «عينة» دون غيرها من العينات، أو محاصرة العينة النموذجية الشاملة الصفات في إطار ضيق من حركة الزمن تكاد تبلغ درجة السكون. ذلك أننا لو اعتبرنا البرجوازية الصغيرة — بشكل عام — هي مجموعات الفلاحين الصغار، والحرفيين، والكادر الغالب من دولة الموظفين، خاصة من أصحاب المؤهلات المتوسطة، والجمهرة الواسعة من التجار — خاصة القطاعي (المفرَّق) والمتجول ونصف الجملة — والنسبة العالية من أصحاب الورش الصغيرة والمهنيين … فإننا حينئذٍ سوف نضع أيدينا على «طبقة» لها حدودها الاجتماعية، بالرغم من تعدد أجنحتها واختلاف منابعها، فإنها تصب — أخيرًا — في مجرًى بالغ الاتساق والاستقامة الكلاسيكية؛ إنها الطبقة التي تملك ولكن ملكيتها — أسلوبًا وحجمًا في دورة الإنتاج — لا تفضي بها مطلقًا إلى صفوف البرجوازية المتوسطة، كما أنها أيضًا الطبقة التي تخشى، خشيةَ الموت، السقوط في «حضيض» الطبقة العاملة. إنها تتمسك حتى النهاية بتراث الملكية الفردية، ولكنها في صراع طبقي ضارٍ مع الطبقات الأعلى، ولذلك تتضامن أحيانًا كثيرة مع الذين تخشى السقوط بينهم.
إنها ليست «مرحلة طبقية» إذن تأتي في «بير السلم» البرجوازي، كما قد يكون شأنها في بلدان أخرى، وإنما هي طبقة عريضة متميزة جذورها الرئيسية في الريف المصري، وبعضها يمتد إلى ما يسمى بالأحياء الشعبية في المدن الصغيرة منها والكبيرة. ولأنها طبقة بالغة الاتساع والعمق والغنى البشري، كانت ولا تزال هدفًا ووسيلة، منبعًا ومصبًّا لغالبية تيارات الفكر المصري المعاصر. ولأن مجراها متعدد الروافد والأصول، فإنها خِصبة بطمي النيل المترسب منذ آلاف السنين، وعرضة لتيارات الريح الطارئة من كل صوب. موجاتها متلاحقة وماؤها بين المد والجزر. إنها طبقة حقًّا، ولكنها نموذج كلاسيكي للذبذبة والتردد. لا تدفعها مصالحها الاقتصادية الشاملة فحسب، بل تتجاذبها الطموحات الجزئية لفئاتها المتباينة الأسلوب والمكانة في الإنتاج، تجارها وزراعها وموظفيها وحرفييها وطلابها. ولأن «الريف» هو جذرها و«الحي الشعبي» هو جذعها، و«دولة الموظفين» هي سيقانها، فإن التخلف والبيروقراطية والدكتاتورية — هذه المقولات الثلاث الرئيسية في الثورة الثقافية المصرية — هي أبرز العناصر «الخاصة» في تكوينها المصري.
بعد هذا الإيضاح لمصدر الجدل في صفوف الماركسيين المصريين حول هويتها — بالأحرى درجتها — الطبقية، أرى ضرورةً قصوى في استكمال هذا المعنى من زاوية أخرى هو اتجاه التطور … إذ كان من الممكن أن يكون المستقبل المنظور لهذه الطبقة هو الاضمحلال التدريجي بسقوط أجنحة رئيسية منها في «حضيض» الطبقة العاملة بموجب قوانين اقتصادية موضوعية أهمها المزاحمة على «السوق» بينها وبين الشرائح البرجوازية الأخرى، والتقدم التكنولوجي الذي لا يتيح لها إحراز قصب السبق، وإنما يتيح ذلك لرءوس الأموال المتوسطة والكبيرة. كما يأتيها التآكل التدريجي أيضًا بمقدرة بعض شرائحها — خصوصًا التجارية والعقارية — من بلوغ أسوار البرجوازية المتوسطة. أي إنها بين أكثريتها التي كان يمكن أن تهبط، وأقليَّتها التي كان يمكن أن تصعد، يتحدد مصيرها المحتمل في الانكماش واللامستقبل — إن جاز التعبير.
لولا أن الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية لثورة يوليو قد انعطفت بهذا المسار النظري للبرجوازية المصرية الصغيرة، انعطافًا حاسمًا هيأ لها — بالإصلاح الزراعي، والتأميمات، ومجانية التعليم في كل المراحل، والتعيين الجبري لخريجي الجامعات، والاعتماد شبه المطلق على البيروقراطية — أن نمت «الطبقة» أفقيًّا ورأسيًّا حتى أصبحت «القاعدة الاجتماعية» للنظام … فلقد تضاعف عدد الفلاحين الصغار، والموظفين ذوي الدخل المحدود، والمهنيين الباحثين عن «العمل الحر»، والحرفيين غير القادرين على استخدام الماكينات الكبيرة، والتجار غير القادرين على الاستيراد والتصدير. وقبل أن نستطرد لا بد من التوقف لحظة نؤكد فيها على:
-
أن هذا الحجم «المصري» — تقريبًا — للبرجوازية الصغيرة لا يعني تلقائيًّا — كقاعدة اجتماعية للنظام — أن السلطة السياسية تمثلها وحدها، فالحق أن سلطة ثورة يوليو قد تغير محتواها الاجتماعي أكثر من مرة، وإذا كانت الغالبية من الضباط الأحرار تنتمي في أصولها الطبقية إلى البرجوازية الصغيرة، فإن هذه الغالبية لم تجسد طموحات هذا الأصل الطبقي وحده من اليوم الأول ومرةً واحدة، بل هي عبَّرت موضوعيًّا — بإجراءاتها وقراراتها وشعاراتها وأساليبها — عدة تعبيرات في مراحل مختلفة، كانت البرجوازية الصغيرة خلالها تستفيد إلى جانب هذه أو تلك من الطبقات الأخرى، ولكنها دائمًا كانت «جماهير السلطة السياسية».
-
أن هذا الحجم «المصري» للبرجوازية الصغيرة لا يعني مطلقًا «انفرادها» بالمجتمع … فكما أنها لم تنفرد بالسلطة، لم تكن وحيدة أبويها في الشارع المصري. إنها صاحبة الصوت الأعلى، ولكنها ليست الصوت الوحيد. وكما أن عَلاقتها بالسلطة لم تكن عَلاقة التمثيل الطبقي المتجانس والمستمر، بل كانت السلطة «تضغط بها» على بقية القوى الاجتماعية، فإن عَلاقتها بالطبقات الأخرى ظلت في تحالف وتخاصم مستمر حسب موقعها هي من التطور الاقتصادي. ولكن الطبقات الأخرى لم تكن تراوح مكانها، فالطبقة العاملة — مثلًا — ازدادت عددًا وكثافةً ووعيًا وحداثة، والبرجوازية المتوسطة لم تفقد الأمل بل راحت كالحرباء تتشكل وتتلون حسب الظروف الجديدة حتى استطاعت في خاتمة المطاف أن تحسم صراع السلطة وتحدد اختيارها الاقتصادي في طريق التطور الرأسمالي التقليدي بالرغم من القطاع العام والإصلاح الزراعي، مما يشكل تهديدًا أكيدًا لاستقرار البرجوازية الصغيرة في المدى القريب.
