من الحق الإلهي إلى العَقد الاجتماعي
(۱) لعل «جوهر» الفوارق الرئيسية بين نشأة البرجوازيات الأوروبية — بعد انبثاق عصر النهضة — ونشأة البرجوازيات العربية عمومًا، والمصرية خصوصًا، أن قوميات الغرب الحديث قد وُلدت في «السوق»، بينما وُلدت اليقظة القومية في بلادنا وهي تناضل «ضد السوق»، ضد أن تكون سوقًا للاحتكارات الأجنبية.
والفرق الظاهري هنا هو المسافة الزمنية التي تفصل بين ميلاد النهضة الأوروبية وميلاد النهضة العربية — المصرية — الحديثة. وهي المسافة التي تطورت خلالها برجوازيات الغرب من عصر الانقلاب الصناعي إلى العصر الكولنيالي الذي يتطلب «أسواقًا» تفي بغايات النهضة في مستواها المادي الصرف من حيث الإنتاج والاستهلاك. ولكن «الزمن» ليس مجردًا من محتواه التاريخي وسياقه الاجتماعي، لذلك كان فارق الوقت بين نهضتنا ونهضتهم تلخيصًا ظاهريًّا لما هو أعمق، كان إيجازًا شديدًا لمكونات النهضة الأساسية التي يختلفون بها — في الأصل والتطور — عن المسار الذي قُدِّر علينا أن نشق ملامحه النوعية الخاصة في تاريخنا الحديث. وربما جاز لنا أن نطرح على أنفسنا سؤالًا «إحراجيًّا» بلغة الفلسفة، وإن لم يكن جائزًا طرحه بلغة التاريخ: هل كان من الممكن أن تنفجر نهضتنا بغير شرارة الحضارة القادمة مع بونابرت؟ والجواب «الافتراضي» أنه كان ممكنًا، سواء تأخر بنا الزمن قليلًا أو كثيرًا. ولكن الجواب يظل ناقصًا إذا لم نتساءل مرة أخرى: هل كان التقاطع بيننا وبين الحضارة «الغربية» الحديثة حتميًّا، حتى إذا لم نكن قد التقينا بها — على النحو الذي حدث — لقاء القاهرين بالمقهورين؟
والجواب أن هذا التقاطع كان حتميًّا، لأن الرأسمالية الأوروبية منذ بداية عصرها الكولنيالي قد افتتحت ما يمكن تسميته بعالمية العالم، والحضارة الغربية منذ ذلك التاريخ أصبحت الحضارة الإنسانية الحديثة، أو الحضارة العالمية الحديثة. غير أن التقاطع بيننا وبين هذه الحضارة في ظل القهر الاقتصادي والسياسي تختلف نتائجه عما لو كان قد تم في مناخ مغاير. وهذا هو الفرق الخطير — مثلًا — بين عصر محمد علي وعصر إسماعيل، بين عصرٍ توجَّه إلى أوروبا مستقلًّا ببلاده، وعصر جاءت إليه أوروبا لتُرسِف في الأغلال — الحريرية والحديدية — بلاده.
أي إن الفارق الزمني كان مجرد غطاء لمجموعة هائلة من الفروق، أهمها المكونات الأساسية للنهضة والخط العام لسير هذه النهضة. وقد أشرنا فيما سبق إلى أن الكشوف العلمية في فجر النهضة الأوروبية، جسدت من ناحيةٍ احتياجات اجتماعية ملحة، ولكنها عادت من ناحية أخرى فغيرت من هياكل الإنتاج، من تشكيل قوى الإنتاج وعَلاقاته وأساليبه. وهو الأمر الذي أبرز إلى الوجود الفاعل طبقات اجتماعية جديدة وقيمًا اجتماعية جديدة. وربما كان الأصل اللغوي لكلمة «البرجوازية» يشير إلى هوية التغيير الطارئ، إنها من ناحية «الطبقة الوسطى» الواقعة بين النبلاء والحرفيين والأُجراء والأقنان، ومن ناحية أخرى هي «المدن» التي ظهرت معها عَلاقات جديدة للإنتاج الصناعي الصغير، والتجاري على وجه خاص. وحين أقبل الانقلاب الصناعي ازدهرت التجارة حقًّا عن طريق وسائل المواصلات الجديدة، ولكن الصناعة بالذات هي التي كبرت وتطورت ميكانيكيًّا وبشريًّا، فاتسعت القاعدة العمالية، وتقدمت الآلات، وتميزت في الوجود الاجتماعي «الطبقة الرأسمالية الناشئة». وفي موازاة هذه التطورات «المادية» التي تبلورت نهائيًّا في «السوق» كعملية اجتماعية، كان لا بد من الانسلاخ عن الإطار الإمبراطوري للعصور الوسطى الذي رسَّخت الكنيسة بناءه الوجداني، وكرس الإقطاع بناءه العقلي. كان لا بد لقضية الانتماء أن تتخذ إطارًا جديدًا. وقد بدأ تصادم الكنيسة مع العصر الجديد متمثلًا في «كشوفه العلمية» أولًا، حيث تناقضت نتائج هذه الكشوف مع تصورات الكتاب المقدس عن الإنسان والطبيعة. ثم توالدت التناقضات داخل الكنيسة ذاتها بقيادة لوثر. وهكذا نشأ تياران: أحدهما «نقد المسيحية» والآخر «تجديد المسيحية» أو ما يسمى بحركة الإصلاح الديني. أما الإقطاع الذي فجعته الكشوف العلمية على سطح «الأرض» لا في أعالي السماء، فلم يستطع الحيلولة دون نمو البرجوازية بمعناها المتعدد الأبعاد وتطورها المختلف الوسائل، حتى بلغ الصدام أوجَه في «الثورة». وقد أثمر التفاعل بين الصدام الثنائي مع الكنيسة (النقد والتجديد) والصدام المتصاعد مع الإقطاع (اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا) إلى الانسلاخ الكامل عن الرداء الإمبراطوري (العالم المسيحي)، إلى الرداء القومي (السوق).
وإذا كانت الكشوف العلمية والانقلاب الصناعي قد شكَّلا العمود الفقري للبرجوازيات الأوروبية في مواجهة الإقطاع، فإن العودة إلى المنطق العقلي في التراث اليوناني الروماني — الجذور الأولى للحضارة الأوروبية قبل العصر المسيحي — شكلت العمود الفقري للثورات القومية الأوروبية في مواجهة الكنيسة.
•••
وفي هذا المناخ «الاجتماعي» المغاير كليًّا للمناخ الأوروبي، بدأ احتكاكنا بالغرب، بالحضارة الحديثة عندما أقبلت علينا في عصرها الكولنيالي، عصر القهر الاستعماري وعالمية رأس المال والسوق. كانت حاجتها إلينا، من الجانب السلبي البشع، أن نكون لها سوقًا وممرًّا إلى بقية الأسواق، وكانت حاجتنا إليها، من الجانب الإيجابي المشرق، أن تكون لنا عونًا في النهوض من الكبوة التاريخية. وقد كان — ولا يزال — الصراع بين الحاجتين هو محور الملحمة التي عاشها الفكر العربي — والمصري خاصة — منذ بدايات القرن الماضي إلى يومنا هذا.
•••
لقد ترتب على التباين الجذري بين نهضتنا ونهضتهم عدةُ إشكالات حضارية وقومية وطبقية وأيديولوجية. على الصعيد الاقتصادي لم يكن مطلوبًا منا، ولم نكن نستطيع، أن نبدأ من حيث بدءوا، من الكشوف العلمية، أي مخترعات الانقلاب الصناعي، إلى تكوين السوق البرجوازية. وإنما كان مطلوبًا الاستنارة بمناهج العلم التي استخلصتها الكشوف، وكان مطلوبًا استيراد التكنولوجيا الموازية لدرجة تقدمنا الاجتماعي (السكك الحديدية – المطبعة … إلخ)، وكان مطلوبًا الانسلاخ عما يسمى العالم الإسلامي؛ والمقصود هو الإمبراطورية العثمانية، وكان مطلوبًا ترسيخ الانتماء القومي البديل عن الخلافة، أي إلى الوطن العربي، وكان مطلوبًا تشجيع «سوقنا» البازغة الضعيفة وحمايتها من أنياب الاحتكارات القادمة.
لذلك كانت القيمة التاريخية العظمى — والباقية — للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، أنه قد جسَّد في شخصه المفرد، بسيرة حياته وسيرة فكره على السواء، البشارةَ الأولى للنهضة البرجوازية في تاريخنا الحديث. وعلينا أن نفرق بوضوح وحسمٍ بين النبي والممثل، فالنبي لا يبشر بشيء قائم، وإنما بشيء غير موجود، وإن كانت الحاجة تدعو إليه، إنه يدعو إلى ما «ينبغي» أن يكون. أما الممثل فهو يجسد ما هو كائن لهذه الدرجة أو تلك في هذه المرحلة أو غيرها. وقد كان رفاعة الطهطاوي «رائدًا» للفكر المصري — البرجوازي — الحديث بهذا المعنى. لم تكن البرجوازية المصرية قد تكونت، ولكنها بالقطع كانت في مرحلة النشوء. لم يكن يمثل الفكر القديم ولا الفكر السائد، ولكنه كان ينتمي إلى المستقبل المتجرثم في أحشاء الحاضر. لم يكن يمثل شريحة دون غيرها من شرائح البرجوازية، ولكنه كان يجسد طموحات عالم جديد هو العالم البرجوازي المتقدم كمًّا ونوعًا عن العالم التركي والعالم المملوكي. كان يجسد «جوهر» النهضة القائمة على استحداث الدولة العصرية، أي البرجوازية. كان يلبي فكريًّا الاحتياجات الموضوعية لمصر، وقد كانت في مجملها احتياجات الثورة الوطنية الديموقراطية. كانت نهضة مصر في ذلك الوقت تعني نهضة البرجوازية، كان المعنيان متطابقَين، حتى ولو دون وعي من جانب الداعين إلى النهضة المرتادين آفاقها.
ما هي نبوءة الطهطاوي بشيء قليل من التفصيل؟
-
في الباب الرابع – الفصل الثالث من «مناهج الألباب»٨ يقول ما نصه: «لو لم يكن للمرحوم محمد علي من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية، بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المدد المديدة والسنين العديدة، لكفاه ذلك؛ فلقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد، وآنسها بوصال أنباء الممالك الأخرى والبلاد، لينشر المنافع العمومية، واكتساب السبق في ميدان التقدمية.» وكان قبل ذلك بقليل — في الباب الثالث، الفصل الثالث — قال: «… فمخالطة الأغراب، لا سيَّما إذا كانوا من أُولي الألباب تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجبَ العجاب.» وتلك هي الإشارة الأولى إلى حتمية التفاعل الحضاري بين المتخلفين والمتقدمين. وتلك أيضًا هي الضربة الأولى للفكر السلفي القائل بأن «الأفكار المستوردة» من المحرمات وأنها ضد «الأصالة». ومن المفيد التذكير هنا بأن كلمة «التقدمية» الواردة في النص، ربما كانت — على صعيد اللغة — تُستخدم بهذا المعنى للمرة الأولى، فضلًا عن الدلالة الفكرية والاجتماعية لهذا الاشتقاق.
-
في خاتمة الفصل الثاني من «مناهج الألباب» يقول: إن محمد علي «قد جدد دروس العلوم بعد اندراسها … غير أنه لم يستطع، إلى الآن، أن يعمم أنوار هذه المعارف بالجامع الأزهر … ولم يجذب طلابه إلى تكميل عقولهم بالعلوم الحِكمية التي كبير نفعها في الوطن ليس يُنكَر. سلوك جادة الرشاد والإصابة منوط، بعد ولي الأمر، بهذه العصابة، التي ينبغي أن تضيف إلى ما يجب عليها من نشر السنة الشريفة، ورفع أعلام الشريعة المنيفة، معرفةَ سائر المعارف البشرية المدنية، التي لها مدخل في تقدم الوطنية.» وهي الدعوة التي لم تتحقق إلا بعد حوالَي قرن من الزمان على يدَي جمال عبد الناصر الذي أدخل العلوم العصرية إلى رحاب الأزهر (١٩٦١م).
-
في المقالة الثالثة – الفصل الثاني من كتاب «تخليص الإبريز»٩ يقول: «من جملة ما يُعِين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولةُ لغتهم وسائرِ ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلُّمها أن يطالع أي كتاب كان … فإذا شرع الإنسان في مطالعة أي علم كان، تفرَّغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ، فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم … بخلاف اللغة العربية مثلًا، فإن الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة ويدقق الألفاظ ما أمكن، ويحمِّل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها.» وهو بذلك يضع كلتا يديه مبكرًا على إحدى العلل الخطيرة الموروثة من عصور التخلف، إنها أداة المعرفة، أداة الحوار، فالمعرفة العلمية الحديثة ليست مونولوجًا صوفيًّا، بل هي حوار بين الذات والموضوع. لذلك كانت «اللغة» من البنود الرئيسية في جدول أعمال النهضة.
-
وفي ذات السياق من المصدر نفسه يستطرد: إن أهل باريس «ليسوا أُسَراء التقليد أصلًا، بل يحبون معرفة أصل الشيء، والاستدلال عليه»، «حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة.» هكذا يضع الوعي — بغياب الأمية — عاملًا جوهريًّا في ربط الفرد بالمجتمع، بقضاياه العامة. إنها المقدمة الأولى لتكوين ما يسمى «الرأي العام»، المقدمة الأولى للديموقراطية. ويكمل أن: «سائر العلوم والفنون والصنائع مدونة في الكتب، حتى الصنائع الدنيئة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلى معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن يجب أن يبتدع في فنه شيئًا لم يُسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره.» وهذا هو معنى «التطور» الذي يؤدي إلى التقدم.
-
في المقالة الثالثة – الفصل الثالث عشر من المصدر السابق ينتقل بنا إلى السياسة فيقول: «لا تطول عندهم ولايةُ ملِك جبار، أو وزير اشتهر بينهم أنه تعدَّى مرةً وجار» والوزير «إذا مشى في الطريق لا تعرفه عن غيره، فإنه يقلل من أتباعه ما أمكنه، داخل داره وخارجها … فانظر الفرق بين باريس ومصر، حيث إن العسكريَّ بمصر له عدة خدم.» ويجنح الطهطاوي إلى المقارنة بين الزينة عندنا والفن عندهم، بين الابتذال عندنا والرقص عندهم، بين التهريج عندنا والمسرح عندهم. ويعود إلى السياسة مؤكدًا أن «أحكامهم القانونية ليست مستنبطة من الكتب السماوية» ولكن دستورهم فيه أمور «لا ينكر ذوو العقل أنها من باب العدل، فلقد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وانقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمَرت بلادُهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم، والعدل أساس العمران.» يقصد «الحضارة» باللغة الحديثة، وكان ابن خلدون أول من استخدم تعبير «العمران» في مقدمته الشهيرة.
-
ويترجم الطهطاوي الدستور الفرنسي١٠ ضمن كتاب «تخليص الإبريز» ويعلق عليه: إن «سائر الفرنسيين مستوون قدَّام الشريعة» وإن «سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع، لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوة الشرعية تقام على الملِك ويُنفَّذ عليه الحكم كغيره»، «وهي من الأدلة الواضحة على وصول الشرع عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحاضرة، وما يسمونه الحرية … وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المُحكَّمة والمعتبَرة.» و«الملِك إنما هو منفذ للأحكام، على طِبق ما فيها من قوانين، فكأنه عبارة عن آلة.» وفي المقالة الخامسة – الفصل الأول من «تخليص الإبريز» يقول حرفيًّا: «المَلَكية أكثرهم من القُسوس وأتباعهم، وأكثر الحُرِّيِّين من الفلاسفة والعلماء والحكماء وأغلب الرعية.»
•••
إذا لم ننسَ أن صاحب هذه «المقدمات» هو «الشيخ» رفاعة إمام البعثة المصرية في باريس، وأنه مُوفد «ولي الأمر» محمد علي، فسوف نقترب حثيثًا من جوهر الفكر الذي حمل مِشعله الثوري في فجر النهضة، وهو الانتقال بالسلطة من الحق الإلهي إلى العَقد الاجتماعي، والانتقال بالدولة من الثيوقراطية إلى الديموقراطية، والانتقال بالشرعية من الأوتوقراطية إلى «حقوق الإنسان». وهي العناوين العريضة التي يمكن لجمال الدين «الأفغاني» — أم الإيراني؟ — أن يتجه بها ناحية أخرى، كما يمكن لعبد الرحمن الكواكبي أن يتجذر بها إلى عمق «الاستبداد»، والتي يمكن لخير الدين في تونس أن يبشر بها على نحو مختلف. إنه إذن العالم الإسلامي — أو الشرق — ينتفض، وإنه العالم العربي يتفجر، ولكن الطهطاوي يبقى «رسولًا» لفجر نهضتنا التي تنعطف به من العناوين إلى تفاصيل الفكر البرجوازي الحديث.
•••
(٢) «… لم يحصر جهوده في نطاق الفكر الذي تتميز به حركة المثقفين بالمعنى الخاص والضيق، وإنما كان مثقفًا فهم الثقافة بمعناها العام، وقدم لشعبه وأمته زادًا ثقافيًّا يغطي احتياجات هذه الأمة، تقريبًا، في عملية التطوير والتغيير الجارية لمختلِف جوانب الحياة … حياة الأمة بطبقاتها وفئاتها، لا حياة المثقفين فقط من أبنائها.»
بهذه الكلمات يقدم الباحث المصري محمد عمارة لمجموعة أعمال رفاعة الطهطاوي الكاملة. وفي ظني أنه كاد يضع يديه على مكانة رفاعة التاريخية حين قال: إنه لم يكن يتوجه إلى المثقفين وحدهم بل إلى مجموع الشعب. كاد يضع يديه؛ لأنه لم يستخلص، في نهاية الأمر، أن الطهطاوي لم يكن يمثل طبقة قائمة أو إحدى شرائحها، وإنما كان يجسد «مطلق» الفكر البرجوازي الذي من شأنه أن يحوِّل مجتمع محمد علي — مجتمع ينشد الانفلات من التخلف المملوكي — إلى مرحلة أرقى هي المرحلة البرجوازية. إن كلمات عمارة توحي بأن اهتمامات رفاعة وأسلوبه كانا لفائدة «الجميع»، ولكن الحقيقة هي أن هذه الفائدة للثقافة العامة، أو «الوعي» كما أحب أن أسميَه، هو انعكاس لما هو أعمق، هو انعكاس لمكان رفاعة الطهطاوي من فكرنا الحديث. إنه المكان الذي لا يبرر مصلحة إحدى الطبقات — فالبرجوازية نفسها لم تكن قد تكونت بعد كطبقة — وإنما هو كان يبشر بمولد مجتمع جديد، مصر جديدة (لم يفكر قط ما إذا كانت ستُدعَى في المستقبل بمصر البرجوازية مثلًا). وقد كان التناقض الحاد بين هيكل المجتمع القديم والعَلاقات الاجتماعية الجديدة التي تصوغ عملية التقدم، هي مصدر «نوعية» فكر الطهطاوي الذي يبشر بما هو قادم ولا ينظر لما هو قائم. لذلك كان تجسيدًا لمطلق الفكر البرجوازي، ولذلك أيضًا كان تعبيرًا ملحًّا عن ضرورة تقدم مصر ككل.
لا بد أن الطهطاوي قد وعى جيدًا هذه الكلمات، بالإضافة إلى ما سمع من أستاذه الشيخ حسن العطار، حتى أصبحت أوروبا أو الحضارة «الغربية» الحديثة ضرورة حياة في مواجهة الموت الشامل الذي «يحيا» في ظلاله الشرق كله. ولا بد أن الطهطاوي حين وعى هذه الضرورة واجه فورًا المشكلات التي نجمت عنها. إن بلاده لم تكن قد احتُلت بعدُ من جانب الغرب، ولكنها مهددة بذلك، لا بسبب «تطور» حضارتها إلى مرحلة الفتوحات فحسب، ولا بسبب الموقع الاستراتيجي لمصر فقط، وإنما بسبب الاستقلال الذي آثره محمد علي، والإصلاحات التي قام بها. وإذن فقد كان على الطهطاوي أن يحذَر الوجه الدميم، ويُقبل على الوجه الجميل لحضارة واحدة، فهل يأخذها كلَّها كما هي، أم يأخذ منها بعض ما فيها ويرفض البعض الآخر؟ وماذا حين يتناقض ما يستحق الأخذَ مع الراسخ الثابت في ضمائر الناس ووجداناتهم وعقولهم؟
لقد عاد إلى مصر فأسس «مدرسة الترجمة» التي دُعيت فيما بعد بمدرسة الألسن عام ١٨٣٥م، وقد تحولت مع الزمن إلى «جامعة» بالمعنى الحديث، إذ اشتملت على أقسام لمختلِف العلوم والآداب. ثم أسس عام ١٨٤١م ما سماه بقلم الترجمة، وهو يشبه المجمع العلمي لترجمة الرياضيات والعلوم الطبية والطبيعية والاجتماعية.
كانت «الترجمة» في وعي الطهطاوي الأداة الأولى لمعرفة ما وقع في الدنيا حين كانت بلاده خارجها. ومن ناحية أخرى اهتم بالآثار القديمة والوسيطة لمصر، ويقول في خاتمة «تخليص الإبريز»: «حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن والتعلم على منوال بلاد أوروبا، فهي أولى وأحق بما تركه لها سلفها.» فإذا كانت الترجمة هي أداته لمعرفة «العالم» — أو موضوع الحضارة الحديثة — فقد كان تاريخ مصر هو أداته لمعرفة «الذات». وكانت الأداة الثالثة هي «الصحافة»، فقد كان الطهطاوي أول من أسس الصحيفة المصرية الحديثة حين أشرف على «الوقائع المصرية» التي أسسها محمد علي عام ۱۸۲۸م، وقد تولى الطهطاوي رئاسة تحريرها في ١١ يناير (كانون الثاني) ١٨٤٢م في عهد إبراهيم باشا، فأصبحت تصدر بالعربية في مواعيد منتظمة و«الأخبار المصرية» مادتها الأساسية ولها مراسلون ومحررون ثابتون. كما أنه كان أول من أصدر مَجلة ثقافية بالمعنى الحديث هي «روضة المدارس» التي ظهرت عام ۱۸۷۰م.
تلك كانت «أدوات» الطهطاوي التي تشير إلى جملة أشياء، أهمها أنه لم يكن يتصور نفسه كفرد قادرًا على إنجاز العبء، وأن المعرفة لم تكن تعني له بالتالي ترفًا شخصيًّا ومتعة ذهنية خالصة، وإنما كانت عملًا ورسالة. وأنه من حيث الشكل ارتبط عمله كما ارتبطت رسالته بعنصرين هما: «الموسوعية» في التفكير، واختبار النظرية بالتطبيق. أي إن تعدد اهتماماته لم يكن ابتعادًا عن «الاختصاص»، وإنما كان تصورًا استراتيجيًّا — إن جاز التعبير — لاحتياجات التطور. وهو في ذلك أشبه ما يكون بالموسوعيين في القرن الثامن عشر الأوروبي. كذلك كان ربطه النظريةَ بالتطبيق، «فقد عمل بنفسه هو وتلامذته في المجالات التي تصدى لدعوة تغييرها»، لم يكن ذلك نتيجة رغبة في امتحان مجرد لمعلومات ذهنية، وإنما كان ثمرة فهمه العميق والباكر لقضية الأصالة والمعاصرة. كانت الاحتياجات الموضوعية للواقع المتخلف — وحدها — هي التي تقوده إلى هذه الجزئية دون تلك من جزئيات «النظرية الحضارية»، أي إنه كان يربط جدليًّا بين العام والخاص في إطار «الواقع الحي» لا في إطار الجدل النظري للمعرفة فحسب.
ماذا ترجم — مثلًا — الطهطاوي، وماذا ألَّف؟
-
ألَّف «تخليص الإبريز» ليعرض الرحلة الباريسية، و«مناهج الألباب» ليعرض رؤياه الاجتماعية، و«المرشد الأمين» ليعرض أفكاره التربوية، و«أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر» ليعرض فلسفته التاريخية، و«القول السديد في الاجتهاد والتجديد» ليعرض معنى الاجتهاد في الإسلام، و«التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية» ليعرض مهام اللغة العصرية، والعديد من القصائد الوطنية المصرية.
-
ترجم تاريخ قدماء المصريين، والقانون المدني الفرنسي، ووثيقة حقوق الإنسان، وكتاب قدماء الفلاسفة من الإغريق، ومبادئ الهندسة والمنطق، والمعادن، والجغرافيا، و«رُوح القوانين»، و«تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم» لمونتسكيو، و«العَقد الاجتماعي» لروسو. كما ترجم الدستور الفرنسي، ونبذة عن الإسكندر الأكبر، وسيرة بطرس الأكبر، وشارل الثاني عشر، والإمبراطور شارل الخامس، ونبذة في الميثولوجيا، وأخرى في الصحة العامة، وغيرها كثير.
ما هي المحاور الفكرية الرئيسية التي تشكل «الإيقاع الموحد» في فكر الطهطاوي، تأليفًا وترجمة؟ إننا نستطيع إجمالها — باستشهادات نصية — فيما يلي:
- أولًا: على صعيد اللغة، كان الطهطاوي يعاني بمشقة بالغة من مهمة التوفيق بين السجع الكلاسيكي والنثر المتدفق، ولم يكن يأنف من استخدام العامية حين يُعوِزه ذلك؛ ذلك أنه «اختط لنفسه ولمدرسته في القاموس اللغوي خطة تقوم على استعمال اللفظ العربي الفصيح، فإن لم يوجد فاللفظ الدارج فإن ضاق الاثنان، فاللفظ الأجنبي معرَّبًا» كما يقول محمد خلف الله أحمد.١٢ بل كان يشجع استخدام العامية حتى يفهم أغلب الشعب، كما كان يشجع تعريب اللفظ الأجنبي حتى تدخل سياق الحضارة التي «اخترعوها كما اخترعوا لها الألفاظ».
- ثانيًا: موقفه من الحضارة الحديثة يقوم على مبدأ «والحق أحق أن يُتبع» كما يقول في خطبة «تخليص الإبريز». وما دام «كمال ذلك» في الغرب — أي الحضارة — «أمرًا ثابتًا». غير أن ارتباط النظرية بالتطبيق دفعه لأن يرى المدنية المعاصرة برؤية نقدية لا برؤية نقلية.
- ثالثًا: إيمانه بالعقل مستمَد من الإيمان بالله الذي أعطى الإنسان هذا العقل ليفكر به ويعمل على هديه، لا وَفق مسلَّمات قديمة وبديهيات سابقة. لذلك فهو يرى الخرافات والأساطير تجسد طفولة الذهن البشري من ناحية، كما أنها «تفيد» في ضرب الأمثولة لتقريب المراد من الأذهان، وخاصة في تربية الناشئة. ولكن العقل هو الفيصل في الرؤية والتحليل والتقويم والتركيب، في العلوم النظرية والعلوم التطبيقية على السواء.١٣
- رابعًا: إيمانه بالتاريخ كسلسلة متصلة من الحلقات لا سبيل إلى تفسيرها بالتاريخ الشخصي للملوك والقادة العظام، وإنما بما تم إنجازه في «رفاهية الناس والعمران.»
- خامسًا: الوطنية أو الملة «في عرف السياسة كالجنس: جماعة الناس الساكنة في بلدة واحدة، تتكلم بلسان واحد، وأخلاقها واحدة، وعوائدها متحدة، ومنقادة غالبًا لأحكام واحدة ودولة واحدة. وتسمى الأهالي والرعية والجنس، وأبناء الوطن» كما جاء في الفصل الثالث – الباب الرابع – من «المرشد الأمين».١٤
- سادسًا: حرية العقيدة الدينية هي العمود الفقري للوحدة الوطنية، فإن «الملوك إذا تعصبوا لدينهم وتداخلوا في قضايا الأديان، وأرادوا قلب عقائد رعاياهم المخالفين لهم، فإنما يحملون رعاياهم على النفاق، ويستعبدون من يُكرهونهم، على تبديل عقيدته، وينزعون الحرية منه، فلا يوافق الباطنُ الظاهرَ، فمحض تعصب الإنسان لدينه لإضرار غيره لا يُعَد إلا مجرد حميَّة» كما جاء في خاتمة الفصل الثاني من «مناهج الألباب».
- سابعًا: مصر في وجدان الطهطاوي وعقله هي «الوطن» الذي يقصده ويهدف إلى تغييره، ولها في قلبه ما يشبه الوقدة الصوفية، ولعله في ذلك إمام القائلين بالفكرة المصرية. إنه يراها في خطبة «أنوار توفيق الجليل» البلد الوحيد المفتوح على تاريخ العالم «تاريخها جامع لسائر الممالك والملوك.» ولا يشير بحرف إلى أن هذا «الانفتاح» تم أحيانًا رغمًا عنها، بالغزوات المتتالية. ويضيف في تمهيد المصدر السابق أنها البلد الوحيد الذي انتصر على الغزاة. وليس هذا صحيحًا، ولكنها «أنشودة» أكثر منها تاريخًا. ويضيف: إن «الزراعة» هي التي رشحت مصر للسبق الحضاري القديم. وينسى طبعًا أن الزراعة لم تكن مقصورة عليها وحدها. ثم يضع الأساس المكين لمن جاءوا بعده فيقول: إن نظام الري والدولة المركزية هي التي أتاحت لمصر ريادة التنظيم والتمدن. وينسى بالضرورة أن ذلك أيضًا أورث الطغيان والدكتاتورية. وهو يرى مصر «الأفريقية» سواء في كلامه عن التوءم «السودان» أو عن بقية أفريقيا التي يمكن أن تصبح «ولايات» كما هو الحال في «أمريكا»، ولايات مركزها مصر (الفصل الثالث، الباب الخامس، مناهج الألباب). وتتحرك بين ضلوعه فكرة البعث قائلًا: «… فلا بأس إذا ضعف نور التمدن في مملكة من أن تعود إلى رتبتها الأولى» كما جاء حرفيًّا في الفصل التاسع – الباب الثالث – من «المرشد الأمين». ويبحث عن الجذور بحثًا يكاد يكون عِرقيًّا، فيقول: «لا يبعد على مصر في هذا العصر أن تستجلب السعادة … لأن بنية أجسام أهل هذه الأزمان هي عين بنية أهل الزمان الذي مضى وفات، والقرائح واحدة، ووسائل هذا العصر الأخير متسعة ومتنوعة» (الفصل الثاني، الباب الثالث، مناهج الألباب).
- ثامنًا: كان الطهطاوي أول من دعا إلى ما نسميه الآن بالفصل بين السلطات، فيقول: إن هناك قوتين، أولاهما محكومة، والثانية حاكمة. القوة المحكومة هي الشعب، ولا بد أن تكون «محرِزة لكمال الحرية، متمتعة بالمنافع العمومية فيما يحتاج إليه الإنسان في معاشه ووجود كسبه، وتحصيل سعادته.» أما القوة الحاكمة فتشتمل عند الطهطاوي على ثلاثة أشعة قوية هي قوة تقنين القوانين وتنظيمها (أي ما يسمى بالسلطة التشريعية) وقوة القضاء وفصل الحكم (أي السلطة القضائية)، وقوة التنفيذ للأحكام بعد حكم القضاء بها (أي السلطة التنفيذية). ويرى الطهطاوي أن هذه القوى الثلاث ترجع في النهاية إلى «القوة المملوكية» — أي الحاكم — ولكنها «مشروطة بالقوانين» كما قال في خاتمة الفصل الأول من «مناهج الألباب». وللتشريع عند الطهطاوي مصدران: أولهما التراث الإسلامي بعد تطويره، أو بتعبيره هو: «بتوقيفه على الوقت والحال»، والمصدر الثاني هو التشريع الأوروبي (ويقصد الفرنسي بالذات) الذي نقل عنه الدستور وبعض القوانين، كما نقل حوله اجتهادات مونتسكيو وروسو. وهو يكاد ينتهي إلى الشعار الليبرالي القائل بأن الملك يملك ولا يحكم، فيقول: إن الملك «لرعاية الرعية وجعله ملِكًا عليهم لا مالكًا لهم، ولا راعيًا لهم، يعني ضَمِنًا لحسن غذائهم، حسًّا ومعنًى، لا آكلًا لهم.» كما استطرد في المصدر السابق مباشرة: والمطلوب من الملِك أو الحاكم إذن «أن يعينهم — أي الرعية — على ذلك بالحصول على كمال الحرية»، ولا بد في هذا الصدد من «استشارة» الأمة «في حقائق التراتيب والتنظيمات التي يراد تجديدها»، «فإن مَن مَلَك أحرارًا طائعين كان خيرًا ممن مَلَك عبيدًا مُروَّعين» (مناهج الألباب، خاتمة الفصل الرابع، وكذلك الباب الخامس).
- تاسعًا: ما هي الحضارة — أو العمران — التي كثيرًا ما يصفها الطهطاوي بالتمدن اللازم؟ يجيب بأن «تمدن الوطن عبارة عن تحصيل ما يلزم لأهل العمران من الأدوات اللازمة لتحسين أحوالهم حسًّا ومعنًى»، وهو أيضًا ما نسميه الآن في لغتنا بسيادة القانون «… ومن حقوق الحرية الأهلية ألَّا يُجبَر الإنسان أن يُنفى من بلده، أو يعاقَب فيها إلا بحكم شرعي أو سياسي مطابق لأصول مملكته وألا يُضيَّق عليه في التصرف في ماله كما يشاء، ولا يُحجر عليه إلا بأحكام بلده، وألا يُكتم رأيه في شيءٍ شرطَ ألا يُخلَّ بما يقوله أو يكتبه بقوانين بلده» كما جاء في الفصل الخامس – الباب الرابع من «المرشد الأمين». وبعد ذلك هو يفصِّل القول في الحريات، إنها الحرية الطبيعية كالأكل والشرب والمشي، والحرية السلوكية التي لا تؤذي الآخرين، والحرية الدينية، والحرية المدنية، والحرية السياسية. ويكاد يجمعها في المعنى الليبرالي العام للحريات الديموقراطية حين يضع أساسها الاجتماعي هكذا: «إن أعظم حرية في المملكة المتمدنة: حرية الفلاحة والتجارة والصناعة، فالترخيص فيها — أي الإباحة والإطلاق — من أصول فن الإدارة المَلكية، فقد ثبت بالأدلة والبراهين أن هذه الحرية من أعظم المنافع العمومية، وأن النفوس مائلة إليها من القرون السالفة التي تقدم فيها التمدن إلى هذا العصر.» وهكذا فإنه بعد أن وضع الإطار العام للفكر البرجوازي «حرية – إخاء – مساواة» فإنه يضع حدود اللوحة الاقتصادية الليبرالية «دعه يعمل، دعه يمر». وكما أنه يركز على حرية الفرد وحرية الوطن فإنه «من محاسن حرية الأمة أنها تفرح أيضًا بحرية غيرها من الأمم، وتتأذى من استعباد أمم الممالك الذين لا حرية لهم» (الفصل السادس، الباب الرابع، المصدر السابق).
- عاشرًا: ينطلق الفكر الاجتماعي للطهطاوي من مقولته: «وأما التسوية بين أهالي الجمعية — المجتمع — فهي صفة طبيعية في الإنسان، تجعله في جميع الحقوق البلدية كإخوانه.» أي الحرية الفردية على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دون تفرقة بسبب الدين أو اللون أو الجنس. ولذلك كانت دعوته الباكرة — قبل قاسم أمين (١٨٦٥–۱۹۰۸م) — إلى حرية المرأة التي ركز عليها في كتابه «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين» الذي صدر في عام وفاته ۱۸۷۳م يدعوها للتعليم وللعمل، من أجل إنماء ملكاتها وإنماء الثورة الوطنية معًا، ويرفض أن تكون مجرد «أنثى»، بل هي كائن «إنساني» له كافة الحقوق التي للرجل. وهنا يفسر «الشرع» تفسيرًا يأخذ بالحدود التي تكاد تحرم الطلاق وتعدد الزوجات. ويجعل «الحب» أساسًا وحيدًا للزواج فيقول: «من أحسن الإحسان إلى البنات تزويجهن إلى من هوينه وأحببنه» (الفصل الثالث، الباب السابع، المرشد الأمين).
•••
هذه هي المحاور الرئيسية لفكر رفاعة الطهطاوي، وبتصنيفها نستطيع القول من جديد: إنه كان نبي الفكر البرجوازي بشكل عام ورائد عصر النهضة بشكل خاص. ولقد كان مثيرًا للدهشة والاستغراب أن يتجاهل هذه «البداية» الخطيرة معظم الذين كتبوا عن نهضتنا الأولى من الأجانب باستثناء جاك بيرك، رغم أن مجمل أعماله لا تتصدى بشكل مباشر وتفصيلي لفجر النهضة؛ فقد خلت من ذكره خُلُوًّا تامًّا مؤلفاتُ الألماني بروكلمان «تاريخ الشعوب الإسلامية»، وتيودور روتشتين «تاريخ المسألة المصرية»، وفلاديمير لوتسكي «تاريخ الأقطار العربية الحديث»، وناداف صفران «مصر تسعى إلى تكوين جماعة سياسية». وحتى الدكاترة فيليب حتي وإدوارد جورجي وجبرائيل جبور في الجزء الثالث من كتابهم المشترك «تاريخ العرب» لا يأتون على ذكر الطهطاوي بكلمة واحدة. فما هو السبب؟ مجرد سؤال.
هذا هو السؤال الذي تباينت صيغته بعد الطهطاوي، وتباعدت — من ثم — صور الجواب.
•••
(٣) لا بد لنا من التأكيد على أن الطهطاوي قد عاصر ثورة ۱۸۳۰م في باريس وعايشها عن قرب، ورغم ذلك فإن فكرة «الثورة» كأداة للتغيير لم تخطر على باله قط، بل إنه اكتفى بالحُلم، وكان يظن أن محمد علي قادر على تحقيقه، ألم يرسل هو البعثة إلى فرنسا؟ لعل هذا يؤكد من ناحيةٍ أنه لم يكن رسولًا لطبقة كائنة، وإنما بشير بطبقة ستكون، بل لعل فكرة «الطبقة» ذاتها لم تخطر له على بال، كانت «مصر» هي التي تتراءى له في اليقظة والمنام. غير أنه إذا لم يكن قد فكر في «الثورة» التي لا يتصور ثورة منع ضد من، فإن هذا لا ينفي عن تفكيره برنامج «الثورة الوطنية الديموقراطية». كذلك فإنه إذا لم يكن قد فكر في «البرجوازية» كطبقة اجتماعية، فإن هذا لا ينفي عن تفكيره الرؤيا البرجوازية. ولأن الطهطاوي كان حالمًا عظيمًا يرتبط خياله ببقاء محمد علي في الحكم لا بوجودٍ اجتماعي لإحدى الطبقات، فإن فكره — إلى جانب خلوه من مسألة الثورة — قد جاء بالغ التعميم حتى أصبح من الجائز القول إنه رسول النهضة بشكل عام، ونهضة مصر بشكل عام أيضًا. وهو الشكل الذي يسمح لتلامذته، وقد عاشوا عصرًا أكثر تحديدًا وخصوصية على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، أن يتخرجوا على يديه حقًّا، ولكن المسارب تختلف بهم هنا وهناك حسب انتماءاتهم الطبقية المتنوعة تنوع الشرائح والفئات التي صاغت العصر الجديد. يظل الطهطاوي هو «الأصل»، ولكن الفروع تتباين اتجاهاتها تباين «المصالح» التي يعبرون عنها. لقد أثرت ثورة ۱۸۳۰م الفرنسية في الطهطاوي تأثيرًا «فكريًّا» — وهو العام الذي أصدر خلاله في مصر كتابه تخليص الإبريز — ولكنها لم تصنع منه «مناضلًا» سياسيًّا.
ولا بد — ثانية — من التأكيد على أن الطهطاوي قد بهرته «ثورة المواصلات» الحديثة حينذاك، ولكن تأثيرها فيه لم يكن تكنولوجيًّا، بل كان هو الآخر تأثيرًا فكريًّا، لذلك تبلورت قضية «التقدم» لديه بمعناها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لا بمعناها التكنولوجي فقط. أي إن «رُوح الحضارة» قد جذبته لا «جسدها» وحده. لذلك كان تصور الطهطاوي أبعد ما يكون عن «استهلاك الحضارة» بالاستفادة المقصورة على وجهها المادي، وإنما هو قد بنى هذا التصور على أساس تمثل الحضارة والمشاركة في إنتاجها بالاستفادة من وجهها الفكري.
ولكن الملاحظة الجوهرية على خلاصة الطهطاوي أنها انتهت إلى صيغة «ثنائية» — إن جاز التعبير — عما ندعوه في وقتنا الحاضر بالتوفيقية. وهي الصيغة التي تجمع في مركَّب واحد بين «الإسلام الصحيح» و«الحضارة الحديثة». ومن المهم للغاية أن نركز على «شعور» الطهطاوي، وهو يخلق هذا المزيج؛ لأن هذا الشعور هو الذي يفرق لنا بين ما نعنيه بالتوفيقية — أو الثنائية — والتلفيقية المعاصرة. إن الطهطاوي لم يشعر مطلقًا بالتناقض أو التعارض بين الإسلام وحضارة الغرب، بل راح يشير مرارًا إلى أن ازدهار الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي كان ازدهارًا علميًّا ومتمدنًا ومنفتحًا على الحضارات الأخرى. ومن ناحية ثانية ظل يشير تَكرارا إلى أن نهضة الغرب قامت من إحدى الزوايا على تمثُّلِ واستيعاب التراث العربي الإسلامي والإضافة إليه، وبالتالي أصبح لنا حق تاريخي في الحوار مع النهضة الأوروبية وحضارتها الجديدة.
والمهم أن واقع الإسلام السني — المغاير كليًّا لوضع المسيحية في الغرب قبيل شروق فجر النهضة — لم يؤد إلى «نقده» بل إلى تجديده فيما دُعي بحركة الإصلاح الديني بعد الطهطاوي (أسسها جمال الدين «الأفغاني»، والإمام محمد عبده). ولكن هذا الواقع ثنائي النظرة هو الذي تدخل بشكل حاسم في صياغة الرؤية الثنائية للطهطاوي ذاته. وهي الفكرة التي تكاد تشارف حدود المبدأ القائل بفصل الدين عن الدولة، لأنها في الأقل أبعد ما تكون عن مبدأ الدولة الدينية. ذلك أن «العلمانية» و«الديموقراطية» — إلى هذه الدرجة أو تلك — كانتا النبع الأول للمجرى الأصلي (أعني الطهطاوي)، فقد تركت حلقاتُ التاريخ القديم والوسيط والغزوات الاستعمارية بدءًا من الحروب الصليبية والتعديلات الجغرافية، بصماتها على الخريطة الديموغرافية العربية، بالحضور المستمر للأديان الرئيسية الثلاثة ومذاهبها المختلفة وبعض الأقليات القومية. والسؤال هو: كيف يصبح التنوع مصدرًا للثراء الإنساني، أو مصدرًا لدعم الطائفية والعشائرية؟ على أية حال فقد كان جواب الطهطاوي هو «النهضة الحضارية» التي تترجم برنامج «الثورة الوطنية الديموقراطية» دون أن يكون في عصره احتلال مباشر للأرض، ودون أن تكون هناك طبقة برجوازية كاملة السمات. أما حين أصبح الاستعمار تهديدًا فغزوًا، وحين أخذت البرجوازية المصرية في النشوء، فإن حُلم الطهطاوي قد توزع في تاريخ الفكر المصري الحديث إلى عديد من التيارات التي لم تنفصل عن النبع الأصلي، ولكنها استقلت عن المجرى الرئيسي وَفقًا لاتجاهات «المصالح الوطنية والطبقية» المباشرة التي عبرت عنها. لقد مضى عهد «النبوة» وجاء دور الممثلين على خشبة المسرح الاجتماعي والسياسي.
وربما كان علي مبارك (۱۸۲۳–۱۸۹۳م) وحده هو القابل للاستثناء، فقد كان معاصرًا للطهطاوي من ناحية، وقد شابهه في التربية الدينية الأولى، وكتب رواية «عَلَم الدين» التي يصف فيها شيخًا أزهريًّا يتصل بمظاهر الحياة الأوروبية، خلال طوافه في أوروبا بصحبة مستشرق إنكليزي. كما أنه كتب «الخِطط التوفيقية» على هَدْي «خِطط المقريزي»، وأسس دار الكتب، ودار العلوم. إنه إذن يشبه الطهطاوي في هذه «الإنجازات» التي يسرت «طريق» النهضة، ولكن حرصه الشديد على «السلطة» — التي أرهقت الطهطاوي كثيرًا — باعد بينه وبين تأسيس رؤاه الفكرية.
•••
وبالرغم من أن الطهطاوي يظل الرمز الشامل لفجر النهضة، إلا أننا نتوقف طويلًا أمام الإشارة التي ذكرها ألبرت حوراني في كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة» (ص١٠٠) والتي قال فيها عن رفاعة: إنه «بعَث من جديد الفكرة التقليدية القائلة بشراكة الحاكم والعلماء، وفسر كلمة العلماء على ضوء ما قصده سان سيمون برهبنة العلماء.» إن هذه الإشارة الذكية تدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الطهطاوي قد تعرف في الأقل على تلامذة سان سيمون (١٧٦٠–١٨٢٥م) وأفكاره، أم أن ما يشير إليه حوراني محض مصادفة؟ فعلى كثرة استشهاد الطهطاوي وترجماته لم يذكر اسم سان سيمون على الإطلاق. ولكن الشيء المؤكد — وهنا المفارقة — أن مجموعة من السان سيمونيين قد وصلوا مصر وقابلوا محمد علي. ولكن من هو، أولًا، سان سيمون، ذلك الرجل الذي تُعَد أفكاره مع زميليه — المتناقضين معه — شارل فورييه وروبرت أوين من الإلهامات الأساسية للاشتراكية العلمية، رغم طوباوية اشتراكيتهم؟
إنه كونت فرنسي. وهذه هي المفاجأة الأولى، فقد خلع مختارًا رداء النبالة الأرستقراطية دون أن تضطره الثورة التي عاصرها إلى ذلك. تنازل إذن عن لقبه، وانتخبه الفلاحون رئيسًا لاتحادهم، ووجه نداء إلى الجمعية التأسيسية قال فيه: «إن المواطنين يجب أن يتساووا في الأعمال العامة والوظائف كل حسب قدراته.» وقد وقع سياسيًّا في مأزق الاختلاف مع نابليون حول فتوحاته، مما جعل ولاءه للثورة موضع الشك.