-
أن ما استطاعت البرجوازية المصرية الصغيرة أن تنجزه طيلة عشرين عامًا هو تأجيل الاستقطاب الطبقي الحاد الذي كان ممكنًا عشية ثورة يوليو، وذلك باضمحلالها المفترض آنذاك سواء بالقفز الاستثنائي إلى مصاف البرجوازية المتوسطة أو بسقوطها اليائس في مصاف البروليتاريا (وربما كانت أعمال نجيب محفوظ من «القاهرة الجديدة» إلى «خان الخليلي» إلى «زقاق المدق» إلى «الثلاثية» من القرائن الفنية على صحة هذا الفرض الفاجع). ولكن مفاجأة يوليو ٥٢ الحقيقية هي امتناع هذا الفرض النظري الواقعي عن التطبيق. وقد تسبب هذا الاستبعاد المفاجئ للاستقطاب الطبقي أن «ملأت» البرجوازية الصغيرة الشاشة الاجتماعية والسياسية والفكرية لمصر عَقدين من الزمان، لم يكفَّ خلالها الصراع الطبقي؛ ولكنه تميز غالبًا بالتطور «الاجتماعي» البطيء.
•••
نتيجة هذا الخط البياني الأوَّلي هي أن الحجم الأكبر والأعرض من «المثقفين» وُلد وعاش ونما وترعرع في كنف البرجوازية الصغيرة. لا شك أن المثقفين ليسوا «طبقة» واحدة سواء بالانتماء الاجتماعي أو بالالتزام الأيديولوجي، فكل الطبقات تنبت مثقفين، وكل المثقفين يعبرون عن طبقات. ولكن الملاحظة الجوهرية على «المثقفين» المصريين هي أن كتلتهم الرئيسية تنتمي طبقيًّا إلى أجنحة البرجوازية الصغيرة المختلفة، سواء كانوا طلابًا في الجامعات، أو كانوا من المهنيين والكتاب والصحفيين والفنانين. وهو ليس انتماء بالذكرى — فلعل الذكرى الأولى تمتد إلى بيئة العامل الصناعي أو الأجير الزراعي — وإنما هو انتماء بالحياة الراهنة، وتطور التكوين، والنظرة إلى الأشياء، وأسلوب الإنتاج — يدويًّا كان أو ذهنيًّا — ومجموعة الضوابط والمعايير والقيم التي تتحكم في الفكر والسلوك. وهنا — بالضبط — يجدر بنا أن نحدد الخطوط العريضة التي نقلتها البرجوازية المصرية الصغيرة إلى أبنائها وبناتها قبل أن نرصد العائد من هؤلاء إليها، والمردود منهم للمجتمع ككل:
-
لقد نقلت إليهم أولًا التخلف. وهو هذه المرة ليس «الأمية» الأبجدية، وإنما هو الأمية الحضارية التي تشد قطاعًا عريضًا من المثقفين نحو التراث بأكثر معانيه سلفية وجمودًا أو العكس، ونحو «الغرب» بأكثر معانيه قشرية وسطحية. والعنصر المنهجي في كلا الرؤيتين هو «رد الفعل» وليس التفاعل. كذلك، فإن الأمية الحضارية هي التي تتوقف بقطاع عريض من مثقفينا عند التجريد — أي المعادلة النظرية — أو عند التجزيء، أي التفاصيل الوصفية الصغيرة المنعزلة بعضها عن البعض. والعنصر المنهجي في كلا الرؤيتين هو «غياب السياق» — أو البعد التاريخي — بين المقدمات والنتائج. إن البرجوازية الصغيرة بأصولها الريفية والحِرفية هي التي عكست تخلفها الأول — الأمية الأبجدية — عندما تسامت به إلى المستوى «الثقافي»، فأصبح أمية حضارية.
-
أن هذه الطبقة التي عاشت حياتها فريسة «رضا» السلطة المركزية، سواء في دولة الموظفين البيروقراطية، أو في أرض الباشا الإقطاعي، ومن بعده الجمعيات التعاونية، هذه الطبقة التي تخشى وتمقت «الأفندي» الذي كان صرَّافًا ومعاونًا للزراعة يملك القدرة على حجز المحصول سدادًا لثمن السماد والبذور، هي نفسها التي تطمح — وتحقق الطموح — لأن يصبح أبناؤها «الأفندية» أصحاب نفوذ وأحذية للسلطة في وقت واحد. إن حذاء السلطان هو الذي يضرب على أية حال، ويمس نعلُه مباشرة رءوس الآخرين. ويبدو لي أحيانًا كثيرة — انطلاقًا من هذه النقطة — أن المثقفين المصريين قد «نبغوا» في «الكلام» أكثر من «الفعل» بسبب هذا الهاجس التاريخي، وأن غالبيتهم الساحقة تبتعد عن «التنظيم الحزبي» لهذا السبب أيضًا، وأن معظمهم يرجو ألا يصطدم مع السلطان، وأن يتوافق معه لهذا السبب كذلك. والقلة النادرة التي «تستشهد» في سبيل ما تعتقد، والأقل من القليل الذي «ينتظم» حزبيًّا للدفاع عن العقيدة — فضلًا عن الاستيلاء على السلطة — لا ينجو، رغم نبالة الشهادة وعظمة الاعتقاد، من أخطاء هذه العقدة التاريخية التي أثمرتها وطورتها عَلاقة البرجوازية الصغيرة بالسلطة المصرية قبل وبعد — خصوصًا بعد — ثورة يوليو ١٩٥٢م.
-
أن هذه الطبقة التي ابتهجت بغير تحفظ لما أصيبت به الطبقة العاملة من ضربات، كما أنها ابتهجت بتحفظ لما أصاب البرجوازيات الأعلى من ضربات، قد أيدت — بجماهيرها العريضة — موقف السلطة المصرية خلال العشرين عامًا الماضية من قضية التنظيم الحزبي، بالإضافة إلى فرديتها الصغيرة غير المتحضرة التي تبتعد بطبيعتها عن فكرة التنظيم الجماعي و«رعبها» الأصيل من السلطان أيًّا كان، بل «تطوعها» لخدمته، فإنها رأت في نموذج «التنظيم الواحد» حلمها الأسطوري الذي يحقق لها ألا تكون «مع أو ضد»، يحقق لها الحضور السلبي، بل الغياب الإيجابي. إنها بذلك قد أسهمت في ضرب قضية الديموقراطية من ناحية، وبتأصيل التخلف التنظيمي — إن جاز التعبير — من ناحية أخرى. إن الفردية المتهالكة المريضة التي تؤدي إلى التشرذم، قد وجدت خلاصها المزدوج في تغييب الديموقراطية والتنظيم الجامع المانع.
-
وهي الطبقة التي أثمر تخلفها «الفِصام الجماعي» في المجتمع المصري، وقد نقلته بأمانة إلى مثقفيها، فالازدواجية بين الفكر والسلوك من ثمار «التردد والذبذبة» الأصليين في بناء هذه الطبقة، ويَزيد في ترسيخهما التخلف الحضاري الذي تتمتع به قائلة: «ساعة لقلبك وساعة لربك»، وليس من قبيل المصادفات أن «الشخصية الفهلوية»، وجماهير «الحشيش»، وعُبَّاد «الموتى» هم الأبناء الأوفياء للبرجوازية الصغيرة، بل إن القيم السلبية التي تحتقر المرأة والفرد والأهالي والعمل اليدوي، وتعلي من شأن الرجل والأسرة الأبوية، والسلطة، والعمل الذهني، هي ضوابط الفكر والسلوك السائد في صفوف البرجوازية الصغيرة. لذلك، فرغم أن نبتها الأساسي من أرض الريف، فإنها سرعان ما تُمثِّل به وتُسهم في قهره بمجرد تعيين «الأفندي» في المدينة. إنها صاحبة القول الشائع: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه»، أي تشبَّثْ بثوب «الحكومة»، حتى وإن ركلتك فالعَقْ حذاءها.
هكذا كان الغذاء الساري في أوصال «المثقفين» مزيجًا مركَّبًا من التخلف والدكتاتورية. والمثقفون — بطبيعة الحال — لا يرثون صفات الطبقة كما هي، إنهم يرثون الخطوط العريضة فحسب، ولكنهم يملئُون اللوحة بالأضواء والظلال والتفاصيل التي تحجب حقيقة الأصل أحيانًا.
والمثقفون المصريون الذين انحدروا من صُلب البرجوازية الصغيرة أو عاشوا حياتهم في ظل التكوين الاجتماعي لهذه الطبقة، بينهم اليميني، واليساري، واليُولْيوي، والناصري، والإخواني، والليبرالي، ورغم ذلك تجمعهم — في المنهج — بدرجات متفاوتة، البصمةُ الاجتماعية للبرجوازية الصغيرة برواسبها التاريخية واتجاه تطورها. إنهم قد لا يعبرون سياسيًّا عن طبقتهم، الأصلية، ولكنهم — بالقطع — ينقلون إلى تعبيراتهم السياسية المختلفة الكثير الكثير من «رُوح» هذه الطبقة. كيف ذلك؟
•••
(٤) بالرغم من المسئولية التاريخية الملقاة على كاهل البرجوازية المصرية الصغيرة، سواء من ناحية دورها السلبي في قضية الديموقراطية، أو من ناحية دورها المؤثر في التكوين الرئيسي للمثقفين المصريين، إلا أن هذا لا ينفي مطلقًا أن هذه الطبقة هي التي تحملت أيضًا عبء «الإنتاج الثقافي» طيلة العشرين عامًا الماضية، وأنها كذلك — وهنا المفارقة التراجيدية — تحملت عبء الجَزْر الديموقراطي العنيف. ومنذ ثورة ۱۹۱۹م إلى ثورة ١٩٥٢م كانت «جماهير» البرجوازية الصغيرة هي الركيزة الاجتماعية الأساسية لبناء الثورة السياسي، كما أنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى هزيمة ٦٧ ظلت الدِّعامة المحورية لبناء مصر الثقافي. لماذا؟ على الصعيد السياسي نُجيب أن الكفاح ضد الاستعمار على أسس ليبرالية في إطار «الهيئة الوفدية» — وليس «حزب» الوفد — هو الذي استقطب الفلاحين والموظفين والحرفيين والطلاب في ثورة ۱۹۱۹م وما تلاها من انتفاضات. لم يكن العمال ولا كبار الملاك بعيدين عن الثورة، بل لقد شارك العمال في قاعدتها، كما شارك كبار الملاك في قيادتها، ولكن البرجوازية الصغيرة كونت الجسم الرئيسي، وهو الجسم الذي كاد يصيبه الاضمحلال بتعاظم القوتين الطبقيتين: البرجوازية المتوسطة والعمال الصناعيين والأجراء الزراعيين، لولا قيام ثورة يوليو التي أتاحت لهذا الجسم نموًّا مفاجئًا قضى على ظاهرة الاستقطاب الطبقي الحاد.
لم تكن الكشوف العلمية التي صاحبت عصر النهضة الأوروبية مجرد انقلاب في المخيلة البشرية حيث كانت ترى الإنسان والله والطبيعة على نحو ما؛ وأصبحت ترى هذا الثالوث على نحو آخر. وإنما قد أدت هذه الكشوف في الحياة الواقعية إلى «مخترعات» تلبي احتياجات اجتماعية بصورة أرقى وأسرع وأدق وأكثر اتساعًا للرقعة البشرية التي تعبر عنها. وكان من شأن هذه المخترعات أنها غيرت كيفيًّا من وسائل الإنتاج، وبالتالي عَلاقات الإنتاج، وأخيرًا القيم الاجتماعية. ولم يتم هذا التطور دفعة واحدة ولا بتعاقب حسابي بسيط، وإنما كان التفاعل المركب من الحاجة الاجتماعية والتناقض الحاد في هيكل الإنتاج والكشف العلمي الذي يتبادل التأثير والتأثر مع أسلوب الإنتاج وعَلاقاته وقيمه، بمعدلات زمنية تسرع هنا وتبطئ هناك حسب الخصائص النوعية لمختلِف حلقات التطور.
هكذا كان الهجوم الساحق على «الكنيسة» مثلث الدلالة، فذكريات محاكم التفتيش — على صعيد حرية المعتقد — ما زالت تكوي العقول بوحشيتها الدامية. كذلك فإن «الكنيسة» حينذاك هي سيدة مجتمع القنانة بملكيتها الشاسعة للأرض ومن عليها وملكيتها للسماء و«صكوك الغفران» الشهيرة. وأخيرًا، فالكنيسة إلى جانب كونها مؤسسة اقتصادية واجتماعية وسياسية (البابوات هم الذين يعينون الملوك، ويذلونهم أحيانًا)، فإنها أيضًا مؤسسة أيديولوجية تحدد للمخيلة البشرية تصوراتها عن الله والإنسان والطبيعة، وهي التصورات المأخوذة عن التوراة والإنجيل منذ مئات السنين، بالإضافة إلى الطقوس اللاهوتية التي توالدت وتكاثرت بالانقسام على مر الزمن.