وكان مثقفًا، عارض التقاليد المثالية في الفلسفة الألمانية، وأقام في مواجهتها ما دعاه بالفلسفة الطبيعية، أي دراسة الطبيعة. واعتنق الحتمية وطبقها على المجتمع البشري قائلًا بأن التاريخ تحكمه قوانين. وقام تفسيره للتاريخ على ثلاثة أسس هي: رفض التفسيرات الرسمية، والقول بالسببية في تطور التاريخ، وإمكان دراسة الحاضر في ضوء الماضي وإمكان التنبؤ بالمستقبل في ضوء الحاضر. وآمن بتطور الأنظمة الاجتماعية على أساس العلم والأخلاق والدين، وقسم التاريخ البشري إلى ثلاث مراحل هي: المرحلة التي سيطر فيها الدين على النظامين العبودي والإقطاعي، والمرحلة الميتافيزيقية التي انتهت بسقوط النظامين السابقين، والمرحلة الوضعية هي مجتمع المستقبل القائم على العلم والصناعة والعمال والتجار ورجال البنوك، وهو مجتمع مخطط لمصلحة الغالبية من أعضاء المجتمع. وفي كتابه «إعادة تنظيم المجتمع الأوروبي» (١٨١٤م) يقول: «لا يمكن إحداث أي تغيير في النظام الاجتماعي دون أن يحدث تغير في نظام الملكية». ولكنه رغم ذلك لم يفكر في «الثورة» كأداة تغيير للمجتمع إلى مرحلة أرقى، بل آمن بانبثاق كل مرحلة من أحشاء الأخرى «بصورة طبيعية». آمن أيضًا بضرورة توصيل القارات عن طريق الممرات البحرية حتى يتقارب أطراف العالم، فقد أحس بأن العالم في سبيله إلى شق فجر جديد لإنسانية جديدة تقوم على العلم والصناعة، وقد حاول إقناع حاكم المِكسيك بشق ممر يصل البحر بالمحيط ولكنه أخفق. وأعاد المحاولة مع حكومة إسبانيا — الخاضعة آنذاك لحاكم المكسيك — لفتح قناة تصل مدريد بالبحر الأبيض المتوسط. وكادت محاولته تنجح، لولا أنه قبيل إبرام الاتفاق اضطر للعودة إلى وطنه، فقد نشبت الثورة الفرنسية. وفي كتابه «خطابات من أحد سكان جنيف إلى معاصريه» (۱۸۰۳م) يقول: «إن الحل الوحيد لتحقيق سعادة الإنسان هو القضاء على النظام الاجتماعي القديم، وأن يتولى العلماء والفنانون — المنتخبون — إدارة شئون العالم، ودعا مجلسهم باسم «مجلس نيوتن» نسبة إلى عالم الفيزياء البريطاني الذي قال عنه: «إن الله قد وضع نيوتن بجانبه وعهد إليه بمهمة تنظيم البشر.»
هذا هو سان سيمون الذي مات عام ۱۸۲٥م، والذي تبدو المقارنة بين بعض أفكاره وأفكار الطهطاوي ممكنة.
لماذا جاءوا إلى مصر في وقت دار فيه «الصراع الكبير» لضرب استقلالها الوليد عن الآستانة؟ ولماذا كان شق القناة هو المشروع الوحيد الذي ورثوه عن المعلم الأول؟ ولماذا مكثوا في مصر بعد أن رفض الوالي عرضهم؟ وكيف تسنى لدي ليسبس أن يسرق المشروع من أحدهم؟ كلها أسئلة تلقي ظلًّا من الغموض على هذه القصة الغريبة التي لم تنته ببضع لوحات أو تماثيل، وإنما انتهت فيما بعد إلى عديد من الاشتراكيات غير البعيدة عن فكر سان سيمون، حتى ولو استبعد ذلك أصحابها. لا بد أن «مشروعًا فكريًّا» كان يتوسد حقائب هذه المجموعة من تلاميذ «ثورة المواصلات».
… وانتهى عصر محمد علي، فهل انتهى معه عصر النهضة؟
•••
(٤) يتميز عصر النهضة في الوطن العربي عمومًا، وفي مصر على وجه الخصوص، بدرجات متفاوتة من «الانقطاع» ومعدلات مختلفة من «البطء». ولا يعني الانقطاع فقدان التواصل والاستمرارية، كما أن البطء لا يعني وَحدة الإيقاع في خطوات متباعدة؛ ذلك أن تقاليد الفجر الأول للنهضة ظلت سارية المفعول في كل مرحلة جديدة، تحمل في ثناياها التساؤلات الجوهرية التي طرحها الرواد، وأجوبة العصر الجديد عليها. ويعني ذلك أن هناك نوعًا من الاستمرار، ولكنه استمرار منقطع — إن جاز التعبير — عن الفجوات التي باعدت بين السياق السياسي للمجتمع، والتجسيدات الفكرية للنهوض الحضاري. كذلك، فإنه كان استمرارًا بطيئًا، لأن المرحلة الجديدة لم تكن تبدأ من حيث انتهت المرحلة السابقة عليها، وإنما كانت تطرح الأسئلة ذاتها، ولا يتقدم الجواب بقدر أكبر من التحليل والتركيب. وقد كان انهيار حكم محمد علي وإبراهيم باشا، وتولي عباس فسعيد وإسماعيل، ومضاعفات التحرش الغربي بمصر، واستماتة السلطنة العثمانية على الاحتفاظ بوادي النيل، مجمل الأسباب التي شكلت «فراغًا» مثيرًا للتأمل بين عصر الطهطاوي والثورة العرابية بأنبيائها الجدد. غير أن كلمة «الفراغ» هنا أقرب إلى التعبير المجازي، فثمة مجموعة من الجسور والمؤثرات التي رفدت عصر النهضة في مصر بالعديد من التيارات «الخارجية» سواء من الأقطار العربية في المشرق والمغرب أو من الديار الإسلامية القريبة والبعيدة.
ولم يكن جمال الدين كاتبًا، وإنما كان أقرب إلى الداعية الذي يلتف حوله المريدون فيكتبون ما يقول. والعناية بمختلِف مراحله وتحركاته واجبة، لأن ما كان يبشر به أو يدعو إليه في الهند مثلًا، كان يُطبع في بيروت، كرسالة «الرد على الدهريين»، وما كان ينشره في باريس كالرد على رينان أو ما تشتمل عليه مجلدات «العروة الوثقى» الثمانية عشر، كان يصل إلى مصر ويؤثر فيها.
على أن الذي يعنينا من جمال الدين في سياق النهضة العربية عامة — والمصرية خاصة — هو أنه كان الجسر الرئيسي فيما يمكن تسميته مجازًا بمرحلة «الفراغ» الواقعة بين عصر محمد علي والثورة العرابية، أو بين عصر الطهطاوي وعلي مبارك والسان سيمونيين، وعصر الإمام محمد عبده، وعبد الله النديم، والمويلحي، والكُتَّاب السوريين واللبنانيين الرواد.
ولم يكن الأفغاني في تلك الفترة ملحدًا بالمعنى الدقيق لهذا التعبير، وإنما هو كان أقرب إلى عقلانية الماديين الأوروبيين في القرن الثامن عشر، حتى إنه في «الرد على الدهريين» راح يركز على «ضرورة اعتقاد الألوهية لسعادة الإنسان» وكأنه يقول مع فولتير: «إذا لم يكن هناك إله لكان علينا أن نخلقه» بمعنى أن «الإيمان» ركيزة اجتماعية وعماد نفسي لا سبيل للاستغناء عنه. ومن هنا نستطيع أن نفسر حدَب الأفغاني على المفكرين والصحفيين السوريين واللبنانيين المقيمين بمصر حينذاك، كأديب إسحق، وسليم نقاش، وميخائيل عبد السيد، وسليم العنجوري، وشبلي شميل، حتى إنهم بفضله استطاعوا أن يؤسسوا جرائد «مصر» و«مصر الفتاة» و«مرآة الشرق» و«الوطن» التي مهدوا على صفحاتها للثورة العرابية. كما أنهم كانوا أكثر تحررًا في موضوعات الدين والمرأة من غيرهم. كان جمال الدين إذن يرى في الدين «مؤسسة» قادرة على زجر الإنسان وردعه، وهو تعريف أقرب إلى رؤية الفيلسوف العقلاني الإنكليزي هوبز في أواخر القرن السابع عشر، كما يذهب الدكتور لويس عوض.
غير أن جمال الدين الشهير بالازدواجية بين موقفه الفلسفي المتحرر من الأغلال الأسطورية للدين، وموقفه المحافظ في السياسة (ومحافظته نفسها مليئة بالتناقضات والغرائب، فهو حينًا ضد الإنكليز يقول بالوحدة القومية، وحينًا آخر مع الخلافة العثمانية يقول بالجامعة الإسلامية). المهم أن هذا (الازدواجي) اختار عام ۱۸۸۱م ليدافع نهائيًّا عن موقف سلفي بالغ التزمت في تفسير الإسلام، وشن حملته الضارية على تجديد الفكر الإسلامي بالفكر العلمي والحضاري الحديث. وهكذا وضع حدًّا لذبذبته المريرة بين تجديد الدين وثيوقراطية الدولة، بالانحياز المطلق إلى جمود الدين والدولة معًا. وهكذا أسدل الستار على محاولة رائدة لاتجاه يمكن تسميته بالهيومانيزم الإسلامي أو «المذهب الإنساني الإسلامي» على غرار الهيومانيزم المسيحي الذي كان من أبرز الداعين إليه أرازموس وتوماس مور؛ للانتقال بأوروبا من ظلام العصور الوسطى إلى ضياء عصر النهضة، مع اختلاف أساسي هو أن الإسلام يحتوي على بذور عقلانية واجتماعية أقل ميتافيزيقية من المسيحية، كما أن الإسلام لم يكن قد شيد «مؤسسة كهنوتية» متحالفة اقتصاديًّا مع الإقطاع.
كان جمال الدين في البداية يقول: «نجد في المجتمع البشري أن أوسع الروابط رابطان: وأحد هذين الرابطين هو نفس وحدة اللغة التي تتكون منها القومية والوحدة القومية. أما الرابط الثاني فهو الدين، وما من شك في أن وحدة اللغة أطول أمدًا للبقاء والاستمرار في هذا العالم من وحدة الدين، باعتبار أنها بالقياس إلى وحدة الدين لا تتغير في أمد قصير. فنحن نرى شعبًا واحدًا يتكلم لغة واحدة عبر ألف عام يغير دينه مرتين أو ثلاثًا دون أن تُدمَّر قوميته التي تتكون من وحدة اللغة. ويمكن القول بأن الروابط القومية والوحدة الناشئة عن وحدة اللغة أبلغ أثرًا من الروابط الدينية في أهم شئون العالم.» كما جاء حرفيًّا في مقاله «فلسفة الوحدة القومية وحقيقة وحدة اللغة»، ولكنه في العدد التاسع من «العروة الوثقى» يقول حرفيًّا أيضًا: «أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين» وكان عنوان المقال «الوحدة الإسلامية». وسواء في «الرد على الدهريين» أو النيتشريين، أي الطبيعيين، وهو مجموعة مقالات كتبها في الهند، أو في رده على رينان في باريس، يتراجع جمال الدين عن دعواته الأولى لتجديد الإسلام بالفكر «الغربي» ويرى أن حكومة إسلامية مثالية تعود إلى منابع الإسلام الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، قادرة على البقاء والتجدد الذاتي.
•••
حاول خير الدين عام ١٨٥٩م أن يقنع الباب العالي بالاعتراف لتونس بالحكم الذاتي لإغلاق الباب في وجه الأطماع الفرنسية، مقابل الاعتراف بسيادة السلطان ودفع الجزية، وأخفق في المهمة لأن الباب العالي لم يكن في وضع يسمح له بإغاظة فرنسا (وهكذا اختلف عن الطريق الذي سلكه محمد علي في مصر، وانتهى إلى النتيجة ذاتها). وظل يحاول صد النفوذ الأوروبي بالنفوذ التركي كما ظل يحاول تقييد الباي بالرقابة الدستورية، مما أدى إلى استقالته عام ١٨٦٢م. ولكنه في عام ١٨٦٧م وضع دراسة في الحكم، وعاد عام ١٨٦٩م بعد تردي الأوضاع المالية في تونس. ثم نجح في مهمة إسطنبول عام ۱۸۷۱م، وأصبح وزيرًا للداخلية والخارجية والمالية. وفي عام ۱۸۷۳م عُين رئيسًا للوزراء لمدة أربع سنوات. خلال هذه الفترة أجرى مجموعة من الإصلاحات؛ كتحسين الأساليب الإجرائية في الإدارة، وإعادة تنظيم الأوقاف والمحاكم الشرعية، وتحسين المدن، وإصلاح التعليم في جامع الزيتونة، وتعزيز مطبعة الحكومة وتوسيعها، وإنشاء مكتبة وطنية، وتأسيس مدرسة «الصادقية» الحديثة لتعليم اللغات التركية والفرنسية والإيطالية والعلوم الحديثة، فضلًا عن اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي.
وفي عام ۱۸۷۷م ترك خير الدين تونس إلى القسطنطينية، وأصبح عام ۱۸۷۷م كبيرًا للوزراء أو صدرًا أعظم، ولكنه عاد فأخفق وأُقيلَ عام ۱۸۷۹م، ومات في شبه عزلة عام ۱۸۹٠م. ترك لنا خير الدين في العربية كتابه الهام «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» عام ١٨٦٧م، وهو يشبه من بعيد كتاب الطهطاوي «تخليص الإبريز». وقد تُرجم الكتاب إلى التركية ثم إلى الفرنسية مع مقدمة لا تقل عن الكتاب أهمية؛ عنوانها «الإصلاحات الضرورية للدول الإسلامية».
ويتضح من سيرة حياة خير الدين أنه كان أقرب إلى المصلح السياسي منه إلى المفكر، ولكن محاولاته الإصلاحية ذاتها تنبئ عن «اتجاه فكري» لا ينفصل عن تيار عصر النهضة، وإن كان الطموح السياسي قد استهلك صاحبه، فلم يبق لنا من بعده إلا كتابه المشار إليه مع المقدمة التي يشرح في مطلعها أن ما دفعه إلى وضع الكتاب مقصدان: «الأول: حمل أصحاب الغيرة والهمم من رجال الدين والدنيا على السعي في سبيل كل ما يئُول إلى خير الأمة الإسلامية، وهو مدنيتها من توسيعٍ لحدود المعرفة وتمهيد السبل المؤدية إلى الازدهار، مما لا يتم إلا بفضل حكم صالح، والثاني: إقناع العدد الغفير من المسلمين الذين غُرس في أذهانهم النفور من كل ما يصدر عن غير المسلمين من أعمال ومؤسسات، بضرورة انفتاحهم إلى ما هو صالح ومنسجم مع الدين الإسلامي من عادات أتباع الديانات الأخرى.» وعلى طول الكتاب يلتقي خير الدين مع الطهطاوي ويختلف معه. يختلف أولًا في أنه يوجه خطابه إلى «الأمة» الإسلامية جمعاء كشأن «الأفغاني» رغم استخدامه للفظ الوطن، فإنه يقصد به — كما يرى ألبرت حوراني — «الجماعة السياسية» و«الوجدان العام». ويلتقي أولًا مع — بل هو يعتمد مباشرة على — رحلة الطهطاوي الباريزية في ضرورة تقييد الحاكم بالشريعة المنزَّلة والوضعية والرقابة الممثَّلة في المشورة النيابية. ويستشهد بكُتَّاب أوروبيين مثل فكتور دروري وعمانويل ساديللو لإثبات عظمة المدنية الإسلامية التي يمكن أن تستعيد دورها إذا نهضت من الكبوة الطويلة على أقدام من العلم الحديث، أي إنه ليس مطلوبًا من العالم الإسلامي أن يتحول إلى مسيحية الأوروبيين حتى يتقدم، فغالبية هؤلاء أنفسهم تركوا المسيحية بمعنًى ما، وإنما المطلوب هو تبني المؤسسات والمناهج الحديثة الشبيهة بالمؤسسات والمناهج الإسلامية في ذروة ازدهار الحضارة والفكر والحكم الإسلامي. وهو يصل من ذلك إلى أن «رُوح الشريعة» — أي الإسلام الصحيح — يتفق ومنجزات الحضارة الغربية الحديثة. ولكن خير الدين مقتنع بتغير الظروف، حيث لا بد من تغير الشرائع والسياسات. وهو التغير الذي يمسك بدفته العلماء ورجال الدولة في ظل ظليل من الرقابة الدستورية.
لم يُكتب لخير الدين أن يؤثر في النهضة العربية تأثيرًا مباشرًا لانشغاله التام بالعمل السياسي، ولكن كتابه والمقدمة يَبقيان جسرًا — أضعف من الجسر «الأفغاني» — بين عصر الطهطاوي وأنبياء العصر الجديد.
•••
وكان عبد الرحمن الكواكبي (١٨٥٤–۱۹۰۲م) هو آخر الجسور التي واكبت تقريبًا المرحلة الثانية من عصر النهضة. جاء الكواكبي من الشام ليقول في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» (۱۹۰۰م):
-
«المستبد يتحكم في شئون الناس وبإراداتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم. ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته.»
-
«المستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزًا، فلو رأى الظالم على جانب المظلوم سيفًا لما قدم على الظلم.»
-
«الأراضي، والمعادن، والأنهر، والسواحل، والقلاع، والمعابد، والأساطيل والمعَدَّات … إلخ، مما هو لازم للجميع، ويجب أن تبقى الحقوق فيه محفوظة للجميع على التساوي والشيوع أو موزعة على الفصائل والبلدان والصفوف والأديان بنسبة عادلة.»
-
«أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهون المحتكرون، وأمثال هذه الطبقة، ويقدَّرون بواحد في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع أو الزراع … ورجال السياسة والأديان، ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة، ينفقونه في الرفه والإسراف» وهكذا فإن «رجال الشر قد تقاسموا مشاق الحياة قسمة ظالمة» والعلاج أن تكون هذه الثروة «ملكًا لعامة الأمة يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها فقط.»٢٧
هؤلاء الفرسان الثلاثة أقبلوا من خارج مصر ليعكس كلٌّ منهم آلامه الخاصة وقد امتزجت بحالة الاضطراب التي عمت العالم الإسلامي في مجموعه، والوطن العربي في إطاره. وقد وجد اثنان منهم في التربة المصرية أرضًا صالحة لزراعة أفكاره، ولا شك أن المناخ المصري قد تأثر بها، ولكن هذه الأفكار لم تكن انعكاسًا مباشرًا لخصوصية التجرِبة المصرية إلا في حدود قربها وبعدها من السلطنة العثمانية. لقد كانوا جسورًا في زمن الفراغ، أمدوا بالإلهام العديد من تفجرات المرحلة الجديدة من عصر النهضة، وهي التفجرات التي عكست المشكلات الأكثر أصالة في عمق مصر، وفي مقدمتها كانت الثورة العرابية المجيدة.
•••
(٥) من أهم الجسور التي امتدت بين فكر النهضة ومصر الحديثة كان الجسر اللبناني. ولعله من الإشكالات الحضارية البالغة التعقيد أن الجسر الإسلامي الذي مده «الأفغاني» بصورة رئيسية، والكواكبي بصورة ثانوية، وخير الدين بصورة غير مباشرة، كان أكثر تأثيرًا وفعالية من كافة الجسور الوافدة الخارج، وذلك لسبب داخلي محض هو أن غالبية الشعب المصري تدين بالإسلام، وبالتالي كان من الممكن للأفكار الإسلامية المتحررة أن تؤثر بوزن أكبر. بينما كان الجسر اللبناني أكثر تطورًا وأعمق تجذرًا في مجرى النهضة، ولكن تأثيره يأتي في المرتبة الثانية؛ إذ كان رواده في غالبيتهم من المسيحيين اللبنانيين.
ولا شك أن هناك قاسمًا مشتركًا يجمع الجسرين الإسلامي واللبناني في عَلاقته بنهضة مصر، هو من ناحيةٍ الصدامُ مع الدولة العثمانية أيًّا كانت أسباب هذا الصدام؛ دينية عند فريق، ووطنية عند الفريق الآخر، أو مزيجًا من الوطنية والدين. ومن ناحية أخرى يتبدى هذا القاسم المشترك في كون الفريقين «جسرًا» بين خارج الحدود الإقليمية لمصر وداخلها، فهُما معًا ليسا انعكاسًا مباشرًا لخصوصية المجتمع المصري، بل هما انعكاس لواقع خاص من جهة (سورية أو لبنان أو تركيا أو تونس)، وواقع أشمل من جهة ثانية هو الخلافة.
وبالرغم من سقوط دولة محمد علي، وطموحات ابنه إبراهيم باشا في إمبراطورية عربية، وبالتالي انعزال مصر اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا عن التطور العربي المحيط، إلا أن التأثير اللبناني في نهضة مصر — خاصة في مرحلتها الثانية التي سبقت وواكبت ولحقت بالثورة العرابية — كان تأثيرًا عميقًا وشاملًا، وإن اتسمت دائرته بالضيق ومحدودية الفعل.
ويذكر ألبرت حوراني في كتابه «الفكر العربي في عصر النهضة» قصة هذا النمط الغريب الذي يجسد سلوكه الفردي عمق الأزمة، فقد نشأ فارس مارونيًّا من سلالة عريقة، ولكنه تحول إلى البروتستانتية، وسافر إلى مصر ومالطا، وفي عام ١٨٤٨م سافر إلى إنكلترا حيث شارك في وضع صيغة عربية للإنجيل، وأمضى بعض الوقت في أكسفورد وكمبردج، ثم توجه إلى باريس، «وقد وصف إنكلترا وفرنسا وصفًا أقل دقة وعمقًا من وصف الطهطاوي» (ص١٢٥). غير أن مؤلَّفه الرئيسي هو «الساق على الساق فيما هو الفارياق» وقد كتبه في باريس «توخى به إثبات تفوق اللغة العربية، وحذا فيه — إلى حدٍّ ما — حذو رابليه فجاء سردًا لسيرة حياته من جهة ونقدًا اجتماعيًّا من جهة أخرى.» وفي باريس التقى أيضًا أحمد باي تونس فدعاه لزيارتها، ويقال إنه هناك اعتنق الإسلام وتسمى بأحمد. ويرجِّح هذه الواقعةَ ذَهابُه إلى إسطنبول مدعوًّا من السلطان، حيث أصدر عام ١٨٦٠م صحيفة «الجوائب» التي انتظمت في الصدور حتى عام ۱۸۸۳م «ثم مات بعد ثلاث سنوات طالبًا أن يُدفَن في لبنان. ويقال إنه عاد إلى حضن الكثلكة قبل وفاته، مما يدل على الثبات الذي كان كامنًا تحت تقلبات حياته» (ص١٢٦).