هذه العناصر الثلاثة جعلت من الكنيسة هدفًا رئيسيًّا لعصر النهضة، على كافة الأصعدة التي جسدتها حينذاك. وكان من الطبيعي أن تتحد في مناوأتها قوًى اجتماعية متباينة، في مقدمتها القوى البازغة مع «وسائل» الإنتاج الجديدة وجماهير العلماء والمفكرين، وأنبياء القيم والفلسفات والرؤى الجديدة. وكان من الطبيعي أن تُضرب الكنيسة في أعز ما تمتلك وهو الأرض ومن عليها، لم تعد صاحبة الإقطاعيات الواسعة ولا صاحبة النفوذ السياسي غير المحدود. ولكن أخطر السهام التي تلقاها صدر الكنيسة في مكان القلب كان السهم العقائدي الذي اقتحم عقر دار المحرمات اللاهوتية وقدس أقداس الطقوس الدينية. كان «نقد المسيحية» هو جوهر عصر النهضة الأوروبية. لم يلُفَّ المفكرون آنذاك ولم يدوروا، لم يقولوا إن الكنيسة شيء والمسيحية شيء آخر، ولم يفرِّقوا طويلًا بين الدين ورجل الدين، وإنما نظروا إلى المسيحية كمجموعة من القيم والضوابط والمعايير الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، ورأوا أن هذه «الأيديولوجية» — بلغة العصر الحديث — تتناقض حينًا هي التاريخ وحينًا مع الجغرافيا، وحينًا مع العقل، وحينًا مع الخيال، وحينًا مع الاقتصاد، وحينًا مع العلم، ولكنها تتناقض في جميع الأحيان مع «التقدم الكامن في مقومات هذا العصر، التقدم بمعنى الارتقاء البشري والنهضة الإنسانية.»
وتعرَّض النص المعتمَد للمسيحية — الكتاب المقدس الذي يشمل العهدين القديم والجديد، أي التوراة والإنجيل — لمختلِف مذاهب النقد المسلح بمختلِف مناهج المعرفة. تداوله المتطرفون والمعتدلون بأنواعهم، ولم يَسلَم حتى من أيدي رجال اللاهوت. وكان نقله من اللاتينية إلى اللغات الأوروبية ثورة كاملة أتاحت «للرعاع» الذين لا يتقنون اللغة الأم أن يقرءوه للمرة الأولى، وكان من قبلُ «مقدسًا»، أي محرمًا عليهم. وبين التطرف والاعتدال لم يعد الكتاب المقدس حِكرًا لقلة، ولا فوق مستوى النقد. تقلبت صفحاته بإمعانٍ تحت عدسات الفكر التاريخي والفلسفي واللغوي والفني والديني، وأصبح «مباحًا» لكل إنسان أن يشك، وحتى أن يلحد.
وهكذا تحول «نقد الدين» إلى علم مشروع، تطور على مر العصور التالية لفجر النهضة. ومن اكتشاف البخار وكروية الأرض إلى الطاقة والخلية، إلى النسبية والذرة، كانت العلوم الطبيعية تفسح المجال رحبًا أمام الفكر والفلسفة لامتحان المقولات الأساسية للكتاب المقدس، وتنازل المسيح من علياء مجده ليصبح إنسانًا من الممكن لرينان أن يوسده مشرحة العلم ويدس في تلافيفه مِشرط فرويد. بل وأصبح المسيح لدى البعض كائنًا أسطوريًّا مشكوكًا في وجوده التاريخي.
لذلك ارتبطت العلمانية في مهادها الأولى بالثورات البرجوازية الناشئة، ثم تجسدت ذروتها في الثورات الاشتراكية. أما غريمتها الثيوقراطية — سواء كانت دولة دينية أو رازحة تحت ثياب الكهنوت — فإنها تبعث دومًا وتستعيد الحياة في ظل التخلف والدكتاتورية. ومن المفيد القول إن أدوات التحدي التي تسلح بها عصر النهضة الأوروبية في مواجهة الكنيسة كانت من التراث اليوناني الروماني.
هذا لا ينفي بالطبع حقيقة تاريخية باهرة هي انفتاح عصر النهضة الأوروبية على التراث العربي الإسلامي في العصر الوسيط. من هنا كانت التسمية المزدوِجة: أنه عصر الإحياء والبعث الكلاسيكي، وهو أيضًا العصر «الهيوماني»، أي الإنساني. لقد عادوا من ناحية إلى ما قبل العصور الوسيطة، إلى أجدادهم الإغريق والرومان، فأخذوا عنهم بذور العقل والمنطق وحرية الفكر والديموقراطية، وحتى ما يشبه الوثنية.
إن استحضار البعد التاريخي في الوعي البشري كان ضربة العصر لتصورات الكنيسة السكونية (الاستاتيكية) عن الزمن. إن مسيحية العصور الوسطى لم تكن تخشى «وثنية» العصور القديمة على الصعيد العقائدي المحض. كانت تدري يقينًا أن أوروبا لم تتحول دينيًّا من المسيحية إلى الوثنية. أدركت الرمز الكامن في إحياء النهضة وبعثها الكلاسيكي، إنه الرمز المزدوِج والباب ذو الدرفتين: إحداهما تُفْضي إلى عصر العقل والأخرى إلى التاريخ. كلاهما ينتشلان الإنسانية والتقدم من السكون إلى الحركة، ومن المنطلق الغيبي إلى النسبي التاريخي.
على غير هذا النحو مضت الأمور في عالمنا العربي عمومًا، وفي مصر على وجه الخصوص. لم تنبلج أضواء النهضة في حياتنا منذ حوالَي مائتي عام نتيجة الكشوف والمخترعات وتناقضات هيكل الإنتاج، ولم تؤدِّ من ثَم إلى إعادة نظر شاملة في مختلِف جوانب ذاتنا القومية والإنسانية، ولم تتصدَّ بالتالي لعقر دار محرماتنا وقدس أقداس معتقداتنا. انبثقت شرارة نهضتنا نتيجة ماس كهربائي ولَّدته لحظةُ اصطدام بين الحضارة القاهرة والحضارة المقهورة. وسواء شاء المؤرخون أن يتوقفوا عند حملة نابليون على مصر أو عند استيلاء محمد علي على الأريكة المصرية، كنقطة بداية لليقظة القومية، فما لا شك فيه أن ما بين البداية والنهاية من سياق تاريخي للنهضة العربية عامةً والنهضة المصرية خاصةً يختلف كيفيًّا عن مسار النهضة الأوروبية. ولا ينبغي تبسيط الأمر بأن اختلاف المقدمات قد أدى تلقائيًّا إلى اختلاف النتائج. إن القاعدة بطبيعة الحال صحيحة. ولكن العقدة المنهجية تكمن أساسًا في تباين السياق التاريخي الذي يستحيل أن يكون مجرد تداعيات حسابية بسيطة أو تراكمات عفوية.
من السهل إذن الإشارة إلى التباين العقائدي بين المسيحية والإسلام، وبين وضع المؤسسة الدينية في العالم العربي ووضعها في الغرب. ولكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بأنه رغم غياب المعنى الاقتصادي للكنيسة الإقطاعية عن المسجد العربي، ورغم غياب الفكرة البابوية عن الخلافة الإسلامية، ورغم غياب محاكم التفتيش عن تاريخنا في العصر الوسيط، فإن ذلك كله لم يمنع انسلاخنا عن ركب الحضارة الإسلامية حوالَي ألف عام منذ انهيار الدولة الإسلامية وسقوطها التام في براثن «الثيوقراطية».