وقد ركز الشِّدياق في كتاباته كلها على جمال اللغة العربية، وكتب فيها بأسلوب رائقٍ راقٍ، خلصها إلى حد كبير من رواسب عصر الانحطاط، حتى أصبحت «الجوائب» أخطر صحيفة عربية في ذلك الزمان، لا لما تنشره من أنباءٍ وتنقله من طُرَف، وإنما لأسلوبها — أسلوب الشدياق — الذي رشحه لباي تونس وسلطان تركيا معًا. أما من حيث المضمون، فقد ركز فارس على الحياة الأوروبية التي تخلو من تدخل المؤسسات الدينية في شئون الدنيا، وتسمح للمرأة بمزاولة مختلِف المهن والحصول على حقوق الرجل، وتفسح للنشء الجديد تربية خلَّاقة تعوده على الاستقلال في الرأي والتفكير، والمبادرة والاعتماد على النفس وتحمل المخاطر.
ومن الطبيعي ألَّا تحتل هذه المعاني مكانًا استثنائيًّا في فكر النهضة العربية الحديثة، ذلك أن ناصيف اليازجي (۱۸۰۰–۱۸۷۱م) كان رائدًا في صناعة اللغة العربية وتنقيتها من شوائب زمن القحط الطويل، كما كان بطرس البستاني (١٨١٩–۱۸۸۳م) من ناحية أخرى رائدًا في الفكر الوطني والقومي. ولكن أهمية الشِّدياق التي أراها بوضوح، هي سيرة حياته التي عكستها مؤلفاته، والتي توجز في طياتها رُوح العصر الجديد وتقلباته العنيفة.
أسس البستاني عام ١٨٦٣م «المدرسة الوطنية»، وكما يدل اسمها فقد قامت على مبدأ وطني لا ديني. كذلك كان معجمه المعروف باسم «محيط المحيط» وموسوعته العربية «دائرة المعارف» من الدعائم الرئيسية «لصناعة» النهضة. على صعيد اللغة وضع البستاني الأركان الصحيحة للغة العربية الحديثة التي تستوعب منجزات العلم والحضارة في ألفاظ بسيطة وتركيبات ميسورة، فلا تتخلف عن العصر من جهة، ولا تتقوقع في قوالب حجرية معزولة عن الناس من جهة أخرى. ولم تكن صدفة — لهذه الأسباب — أن تشارك مدرسة البستاني الفكرية مشاركة أساسية فعالة في خلق القصة والرواية والصحافة العربية الحديثة. كانت «أداة المعرفة» من أخطر المهام التي حملها البستاني على كاهله، وهو يشق في الصخر جدولًا عذبًا بين الجداول التي شكلت تيارًا رئيسيًّا في مجرى عصر النهضة.
أما «المعرفة» ذاتها، فكانت عند البستاني «فكر أوروبا الحديثة واكتشافاتها» دون أن يؤدي بنا ذلك إلى «التقليد الأعمى» أو على حد تعبيره «إنه من الأمور البديهية أن اختلاف أمزجة الناس والبلدان والأزمنة يوجب اختلافًا في العادات.» لذلك يساوي بين الذين يُقبلون على العادات الأجنبية لمجرد أنها أجنبية والذين يرفضونها للسبب ذاته. ثم ينتقل بنا من المظهر الخارجي إلى الجوهر. والجوهر الفكري عند البستاني هو «عروبة جميع الناطقين بالضاد» من مختلِف الأديان والمذاهب والطوائف. هذه العروبة التي كانت لها «مدنية عظيمة» في وقت من الأوقات، وهي لم تسقط «لانحطاط داخلي» بل نتيجة «أحوال كثيرة وأسباب متنوعة» تتصل بأسلوب السلطة وتطور الحكم وقواعد الحياة، وهي لم تسقط أيضًا، بل «انتقلت» إلى أوروبا لأنها مدنية «إنسانية» ليست حِكرًا لنا، وما دمنا قد تنازلنا عنها في وقتٍ ما. وقد أضاف إليها الأوروبيون من وحي عصرهم الشيء الكثير. ولذلك علينا أن نستلهم منجزات العصر بجذوره وفروعه وثماره، لا أن نعود إلى نقطة الصفر، أو إلى تراثنا وحده «فما مكث فيه الإفرنج السنين العديدة والمدد المديدة يمكن للعرب أن يكسِبوه في أقرب زمان مع غاية الإتقان والإحكام» (الاستشهادات كلها مأخوذة عن «خطاب في الهيئة الاجتماعية» من ص١٦ إلى ص٤٠).
ويمكن القول — بعد هذا كله — إن هاجس النهضة، لا تفاصيلها، كان محور العمل الرائد الذي قام به البستاني في فجر التاريخ العربي الحديث. إن إكبابه على «صنفرة» اللغة العربية والعناية القصوى بإصدار معجمٍ ودائرة معارف (يقول في مقدمة جزئها الأول — ص٣ — إن الخديوي إسماعيل قد أعانه ماليًّا على نشرها) إنما يضعه في التصنيف الدقيق في مقدمة النهضويين العرب؛ لأنه يشارك عصر الموسوعيين الأوروبيين الاهتمام الفائق بالمعرفة الشاملة، معرفة الحياة العريضة في مختلف جوانبها ومستوياتها وفي ضوء العلم. إن تكوين الرؤية الشاملة التي تستوعب حركة التاريخ الإنساني كانت من أخطر إنجازات «النهضة» في الغرب حتى يفيق البشر من ظلام العصور الوسطى ومفاهيمها الاستاتيكية المغلقة على دينامية العصر الجديد. وأيضًا لأنه يشارك ديدرو — أحد أعظم مفكري الثورة الفرنسية — الذي قام بإعداد دائرة معارف جديدة أسهمت في خلق الوعي الثوري بطرح قضية «تغيير المعرفة» على أوسع رقعة من جماهير الثورة. وهكذا، فإن معجم البستاني وموسوعته قد اختصرا زمنًا طويلًا، وقاما بدور طليعي في تهيئة العقل العربي للثورة والتغيير والمعرفة العصرية الجديدة. فإذا أضفنا إنجازه الريادي الباهر على صعيد الفن القصصي والروائي، فإننا نصل إلى أن بطرس البستاني كان أكثر من وَعَى قضية النهضة العربية الحديثة في جوهرها الأعمق.
هكذا كان لبنان أرضًا للنهضة من قبل أن يمتد جسرًا إلى الأراضي المصرية. ولا شك أنه من اللافت للنظر أن عددًا كبيرًا من المفكرين والأدباء والصحفيين والفنانين اللبنانيين قد اتخذوا مصر وطنًا ثانيًا منذ أوائل القرن الماضي وبدايات القرن العشرين. ومن اللافت للنظر أيضًا أن إقامتهم لم تكن في الأغلب عابرة، بل هي عند كثرتهم إقامة دائمة ظلت مزدهرة حتى ثورة ١٩٥٢م. ومن اللافت للنظر كذلك أن هذه الإقامة لم تكن سلبية، لا على الصعيد الفكري والفني، ولا على الصعيد المادي والاقتصادي، فقد بنَوا وأسسوا العديد من مؤسسات السينما والمسرح والصحافة في مصر.
ولكن الأهم من ذلك كله أن أبرز الأسماء اللبنانية في تاريخ النهضة المصرية الحديثة كانت منحازة بصورة أو بأخرى ولدرجة أو لأخرى، إلى الفكر الثوري. ويفسر العقاد هذه الظاهرة بأنها رد فعل للتزمت الكهنوتي الذي عاشوا في ظله على أرض لبنان، أما ألبرت حوراني فيرى أنها رد فعل للقهر العثماني. وهناك قلة تميل إلى أن المسيحية — عقيدتهم الدينية — هي الأكثر تساميًا وانفتاحًا على الغرب المسيحي بطبيعتها. والحق أن هذه التفسيرات مجتمعة — رغم صوابها — لا تكفي لتبرير الظاهرة في شمولها الأعم.
والرأي عندي أن موقع لبنان — كموقع مصر — أتاح له اتصالًا باكرًا بالغرب، كما فرض عليه — كمصر — اضطهادًا مريرًا من جانب السلطنة العثمانية، وشجع — كما هو الحال في مصر — على نشأة طبقة جديدة ربما كانت زراعية صناعية تجارية في مصر، ولكنها كانت تجارية أساسًا في لبنان. إن تضافر هذه العوامل الثلاثة يكفي لتفسير الرُّوح التقدمية في الفكر اللبناني الرائد، وتفسير ازدهار هذا الفكر في التربة المصرية دون غيرها. وبالرغم من القوقعة الإقليمية التي لازمت البرجوازيات المحلية العربية أثناء ولادتها في تشابك معقد مع الاحتكارات الأجنبية، فإن الجسر اللبناني المصري إبان مرحلة النهضة في القرن الماضي وبوادر القرن الحالي كان «رمزًا» واضحًا لضرورة التوحيد القومي، كما كان ترسيخًا لظاهرة خاصة بنا، وهي أسبقية عروبة الثقافة على عروبة الاقتصاد والاجتماع والسياسة.
وأجدني أركز على هذه النقطة لأن «الاتجاه التطوري» لشبلي شميل — سواء في جانبه الفلسفي أو في رؤياه الاجتماعية — قد ترك أثرًا بارزًا في واحد من أعظم المفكرين المصريين طيلة نصف قرن هو الرائد سلامة موسى. كما أنها تركت أثرًا لا يمحى في صفحة المعارك الفكرية الطاحنة التي دارت إبان تلك الحقبة، ولعل كتاب إسماعيل مظهر «ملتقى السبيل في النشوء والارتقاء» من أكثر علاماتها وضوحًا. ولكن ماذا قال شميل في الاشتراكية؟
إن هذا الإيمان بالحتمية الطبيعية واليقين بالاتجاه التطوري، هما اللذان قادا شميل بعيدًا عن الحزبية والنضال السياسي، ولكنه يظل في فكر النهضة كجهاز التفجير الذي أشعل الحريق فدمر وأضاء.
تأثر فرح أنطون تأثرًا واضحًا بالمفكر الفرنسي رينان، وقلد صلاته إلى العقل والديموقراطية، وكتب يقول: إنه في حين أن كل شيء نسبي فإن شيئًا واحدًا يمتلك الحقيقة الكاملة هو الشعب «فلا دموع حقيقية إلا دموع الشعب» (الجامعة، السنة الرابعة، ۱۹۰۳م، العدد ٦ و٧ و٨ ص٣٠٦). وفي روايته «الوحش الوحش الوحش» يقول: لا نفع للديور والرهبان، وفي «أورشليم الجديدة» — ١٩٠٤م — يرسم احتياجات المسيحية في هذه الصلاة «هات رُوحك يا بوذا لتعلمها الصبر والقناعة، هات فكرك يا كونفوشيوس لتعلمها الحكمة، هات بلاغتك الإلهية يا أفلاطون لتُدخل إلى عروقها دم الفلسفة ممزوجة بالأنوار السماوية، هاتوا يا حكماء منفيس والإسكندرية وأثينا وروما كل حكمتكم وفلسفتكم لعلها تشفي.» وعن الإسلام في مواجهة المسيحية يقول: «إن الشعب الحديث الخارج من رمال بلاد العرب قد استولى على ذلك الفكر الذي هجرتيه، وهجم عليك بسلاحك بريئًا في أول نشأته من تلك النقائص التي أودت بك. لقد زحف (الإسلام) يمثل الوحدة والإصلاحات الشعبية والحياة الرُّوحية والمعيشية والمساواة والإخاء والحرية.» ومن هنا فهو يحرص على علمنة التعليم للقضاء على الطائفية: «يجب وضع الدين جانبًا، أي إن كل مدارس الدولة التي يدرس فيها الفريقان — المسلمون والمسيحيون — درسًا واحدًا … يجب أن تكون كالمدارس الفرنسوية معزولة عن الدين عزلًا قطعيًّا.»
ويشارك فرح أنطون فارس الشِّدياق — مختلفًا عن شميل — في الموقف من المرأة، إذ يدعوها أن «تتقدم إلى العمل بشرف وجِدٍّ لتكسِب خبزها وخبز أولادها بعرق جبينها.» وينتبه إلى الجانب الرأسمالي في الحضارة الغربية حين تصل إلى مرحلة الاحتكار «خطر أشد من خطر القيام على مبدأ الملكية» (الجامعة، السنة الثانية، أبريل ۱۹۰۱م). ولا تخدعه أمريكا في ذلك الوقت البالغ التبكير «دولة الاستفراد العصري والاحتكار المالي، الذي تقام له صور وتماثيل تمجد أولئك الأمريكيين الطغاة الذين يحتكرون أرزاق الأمم ويعيشون فيها كالعلق يمتصون دمها ولا ينفعونها.» وفي روايته الخطيرة «الدين والعلم والمال» — ١٩٠٣م — يدير حوارًا، هو الأول والأجرأ من نوعه في لغتنا، بين الماركسية وخصومها، ينتهي إلى أن «معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأراضيها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء لا يجوز أن تكون ملكًا لفرد» (ص۱۹).
•••
إن هذا الجسر اللبناني الذي امتد إلى مصر في المرحلة الثانية من نهضتها، لم ينل اهتمامًا كافيًا بعدُ من المؤرخين رغم البادرة الطيبة للدكتور رفعت السعيد في كتابه «ثلاثة لبنانيين في القاهرة»، وهي بادرة اقتصرت على الفكر الاشتراكي. بينما كان التقدميون اللبنانيون — وتلك قيمتهم الأولى — في مواجهة الإصلاح الديني أو تجديد الإسلام، يقولون بالعلم والعلمنة والاشتراكية لاختصار الطريق الطويل نحو الحضارة الحديثة. وقد كانوا أكثر من غيرهم تعبيرًا عن التناقض «العربي» مع التخلف والقهر والاستعمار، فظهر إلحاحهم على التكنولوجيا العصرية وهجومهم على الدين والاستبداد والخلافة. وهكذا من وحي واقعهم الخاص بلوروا الخطوط العريضة للآلام العربية العامة، ولكنهم لم يجسدوا احتياجات واقعهم — المصري — الجديد.
•••
هذا هو الشق الأول من «الجديد» كيفيًّا في البناء الاجتماعي المصري، أما الشق الآخر فهو الظهور النسبي للبرجوازية المحلية بفئاتها المتداخلة مع طبقات أخرى، ونموها في رحم العَلاقات المعقدة بين رءوس الأموال الأجنبية والتجارة الوطنية الناشئة في الداخل، والزراعة التي لا يزال الإقطاع مهيمنًا عليها، إما مباشرة أو بعَلاقات الإنتاج ووسائله. أما الصناعة فبقيت أسيرة الإنتاج السلعي الصغير واتساع شريحة الحرفيين والعمال المهرة «الأسطوات»، والاعتماد كليًّا تقريبًا على المنتجات المصنعة في الخارج بالاستيراد بعد تصدير المواد الأولية والخامات الرخيصة. أما الجسم الأكبر من البرجوازية المصرية الوليدة فكان يربض في أسفل السلم البيروقراطي من أجهزة الدولة، حيث يمكن القول: إن هذه الشريحة العريضة منذ البداية كانت الميلاد الأول لما نسميه الآن البرجوازية الصغيرة.
هذا الوضع الاجتماعي المغاير — إلى حد كبير — لوضع مصر إبان حكم محمد علي وإبراهيم باشا هو الذي بلور «الأفكار» إلى حد ما، وبصورة نسبية للغاية، ذلك أن التناقضات المفترضة بين التخلف والتقدم، أصبحت لها أقدام بشرية وعَلاقات اجتماعية لم يعد معها الافتراض والحلم ممكنًا، بل أضحى الصراع المعقد هو الممكن الوحيد. ذلك أن الوجه الأجنبي يطل على المصريين بوضوح كامل في الديون والتشريعات والأشخاص، كما أصبح الوجه الرجعي المحلي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى في الإمساك بمقاليد السلطة والتحالف المباشر مع الأجانب وتكريس «حقوقهم» في أرض البلاد و«الاستفادة» من قوتهم في سحق الفئات والشرائح والطبقات الأخرى.
ولكن هذا الوضوح لم يكن تبلورًا طبقيًّا حادًّا وكامل القسمات، فنشأة الطبقات الاجتماعية في مصر وتطورُها بلَغا من التعقيد حدًّا يصعب معه الفصل والفرز والتبويب المعتاد في المجتمعات الطبقية الكلاسيكية. لم تنشأ البرجوازية مثلًا في حماية البرجوازيات الأوروبية التي سبقتها، وإنما في مواجهة هذه البرجوازيات من ناحية، وفي تداخل من ناحية أخرى. لم تنشأ برجوازيتنا أيضًا بثورة حاسمة على الإقطاع في مختلِف المجالات الإنتاجية والفكرية والسياسية — فالإقطاع المصري نفسه مر بمراحل متعارضة من حيث ملكية الأرض — وإنما نشأت البرجوازية وكأنها في البداية «إقطاعيات صغيرة» لم تقترن بجوهر الرأسمالية الزراعية في عَلاقات الإنتاج ووسائله. وكذلك الأمر في مسألة القيم والبناء السياسي، فالأوتوقراطية ذات الصبغة الشخصية في استبداد الفرد، والثيوقراطية التي لا ترتدي ثياب الكهنوت، ولكنها تحتفظ لنفسها بكل سماته، كانا من العلامات الفكرية المهيمنة على مختلف مراحل تطور المجتمع المصري من محمد علي إلى الخديو توفيق.
وهكذا لا بد لنا من أن نضع مجموعة من «التحفظات» التي نرصدها على مسيرة المجتمع المصري التاريخية، من فجر النهضة إلى الثورة العرابية، حتى نستنير بها في رؤيتنا للجديد الطارئ منذ ذلك الوقت:
-
أولها البطء الشديد في معدلات التطور، فالإيقاع الزمني المتردد والمتراجع أدى إلى مزيد من التخلف عن نهضة البرجوازيات الأوروبية التي وصلت حينذاك إلى مرحلة الاستعمار، الأمر الذي باعد بيننا وبين «الندية» في عَلاقاتنا بالغرب الرأسمالي.
-
تداخل الفئات البرجوازية الناشئة مع غيرها من الطبقات المحلية والاحتكارات الأجنبية بحيث إن ظهورها قد تم على استحياءٍ لا نتيجة ثورة حاسمة تقطع الطريق على الإقطاع والاستعمار.
-
لم ينقطع المجتمع في أية مرحلة من مراحل هذا التحول شبه العفوي، عن أواصر البناء السياسي المحكوم أوتوقراطيًّا وثيوقراطيًّا، رغم مجلس الشورى في عهد إسماعيل وغيره من المحاولات وردود الفعل الطارئة.
-
كان الجيش المصري هو المؤسسة الوطنية الوحيدة التي كسَبها الشعب من عصر محمد علي ولم تنل منها ضغوط الأجانب والحكام المحليين لتحجيمه، إلى جانب المؤسسات الثقافية التي لم تفلت هي الأخرى من الضغوط الناجحة واليائسة، كدار الكتب ودار العلوم.
-
كانت «التوفيقية» في التفكير قاسمًا مشتركًا أعظم بين مختلِف مدارس النهضة ورموزها، برغم الاتجاه الذي ركز عليه الجسر الإسلامي الممتد عبر الأفغاني، والاتجاه الذي ركز عليه الجسر اللبناني عبر شبلي شميل وفرح أنطون. ولم يكن الفكر «الثنائي» عند الطهطاوي هو وحده المسئول عن هذه الظاهرة، بل كان التشابك المعقد بين البرجوازية المصرية الوليدة وغيرها من الطبقات هو المناخ الموضوعي الذي أبقى على الظاهرة وساعد على ازدهارها، بالإضافة إلى الاتساع المثير لفئات البرجوازية الصغيرة في صورتها الجنينية المتشعبة في أكثر من حرفة وأكثر من اتجاه وأكثر من وظيفة.
•••
في ضوء هذه المتغيرات نستطيع أن ندعو المحاولة «العرابية» الرائدة في أواخر القرن الماضي بالمرحلة الثانية من مراحل النهضة المصرية. إنها نقطة فارقة بين عصر وآخر، حتى إنها اقتضت التدخل الاستعماري المباشر في شئون مصر. إن الاحتكارات الأجنبية وعت إلى أقصى الحدود اتجاه السهم لمضمون حركة عرابي: إن الثورة الوطنية الديموقراطية التي كانت «حُلمًا» طهطاويًّا في زمن محمد علي، أضحت هاجسًا وطنيًّا واقعيًّا في زمن توفيق. كان تحقيق الحلم مرتبطًا بالوجود الشخصي لحاكم قوي، فأمست الثورة تجسيدًا لطموحات طبقات اجتماعية حية في أرض الواقع. لذلك لم تر القوى الاستعمارية في «التهديد» سلاحًا كافيًا كما كان شأنها أيام مؤسس الدولة الحديثة، ولم تر في «التسلل» سلاحًا كافيًا كما كان شأنها أيام مؤسس دار الأوبرا وحافر قناة السويس. وإنما رأت في التدخل المباشر سلاحًا ناجعًا لضرب الثورة الوليدة.
ما هي هذه الثورة التي شكلت ملامح المرحلة الثانية من النهضة، بمقدماتها وسياقها ونتائجها؟
كان الجسر الإسلامي — عبر «الأفغاني» — أكثر تأثيرًا بالضرورة في الشيخ محمد عبده (١٨٤٩–۱۹۰٥م)، تلقى عنه حتمية النضال ضد الوجه الاستعماري للغرب، وحتمية النضال ضد الوجه المتخلف للمسلمين. هذا هو الجوهر وغيره تفاصيل، كالجامعة الإسلامية حينًا والوحدة الوطنية حينًا آخر، كالموقف من الدين حينًا والموقف من رجال الدين حينًا آخر، مما قارب وباعد بين الأفغاني ومحمد عبده حتى انتهى بهما الأمر إلى الانفصال، واستقلال الإمام المصري بشخصية فكرية متميزة هي رائدة «الإصلاح الديني» في مصر — والعالم العربي — بغير جدال.
•••
المهم أنه في هذه المرحلة الأخيرة من حياته (التي انتهت عام ١٩٠٥م) واصل تحقيق بعض متون التراث، وكتب رده المفصل على فرح أنطون في «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية» عام ۱۹۰۲م، كما دوَّن في هذه الفترة ملاحظاته (أو تحفظاته؟) على الثورة العرابية، وكتب عدة مقالات منها «المستبد العادل» و«الرجل الكبير في الشرق» و«آثار محمد علي».
ومن الواضح في ثنايا هذه السيرة التي يتداخل فيها الفكر مع السلوك تداخلًا شديدًا، أن محمد عبده قد تطور بالتدريج إلى أن وصل ذروة الاتحاد مع الثورة العرابية، وبهزيمتها انحدر خط تطوره. ولكنه في الصعود والهبوط كليهما لم يخرج عن كونه «رائدًا للإصلاح الديني» بما يناسب وضع العقيدة الإسلامية في المجتمع العربي، لا بما كان عليه الإصلاح الديني في أوروبا المسيحية. وهو في هذه الحدود، يأخذ جانبًا واحدًا من الأفغاني وجانبًا واحدًا من الطهطاوي وجانبًا واحدًا من عرابي، ليصوغ من هذه الجوانب الثلاثة (التي لا سبيل لفصلها عند أصحابها الأصليين عن بقية جوانب فكرهم) شخصية متميزة في تاريخ الفكر الإسلامي، يتصل من إحدى الزوايا بفكر النهضة، ولكنه لا يملك باليقين ذاته بقية أركان النهضة.
كان اكتشافه الباكر لغيزو، وابن خلدون، اكتشافًا لفكرة النهضة والسقوط الحضاريين، كما كان اكتشافه لابن مسكويه اكتشافًا لجدل الأخلاق مع المدنية كما رأى بعض فلاسفة اليونان. وكان سلوكه السياسي الموزع بين «الشرق الإسلامي» و«العرب» و«المصريين»، وبين العمل السري والعمل العلني والاعتزال السياسي، قريبًا كل القرب من تطور الخط البياني لأفكاره الجوهرية. ما هي؟
ينبغي الإقرار منذ البدء أن الإمام محمد عبده كان فاتحة المرحلة الثانية في مسيرة النهضة المصرية الحديثة، وهي المرحلة التي عاصرت — تاريخيًّا — الوجه المتمدن لعهد إسماعيل من ناحية، والتي عاصرت — تاريخيًّا كذلك — التفجر الثوري للانتفاضة العرابية. أي إنها المرحلة التي تَرافَق فيها الفكر والعمل والنظر بالتطبيق، والمبادئ مع «الواقع»، لذلك فهي مرحلة مختلفة كيفيًّا عن مرحلة النبوءة الطهطاوية، كما أنها مختلفة كميًّا — أي درجة التأثر والتفاعل — عن الدعوة الأفغانية. ومن هنا أرى القطيعة بين «الأفغاني» ومحمد عبده من منظور تاريخي خاص بمصر، لا من منظور أخلاقي أو شخصي أو حتى سياسي يتصل بالرجلين وحدهما.
ونحن هنا، كما هو معروف سلفًا، لا نؤرخ لأيٍّ منهما، بل نلتقط «البذور» التي أنبتت النهضة، ونمسح «التربة» التي أينعتها أو أذبلتها. من هنا أراني أقول إن نهاية «الأفغاني» لم تكن بسبب المنفى، بل لأن «جوهر» دعوته — التي أسهمت في تخريج محمد عبده وغيره — لم يكن في جميع الأحوال موائمًا لرُوح النهضة العربية عمومًا، ولا لرُوح مصر خصوصًا، مهما كان تقييمنا لهذه الدعوة بالسلب في بعض المراحل أو بالإيجاب في بعضها الآخر. بينما جاء محمد عبده نقيضًا لمنهج «الأفغاني» في الأسلوب على الأقل، إذ هو في مختلِف أطوار عمره لم يخرج عن حدود «الاعتدال» و«الإصلاح» لا تحت الضغط والإرهاب والسجن والمنفى (وقد كانت جميعها تبرز اتجاهه الحقيقي أكثر مما كانت تلوي عنق الحقيقة)، بل لأن تكوينه الفكري الخاص يميل بوضوح نحو «الوسط» سواء في الوسائل أو الغايات. قد يراه البعض «متهورًا» حين التحق بالثوار العرابيين، وقد يراه البعض «متخاذلًا» حين تعهد لكرومر والخديو باعتزال العمل السياسي. ولكنه في تهوره وتخاذله التزم دومًا خط الاعتدال.
ما هو المعنى النهضوي — الثقافي الحضاري — للاعتدال، هذه الكلمة التي ترادف سياسيًّا معنى «الإصلاح» دون الثورة؟
إن هذا التقييم لأنظمة الحكم التي توالت على مصر خلال قرن كامل على وجه التقريب، إذا اعتبرنا عهد محمد علي يبدأ بعام ۱۸۰٥م، وأن محمد عبده قد توفي عام ۱۹۰٥، وإذا اعتبرنا المسافة الزمنية بين تقييم عهد إسماعيل وتقييم عهد محمد علي (۱۸۸۲–۱۹۰۲) تبلغ حوالَي عشر سنوات، وإذا اعتبرنا أخيرًا التوتر المباشر في العَلاقات بينه وبين عباس حلمي الثاني وتوفيق في موازاة العَلاقات الجديدة بينه وبين الإنكليز، فإننا نستطيع أن نصل إلى بعض الاستنتاجات: أولها أن الإمام محمد عبده كان على صواب في رفض «الحكم الغريب» لمصر، وأن يتناقض هذا الرفض حينًا مع كلامه عن الخلافة العثمانية وأغلب الأحيان مع تقاربه سلطات الاحتلال البريطاني. ثانيًا: أن الشيخ محمد عبده كان على صواب في نقد الأوتوقراطية العَلَوية وانعكاساتها على تطور البلاد، وإن لم يستطع بالفعل أن يضع يديه (أ) على دور محمد علي المتميز في حكم مصر عن دور الاحتواء الشامل والمطلق الذي مارسته الإمبراطورية العثمانية. (ب) ولم يضع يديه أيضًا على الفروق الجوهرية بين «نظام» محمد علي وإبراهيم باشا و«نظام» عباس الأول، ولا بين «نظام» سعيد و«نظام» إسماعيل، ثم «النظام» الذي استجد بسقوط عباس حلمي الثاني، وتولي توفيق وانهيار الثورة العرابية، فليس هناك «نظام واحد» طيلة قرن لمجرد بقاء «السلالة» العَلَوية على سُدة العرش. (ﺟ) ولم يضع يديه على الجوانب الإيجابية المحققة في عهدي محمد علي وإسماعيل، رغم الجوانب السلبية. (د) وأخيرًا، فهو لا يملك مقياسًا واحدًا في التقييم؛ لأن هدفه هو الهجوم على محمد علي وذريته، مهما اضطُر لاستخدام مقاييس متناقضة.
إن الاختلاف الكيفي بين المرحلة الأولى من «النهضة» التي يمثلها سياسيًّا عصر محمد علي (وليس مجرد حكم محمد علي) وفكريًّا رفاعة رافع الطهطاوي، والمرحلة الثانية الممتدة سياسيًّا من عصر إسماعيل إلى الثورة العرابية؛ ينعكس مباشرة على «دور» الشيخ الإمام محمد عبده. فبينما كانت المرحلة الأولى مرحلة تأسيس «دولة» حديثة، كانت المرحلة الثانية تأسيس «مجتمع» حديث. كانت المرحلة الأولى مرحلة النشوء والتكون، بينما أقبلت المرحلة الجديدة — ورغم كافة مراحل السلب بين سقوط «النهضة» بعد محمد علي وانبثاقها من جديد — وقد تبلورت إلى حد كبير ملامح الخريطة الاجتماعية «المصرية» التي كانت باهتة في البدايات الأولى لفجر النهضة، وكانت أقرب إلى الغموض والتعميم. المصريون هم «الفلاحون»، والمماليك والشركس هم «السادة». بإجراءات محمد علي لم «تولد» التضاريس الاجتماعية في خريطة مصر، ولكنها بدأت رحلة الولادة، بالجيش الوطني والتجارة الوطنية والصناعات القليلة والحرف والتعليم. ثم بعودة محمد علي عن «احتكار» الأرض (لا تأميمها) إلى نوع من توزيع الملكية. ظهرت الطبقات الاجتماعية «المصرية» وئيدًا على مدى قرن من الصراع المتعدد الأطراف: الأوروبية والعثمانية والداخلية. لذلك كان فكر الطهطاوي «عامًّا» كالرؤيا والبشارة والنبوءة بميلاد العصر البرجوازي في مصر، الوطن الحر السيد المستقل العلماني الديموقراطي المتقدم على خطى الحضارة الحديثة. أما عندما أقبل هذا العصر، على أرض الواقع، فقد تغير مناخ النهضة تغيرًا راديكاليًّا. لم تعد البشارة أو النبوءة ممكنة، بل أصبح الحوار المباشر لدرجة الالتحام مع الواقع هو الممكن الوحيد. أقبلت المرحلة الثانية من «النهضة» ومبدأ التحديث المادي والعقلي والرُّوحي ليس موضع جدل، بل وُلدت على الفور «الأطروحة» التي رافقت المصريين بعدئذٍ حوالَي قرن، ولا تزال. أطروحة الرفقة الجدلية بين المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية كوجهين لعملة واحدة هي «النهضة» في مرحلة جديدة تخطت أسوار الحُلم والرؤيا إلى أعتاب «الثورة». أي مشاركة الشعب المباشرة في تغيير «القدر»، أو في توجيهه نحو مسار مختلف. لم يعد المصريون يتفرجون على «الصراع الفوقي» من أجلهم أو ضدهم، بل شاركوا، بالثورة العرابية، في صنع الأقدار.
وقد كان الحوار المباشر مع الواقع الجديد، أبعد ما يكون عن الحاجة إلى المفكر الواحد الشمولي الذي كان الطهطاوي نموذجه الأرفع، بل تعددت الجبهات، لا بسبب تعدد الطبقات فحسب، بل تعدد «الأعباء» الجديدة.
إن المرحلة الثانية في مسيرة «النهضة» كانت اختبارًا واقعيًّا لرؤيا الطهطاوي الرائدة في التطبيق. ولذلك سنلاحظ أن جملة القضايا التي بشرت بها هذه الرؤيا قد أثيرت من جديد، وكذلك الأسس العامة لمنهجه في التفكير، ولب لبابه هو «الثنائية». ولكن العصر الأكثر تركيبًا لن يحتاج كما قلت إلى المفكر «الشامل» بل إلى عديد من المفكرين الذين «يتخصصون» في مجالات متباينة وإن تقاربت، بل وإن صبت أخيرًا في دائرة الطهطاوي؛ وهي الدائرة التي اتسعت وتعمقت بالمعطيات الكثيفة لمتغيرات الواقع الحي.
من هنا، لا تصبح أهمية الإمام محمد عبده تقاس بمواقفه السياسية أو فكره الاقتصادي والاجتماعي، بقدر ما تقاس بمجموع مواقفه من «الإصلاح الديني»، فتلك هي القضية التي تأهل لها بحكم تكوينه ووعيه وتلمذته وخصومته «للأفغاني»، وبحكم ارتباطه العميق مع «الشارع الإسلامي» في مصر على وجه الخصوص. إن إسلام الشارع المصري — والعربي عامة، والشرقي على نحو أكثر تعميمًا — هو همزة الوصل الرئيسية بين تفكير محمد عبده و«دوره» الريادي في «النهضة الثانية». بل إن أفكاره الاقتصادية السريعة والاجتماعية أيضًا هي في خاتمة المطاف «أفكار إسلامية» أساسًا تتصل بقضية القضايا المثارة: كيف السبيل إلى ربط الإسلام بالحضارة الحديثة؟ هكذا كان السؤال البكر عند الطهطاوي، وقد أصبح عند محمد عبده: كيف يمكن ربط المسلم بالحضارة الحديثة؟
وليس من قبيل الصدفة أننا سنلاحظ على محمد عبده وقاسم أمين وعبد الله النديم — أبرز رواد المرحلة الجديدة — أن «التأليف» وليس الترجمة هو إنتاجهم الرئيسي، وأن هذا التأليف هو حوار مباشر مع أحداث الحياة من حولهم وليس «أوتوبيا». لقد استمرت الترجمة في عهد إسماعيل، واستأنفت «مظاهر» المدنية الحديثة نشاطها. ولكن «الثورة» التي لم تجر قط على لسان الطهطاوي، أضحت هي العلامة الفارقة للعصر الجديد، بكل تناقضاتها وصراعاتها ومتطلباتها «العملية» لا الفكرية فقط. ولم يعد إبداع المفكر هو «النقل» وحده عن آثار الغرب الحديث، بل أمست المواجهة بين التراث والعصر تستلزم أسلوبًا آخر وزوايا جديدة للمعالجة؛ إذ لم يعد «العقل المجرد» هو حلبة الصراع، بل «المجتمع» في حركته وتحولاته وحياته اليومية.
إن هذه الأفكار كلها التي يرد بعضها في فتاويه، والبعض الآخر في مقالاته، والبعض الثالث في رسائله وردوده على الذين يكتبون له، لا تجعل منه مفكرًا اقتصاديًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ولكنها تدفعه إلى صدارة التجديد في الإسلام بتجديد حياة المسلم، أو ما تواضعنا على تسميته بالإصلاح الديني. غير أنه ليس إصلاحا «نظريًّا» بل متصلًا أوثق الاتصال بحياة المسلمين في غناهم وفقرهم، في عملهم وإنتاجهم، في تربيتهم وتعليمهم، في زواجهم وطلاقهم. لذلك كانت «الثنائية» الموروثة عن «فكر» الطهطاوي، موضع الاختبار الواقعي في التطبيق على الحياة من جانب «فكر وممارسة» محمد عبده، بحيث أضاف «الواقع» إلى الفكر النظري الشيء الكثير. فالموقف من الإرث والعمل كإنتاج اجتماعي والمرأة، أكثر دلالة على «إضافة التطبيق» من مجرد إصلاح التعليم وإصلاح الأزهر، رغم أهميتها البالغة بل والاستثنائية.
كذلك يعتمد عمارة على موقف محمد عبده من الكتاب، فيظن خطأً أن «دفاع» محمد رشيد رضا في «المنار» عن الكتاب كان موحًى به من أستاذه محمد عبده. فالحقيقة أن العكس هو الصحيح، فقد كتب الشيخ رضا عن الكتاب بصفته «مؤلَّفًا» لقاسم أمين، ولم يُوحِ من قريب أو بعيد أن هناك من شارك في التأليف. بل إننا لا نرى فيما كتبه رشيد رضا مجرد «دفاع» عن الكتاب، بل هو «نقد» موضوعي ينتصف لبعض جوانبه، ويقوِّم البعض الآخر.
كل ما في الأمر أن هذه القضايا كلها جزء لا ينفصل عن «الإصلاح الديني» الذي تفرغ له الإمام محمد عبده، خاصة في أخريات عمره، تفرغا كاملًا، أتاح له أن يباشر «التجديد» الرائد من هذا الموقع مباشرةً فاعلة في حياة المواطنين اليومية. وتلك طبيعة «المرحلة الثانية» في مسيرة النهضة.
ولسنا نستطيع التصدي لأفكار محمد عبده المحورية حول الإصلاح الديني، ما لم نتصدَّ لمواقفه من السلطة السياسية في الإسلام أي «الخلافة» … وهي القضية التي لم تواجه الطهطاوي مواجهة حادة، بسبب الظروف التي حكمت عهد محمد علي وعَلاقته بالآستانة. ولكنها القضية التي واجهت «الأفغاني»، فاتخذ من الباب العالي مواقف متناقضةً تَناقُض مواقفه من الاستعمار الغربي بعواصمه المختلفة، غير أنه لم يتناقض مع نفسه إزاء الولاء «لمبدأ الخلافة» و«سلطتها العثمانية». بينما رأى عبد الرحمن الكواكبي ضرورة نقلها إلى العرب، فهو لم يعارضها من حيث المبدأ، ولكنه عارض الهوية العثمانية وأراد استبدالها بالسلطة العربية.
جملة «الآراء» هذه التي وردت في مناسبتين فكريتين حاسمتين (هما الرد على فرح أنطون عام ۱۹۰۲م، والرد على هانوتو عام ۱۹۰۰م) تُبلوِر موقفًا علمانيًّا ضد الثيوقراطية، وموقفًا ديموقراطيًّا ضد الأوتوقراطية. وهو موقف نظري صرفٌ يرد به الإمام على كاتبين مسيحيين: أحدهما لبناني والآخر فرنسي. وفي تقديري أن هذه «الآراء» تكشف «حقيقة» تفكير محمد عبده في قضية «السلطة والإسلام». أما حين كانت تؤدي «وجهة النظر» هذه، اختبارًا عمليًّا، أو تواجه امتحانًا في التطبيق، فإن الأمر كان يختلف.
غير أن آراء محمد عبده هنا، سواء تلك التي وردت في رسائله وكتاباته للإنكليزي بلنت، أو في مقالاته أثناء وجوده في بيروت منفيًّا، هي آراء ومواقف أضعف جوانب حياته. وفي بعض اللحظات النادرة كان يفيق إلى حقيقة تفكيره عندما يقول في إحدى رسائله إلى بلنت مثلًا: «… أريد أن أُزيل من العقول هذا الوهمَ السائد في ادعاء البعض أن عرابي أو الحزب الحربي، أو الحزب الوطني، آلة في يد الأتراك؛ فإن كل مصري، سواء أكان من العلماء أو الفلاحين أو الصناع أو التجار أو الجنود أو الموظفين أو السياسيين، أو غير السياسيين يكره الأتراك ويمقت ذكراهم، ولا يستطيع مصري أن يفكر في نزول الأتراك بلادنا بدون أن يشعر بعاطفة قوية تدفعه إلى امتشاق سيفه والهجوم على هذا المعتدي.
هذا ما «كتبه» محمد عبده لبلنت. والمثير أنه يرسم خريطة اجتماعية واضحة لمصر في ذلك الوقت، تضع النقاط السياسية على الحروف الاقتصادية بدقة نادرة. إنها أشبه ما تكون «بالجبهة الوطنية» التي تضم، بقيادة الطبقة المتوسطة الناشئة، مختلِف شرائح المجتمع «الوطني» المصري: الفلاحون والصناع والتجار (أي المنتجون)، ثم الجنود والموظفون (أي جهاز الدولة) يسبقهم جميعًا «العلماء»، ويلحق بهم «السياسيون». أما الجبهة الأخرى «العثمانية» فتضم «الأتراك والشراكسة»، أي الأجانب. في هذا السياق نفهم «الموقف الفكري» للإمام محمد عبده من قضية الخلافة.
بل هو يذهب إلى حدِّ إعلاء شأن «الخلافة» على «الوطن»، فيرى في «لائحة إصلاح التعليم العثماني» المشار إليها أن «من ظن أن اسم الوطن، ومصلحة البلاد، وما شاكل ذلك من الألفاظ الطنانة يقوم مقام الدين في إنهاض الهمم وسوقها إلى الغايات المطلوبة منها، فقد ضل سواء السبيل» (ص۷۲ من المجلد الثالث).
على أية حال، فإن المواقف السياسية للإمام محمد عبده تبرز ولاءه للخلافة، بينما آراؤه الفكرية تظهره عكس ذلك. وهو في «المواقف العملية» لا يؤثر كثيرًا في الجمهور الواسع، ولا في مجرى تطور الفكر المصري نفسه. أما تأثيره الحقيقي فقد حفر مجراه عبر «الآراء الفكرية» التي يتضح منها انتماؤه الأصيل إلى فكر النهضة الأولى، حيث يفصل الطهطاوي بين الدين والدولة، وكذلك انتماؤه إلى «فعل» النهضة الثانية، حيث خلت مسودة الدستور العرابية من أي نص على دينٍ ما للدولة.
الموقف الفكري النظري — لا السياسي العملي — من الخلافة العثمانية، هو العمود الفقري «للإصلاح الديني» عند محمد عبده، مهما تفرع هذا الإصلاح إلى مواقف جزئية من التربية والتعليم (وبخاصة إصلاح الأزهر والتعليم الإسلامي العالي عمومًا)، ومواقف جزئية من حرية المرأة، والاقتصاد الوطني، والاحتلال الأجنبي، وما إلى ذلك من تفاصيل لا تغني بأية حال عن الجوهر. وهو «العودة إلى الينبوع» أي «الأصول» التي لا تخرج عن كلام الله وسنَّة رسوله (القرآن والسيرة النبوية)، دون العودة في سبيل ذلك إلى الأولين من الفقهاء والمفسرين.
ويمكن القول، بعد هذه الاستشهادات العديدة، إن انفتاح محمد عبده على الفكر الغربي الحديث — رغم تحفظاته وخلافاته الحادة أحيانًا مع هذا الفكر — قد أثمر على الأقل فكرة درء الانحطاط المادي والمعنوي عند المسلمين، بإنقاذ «الجوهري» في الإسلام من براثن التخلف، والتفاعل مع «الحضارة الحديثة» بمنطق هجين، براغماتي حينًا ووضعي أحيانًا. لقد كانت حواراته ومراسلاته وقراءاته ومقابلاته مع رينان أو سبنسر أو تولستوي، مع ابن سينا والمعتزلة وابن رشد، بمثابة «الخميرة» التي عجنت فكره بمنهج «النهضة الثانية».
وإذا كانت اجتهاداته النظرية — في رسائله وفتاويه ومقالاته وقراراته ومشاركاته — تصب في نهر التجديد الحضاري للمسلم المعاصر، فإنها أيضًا كانت بذورًا في إصلاح الأزهر والقضاء الشرعي، وحتى اللغة العربية، نمت بعد ذلك. ويبقى له «المنهج» ذو الرؤية التوفيقية، أو الثنائية، في ميدان الإصلاح الديني الذي تفرغ له، خاصة بعد هجره العمل السياسي. وإن كانت سمة «التفرغ» من علامات المرحلة الثانية في «النهضة» … حيث نلاحظ على رجال هذه المرحلة الرئيسيين، كقاسم أمين وعبد الله النديم، أو الثانويين كمحمود سامي البارودي والمويلحي، التفرغ ذاته.
•••
(۷) كانت المرحلة الثانية من عصر النهضة أشبه ما تكون بالدوامة التي فجرتها الثورة العرابية بينبوعها الواحد، هو استقلال مصر وتقدمها الحضاري، ولكن تياراتها تتعدد ولا تشكل في خاتمة مطافها دائرة واحدة، بل تنتهي إلى مصابَّ مختلفة. ولم يكن هناك «نَموذج فكري واحد شامل» كالطهطاوي مثلًا، بل كانت هناك نماذج تعبر عن تخصصات هي في الحقيقة زوايا للرؤية … فالإمام محمد عبده كان يعنيه تنقية «الإصلاح الديني» من شوائب عصر الانحطاط، وما قاله في القوانين والحكام وحرية المرأة والعدل الاجتماعي، لا يخرج بأية حال عن زاوية الإصلاح الديني المستنير بما جرى في الغرب لحظة انعتاقه من أسر الكهنوت في العصور الوسطى، إلى رحاب النهضة في العصور التالية. وكان «التركيب» الذي توصل إليه وهو «العودة إلى الينبوع» أي إلى الإسلام: في جانبه الجغرافي هو «الشرق» ثم «مصر» وفي جانبه الأيديولوجي هو القرآن والسنة، دون رفضه «للحوار» مع الحضارة الحديثة.
أما قاسم أمين (١٨٦٥–۱۹۰۸م) فقد نشر عام ۱۸۹۹م كتابه الصغير الشهير «تحرير المرأة»، وقد تبنى فيه المفهوم الدارويني للانحطاط، وطبقه على المجتمع الإسلامي في مصر، وكاد يستخلص أن الانحطاط قدر محتوم علينا حسب قوانين «الانتقاء الطبيعي». وهو أيضًا لا يرى في الإسلام سببًا من أي نوع لما تدهورت إليه الأحوال، وإنما يرى الفساد القادم إلى الإسلام مع الذين وفدوا إليه من الخارج فشوهوه وجمدوه.
ويتخذ من قضية المرأة زاوية جديدة لرؤية الانحطاط واحتمالات البعث على السواء. وأن تقدم المرأة أو تخلفها في نظره هو المقياس الوحيد — كما يقول شارل فورييه تمامًا — لتقدم المجتمع أو تخلفه.