لم تكن هناك صكوك غفران، ولا رهبنة، ولا حتى رجال دين بالمعنى المعروف في المسيحية، ولكن المفارقة هي أن رجال الدنيا من الخلفاء والسلاطين والولاة قد تحولوا إلى «ظل الله على الأرض» دون أن يرتدوا ثياب الكهنوت. وقد ارتكب هؤلاء منذ انهيار الحضارة العربية الإسلامية في حق العلم والفكر والإنسان ما لا يقل فظاعةً عن جرائم الكنيسة. وكما أن المسيح لم يؤسس في حياته كنيسة، بل هي في تعريف الإنجيل ذاته «جماعة المؤمنين»، كذلك الإسلام في عصر ازدهاره العظيم لم يكن قط «مؤسسة». ولعل هذا القاسم المشترك بين المسيحية والإسلام يؤكد أن المؤسسة الدينية هي في جوهرها تعبير اقتصادي واجتماعي وسياسي؛ يولَد ويتعاظم ويضمحل بميلاد وتعاظُم واضمحلال المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقات المستفيدة من «العرش الإلهي».
متى تحللت وتفسخت وانهارت الحضارة العربية الإسلامية؟ عندما انفصلت — بالضبط — عن أعظم تقاليد الفكر الإسلامي وهي الانفتاح على الحضارات الأخرى القديمة والجديدة، والتفاعلُ مع تراثات الآخرين بما يلهم التقدم البشري على الاستمرار واحتضان العقل الإنساني كيفما كانت اجتهاداته في التحليل، ومغامراته في التفسير والخلق والإبداع.
تحللت الحضارة الإسلامية يقينًا — قبل ذلك — حين اصطدمت مصالح الطبقات المهيمنة على مقاليد الحكم بمصالح الطبقات المسحوقة، فآلت على نفسها التمسكَ بالنص دون الرُّوح، ومن ثَم تغليب الثيوقراطية على العلمنة، في وجه الدعوات «الجديدة والمنحرفة». لذلك ليس غريبًا أن الحركات الثورية في التاريخ الإسلامي «ثورة الزنج – القرامطة – الخوارج – المعتزلة» هي نفسها الحركات الثورية في الفكر الإسلامي، وليس غريبًا أيضًا أن القاسم المشترك الأعظم بين هذه الحركات، على صعيد الفكر، كان الإيمان بالعقل والتاريخ، أيًّا كانت تفاصيل الاختلافات العقائدية، فكلها تندرج تحت باب الاجتهاد من ناحية، والحوار — مع الخصم أو المؤسسة أو التاريخ، الماضي والحاضر والمستقبل — من ناحية أخرى. وليس غريبًا كذلك أن أبشع المذابح وأفظع المهرجانات الدموية التي لا تقل نتائجها هولًا عن محاكم التفتيش الأوروبية قد حاقت بهذه الحركات العظيمة وغيرها من أنبياء العقل والديموقراطية والعلمانية في التاريخ الإسلامي. ولعل تراجيديا الحسين العظيم ما زالت تكوي وجدانات المسلمين إلى اليوم، كما أن مأساة ابن رشد تؤرق عقول المفكرين في العالم كله إلى يومنا أيضًا.
المهم أن سقوط الحضارة الإسلامية في براثن الثيوقراطية — معاداة العقل والتاريخ والتلفع بثياب القوى الغيبية المطلقة التصرف في الأرض والإنسان — قد أدى من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى استقرار يشبه الموت لهياكل الإنتاج المتخلف والممعن في البداوة أسلوبًا والعبودية كعَلاقات وقِيم. ومن الزاوية الفكرية أدى انسلاخٌ دام قرابة عشَرة قرون عن ركب الحضارة الإنسانية إلى تكفين الذات في توابيت الماضي، والانغلاق على النفس في قبور السلف.
ولأن الحضارة عملية اجتماعية من حيث الجوهر، تتحرك في الزمان والمكان فقد استفادت الإنسانية من مساهمات الإبداع العربي الإسلامي، واضافت إليه (النهضة الأوروبية)، بينما لم تعد هذه المساهمات القديمة وحدها قادرة على النمو في أرضها لتعذر وصول الماء والغذاء والهواء النقي إلى أوصالها.
وهكذا بعد أن كنا «قيادة» حضارية في العالم الوسيط، ضاعت من أيدينا مقومات المشاركة في بناء حلقة جديدة في تطور الحضارة، المشاركة في الإنتاج، لذلك سقط حقُّنا في الاستهلاك. إن بداوة الإنتاج الرعوي والزراعي والحِرفي، وعشائريةَ العَلاقات الاجتماعية، وقبَليةَ القيم والضوابط والمعايير في الفكر والسلوك، هي التي يمكن إيجازها في مقولتين رئيسيتين هما: التخلف، والدكتاتورية.
وسواء كان علماء الحملة الفرنسية هم الذين جاءوا إلى القاهرة، أو أن محمد علي هو الذي أرسل البعثات إلى فرنسا، فإن الصدمة التاريخية التي وقعت لضميرنا وعقلنا وكِياننا منذ أقل من قرنين على وجه التقريب، كانت صدمة شاملة بالغة التعقيد، محورها قضية «الزمن» وعموده الفقري «الحركة».
تولدت شرارة اليقظة أولًا من «لقاء القهر» — إن جاز التعبير — عن الحضور الغربي بين ظَهرانَينا، فهو لم يكن «حوار الأنداد» بيننا وبين الآخرين. لم يأتِ الأوروبيون إلينا رسلًا لحضارة النور الجديد، ولا مبشرين بعظمة العصر الحديث. ولم نذهب نحن إليهم ننشد «وجهة نظر»، أو لنحتك برافد جديد من روافد المعرفة. وإنما كانت الحضارة الحديثة قد وصلت بأوروبا إلى مرحلة من التقدم الصناعي والتركز الاقتصادي، بحيث إنها أثمرت مع التطور الجدلي لمعطياتها الإنتاجية وجهًا نقيضًا لوجهها الباكر إبان فجر النهضة، وجهًا نقيضًا للثورة البرجوازية، هو الاستعمار.
هكذا لم نعد لها تراثًا، بل أصبحنا «سوقًا» لاستيراد الخامات والأيدي العاملة الرخيصة، وتصدير المنتجات المصنعة أولًا، ورأس المال المالي ثانيًا.
وليس مهمًّا أن الاستعمار الفرنسي قد غادر مصر بعد ثلاث سنوات، فقد استقر الاستعمار البريطاني لمصر من بعده ثلاثة ارباع قرن. ولا شك أن ثورة القاهرة الأولى والثانية والانتفاضات المتوالية للشعب المصري — وبينها انتصارات حاسمة على جيوش الاحتلال — قد أزعجت الاستعمار الغربي إزعاجًا شديدًا. ولكن هذا الواقع البطولي العظيم لا ينفي أن مصر قد دخلت منذ ذلك التاريخ دائرة اللقاء غير المتكافئ بين الحضارة القاهرة والحضارة المقهورة. وهذا هو الاختلاف الكيفي الأول بين مكونات عصر النهضة الأوروبية ومقومات فجر نهضتنا. يضاف إليه السبق الزمني الخطير بين ذاك العصر وهذا الفجر.