إن حجابها أو سفورها، جهلها أو تعلُّمها، ومشاركتها في الحياة العامة أو عزلتها؛ هو انعكاس حتمي لحجاب المجتمع وسفوره وجهله وتعلمه ومشاركته أو عزلته. وإذا كان الحجاب ماديًّا عند المرأة فهو معنوي عند الرجل، وفي الجهل هما سواء، وكذلك في الموقف من الحياة العامة، فحرية المرأة وعبوديتها يعكسان في دقة حرية الرجل وعبوديته أيضًا. وبالرغم من أن قاسم أمين — الكردي الأصل، ذا التربية الفرنسية، والذي عمل قاضيًا — قد استشهد في كل آرائه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلا أن ضجة عاتية أثارها كتابه فور صدوره، ودفعته عام ۱۹۰۰م إلى إصدار كتاب آخر هو «المرأة الجديدة» تحول فيه إلى الاستشهاد بالفكر الغربي الحديث — وخاصة هربرت سبنسر — مباشرة ودون لف أو دوران: «فانظر إلى البلاد الشرقية تجد أن المرأة في رِق الرجل، والرجل في رق الحاكم. فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه. ثم انظر إلى البلاد الأوروبية تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من الاعتبار، وحرية الفكر والعمل.»
أيًّا كانت صحة هذه المعلومات حول «ظهور» كتاب قاسم أمين، فالأرجح أن فكرة الاعتذار للأميرة ليست مبررًا كافيًا لتأليف «تحرير المرأة»، خاصة وأن المسافة الزمنية بين رد قاسم أمين على الكاتب الفرنسي (وهو الذي أثار نازلي)، وهذا الكتاب تبلغ ست سنوات تقريبًا، فكتاب داركور صدر عام ١٨٩٣م والرد الفرنسي لقاسم أمين صدر في أوائل عام ١٨٩٤م، بينما «تحرير المرأة» صدر عام ١٨٩٩م.
ومن ناحية أخرى فقاسم أمين لم يغير معتقداته الأساسية بين الرد الفرنسي والكتاب العربي، فهو لم يطالب في كتابه الجديد بالسفور المطلق بل بالحجاب الشرعي، حيث تكشف المرأة «وجهها وكفيها» فقط. وهو لم يطالب بالتعليم الكامل للمرأة، بل بالحد الأدنى وهو «التعليم الابتدائي» فقط. وهو لم يطالب بأن تشتغل المرأة بالحياة العامة، بل أن تعمل في البيت بذكاء فقط. ومن ثم فالكتاب ليس تراجعًا عما قاله في رده الفرنسي، ولا اعتذارًا لأحد. وإنما الكتاب يشكل أحد عناصر فكر النهضة في مرحلتها الثانية، حيث لا تعود «المجردات» هي المقياس، بل المجتمع الملموس. وهو الفكر الذي لا يتخلى عن «الثنائية» باعتماد «الإسلام الصحيح» معيارًا وحيدًا للتحرر، فالشريعة الإسلامية في «تحرير المرأة» هي الميزان، والاستشهاد بالقرآن هو الأساس. وكل ما يفعله قاسم أمين أنه يرد «انغلاق المرأة» إلى عصور الانحطاط في الإسلام.
أيًّا كان الأمر، فالشيخ رشيد رضا — تلميذ الإمام الوفي ومؤرخ سيرته — كتب في «المنار» مرتين على الأقل دون أية إشارة أو إيحاء بأن محمد عبده قد أسهم في تأليف الكتاب. بل يبدو، رغم إعجابه بآراء قاسم أمين، متحفظًا حين يقول: «وأما كتاب تحرير المرأة فإني ودِدت لو يُنشر في المنار إلا قليلًا» (العدد ١٨، السنة ٢، ١٨٩٩م، ص۲۸۳)، ونستطيع تصور هذا «القليل» حين يستطرد (ص٢٨٥) قائلًا عن المؤلف إنه «توسع في مضارِّ هذا الحجاب … ومثل هذا القول يجرئ المتفرنجين على تعجل ما يشتهون من مشايعة الإفرنج في عاداتهم» ويأخذ عليه «أنه ما كل ما يُعلم يقال، وأنه ينبغي لمن يكتب في الإصلاح أن يُجمِل في الكلام عن المسائل التي لا يُطلب العمل بها في الحال، حتى إذا ما جاء وقت العمل، فإن الحاجة تتكفل بالبيان» (الصفحة نفسها) و«ثَم منتقَد آخر وهو ما في الكتاب من المنازع الاجتهادية، وقد توسع فيها المؤلف في الكلام على الطلاق. وكان يُنتظر أن ينتقد هذا العلماء، ولكن علماءنا أمسَوا في الغالب لا ينكرون منكرًا ولا يعرفون معروفًا» (الصفحة نفسها).
وتحت عنوان «كلمة في الحجاب» يعود الشيخ رضا في افتتاحية «المنار» [العدد ٢٤، السنة الثانية، ١٨٩٩م] إلى الموضوع ذاته مؤكدًا الاختلاف بينه وبين مؤلف «تحرير المرأة»، وإن ركَّز على أوجه الاتفاق. ومرة أخرى لا يوحي الكاتب من قريب أو من بعيد أن هناك شريكًا لقاسم أمين في «تأليف» الكتاب. ورغم ذلك أقول: إن هذا لا يمنع من أن يكون الإمام محمد عبده شريكًا له في الآراء والأفكار، وربما ساعده في الجوانب الدينية الخاصة بالشريعة الإسلامية … و«المعنى» المستخلص من هذا الاحتمال القوي هو أن فكر النهضة في هذه المرحلة كان منسجمًا مع متطلباتها ورموزها الكبرى.
إلا أننا نلاحظ على صعيد الفكر المجرد، أن قاسم أمين تجاوز «تحرير المرأة» بخطوات بعيدة في كتابه الثاني «المرأة الجديدة» الذي أصدره في العام التالي ١٩٠٠م، وقد كان محمد عبده شريكًا هذه المرة في «الدفاع غير المباشر» عن الكتاب، وذلك برفضه إصدار فتوى ضده. وكتاب «المرأة الجديدة» لا يشكك أحد في ملكيته الكاملة والخالصة لقاسم أمين. وفيه يتخلى المؤلف عن الاستشهاد بالشريعة الإسلامية، وتقتصر مصادره على الفكر الغربي أساسًا، والفرنسي على نحو الخصوص.
وقبل أن نقارن بين الكتابين ودلالة الفوارق بينهما على مسيرة النهضة الثانية، نختتم عَلاقة الإمام محمد عبده بفكر قاسم أمين، بأن خصوم الإمام طبعوا «سؤالًا» باسم المواطن محمد أفندي عبده البابلي، ووزعوه على الجمهور، والسؤال موجه إلى «مفتي الديار» على النحو التالي: «هل رفع الحجاب عن المرأة، وإطلاقها في سبيل حريتها بالطريقة التي يريدها صاحب كتاب «المرأة الجديدة» يسمح به الشرع أم لا؟» فما كان من الإمام إلا أن اتخذ جانب الصمت، وترك «الكلام» للمنار التي نشرت في عدد ٦ فبراير (شباط) ۱۹۰۱م ما يلي:
-
(١)
أن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود، بأن وُزع على الجمهور.
-
(٢)
أن الجواب عليه يستلزم قراءة الكتاب، في حين أن المفتي مثقل بالأعمال.
-
(٣)
أن الفتوى لا يفهمها الناس إلا إذا قرءُوا الكتاب، وهو ما يؤدي إلى نشر ضرره، إذا كان ضارًّا.
-
(٤)
أن فتوى الإمام ستكون على المذهب الحنفي الذي عينته الحكومة ليفتي على أساسه، في حين أن بعض المذاهب قد أباحت كشف المرأة لوجهها ويديها، «وجواز معاملة الرجال في غير خَلوة. وهذا كل ما يطلبه الكتاب من إبطال الحجاب.»
ثم استطردت «المنار» لتقول: «… كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وأنه لا يلقى جوابًا.» ومن الواضح أن الإمام محمد عبده شخصيًّا هو صاحب الرد، فقد اختار موقفًا «وسطًا» لا يخالف الضمير. ولو أنه أجاب بما يراه حقًّا لفقد وظيفته، ولاتخذت القضية مسارًا مختلفًا بشأن كتاب قاسم أمين، هو ذاته المسار الذي اتخذته فيما بعد مع طه حسين، وعلي عبد الرازق.
والآن، ماذا يقول قاسم أمين في «تحرير المرأة»؟
يقول: إن «الأصل فيما نشهده ويؤيده الاختبار التاريخي من التلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحُّشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدم الأمة ومدنيتها. فقد علمنا أن في ابتداء تكوُّن الجمعيات الإنسانية كانت حالة المرأة لا تختلف عن حالة الرقيق في شيء، وكانت واقعة عند الرومان واليونان مثلًا تحت سلطة أبيها ثم زوجها، ثم من بعده أكبر أولادها. وكان لرئيس العائلة عليها حق الملكية المطلقة؛ فيتصرف فيها بالبيع والهبة والموت متى شاء، ويرثها من بعده ورثته بما عليها من الحقوق المخوَّلة لمالكها. وكان من المباح عند العرب قبل الإسلام أن يقتل الآباء بناتهم، وأن يستمتع الرجال بالنساء من غير قيد شرعي ولا عدد محدود. ولا تزال هذه السلطة الآن سائدة عند قبائل أفريقيا وأمريكا المتوحشة.
بل إن تعليم المرأة عند قاسم أمين يعني إرهاف الحس والشعور والتذوق، بحيث تستطيع أن تختار زوجها عن دراية وأحيانًا عن «حب».
وقد كان قاسم أمين حريصًا في كلامه عن الزواج وتعدد الزوجات والطلاق أن يستشهد بالعادات والتقاليد والشرائع الغربية، جنبًا إلى جنب مع ما يقوله الشرع الإسلامي، وما توحي به الممارسات الفعلية للمسلمين في زمن عنفوانهم وازدهار حضارتهم. وأن يقارن مرة أخرى بين ما آلت إليه مدنية الغرب من تقدم، وما وصلت إليه حال المسلمين من تخلف، أحد أسبابه الرئيسية انحطاط شأن المرأة، ولعله أحد النتائج أيضًا.
وكما لاحظنا في حالة الإمام محمد عبده، نلاحظ الأمور نفسها على قاسم أمين، مع فروق يحتمها اختلاف التخصص النوعي. فالمسافة القائمة بين فجر النهضة ورمزه الأكبر رفاعة الطهطاوي، وبين المرحلة الثانية التي وَجدت رمزها الأول في الشيخ محمد عبده، هي ذاتها المسافة الواقعة بين هذا الفجر الطهطاوي وقاسم أمين. إنها المسافة الكائنة بين المثال المجرد والواقع الحي، بين النبوءة والتحقيق، بين البشارة والتطبيق، بين الرسالة والحياة.
لقد ناقش الطهطاوي قضية المرأة وأهمية تحريرها وتعليمها وبعثها من جديد، في عصر محمد علي. وأقبل قاسم أمين في عصر مختلف، حيث أصبحت «المرأة» مشكلة واقعية لا تحتاج إلى التنبؤ أو التبشير، بل إلى «الإصلاح». وإذا كان محمد عبده قد تفرغ للإصلاح الديني، فقد تفرغ قاسم أمين لتحرير المرأة على صعيد الفكر، فحاول التوفيق بين «الإسلام الصحيح» والغرب المتقدم، واضعًا في الاعتبار «قلق» الأرستقراطية من «التناقض» الممكن بين القيم والسلوك، وواضعًا في الاعتبار كذلك «طموح» البرجوازية الناشئة إلى الوعي بالضرورة، وتحويل السلوك إلى قيم. لذلك نلاحظ «تدرج» قاسم أمين من رده الفرنسي على الدوق داركور، إلى كتابه العربي عن «تحرير المرأة» إلى كتابه التالي مباشرة «المرأة الجديدة» الذي صدر عام ۱۹۰۰م.
والواقع أن هذا الحد هو أقصى ما كان يستطيع أن يصل إليه «مصلح» برجوازي، في قضية المرأة المسلمة عمومًا، والمصرية خصوصًا. ومن الواضح أن تبريراته النظرية مبعثرة مشتتة تختلف مصادرها الفكرية ولا تتماسك في بناء أيديولوجي متسق. ولكن عذره، المفهوم تمامًا، هو أنه كان يبحث عن المبررات «العملية» لنهضة الأمة، وَفقًا للاحتياجات العينية المباشرة والعقبات المحسوسة، لا وَفقًا لرؤيا مثالية. نعم، هو مفكر براغماتي وتجريبي بسيط، ولكنه يجسد بمسئولية واضحة، ذروة التعبير عن «النهضة» في مرحلتها الثانية، متخصصًا في «جزئية» مهمة هي المرأة ودورها في المجتمع الجديد. يعبر أيضًا عن صعوبة الانتقال من التجريد الطهطاوي إلى التطبيق الواقعي، ويتجاوز محمد عبده على نحو مؤكد حين يَعبُر في «المرأة الجديدة» من فوق «الاستشهاد» بالنصوص، ليلحق بركب الحضارة الحديثة في الغرب، دون اعتذار بالدين. إنه في هذا الكتاب يحاول جادًّا الخروج على الحل الوسطي التقليدي إلى حل وسطي مُحْدث، ولكن دون تأصيل منهجي، وهو «الحل» الذي سيشق طريق النهضة بعدئذٍ في مرحلتها التالية، حيث تصبح الحاجات الفعلية للبرجوازية الناشئة هي المصدر الرئيسي للتشريع والملهم الأول للتفكير.
ولا شك أن قاسم أمين لم يمنح الفكر العربي الحديث، رافدًا منهجيًّا مستقيمًا من المنبع إلى المصب، كما فعل الفكر الغربي. إنه يتأثر بفكرة التطور مثلًا عند سبنسر، وبالمكتشفات الفسيولوجية في العلوم، وبالاختيارات الديموقراطية لأنظمة الحكم، وبمظاهر التمدن الغربي … وهي مؤثرات ليست متناقضة جذريًّا؛ لأنها ثمرات الفكر البرجوازي الغربي، ولكنها مؤثرات متباعدة السياق المنهجي بعضها عن بعض. والحقيقة أن هذا «التشويش» الفكري عند قاسم أمين، ثمرة التوحد مع خطوات البرجوازية المحلية وهمومها ومشكلاتها وقضايا «نهضتها»، فلأنها برجوازية متخلفة وناشئة وتنمو في أحضان غيرها، فإن جراحها تعددت وتطلبت أكثر من دواء في أكثر من موضع. وهذا ما قام به قاسم أمين خير قيام.
•••
(۸) وليست صدفة أن يتكامل مثلث النهضة في هذه المرحلة العامرة بالتقدم والهزيمة، بعبد الله النديم؛ لأنه في الحقيقة أيضًا، مثلث «المرحلة العرابية» في مسيرة النهضة. وليست صدفة كذلك أن قاسم أمين هو نفسه «وكيل النيابة» الذي أحالوا إليه (في طنطا) عبد الله النديم مقبوضًا عليه بعد طول اختفاء. وليست صدفة أخيرًا أن حركة الثورة كانت غِربالًا واسع الثقوب، سقط منه الكثيرون، ولم يبق في واجهة المرحلة الثانية من مراحل فكر النهضة سوى عرابي نفسه، وعبد الله النديم.
لا بد هنا من الإشارة إلى مجموعة معطيات:
-
أولها: الوقفتان الرئيسيتان في تاريخ الثورة العرابية، وقفة
فبراير (شباط) ۱۸۸۱م ووقفة ٩ سبتمبر (أيلول) من العام نفسه.
وبينما كانت الوقفة الأولى مجرد البداية لضغط العسكريين على
الخديو، وهي بداية أسقطت وزير الحربية آنذاك عثمان رفقي
وأحلَّت مكانه محمود سامي البارودي، فإن الوقفة الثانية
كانت نقطة التحول الحاسمة لإعلان الثورة. ويكفي أن نسجل
الحوار التاريخي في ذلك اليوم بين الخديو من جهة وأحمد
عرابي من جهة أخرى، لنتعرف على هوية هذه الثورة. ففي الساعة
الرابعة من بعد ظهر التاسع من سبتمبر (أيلول) عام ۱۸۸۱م وقف
عرابي على رأس الجيش المصري في ساحة عابدين، ووقف أمامه
ثلاثة من الإنكليز هم: «أوكلن كلفن» المراقب المالي،
و«كوكسن» قنصل إنكلترا، والجنرال «غولد سميث» مراقب الدائرة
السَّنِية، وتحت أبصار آلاف من الرجال والنساء والأطفال
احتشدوا وراء الضباط والجنود، تألق هذا المشهد الذي سيتكرر
دومًا في تاريخ مصر الحديث، بتنويعات مختلفة، سأل الخديو
قائد الجنود عرابي:
«– ما أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟
– جئنا يا مولاي نعرض عليك طلبات الجيش والأمة وكلها طلبات عادلة.
– وما هي هذه الطلبات؟
– هي إسقاط الحكومة المستبدة، وتشكيل مجلس نواب على النسق الأوروبي، وإبلاغ الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية، والتصديق على القوانين العسكرية التي أمرتم بوضعها.
– كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت مُلك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا.
– لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا وعَقارا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نورَّث ولا نُستعبد بعد اليوم.»١١١ولا يرى الخديو مفرًّا من الاستجابة والإطاحة بالحكومة، ولا يكاد شريف باشا يجلس على مَقعد رئاسة الوزارة، حتى يتسلم عريضة من «أعيان البلاد» عليها ١٦٠٠ توقيع، يطالبون فيها بما يلي: «لما كان لا ينتظم نظام العالم، ولا يقوم قوام الهيئة الاجتماعية إلا بالعدل والحرية حتى يكون الإنسان آمنًا على نفسه وماله، حرًّا في أفكاره وأعماله، وهذا لا يتأتى إلا بإيجاد حكومة شورية عادلة، اتخذت الممالك المتمدنة العادلة مجالس من نُبهاء أهلها، ينوبون عنها في حفظ حقوقها …»١١٢ وتجري الانتخابات في ديسمبر (كانون الأول) من السنة ذاتها، وتسقط وزارة شريف، ويؤلف محمود سامي البارودي الوزارة الجديدة ويصدر دستور الثورة العرابية في ٧ فبراير (شباط) عام ۱۸۸۲م ويشرع مجلس شورى القوانين في ممارسة عمله.ولم يكن ذلك أول برلمان، ولا أول دستور في حياة مصر الحديثة، بل كان البرلمان الثاني والدستور الثاني في فترة قصيرة للغاية، ففي ظل حكم الخديو إسماعيل تأسس أول مجلس شورى عام ١٨٦٦م، وصدر أول دستور للبلاد في العام ذاته، وكان المقصود بهما معًا هو استكمال «الأناقة الغربية» في ذلك العهد، فقد نص التشريع على أن الدستور والمجلس كلاهما استشاري. ولكن بعد ١٣ عامًا فقط كان النواب يردون على خطاب العرش عام ۱۸۷۹م قائلين: «نحن نواب الأمة المصرية ووكلاؤها، المدافعون عن حقوقها، الطالبون لمصلحتها.»١١٣ ثم يكرسون حق المجلس النيابي في الرقابة على السلطة التنفيذية، وحقه في إصدار القوانين. وينشط النواب المصريون في تأليف «جمعية وطنية» على غرار الجمعية الوطنية الفرنسية، والمطالبة بإخراج الوزيرين الأجنبيين من الحكومة (وهما اللذان فرضتهما أوضاع مصر المديونة لأوروبا في ظل إسماعيل، لمراقبة النظام المالي)، والشروع في وضع لائحة وطنية نواة لدستور جديد. وما إن تسلم الخديو إسماعيل هذه اللائحة في ٢ حزيران (يونيو) ۱۸۷۹م، وقبل أن يصدر المرسوم بالدستور الجديد، حتى خلعت بريطانيا وفرنسا إسماعيل (۱۸۳۰–١٨٩٥م) عن عرش مصر في ٢٦ يونيو (حزيران)، أي بعد ٢٤ يومًا من إنجاز الدستور. وهكذا كانت المفارقة في مأساة هذا الخديو الذي أراد أن تكون مصر «قطعة من أوروبا» فأنشأ الأوبرا، وأسس بعض المظاهر الديموقراطية، وفي الوقت ذاته جلب من الديون ما هدد استقلال البلاد وأطاح به في النهاية. غير أن النضال من أجل الديموقراطية ظل راية الشعب المصري، فلم يكد يمضي عامان حتى كان الدستور ومجلس النواب هما ميثاق الثورة العرابية. -
النقطة الثانية: هي مجموعة المداخلات الأجنبية في شئون مصر، وهو الوضع
الذي لم يتغير منذ محمد علي، وإن تغيرت الظروف المحلية
والعالمية تغيرات من شأنها تعقيد «السياق» دون مساس
بالمقدمات والنتائج. المقدمات هي موقع مصر الاستراتيجي،
والنتائج هي الحيلولة دون تقويتها لدرجة القيام بدور مستقل
عن التبعية الأجنبية، سواء بالاحتلال المباشر أو بربطها ضمن
أحلاف خارج أراضيها، أو بتوريطها اقتصاديًّا في شباك
سياسية. وقد أرادت مصر، سواء من قمة الحكم أو من قاعدة
الأعيان، طيلة القرن التاسع عشر، أن توازن عَلاقاتها بين
السلطنة العثمانية من ناحية وأوروبا من ناحية أخرى، ولكن
«الأقوى» ما كان يعبأ بهذه اللعبة عند أول فرصة
تحين.
فباسم مواجهة التدخل التركي في شئون مصر بعثت بريطانيا وفرنسا في نوفمبر (تشرين الثاني) ۱۸۸۱م بمذكرة للخديو وبارجتين إلى الإسكندرية في مظاهرة قوة. وأقبلت مذكرة ٧ يناير (كانون الثاني) ۱۸۸۲م لتفصح عن اتجاه الدولتين للتآمر على النظام الدستوري في مصر. وفي مايو (أيار) ۱۸۸۲م بعث السير ماليت القنصل البريطاني إلى وزير خارجيته يقول: إن «الوزارة الجديدة (أي حكومة البارودي) مصممة على تقويض أركان الحماية الإنكليزية والفرنسية.» وفي ٢٥ مايو (أيار) ۱۸۸۲م طالبت بريطانيا وفرنسا في مذكرة رسمية بإبعاد عرابي باشا مؤقتًا عن مصر، وإبعاد علي فهمي باشا، وعبد الرحمن حلمي باشا داخلها، وإقالة الحكومة١١٤ والمغزى المباشر لهذه المداخلات الأجنبية، هو أن أوروبا ذات تأثيرين متناقضين في تاريخ مصر الحديث، فالفكر الأوروبي — الفرنسي خاصة — هو مصدر رئيسي للتشريع الديموقراطي، ولكن «الدولة» بريطانية كانت أو فرنسية قد وقفت دائمًا ضد وصول هذا التشريع إلى حالة التنفيذ؛ لأنه يهدد مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية في مصر والبحر الأبيض والشرق الأوسط. لذلك وقفت هذه المداخلات دومًا إلى جانب الحكم الأوتوقراطي التابع، وفي مواجهة التطلعات الديموقراطية للشعب المصري.
-
النقطة الثالثة: هي وَحدة الفكر والسلوك في مواقف الثورة العرابية من
المسائل المطروحة فعليًّا. وهي وَحدة «مبرمجة» نظريًّا
وممارسة عمليًّا في آنٍ. قواها الاجتماعية أساسًا من
«الفلاحين»، ولكنها تضم جبهة عريضة من العلماء والتجار
والموظفين والملَّاك والعسكريين. وعلى صعيد الوَحدة
الوطنية، كان مجلس النواب المنتخب بعد الثورة يضم أربعة من
المسيحيين (عدد أعضاء المجلس ٧٥)، انتُخبوا انتخابًا حرًّا.