لقد انعكست هاتان الظاهرتان انعكاسًا مؤثرًا في مسار النهضة العربية عمومًا، والمصرية خصوصًا. ولا ريب في أن الاستعمار على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ثمرة سلبية من ثمرات هذا الصدام التاريخي بيننا وبين الغرب، ولكنه في اللحظة نفسها كان «سياقنا» التاريخي مع الحضارة الحديثة … فلقد تهاوت الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المهترئة، واستُحدثت أساليب جديدة للإنتاج، وبالتالي عَلاقات وقيم اجتماعية جديدة. وكان قدَر البرجوازية المصرية الوليدة وفئات قليلة من كبار الملَّاك في ظل التبعية الاستعمارية والعرش العلَوي، أن تنجز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية اقتصاديًّا وسياسيًّا، وأن تفتح الستار عن عصر النهضة والإحياء الحضاري.
•••
(٥) بالرغم من أن الحملة الفرنسية على مصر لم تدم أكثر من ثلاث سنوات — بدأت في ٣٠ يونيو (حزيران) ۱۷۹۸م — فإن رد الفعل المصري عليها كان بمثابة «انعطافة تاريخية» في بنية المجتمع، وخاصة دعائمه الأيديولوجية. إن الإنجاز الباهر لعلماء الحملة كان الكتاب-الموسوعة «وصف مصر» بمجلداته الأربعة والعشرين، وهو لا يقل خطورة من الناحية العلمية عن اكتشاف شامبليون لحجر رشيد، وفكه لألغاز اللغة الهيروغليفية المنقوشة جنبًا إلى جنب مع اليونانية والقبطية.
وكان الغرب — ممثَّلًا في فرنسا — قد ركز عينيه على «التاريخ» قديمه وحديثه، قبل أن يستقر به المقام — ممثَّلًا في الاحتلال البريطاني — لينفي هذا التاريخ خارج الوعي المصري. ولكن «الانعطافة» كانت قد أحدثت الهزة العميقة في الأرض والعقل والوجدان، بحيث إن الأثر الفرنسي الذي تبقى لم يعد بصمات أقدام الخيل النابليوني في رحاب الأزهر، وإنما تبقت ضربة المدفع التي كشطت أنف أبي الهول وقمة هرم خوفو، والبذور الفكرية للثورة البرجوازية الديموقراطية، بذور البرلمان والدستور والقانون. ولم تخرج مصر من «المعركة» خاسرة، فلم تستطع الحضارة الجديدة أن تهدم الحضارة القديمة، ولكن الحضارة القديمة استطاعت أن تكسِب الكثير من الحضارة الجديدة.
غير أن المسألة لم تكن قط على هذا النحو من التبسيط، فقد كان قدَر البرجوازية في نشأتها الأولى أن تناضل على جبهتين: الأولى هي الجبهة الوطنية لتضرب الوجه الدميم للحضارة الوافدة (الاستعمار)، والثانية هي الجبهة الحضارية لتضرب الوجه القبيح للحضارة القائمة. ولعل أهمية محمد علي التاريخية هي «حدسه» البصير بهذه الازدواجية المركبة. لقد أراد «تمصير مصر» بالاستقلال «بها» عن الإمبراطورية العثمانية، و«تحديثها» عن طريق «اتصالها» بأوروبا. ومن وجهة نظر استراتيجية بحتة رأى محمد علي — منذ مائتي عام — أن تمصير مصر لا يتحقق إلا في إطار «إمبراطورية عربية»، وأن تمصير مصر لا يتحقق إلا بجيش مصري. كانت المؤسسة العسكرية من المحرمات على المصريين، وكانت مصر «جوهرة» الإمبراطورية العثمانية. وجاء محمد علي ليقول إن مصر أغلى من أن تكون حلية في عنق الآستانة، ولكي تصبح مصر مصرًا لا بد أن تكون «مركزًا» للعالم العربي، ولن تكون كذلك إلا بجيش وطني من «الفلاحين». من هنا بالضبط وُلدت مصر الحديثة، واكتمل بناؤها في مخيلة محمد علي (۱۸۰٥–١٨٤٥م)، اقتصاديًّا بأغرب تأميم للأراضي الزراعية وقع في التاريخ، وثقافيًّا بإيفاد البعثات إلى أوروبا، وخاصةً فرنسا، واستقدامه الخبراء منها (۱۸۲۰م)، وتأسيسه المطبعة الأهلية (۱۸۲۱م)، وإنشائه أول صحيفة «الوقائع المصرية» (۱۸۲۸م)، ثم تشييده لمدرسة الألسن (۱۸۳٥م). إنه بالجيش الوطني والاقتصاد الوطني القريب من فكرة الاكتفاء الذاتي، والتعليم الغربي، أراد أن يؤسس «الدولة الحديثة» في مصر المتصلة عربيًّا بالمشرق، والبعيدة كليًّا عن تركيا وأوروبا. لقد كان عمل محمد علي أشبه ما يكون «بعجن» مصر وخبزها من جديد. ورغم براعته في المناورة — ضربه فرنسا بإنكلترا والعكس — فإنه كان أضعف من النهم الاستعماري الوافد مع الحضارة الحديثة. وبالرغم من أن ابنه إبراهيم باشا حاول أن يستأنف الحكم «الغربي» على مصر بتركيزه على الفتوحات العربية، فإن مصيره — بزوال التناقضات الفرنسية الإنكليزية — كان الإخفاق.
ولكن مصر البرجوازية كانت قد وُلدت. أقطع محمد علي الأرض للمصريين، وتأسس الجيش والكثير من أجهزة الدولة، ونشطت دور العلم وأساليب التجارة. وكان الجبرتي (١٧٥٤–١٨٢٥م) في ذلك الوقت — وقد ارتدى قلنسوة المؤرخ — هو البشير المعتدل بأخلاقيات «الأجانب» وتقاليدهم وعاداتهم، محرِّضًا حينًا، مستهجِنًا حينًا آخر، محبِّذًا في أغلب الأحيان على الأخذ بما ينفع ولا يضر. ولكن الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي — رسول الأزهر إلى فرنسا، أو مبعوث الأصالة إلى المعاصرة — هو نقطة التحول الحاسمة في تاريخ الفكر المصري الحديث.
وليس غريبًا أن الذي أرسله هو محمد علي، فقد كان يدرك أن هذا «الشيخ» هو الذي يستطيع أن يفرق بين ما يلزم وما لا يلزم. ويكاد كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» (۱٨٣٤م) أن يكون «بيان» البرجوازية المصرية الأول، فهو لا يقتصر على التعريف بالمجتمع الباريسي من حيث تقاليده وعاداته، وإنما هو يركز على وثيقة حقوق الإنسان وشعار الحرية والإخاء والمساواة. غير أن كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» (١٨٦٩م) هو بمثابة «برنامج عمل» اقتصادي واجتماعي وسياسي، يعتمد أصلًا على فولتير وروسو ومونتسكيو، ولكنه لا ينحرف عن «التعاليم الصحيحة للإسلام الصحيح»، وإذا به يوجز غاية المراد في أن نبني مجتمعًا يَسعد جميع أفراده بالتساوي … «نبنيه بالحرية والفكر والمصنع.»