وضمت وزارة الثورة في عهد البارودي وزيرًا مسيحيًّا هو بطرس
غالي، ويقول Blunt بلنت:
«كانت العَلاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها ودية للغاية. وكان
الأقباط على العموم في جانب الوزارة.»١١٥ ويذكر كرومر أنه بعد حادث سبتمبر (أيلول) قد
«زاد الهمس عن قيام حركة سرية ترمي إلى إنشاء دولة عربية من
مصر وسورية، فلو فرضنا لهذه الحركة النجاح فما تُرى يصبح
مصير أجزاء الإمبراطورية وولاياتها، بل مصير آل عثمان أنفسهم.»١١٦ويقول محمود سامي البارودي على لسان لويس صابونجي في كتاب بلنت: إن إعلان الجمهورية في مصر كان يتضمن «انضمام سورية إليها، ثم الحجاز»١١٧ دون أن يتناقض هذا الفكر مع شعار الثورة الرئيسي وهو «مصر للمصريين». ويصف قاضي هولندي (فان بملن) هذا الشعور بقوله: «يخطئ من يظن أن المصريين المثقفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الخاصة ومصالح عائلاتهم، فإنهم على العكس يكرهون الحكم التركي والحكم الأوروبي على السواء ويريدون حكومة وطنية بكل معاني الكلمة، وهم يحبون مصر الحديثة ومصر التاريخية. ويهتمون بمصر الشعب، ويتألمون لمصائبه التي لا نهاية لها.»١١٨ ويؤكد أجنبي آخر هذا الكلام بقوله: «إن الولاء السياسي نحو الباب العالي قد تلاشى بسبب إحساس المصريين بفداحة الجزية التي تؤدَّى لتركيا دون مقابل، وأصبح شعارهم «مصر للمصريين»، ولا يشك في ذلك أحد ممن عرَفوا حقائق الأمور في مصر، ولو أن الخديو إسماعيل أراد أن يعلن الاستقلال التام لَلقِيَ التعضيد والتأييد من جميع طبقات الأمة.»١١٩ بل لقد كانت هناك أصداء عميقة لهذا التفكير عند كلٍّ من الخديو سعيد والخديو توفيق في بداياتهما.١٢٠
-
النقطة الرابعة: هي اتهام الثورة العرابية باستيراد «الفكر» الأجنبي.
والمثال على ذلك هو ما نشرته جريدة «الجوائب» التي كان
يصدرها بالعربية في الآستانة أحمد فارس الشِّدياق في عدد ۱۹
سبتمبر (أيلول) ۱۸۸۲م، أي بعد هزيمة الثورة.
اتهمت الصحيفة عرابي بأنه «نجَّس صفوف عساكره بالاشتراكيين الفرنساويين الذين أحرقوا مدينة باريس في سنة ۱۸۷۱م؛ وطُردوا منها. فإن هؤلاء الأشقياء بعد أن ضاقت بهم الأرض لم يروا وسيلة لإجراء مآربهم الإبليسية إلا الحكومة العرابية.» ثم نشرت الصحيفة ذاتها في عدد ۳ أكتوبر (تشرين الأول) ۱۸۸۲م، نقلًا عن صحف الإسكندرية، أنه قُبض على «جون نينيه من أهل سويسرا وغيره من الأوروبيين الاشتراكيين الذين فروا من فرنسا واشتغلوا بإضلال عرابي في الحركات العسكرية والأفكار السياسية.»١٢١
كما ذكرت صحيفة «الوطن» — وهي جريدة مصرية أصدرها ميخائيل عبد السيد — في عدد ۳۰ أكتوبر (تشرين الأول) ۱۸۸۲م نبأ القبض على بعض الأوروبيين وترحيلهم. وقالت إن المدافعين عن هؤلاء يقصدون أن يجعلوا مصر مركزًا للنهليست (العدميين)، وأن مصر ترى ما فعلته حكومة فرنسا بالكومون بعد أن قهرتهم. وأكدت الصحيفة أن اللذَين نُفِيا هما اثنان من المفسدين الأجانب، لما رأت الحكومة أنهما متلبسان بمبادئ الاشتراكيين.
-
النقطة الخامسة: تتصل بأهم وثيقتين في «فكر» الثورة العرابية وهما
برنامج الحزب الوطني، وبرنامج الحكومة العرابية. أما برنامج
الحزب فقد نشره بلنت أوائل عام ۱۸۸۲م حيث برهن الثوار عن
احترامهم للخديو «بقيام أحكامه وَفقًا للعدل والقانون»
و«عدم عودة الاستبداد والأحكام الظالمة التي أورثت مصر
الذل» ولا بد من «إطلاق عِنان الحرية للمصريين»، فالمصريون
«يعلمون أن الصمت على حقوقهم لا يخولهم الحرية في بلاد
ألِفَ حكامها الاستبداد وكرهوا الحرية.»
ويشير البرنامج إلى أن الحقوق الديموقراطية للشعب تتمثل في «حفظ الشرائع والقوانين، وإطلاق الحريات السياسية التي يعتبرونها حياة للأمة، ومنها حرية المطبوعات التي ينبغي أن تطلق بطريقة ملائمة.»
كما ينص برنامج الحزب الوطني على أنه حزب سياسي لا ديني، وأن حقوق الجميع «في السياسة والشرائع متساوية»، وأن الحزب نفسه مؤلف «من رجال مختلفي العقيدة والمذهب»، وأن جميع النصارى واليهود «وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه؛ لأنه لا ينظر إلى اختلاف المعتقدات» وأن «المصريين لا يكرهون الأوروبيين المقيمين في مصر من حيث كونهم أجانب أو نصارى، وإذا عاشروهم على أنهم مثلهم يخضعون لقوانين البلاد، ويدفعون الضرائب كانوا من أحب الناس إليهم.»١٢٢أما برنامج الحكومة العرابية، فيوجزه بلنت في كتابه على النحو التالي:
- (١) إلغاء السخرة التي يفرضها الباشوات الأتراك على الفلاحين.
- (٢) القضاء على احتكار الباشوات لمياه النيل وتحكمهم فيها.
- (٣) حماية الفلاحين من المرابين اليونانيين الذين يُنشِبون أظافرهم في أجسام الفلاحين مستعينين بالمحاكم المختلِطة.
- (٤) إصلاح النظام القضائي المليء بالفساد.
- (٥) كفالة حرية الانتخابات للبرلمان الجديد.
- (٦) إلغاء الرق. وهنا يقول عرابي: «إن الذين يملكون العبيد، والذين يرغبون في استمرار الرق هم الأمراء والباشوات الأغنياء وحدهم. وهؤلاء هم الذين تناضل حركة الفلاحين من أجل التخلص من تسلطهم. إن مبادئ الحرية والإصلاح تقضي بأن الناس جميعًا متساوون بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العقيدة، وأن استمرار الرق يتنافى تمامًا مع هذه المبادئ» (ص۲۱۰).
- النقطة السادسة: أن حرية المرأة كدعوة فكرية، لم تكن بمعزِل عن الصراع الوطني والاجتماعي، بل جزء لا ينفصل عنهما … فحين عرض يعقوب صنوع مسرحية «غندور مصر» على مسرح القصر الخديوي أُعجب الخديو إسماعيل بها، أما حين عرض مسرحيته الثانية «الضُّرَّتان» داعيًا لأن تكون للرجل زوجة واحدة، فإن إسماعيل غضب واستدعى يعقوب صنوع قائلًا له: «سيدي موليير مصر، إن كانت كُلْيتاك لا تحتملان إرضاء أكثر من امرأة واحدة فلا تجعل الغير يفعل مثلك.»١٢٣ وقد كان هذا أسلوب الخديو إسماعيل مع «الفن» أيًّا كان موضوعه، فهو نصير للفنون تقليدًا للغرب، ولكن حين يمثل يوسف خياط مسرحية «المظلوم» بتشجيع رسمي، ثم يشاهدها ربُّ القصر فسرعان ما يطرده من مصر. ولكن المهم أن دعوة صنوع المضادة لتعدد الزوجات، لم تكن بمعزِل عن التحرر العملي للمرأة المصرية التي شاركت في الحرب والمقاومة «وخاصة في الإسكندرية حيث كن يساعدْنَ جنود المدفعية الذين كانوا يردون مدافع الجيش البريطاني.»١٢٤
- النقطة السابعة: لا تخص مأساة الثورة، بل مأساة «النهضة» مع بعض أهم رموزها الفكرية. فبينما يفهم المرء هزيمة «السياسيين» مع هزيمة الثورة، بالسقوط أو التردد أو الانهيار أو حتى الخيانة (وقد حدث هذا الأمر الطبيعي مع بعض قادة الثورة العرابية فور موقعة «التل الكبير» التي دُحر فيها عرابي على أيدي الإنكليز). كما يفهم المرء نكوص بعض الصحفيين — مصريين وسوريين — وانضمامهم إلى معسكر الخديو والاحتلال، فإن الأمر يختلف مع رواد الفكر والنهضة.
وهي قصيدة تتواضع إلى جانب قصائد محمود سامي البارودي في هجاء الثورة، وهو الذي وصل في البداية إلى منصب وزير الحربية، ثم رئيسًا للوزراء في الحكومة الثورية. غير أن هذا «الانكسار» في تاريخ محمد عبده والبارودي، لا يُلغي مطلقًا أن الأول كان رائد «الإصلاح الديني»، وأن الآخر كان رائد عصر الإحياء في الشعر العربي. غير أن هذه الحقيقة بدورها لا تُلغي الحقيقة المقابلة والأكثر تعقيدًا، وهي أن تحوُّل نبوءات الطهطاوي إلى مرحلة الصدام مع واقع المخاض العسير لولادة الطبقات الاجتماعية المتميزة طيلة الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، قد ولد أنماطًا «اجتماعية» متميزة من المثقفين.
إن مواجهة الواقع غير الحُلم به أو بغيره. هنا يصبح الانتماء الاجتماعي للمثقف ودرجات الثقافة والموهبة وخبرة الحياة عناصر أساسية في تكوين منحاه الفكري ومصيره السياسي ودوره في النهضة. وهو الأمر نفسه الذي يقع على صعيد الحكم، فرغم كافة الصعوبات التي واجهت محمد علي وإبراهيم باشا، فقد كان عصرهما بسيطًا بالقياس إلى ما جرى في النصف الثاني من القرن. لذلك كان ممكنًا للطهطاوي أن يحلم ويترجم ويطبع ويعلم اللغات. لم يكن «تأسيس» مصر الحديثة المستقلة ليحتاج لأكثر من ذلك. ولم تكن الإجراءات الاجتماعية كاحتكار الأرض، ومذبحة المماليك، وتمصير الجيش، والفتوحات العربية، يتهددها الخطر من هذا «الفكر». أما حين أقبل عباس الأول، فسعيد، فقد أصبح علي باشا مبارك هو «النموذج» المفضل عند الطهطاوي لصفاته العملية البراغماتية. وحين تشرع البنى الاجتماعية في التغير الكيفي من إسماعيل إلى توفيق، تصبح «الثورة العرابية» هي الطرف الرئيسي في الحوار التاريخي للنهضة، ولكنه الطرف المتعدد المصادر والانتماءات والينابيع والمصائر. فإذا كان الإمام محمد عبده قد تردد وارتد، وإذا كان محمود سامي البارودي قد انتصر وانكسر، فإن عرابي رغم هزيمته لم ينهزم، وظل عبد الله النديم رمزًا لا ينطفئ نوره، مِشعلًا يضيء الطريق أمام أفكار الطهطاوي لتأخذ مكانها المستمر في الزمان. عبد الله النديم هو الذي تبقى من أتون الثورة كالعنقاء التي احترقت، فتحول رمادها إلى نيران جديدة. إنه جسر التواصل بين الفجر «المثالي» للنهضة وعصرها «الواقعي» المتخم بالتناقضات والوعود.
وإذا كان من أهم معالم النهضة الثانية أنها قد اتسعت باتساع قاعدتها الاجتماعية لأكثر من رجل واحد، كما كان الحال في عصر الطهطاوي، فإن عبد الله النديم (١٨٤٥–١٨٩٦م) كان دون غيره من رجالات هذا العهد، هو طهطاوي العصر الجديد، من حيث الشمول والراديكالية والقيم الأساسية للنهضة … مع فارق خطير هو التباين الحاد بين عهد محمد علي وأواخر القرن الماضي، ومن ثم تولد الفارق الآخر والجوهري بين الرجلين، وهو أن النديم لم يكن مفكرًا فحسب بل مناضلًا سياسيًّا في المقام الأول. وبالتالي فإذا كانت عظمة الطهطاوي أنه كان البشير الأول في تاريخ الفكر المصري الحديث بمقومات النهضة، وأن وسيلته الرئيسية في ذلك كانت النقل والتعريب عن الفكر الأوروبي، فقد كان النديم هو الثوري الذي تجاوز النقل إلى الخلق، بمعايشةٍ حارَّةٍ لخصوصية الواقع المصري ومعاناةٍ هائلةٍ لإحدى لحظات الحسم الاجتماعي، وابتكارٍ مدهشٍ لوسائل التغيير، وإبداع حقيقي لفكر المرحلة، وتجلياته التنظيمية والسياسية الفاعلة.
هو مفكر الثورة العرابية ولسانها دون ريب، ودون التقليل لحظة واحدة من أهمية التخصص الذي كان سمة المرحلة، تخصص محمد عبده في الإصلاح الديني، وقاسم أمين في تحرير المرأة، ويعقوب صنوع في الصحافة والمسرح، والمويلحي في الرواية، والبارودي في الشعر، وغيرهم في مختلِف المجالات التي لم يعد ممكنًا بالنسبة لتعقيد العصر أن تكون مهمة رجل واحد.
وقد أُتيحَ للنديم منذ الميلاد إلى الموت ما لم يتَح لغيره من رموز النهضة الثانية، فقد أقبل على الحياة من أسفل السلم الاجتماعي، إذ كان أبوه خبازًا متواضعًا في أحد الأحياء الشعبية بالإسكندرية. وكان من الطبيعي أن يتلقى تعليمه الباكر في «كُتَّاب» الحي، ولكنه أفصح منذ البداية عن ذكاء استثنائي يحتاج إلى تربية خاصة في معهد أكبر. وكان أن توجه إلى مسجد الشيخ إبراهيم باشا الذي يقوم بالتعليم فيه بعض المشايخ على نمط الأزهر، غير أنه لم يرتحْ لهذا النمط، وفضل عليه حياة التشرد مع الزجالين والشعراء الجوالين والمغنين على الربابة و«الأدباتية»، كما كان يوصف أدباء ذلك الوقت. وكانت هذه هي البداية التي سترافقه بعدئذٍ طيلة العمر، سواء في محتواها الفكري والاجتماعي، أو في غناها الخِصب بمعجم الحياة الشعبية من عادات وقيم وتقاليد ونوادر وحكايات وتعبيرات ومفردات.
و فقد الأب الأمل في أن يصير ابنه شيخًا حين لاحظ عليه بوادر هذا السلوك الشريد. وإذا بالابن يتعلم حرفة غريبة هي الكتابة التلغرافية حيث عمل للمرة الأولى في هذه المهنة بمكتب مدينة «بنها»، ثم نُقل فجأة إلى مكتب القصر العالي في «غاردن سيتي» بالقاهرة، حيث تسكن والدة الخديو إسماعيل.
وفي القاهرة عرَف طريقه إلى مجلس محمود سامي البارودي، وعبد الله فكري، وكان يضم صفوة أدباء العصر. كما عرَف طريقه إلى «قهوة متاتيا» في ميدان «العتبة الخضراء» حيث يجلس جمال الدين (الأفغاني) وحوله أديب إسحق (١٨٥٦–١٨٨٥م) ومحمد عبده وشاب صغير السن اسمه سعد زُغلول.
كذلك عرَف حياة القصور التي ما كانت تخطر له على خيال، وهي الوجه النقيض لحياة المشردين والصعاليك والفقراء أمثاله. ولكن «المشاغب» داخله لم يعبأ بما يمكن أن يحل به عندما تشاجر مع رئيس أغوات القصر «خليل آغا» فكان الطرد من القصر، والتجوال في دنيا الله الواسعة من جديد.
ولأن النديم جمع بين الفكر والعمل، لا بد لنا من إمعان النظر في خلاصة فكره وحصيلة عمله، لنحدد بدقةٍ موقعه الاستثنائي في مسيرة النهضة الثانية. فلنسأل إذن عن مواقفه الأيديولوجية من القضايا المطروحة.
-
فالقضية الأولى: هي «الديموقراطية الاجتماعية»، فلم يتوقف النديم،
كمحمد عبده مثلًا، عند حدود الديموقراطية السياسية المعبر
عنها بالحكم الدستوري والبرلمان، بل هو يسجل حوارًا مباشرًا
حول المسألة يتضمن أسلوبًا أعمق في المعالجة:
التلميذ : من أين يأتي الوبال والأغنياء هم أهل الوطن الحائزون على الرتب العالية، وهم أدرى بمال الوطن وصالح المواطنين؟النديم : لا يخفاك أن ابن الغني مولع بالاستبداد والاستعباد؛ فهو يميل إلى استخدام الفقراء بلا مقابل، وضرب الضعفاء من غير أن يعارَض أو يحاكَم. وهذا بعينه هو الاستبداد المضر بالشعب. ثم إن أباه كان من حكام البلاد، فقد أدرك الثروة بنهب الفلاح وظلمه، فإن أغلب الحكام متسلطون على المحكومين تسليط الهواء على النار. ومن كانت هذه فِعالَ أبيه كان بعيدًا عن الحق، أجنبيًّا من الإنصاف، لا يميل إلى المساواة، ولا يعترف للفقير بحقٍّ معه في الوجود. فوجود مثله في مجلس النواب علة لزيادة هلاك الشعب، فيشرِّعون من القوانين ما يضمن مصالحهم ليضعفوا بذلك حدة أذهان الفقراء، ويحبسوا الثروة لأنفسهم.التلميذ : وإذا كان من أولاد الأتراك الذين نالوا مناصب الرئاسات في الدولة؟النديم : لا تحكم على الرؤساء الأتراك إلا بعد معرفة أسباب ثروتهم، ومن هذا القسم من لم يرَ الريف ولا يعرفه، فكيف يكون نائبًا؟ وقد يكون فيهم كثير من أهل الخبرة والدراية … لكن حبهم لذاتهم يعطل كثيرًا من المنفعة ويجلب كثيرًا من الضرر. ووجودهم بالمجلس يجعله لعبة يديرونها كيف شاءوا.التلميذ : وهل يحتمل الشعب إطلاق حرية الأفكار؟النديم : نعم يحتملونها ويحفظونها ويسيرون بها في طريق يعز على غيرهم الوصول إليها، ولكن بعدم تسلط الطبقية على المجلس، بل تشكيله من جميع الطبقات.»١٣٤وهي تقريبًا الفكرة ذاتها التي دافع عنها عرابي نفسه أمام المحقق، حين سأله عن أسباب «التحرك المكشوف» يوم ٩ سبتمبر (أيلول)، فقد أجاب بشجاعة: «إن الأسباب التي دعت إلى ذلك هي عدم الأخذ بالعدل والمساواة في المعاملات، فالبلاد لم يكن بها قوانين. فلذلك اعتمد أعيان البلاد على أبنائهم رؤساء العسكرية، وتآلفت أنفسهم لتشكيل مجلس نواب يمثل البلاد ويحفظ لها حقوقها، ويدفع عنها ما ألم بها من المظالم.»١٣٥ هكذا يبرز «المضمون الاجتماعي للديموقراطية» عند النديم وعرابي، على غير النحو البالغ التعميم عند الطهطاوي، وعلى غير النحو الإصلاحي عند محمد عبده الذي خطب في حفل أقامه «الحزب الوطني» بتاريخ ۱۳ / ۲ / ۱۸۸۲م قائلًا: «لم يُعهَد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون من مساواة أنفسهم بسائر الناس وإزالة امتيازاتهم، واستئثارهم بالجاه والوظائف بمشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك … هل تغيرت سنة الله في الخلق.» هكذا تصبح «سلطة الأغنياء» عند محمد عبده هي مضمون الديموقراطية الطبيعي، والذي يصل إلى حدود الشرع الإلهي. وهو الأمر الذي يختلف جذريًّا عن تيار عرابي والنديم الذي عبر عنه شعرًا عاميًّا باللهجة الدارجة المصرية:أهل البنوكا والأطيانصاروا على الأعيان أعيانوابن البلد ماشي عريانمَمعاه ولا حق الدخانوبدهي أن «مسألة الرق» تصبح تبعًا لذلك، من أهم المسائل التي عالجها عرابي من هذا المنظور للديموقراطية، فيقول: «ليس في مصر من يود أن يكون له عبيد غير أمراء البيت الخديوي والباشوات الأتراك الذين تعودوا على استعباد الفلاحين، وإن الإصلاحات الجديدة سوف توجد المساواة بين الناس مهما اختلفوا في الجنس واللون والدين، وليس مع هذا الإصلاح محل للاسترقاق.»١٣٦ ومن هنا كانت دعوة النديم إلى تكوين «جمعية أحرار السودانيين» التي قال بصددها: إنه يأمل «أن يزيل بهذا العمل الأثر البغيض للرق في البلاد، وأن نضع أنفسنا في مصاف الدول المتقدمة.»١٣٧
ومعنى ذلك أن عبد الله النديم، على صعيد الفكر، وأحمد عرابي على صعيد الممارسة، كانا يجسدان «رُوح الثورة» بتحويل مجرى النهضة من الفكر المجرد إلى الواقع المحسوس، أي إدخال الطهطاوي والفكر الفرنسي إلى حيز الاختبار الفعلي، وبالتالي إلى الصدام مع القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتخلفة، والتي تتشكل أساسًا من: (أ) العنصر الأجنبي الدخيل عبر الاحتكارات الأوروبية والأتراك. (ب) العنصر المحلي شبه الإقطاعي ووكلاء الأجانب. (ج) العنصر المتردد من مثقفي الفئات الوسطى الناشئة. وكان برنامج الديموقراطية العرابية كما صاغه النديم في ضوء ذلك هو: إن الإطار الدستوري هو شكل مهم، ولكن محتواه الطبقي واجب التغيير، لمصلحة البلاد ككل، لأن تشريعات «الأغنياء» الضيقة الأفق تفيدهم وتضر بالتقدم العام، وكذلك لمصلحة أوسع جماهير الشعب وأساسًا فقراء الفلاحين. ولن يحدث التغيير إلا بإعادة تشكيل المجلس النيابي على نحوٍ يضمن المصلحتين، ومن هنا ضرورة إلغاء شرط الانتخاب فيصبح حقًّا للجميع لا للمتعلمين وحدهم. وهو يفرق بحسم بين أغنياء جمعوا ثرواتهم بالسلب والنهب وأغنياء كدُّوا وكافحوا. والحقيقة أنها تفرقة (وإن بدت بُدائية) بين الإقطاع والرأسمالية، وبين الرأسمالية الزراعية والفئات البرجوازية المتوسطة الناشئة، وبين رأس المال الكومبرادوري ورأس المال الوطني. وفي هذه الحدود (التي تكاد تشكل جبهة وطنية ديموقراطية عريضة يقودها أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة) يرى النديم أن صمام الأمن لمجلس النواب هو «مطلق الحرية في أفكاره لا يعارَض في المصلحة ولا يُلزَم بشيء لم يقر عليه.»