ذلك هو النبي الأول للبرجوازية المصرية في عصر ولادتها المتعسرة غاية العسر. فبالرغم من أن الإقطاع المصري يغاير الإقطاع الأوروبي مغايرةً كيفيةً تيسر ميلاد البرجوازية، فإن العكس — تقريبًا — هو الذي حدث. كان الإقطاع الأوروبي مجموعةَ دوائرَ مغلقةٍ تتماسُّ بالتناحر أو التلاقي ولكنها لا تتقاطع، لذلك كان «النبيل» ملِكًا صغيرًا. وكان من مهام الثورات البرجوازية الأوروبية «توحيد» هذه الإقطاعيات الدائرية المغلقة في دولة مركزية. أما في مصر فقد كان الإقطاعيون على ضفتي النيل يشكلون صفًّا واحدًا منتظمًا لا يخرج على سلطة الدولة المركزية. وهكذا لم تكن أمام البرجوازية المصرية مشكلة توحيد وطني على صعيد الجغرافيا السياسية والاقتصاد. ولكن الاضطراب العنيف الذي شهدته مصر منذ محمد علي إلى عصر إسماعيل قد أتاح في وقتٍ واحد تمركزًا واتساعًا. «لمزارع» القطن الإقطاعية وتجارتها الرأسمالية ودولتها البيروقراطية.
وعندما أغرق الخديوي إسماعيل «مصر» في شبكة الديون الغربية كان في واقع الأمر قد وضع حجر الأساس في بناء التبعية الاستعمارية للبرجوازية المصرية. وليس من شك في أن هذا الوجه السلبي لعصر إسماعيل لا يكتمل إلا ببقية عناصر «المنظور» السياسي الذي رافقه وهو تحديث مصر تحديثًا أوروبيًّا لا رجعة فيه. وإذا كان فتح قناة السويس يجسد ذروة الهيمنة الغربية على مفرق طرق القارات الثلاث فليست دار الأوبرا هي الشاهد الرئيسي على «حداثة» إسماعيل. وإنما «مجلس الشورى» هو العلامة الرئيسية. إن إسماعيل هنا يكاد يكون نقيضًا لمحمد علي وإبراهيم باشا، فبدلًا من أن يصبح تحديث مصر مرادفًا لاستقلالها الوطني واتصالها العربي، تتحول العصرنة الإسماعيلية إلى «عزل مصر» وابتلاع أوروبا لسيادتها. ولعل الوجه الإيجابي لهذه المفارقة أنه قد وُلد حينذاك ما يشبه القانون، فاستقلال مصر وحداثتها لا يتحققان إلا عبر ارتباط وثيق بالعالم العربي، أما مصر المستقلة داخل حدودها الإقليمية فمآلها الحتمي هو الهزيمة. وربما كان محمد علي قد تلقى الدرس من النهضة الأوروبية التي خرجت عن طاعة الأسطورة المسماة «العالم المسيحي»، وكأنه العالم الوحيد، وهو في حقيقة الأمر الإمبراطورية الرومانية والكنيسة الكاثوليكية. خرجت النهضة إلى عصر القوميات التي أعادت اكتشاف العالم الحقيقي، فاستعادت ذاتها القومية والقارِّيَّة. وقد كان هدف محمد علي هو خروج النهضة المصرية على طاعة الأسطورة المسماة «العالم الإسلامي»، وكأنه العالم الوحيد، وهو في حقيقة الأمر الإمبراطورية العثمانية والسلطنة والخلافة، خروج النهضة المصرية لاستعادة ذاتها الإقليمية والقومية والحضارية. ولا شك أنه طريق صعب، ولكن الطريق الآخر أدى في خاتمة المطاف — عام ۱۸۸۲م — إلى الهزيمة.
وهي هزيمة معقدة ليس الاحتلال العسكري مظهرها الوحيد. لقد اكتست مصر ببعض الثياب العصرية في الثقافة والفنون، والقليل النادر من المؤسسات السياسية، ولكنها تعرت في أكثر المواضع حساسية، فقد اقتصر نمو البرجوازية على الإنتاج الزراعي للأرض والعمل البيروقراطي في دولة الموظفين.
هذه النشأة النوعية البالغة الخصوصية هي الأصل البعيد لقيم التخلف والدكتاتورية التي سادت على «تطور» البرجوازية المصرية. إن عَلاقات الإنتاج الزراعي تختلف كثيرًا عن عَلاقات الإنتاج الصناعي، وبيروقراطية دولة الموظفين المركزية ترسخ قواعد القهر الروتيني التي لا تعرفها التجارة. وقد تكونت البرجوازية أساسًا في الحقل وجهاز الدولة، وبصورة ثانوية للغاية من الصناعة اليدوية والتجارة البسيطة (البساطة لا عَلاقة لها بالحجم التجاري، وإنما بوسائله).
كذلك نشأت البرجوازية المصرية في ظل ظليل من العَلاقات الإقطاعية والتبعية الاستعمارية والقطاعات الكومبرادورية. ومن هنا انقطعت وشائج الصلة بينها وبين الفكرة العربية. إن هزيمة محمد علي لم تكن هزيمة «الدولة المصرية الحديثة» وإنما كانت هزيمة «الدولة العربية الحديثة». ولم تستطع البرجوازية المصرية ولا غيرها من البرجوازيات العربية أن تلتقي في الإطار القومي منذ ذلك الوقت، بسبب التخلف السابق على الاستعمار من ناحية، والاستعمار الذي استغل التخلف لمصلحة التجزئة، وأخيرًا التطور الإقليمي المعزول لكل برجوازية على حدة … بحيث أصبحت فكرة «الوطن» التي رفعها الطهطاوي عاليًا مرادفًا لمصر. وعندما يغيب المدار الأفقي عن التفكير الوطني يحتل المدار الرأسي الحيز بأكمله. هكذا يبرز التاريخ الحضاري الخاص لمصر منذ الفراعنة، إلى اليونان والرومان، إلى المسيحية والإسلام، إلى العصر الحديث، خطًّا عموديًّا في المخيلة المصرية، قد يطل على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ولكن ليباهي أوروبا — وهو يستعير منها — لا ليكتشف ذاته الحقيقية من المحيط إلى الخليج.
لماذا الجيش؟ لأن البرجوازية المصرية لم تقدر — على طول تاريخها — أن تفوز باستقلالها الحقيقي — استقلال مصر — عن طريق قواها الاجتماعية مباشرة؛ ذلك أنها فصلت منذ البداية بين الشكل والمضمون في النهضة الحضارية، كما أنها أجرت حسابًا مغلوطًا في الربح والخَسارة من تحالفاتها وخصوماتها. لقد ضاعفت تخلفها الأصيل (النشأة الزراعية والبيروقراطية) بمزيد من التخلف حين أخذت عن الغرب أدوات الحضارة دون رُوحها. وقبل ذلك، وبعده، حين اعتمدت في نموها على نمو غريمَيها داخليًّا وخارجيًّا (الإقطاع والاستعمار)، وحين انطوت إقليميًّا على ذاتها الوطنية فأصبح العرب «صفر + صفر + صفر» عند سعد زُغلول، وحين تصدت في وقت باكر للطبقات الشعبية التي يمكن استغلالها وسحقها دون خسائر.
وكان من نتيجة ذلك أن انفصلت الشرائح العليا من البرجوازية المصرية — والتي كان يمثلها «الاتحاد المصري للصناعات» — عن المسار «الوطني» «الديموقراطي» للنهضة. ولست أقصد هنا المعنى السياسي المباشر للوطنية والديموقراطية، ولكني أقصد مضمون الثورة البرجوازية في كل العصور. إنها لم تحقق اقتصادًا «وطنيًّا»، ولم تحرص على الديموقراطية «الليبرالية»، ولكنها على صعيد الفكر والثقافة اضطربت موجاتها منذ نهايات القرن الماضي حتى ثورة ۱۹۱۹م، حيث سلمت القيادة للبرجوازية المتوسطة — وإن ظلت ممسكة بالهيكل الرئيسي للإنتاج — ثم تنازلت هذه الشريحة عن القيادة قُبيل بداية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٣٩م.
أي إن التاريخ الثقافي للبرجوازية المصرية يختلف في واقع الأمر عن تاريخها الاقتصادي والسياسي، يختلف ولا يتضاد. كما أنه لا بد من الإشارة الثانية، وهي أن التاريخ الاجتماعي لمصر لم يكن مرهونًا بالتاريخ الاجتماعي للبرجوازية المصرية … فبالرغم من هيمنة الإقطاع والاستعمار وتخاذل البرجوازية، لم تذهب دولة محمد علي ولا هبَّة أحمد عرابي هباءً، فقد تواصل النضال المصري لاستخلاص ما يمكن إنقاذه من «مصر الجديدة». كان باب التطور قد فُتح؛ ولم يعد من السهل إغلاقه، كان لا بد من الحرفيين والعمال المهرة والتجار والعلماء. وظهرت الطبقات الجديدة من أحشاء الطبقات السائدة، وأصبحت البرجوازية برجوازيات، والإقطاع درجات، والفلاحون شرائح وفئات. وفُتحت مئات المدارس والمعاهد، وتحولت الجامعة الأهلية إلى جامعة رسمية (١٩٢٥م)، وتفضل مؤسس أسوأ السياسات التعليمية في المستعمرات «دنلوب»، ففتح الأبواب أمام الألوف من حاملي المؤهلات المتوسطة. كانت سياسة «كرومر» هي تحويل مصر إلى مزرعة قطن تنسج خيوطه مصانع لانكشير، لتعيد تصديره إلى البلدان المقهورة، وكانت سياسة «دنلوب» هي تحويل مصر إلى دولة موظفين صغار.
ولكن الاتساع المتعاظم في الخريطة الاجتماعية والتغيرات المتلاحقة في وسائل الإنتاج، قد أدى بالضرورة إلى ظهور طبقات جديدة، وعَلاقات وقيم اجتماعية جديدة. كانت الطبقة البازغة في أتون ثورة ۱۹۱۹م هي الطبقة المتوسطة، إنها طبقة بازغة اقتصاديًّا. وكانت «جماهير» الثورة المنتشرة في الريف والمدن هي البرجوازية الصغيرة. وكان التحالف طبيعيًّا بين الشريحتين المتوسطة والصغرى، ولكن العمال الصناعيين، والأُجراء الزراعيين لم يتخلفوا لحظة عن القاعدة الرئيسية للثورة. كذلك فإن بعض كبار الملاك العقاريين لم يتوانوا عن الاحتفاظ بموقع قَدَم في مقدمة الصفوف.
وكانت ثقافة «النهضة» — منذ رفاعة الطهطاوي إلى الإمام محمد عبده — ترسم خطًّا مستقيمًا لمستقبل البرجوازية المصرية. وليس مهمًّا أن الطبقة لم تأخذ أحيانًا كثيرة بقيم طلائعها، ولكن المهم أن تاريخ الفكر المصري الحديث كان قد اتخذ مسارًا ثابتًا في مواجهة الإشكال الحضاري النابع من صدمة اللقاء الأولى مع الغرب. وبالرغم من الصلة العضوية أحيانًا بين مجمل الأفكار التي نادى بها رواد النهضة والقيادات السياسية للبلاد، فإننا ينبغي أن نَحْذر التحليل الميكانيكي للظاهرة الفكرية. غير أن هناك — بطبيعة الحال — مجموعة من الضوابط والمعايير:
-
أولها أن فكر الثورة الفرنسية هو أبرز المؤثرات الأجنبية في نشأة الفكر المصري الحديث. إن الطهطاوي لم يكن نشازًا، فتياره — بتنويعات مختلفة على اللحن الرئيسي — قد استمر في الحركة الوطنية المصرية، سواء في جناحها المقرب من تركيا (مصطفى كامل)، أو في جناحها المقرب من الإنكليز (أحمد لطفي السيد)، ربما كان الأول يميل إلى روبسبير، والآخر إلى جان جاك روسو، ولكنهما معًا يميلان إلى فكرة «حقوق الإنسان».
-
النقطة الثانية هي أن الفكرة «الوطنية» هي الأساس الراسخ لبناء مصر الطهطاوي إلى مصطفى كامل «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا» وأحمد لطفي السيد «مصر للمصريين» فلا ينبغي أن يضلنا الاتجاه العثماني للحزب الوطني أو الاتجاه الغربي لحزب الأمة عن الأصل المشترك.
-
النقطة الثالثة هي أن انحسار الفكرة العربية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي منذ نشأة البرجوازية، يقابله على صعيد الفكر والثقافة «جسر عربي» من كبار المفكرين والأدباء والفنانين السوريين واللبنانيين. إن الحضور الفاعل لشبلي شميل، وفرح أنطون، وأديب إسحق، وعبد الرحمن الكواكبي، ونقولا حداد، وغيرهم كان بمثابة مَلء الثغرة التي فتحت فاها بين مصر والشرق العربي. إنهم جزء لا يتجزأ من فجر النهضة المصرية.
-
إن التيار الرئيسي للنهضة خرج من الأزهر، منذ رفاعة الطهطاوي، إلى محمد عبده، إلى طه حسين، وعلي عبد الرازق، إلى خالد محمد خالد. وهم يختلفون فيما بينهم، ولكنهم يشتركون في المنبع والمصب، من أصالة التراث العربي الإسلامي خرجوا إلى اللَّحاق بركب الحضارة الإنسانية الحديثة، توجهوا لبناء مصر من جديد. وتيارهم الذي يعطي ما الله لله وما لقيصر لقيصر، هو أكثر التيارات جذبًا واستقطابًا.
-
ظلت هناك في فجر النهضة صيحات متطرفة نحو الغرب وأخرى نحو الإسلام، ولكنها لم تشكل المجرى الرئيسي لفكر النهضة.
-
تتباين الأصول الاجتماعية والتاريخية لرواد هذا الفجر، ولكنهم يلتقون بشكل أو بآخر عند أفكار محورية هي: الاستقلال، الديموقراطية، العقل.
هذه كلها مجرد «ضوابط» لا تلغي — بأية حال — التنوع والكثافة والتعقيد في مجرى الفكر المصري الحديث.
وترجمته العربية: «حول الدين»، دار الطليعة، بيروت، ١٩٧٤م.