-
: القضية الثانية هي «المسألة القومية»، وفيها يتضح أن
معنى «الوطن» قد تطور من فجر النهضة عند الطهطاوي إلى
انفجار الثورة العرابية. ونعلم أن كلمة الثورة بحد ذاتها لم
ترد في أدبيات الطهطاوي كنقطة في برنامج النهضة، بل كان يصف
ما جرى في فرنسا بالفتنة، وهي لفظة عربية صحيحة ولكنها ذات
مدلول لغوي مختلف، يغلب فيه الحكم على الوصف. ولكن الثورة
العرابية هي التي أضفت على معنى «الوطن» أبعادًا تختلف عن
معناه السابق في وثائق النهضة الأولى. رغم أن ذلك يشكل
تناقضًا، فبينما كان محمد علي وإبراهيم باشا، على صعيد
الفعل السياسي والاستراتيجي، هما رائدا تعريب مصر في العصر
الحديث كجزء من يقظتها القومية، فإن الفكر المصري ظل
«وطنيًّا» بالمعنى الإقليمي الضيق الذي يبحث عن «الجذور»
الغائرة في عمق التاريخ، ولا يبصر الآفاق المفتوحة في سماء
المستقبل. وقد شكلت هذه النتيجة نفسها تناقضًا آخر بين
اعتبار الإسلام هو «ينبوع التراث» المفترض العودة إليه،
واعتبار «الغرب» هو العصر المفترض الالتحاق به. ولقد كان
التوازي بين الفكر والعمل في عصر محمد علي — وليس التقاطع
فضلًا عن التفاعل — هو السبب في هذه المجردات الطهطاوية
المعزولة عن الواقع الاجتماعي الحي. لذلك كانت رؤيا
الطهطاوي، هي رؤيا النهضة في خطوطها العامة، نهضة «الوطن»
ككل، ولكنه «الوطن المصري» من ناحية و«الوطن البرجوازي» من
ناحية أخرى دون تحديد لانتماء هذا الوطن، ودون تحديد
للشرائح الاجتماعية المؤهلة، أو التي يجب تأهيلها لإنهاضه.
وهكذا كان انحياز الطهطاوي انحيازًا يوتوبيًّا أقرب إلى
النبوءة منه إلى الارتباط العضوي بفئة اجتماعية صاحبة مصلحة
محددة في السلطة، ولها بالتالي برنامج محدد للنهضة، وأسلوب
محدد للتغيير. ولقد ظل الطهطاوي طول الوقت تحت جناح الحاكم
إذا كان راضيًا كمحمد علي وفي الظل بعيدًا عن الأضواء إذا
لم يكن راضيًا كعباس الأول. وليس هناك ما يدل على موقف سلبي
أو إيجابي اتخذه الطهطاوي من «منهج» محمد علي في الإصلاح،
سواء على صعيد السلطة الأوتوقراطية، أو على صعيد ملكية
الأرض لشخص الحاكم، أو على صعيد توزيع الأرض بعدئذٍ
إقطاعيات، كان للطهطاوي نفسه نصيب في إحداها.
عبد الله النديم هو رسول النهضة في مرحلتها الثانية التي تختلف كيفيًّا عن مرحلة الطهطاوي، رغم أنه لم يحد قِيد أنملة عن نبوءة الرائد الأول، ولكن «تحقيقها» استوجب الدخول في التفاصيل، واستحدث، من ثَم، رؤًى جديدة. أهمها رؤية «الوطن المصري» على الأرض «العربية»، رغم المفارقة المؤسية في ثورة عرابي، وهو أنه لم يكن فاتحًا للأمصار المجاورة لمحمد علي وإبراهيم باشا، في النطاق العربي، أو كإسماعيل في النطاق الأفريقي. بل كان عرابي «بطلًا اجتماعيًّا للاستقلال الوطني» في الحدود المصرية. ولكنه مع النديم والبارودي كانوا يتفتحون على «عروبة مصر» يقول النديم في حفل افتتاح «الجمعية الخيرية الإسلامية»: «هذا الاحتفال سيكون تاريخًا لبعث الأرواح العربية، ونشأة الغيرة الشرقية، وهكذا يكون الميل الذاتي للأنس بالنفع النوعي والمصلحة الوطنية، فالأعضاء شتى والنفس واحدة، والعروق عدة والدم واحد، والأفكار وإن تنوعت فمحورها لسان واحد.»١٣٨ وقد استوجب الأمر، لإحداث التغيير، أن تكون «الثورة» هي أداته الواضحة المباشرة. ثورة تقودها الطليعة العسكرية للبرجوازية الوليدة، ولكن قواها الأساسية هم الفلاحون. ويقوم فيها المثقفون بدور الشريك الفاعل في المعارضة والحكم والحرب جميعًا. وإذا كان عرابي هو «العسكري الفلاح»، فقد كان النديم هو النموذج الرائد لفكر الشريحة الثورية للبرجوازية الصغيرة، وهو البشير الأول بتعاظم هذه الفئة الاجتماعية كمًّا وكيفًا، ومن ثم فقد كان مع أحمد عرابي، الأكثر تجسيدًا لقضية الثورة، من بقية زعماء الحركة العرابية. يعترف عرابي ﻟ «بلنت» Blunt بأنه لو كان قُدِّر لحركته أن تخلع إسماعيل لا بإرادة أوروبا «لكنا تخلصنا من عائلة محمد علي بأجمعها، وكنا عندئذٍ أعلناها جمهورية.»١٣٩ وأكد البارودي هذه الفكرة المحورية في تفكير الثورة حين قال: «كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر إلى جمهورية مثل سويسرا، وعندئذٍ كانت تنضم إلينا سورية ويليها الحجاز، ولكننا وجدنا العلماء (يقصد شيوخ الأزهر ورجال الدين عمومًا) لم يستعدوا لهذه الدعوة، لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم.»١٤٠ وفي المصدر نفسه أن الثوار كانوا ينتظرون الوقت الملائم لإعلان الجمهورية المستقلة: «وقد كان هذا أساس عقيدتهم منذ البداية، ولكنهم تَبصَّروا في العواقب: فرأَوا أن يسيروا سيرًا وئيدًا في هذا الموضوع. وعبد الله النديم يوجه جهوده نحو هذه الغاية ببذر بذورها في أذهان الجيل الجديد.»١٤١ وما أبعد هذا التفكير عن الحلم الإمبراطوري لمحمد علي، وما أبعده كذلك عن الفكر «المصري» للطهطاوي، وما أبعده أخيرًا عن طوباوية المدينة البرجوازية الفاضلة، فمصر العربية عند النديم وعرابي هي مصر المستقلة، ومصر الإقليمية هي مصر المهزومة. ومصر العربية هي مصر الجمهورية التي خلعت الرداء الملكي، وهي مصر الديموقراطية التي خلعت الثوب الأوتوقراطي، وهي مصر العلمانية التي خلعت الثيوقراطية. هي مصر الثورة الوطنية بقيادة «أعيان البلاد» من أبناء الطبقة الوسطى الناشئة وجيش الفلاحين الفقراء. وهي مصر «الوحدة الوطنية» بين الفئات والشرائح صاحبة المصلحة في الثورة، وبين الطوائف الدينية التي تشكل تنوعًا في صفوف الشعب. مصر العربية عند النديم هي أن تكون «مصر للمصريين» شعار الثورة العرابية. وقد كان الانتماء الاجتماعي للنديم (وهو الوحيد من زعماء الثورة الذي لم يحمل لقب بك أو باشا) عاملًا حاسمًا في بلورة همومه وأفكاره وسلوكه السياسي، فبينما تردد مثقفو الطبقة الصاعدة وتخلوا عن ثورتها، بقي هذا البرجوازي الصغير صامدًا إلى النهاية. كان على نحوٍ ما بشيرًا بالدور الذي ستقوم به طبقته في مستقبل الأيام، خاصة وأنه لم يتزحزح عن موقعه الاجتماعي، فكرًا ومعايشة، حتى حين أصبح الرجل الثاني في الثورة، وحين أصبح صوته (الطائف) لسانًا رسميًّا للحكومة.
-
القضية الثالثة: هي انتقال المثقف من الفكر والفعل وتوحده مع مسيرة
الثورة ومصيرها، فقد انضم النديم — الشاعر والخطيب والصحفي
— إلى التنظيم العسكري للثوار، يشارك في الحوار والتخطيط
والتوجيه والتنفيذ ووضع البرامج. وابتكر الوسائل والأساليب
التي تنم عن إيمان عميق بالشعب وديموقراطية الجماهير كقاعدة
أساسية وحاسمة للثورة، على الأجنبي والحاكم والطبقات
المستفيدة. ابتكر «الخطابة» في كل رقعة من أرض مصر، في
المساجد والمدارس والأسواق، في المدن والقرى وميادين
القتال. كان يؤسس جماعات الخطابة لتدريب الصبية والشباب
عليها و«تجنيدهم» في الخطوط الخلفية للثورة. كان ينظم
المظاهرات ويبدع شعاراتها، وقد كان هو الذي نظم النساء في
الإسكندرية خلال الحرب «حيث كن يساعدن جنود المدفعية الذين
كانوا يردون مدافع الجيش البريطاني.»١٤٢ وهو الذي ابتكر فكرة «التوكيل الوطني» الذي
سيصبح تقليدًا وطنيًّا بعدئذٍ في ثورة ۱۹۱۹م، وهو المنشور
الذي وقعه ۹۰ ألفًا من الأعيان والفلاحين يطلبون فيه
الإبقاء على عرابي، وعزل الخديو توفيق.١٤٣ وهو الذي ابتكر المنظمات الشعبية تحت أسماء
تعليمية أو تثقيفية أو ترفيهية لنشر مبادئ الثورة، كجمعية
«محفل التقدم» و«محفل محبي العلم» و«جمعية التوفيق الخيري»
و«جمعية أحرار السودانيين» فضلًا عن «الجمعية الخيرية
الإسلامية» التي طالب المسيحيين بأن يؤسسوا نظيرًا لها
فاستجابوا له وأنشئُوا «الجمعية الخيرية القبطية».
كذلك ابتكر الصحافة الثورية بأسلوبها الحي القادر على النفاذ إلى قلوب الجماهير وتحريضها وحشدها، سواء حين استخدم العامية المصرية، أو حين كتب القصص والأشعار، وخلق الكاريكاتير السياسي باللغة. وفي هذا السياق كان النديم أول من دعا في هذا الوقت المبكر إلى تشجيع الصناعات الوطنية، ومقاطعة المصنوعات الأجنبية وتشجيع التجارة الوطنية. كما طالب بإنشاء بنك أهلي «يحمي الأهالي من استغلال المرابين، وإصلاح طرق التدريس والمناهج، وتعميم التعليم.»١٤٤ كان بمفرده حزبًا، أو بتعبير أحمد أمين: «رسول العامة، قطَّر المعاني وأوصلها إلى التاجر في متجره، والفلاح في كوخه، والتلميذ في مدرسته»١٤٥ فكان النموذج الرائد لوحدة الفكر والسلوك في حياة المثقف الثوري.ومن مأساة العقل في مصر «أن كتبه وتآليفه التي أنفق فيها تسعة عشر عامًا، عندما ضُربت الإسكندرية وهاجر منها أهلها، وضعها أبوه في ثلاثة صناديق كبار وشحن بها عربة من عربات السكة الحديدية، فلما وصلت إلى كفر الزيات ازدحم على القطار المسافرون من المهاجرين ازدحامًا هائلًا، فلم يسَعْ رجال المحطة إلا أن يرموا جميع ما بالعربة في النيل، ومنها الصناديق الثلاثة، وفيها كل ثروته العقلية.»١٤٦ واختفى النديم عن الأنظار الشرسة حينًا من الزمن، ثم أخبر عنه أحدهم، فنُعِيَ، ثم عاد ليُصدر «الأستاذ» في ٢٣ أغسطس (آب) ۱۸۹۲م، ولينقد كل شيء بدءًا من الأزهر إلى الزراعة، إلى اللغة العربية، إلى الخرافات، إلى الطرق الصوفية، إلى مهاجمة الاحتلال من جديد، فأُغلقت في ١٣ يونيو (حزيران) ۱۸۹۳م. ولم يترك لنا سوى القليل مما كتب، خاصة كتابه «كان ويكون» وهو مجموعة الأحاديث التي دارت بينه وبين صديقه الفرنسي، وكان يعرف مخبأه، كما كان همزة الوصل بينه وبين العالم. ولم يبقَ لنا سوى الرواية الوثائقية الفريدة التي كتبها الروائي المصري «أبو المعاطي أبو النجا» بعنوان «العودة من المنفى». ولكن الحقيقة أنه تبقى لنا من عبد الله النديم الشيء الكثير، ففي ذات ليلة — في أواخر أيامه — دق بابه شاب رقيق المحيا يسأله عن الثورة وقصتها الحقيقية، وأنه تتلمذ على صفحات «الأستاذ» وأنه يدعى مصطفى كامل. وكانت النهضة على موعد جديد مع ثورة جديدة.
•••
(٩) وإذا كانت «العودة إلى الينبوع» تعني لدى فريقٍ ما من مفكري النهضة الثانية العودة إلى الإسلام، فالتوفيق بين الإسلام والغرب، أو بين الإسلام ومصر من خلال القيم المتفق أو المختلَف عليها، فإن أحمد لطفي السيد (۱۸۷۲–١٩٦٣م) هو الذي بلور اتجاهًا آخر على صفحات «الجريدة» حيث اختار من اليقظة الحضارية في الغرب طابعها القومي. ولم تكن واضحة حينذاك الفوارق بين الفكرة العربية والفكرة المصرية، كما أن البزوغ الاقتصادي للبرجوازية المصرية لم يعانق بزوغ البرجوازيات العربية؛ لذلك نادى لطفي السيد وتلامذته من بعده، وأهمهم الدكتور هيكل وطه حسين، بأن «الجماعة المصرية» تُشكِّل — قبل الإسلام بآلاف السنين وبعده — جماعة واحدة ووطنًا واحدًا، عِرقيًّا وتاريخيًّا. ومن هنا كان الولاء لمصر هو الإطار الشرعي لوحدة المصريين. وقد كان هذا «الينبوع» مختلفًا كل الاختلاف عن المداخل المعتادة إلى عصر النهضة المصرية، وإن كان الطهطاوي على وجه اليقين قريبًا منه قربه الأبوي من بقية الاتجاهات. كان هذا الينبوع يقتضي موقفًا مضادًّا للخلافة الإسلامية، بل وموقفًا مغايرًا من الإسلام ذاته، وبالتالي موقفًا أكثر حسمًا من حضارة الغرب. ومن الطبيعي إذن أن يكون المحتوى السياسي للثورة الوطنية الديموقراطية عند اتجاه لطفي السيد، هو استقلال مصر عن الهيمنة العثمانية، وأن تكون الليبرالية الأوروبية هي عماد الحكم، وأن يكون الاتصال الحميم بالغرب هو الطريق إلى التقدم الحضاري. وهو كالشيخ محمد عبده — رغم تباين الاتجاهين — يقف من جملة هذه القضايا موقفًا معتدلًا لا يميل إلى «الثورة» حتى لا يجرفها «الرعاع» عن مجراها الذي ينبغي أن تمسك بدفته «الصفوة المستنيرة» ذاتها. وتختلف نقطة الانطلاق هذه عن النقطة التي بدأ منها مصطفى كامل كفاحه الوطني ضد النفوذ الغربي ومغازلة الخلافة العثمانية. ولكنهما يجتمعان حول الفكرة الرومانسية التي تعني بصوت لطفي السيد «مصر للمصريين»، وبصوت مصطفى كامل «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا.»
على أية حال فقد تكوكب حول هذه المنطلقات مجموعة من المثقفين والأدباء والفنانين الذين جسدوا إلى هذه الدرجة أو تلك معنى النهضة الجديدة، كأديب إسحق (١٨٥٦–١٨٨٥م) المسيحي السوري بمشاعره العِدائية للإكليروس، وعاطفته العربية الأصيلة، وكعبد الله النديم (١٨٤٤–١٨٩٦م) لسان حال الثورة العرابية والوحدة الوطنية والشعر الشعبي الأخاذ، والمويلحي الذي كتب «حديث عيسى بن هشام» آخر الامتدادات للرحلة الطهطاوية، وآخر المزاوجات بين القصة الحديثة والمقامة المسجوعة، ومحمود سامي البارودي الباعث الكلاسيكي للشعر العربي العظيم.
… وأخفقت الثورة العرابية، ولكن عصر النهضة لم ينته بعد، لأن الثورة الوطنية الديموقراطية لم يتم إنجازها، بل لقد ازدادت التناقضات في اللوحة الاجتماعية وضوحًا؛ ذلك أن الاستعمار الغربي أصبح واقعًا مباشرًا يحياه المواطن المصري في مختلِف تفاصيل الحياة. ولكن «الموقف من الاستعمار» أيضًا أصبح ميزان النهضة، فلم يعد التخلف ثمرة القرون الطويلة من الانحطاط، بل أمسى عملًا اجتماعيًّا متصاعدا يتضافر في دعمه هيكل الإنتاج بأجنحته المحلية (الكومبرادورية الإقطاعية أساسًا) وأجنحته الأجنبية (الاحتكارات).
ولذلك أصبح محور الصراع مع الغرب هو الاستقلال «الوطني»، كما تأكد محور الحوار في «التقدم الاجتماعي» لا بمعنى التحديث والعصرنة لوسائل الإنتاج، وإنما بمعنى حداثة عَلاقات الإنتاج وعصرنة قيمه.
وإذا كان الإصلاح الديني، وتحرير المرأة، وتعميم المعرفة، والحياة الدستورية، تشكل في مجملها جواب العصر الليبرالي، فإن الإسلام والحضارة الحديثة، ومصر للمصريين؛ ظلت الينابيع الأساسية التي يعود إليها «الجميع» للبحث في صلاحية الجواب، وامتحان قدرته على النهضة «بالمجتمع».
منذ ذلك التاريخ لم يعد الوطن يعني شيئًا واحدًا للكل، بل اختلفت الاوطان باختلاف الطبقات، ومن ثم تباينت الطرق إلى النهضة تباينًا جذريًّا.
شكلت مقدمات الثورة العرابية ونتائجها ملامح المرحلة الثانية من عصر النهضة. فأصبح الاستقلال والديموقراطية هما محور النضال الوطني. ولعل أهم المقدمات أن اللوحة الطبقية للمجتمع المصري أخذت في التبلور بالنمو المتعاظم للشريحة البرجوازية ذات الأنسجة المتباينة، خاصة في الريف والجيش وأجهزة الدولة. ولعل أهم النتائج هي أن البرجوازية الوليدة فقيرة التماسك الفكري والأيديولوجي وُلدت حقًّا ضد السوق البرجوازية الغربية، ولكن في ظلها وتحت وطأة الشرائح الأخرى المتحالفة معها. ومن هنا أوجزت الثورة العرابية المهزومة «الإثبات والنفي» معًا لقدرة البرجوازية الناشئة على إنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية، لب لباب عصر النهضة.
لذلك اقترن البعث الجديد لفكر النهضة بجملة المشكلات التي تولدت عن الاحتلال البريطاني المباشر (۱۸۸۲م)، والحكم الأوتوقراطي للخديو توفيق، والمجموعة الهائلة من الامتيازات الأجنبية التي حصلت عليها العناصر الغريبة قوميًّا عن المصريين، والهيمنة الراسخة لعَلاقات الإنتاج الإقطاعية، والقيم الثابتة للدين في مختلِف مجالات الحياة.
وإذا كان المعلم الأول — رفاعة رافع الطهطاوي — قد أنجز حُلمًا برجوازيًّا على صعيد الفكر المجرد، فقد واجه محمد عبده فأحمد لطفي السيد جنينًا واقعيًّا للمجتمع البرجوازي لا يحتمل الأقماط الفكرية المجردة — وإن اهتدى بها — بل يحتاج إلى معالجة جديدة توقفت عند محمد عبده على أعتاب تجديد الإسلام والإصلاح الديني، وانتهت به على أعتاب «المستبد العادل». أما أحمد لطفي السيد، فرغم أنه تلقى الكثير على يدَي محمد عبده، إلا أنه توصل إلى النقيض الشامل — إن جاز التعبير — عن دعوته «الوطنية الليبرالية الحديثة».
فقد رفض أحمد لطفي السيد منذ البداية أن يكون هناك شيء غير «الأرض» رابطة بين أفراد الشعب، فلم يفكر في أمة إسلامية ولا قومية عربية، بل في «أمة مصرية» لا يعتمد تكوينها على العِرق بل على التاريخ والأرض، وعلى تاريخ الأرض، أي إن لطفي السيد لم يبلور تفكيره عن الأمة والقومية في ضوء العلوم والحركات العنصرية، بل أراد فسخ العَلاقة بين مصر وتركيا على أساس بديل للدين هو القومية التي ما كانت لتتسع حينذاك للفكرة العربية، إلا على الصعيد الثقافي العام. أما الدوائر الثلاث — الاقتصادية والاجتماعية والسياسية — فقد انعزل نموها الإقليمي الضيق، بفاعلية الهيمنة العثمانية أولًا التي مالت إلى «الوحدة الإسلامية» بمعنى الولاء المطلق لمركز الخلافة في إطار التفتت الأقَلِّيِّ وتكريسه في الوطن العربي وغيره من الأوطان التي تدين بالإسلام. وعندما أقبل الاستعمار الغربي آثر الحفاظ على هذه التجزئة وتعميقها، حيث تتيح له السيطرة الكاملة على «الدويلات» أكثر كثيرًا مما يستطيع هذه السيطرة على وطن واحد كبير. وقد رسخت هذه «الحدود» بين الأقطار العربية من الجذور بانهيار الدولة الإسلامية ودخولها عصر الانحطاط الطويل. وكانت أبرز مظاهره التحول إلى كِيانات قبلية وعشائرية وطائفية صغيرة، والاتساع المتعاظم لمستويات التطور بين أشكال الإنتاج المتباعدة عن بعضها البعض، كالإنتاج الزراعي، والإنتاج الحرفي، والإنتاج الرعوي البدوي، وغير ذلك مما أقام أسوارًا اقتصادية منيعة اتخذت بالضرورة صياغات سياسية منكفئة على ذاتها. تلك هي الجذور، أما الفروع فأقبلت مع أسلوب الاحتكارات الغربية القادمة من أوروبا القرن التاسع عشر، حيث رأت التجزئة السياسية العربية واقعًا ماثلًا رغم «الوحدة» الإسلامية في ظل الخلافة، فاستثمرت الواقع لا بدافع اليسر في الهيمنة على فئات متناثرة فحسب، وإنما بدافع أسلوبها الاقتصادي في التعامل مع الخامات الأولية، والأيدي الرخيصة، والممرات البحرية. هكذا نشأت البرجوازيات العربية — وفي طليعتها المصرية — منفصلة بعضها عن بعض، حتى إن تطورها الاقتصادي والسياسي وما واكبه من نضال مزدوِج ضد تركيا والغرب قد تحتم عليه منذ البداية أن يكون نضالًا وطنيًّا محليًّا، بل إن استخدام تعبير «القومية» على ألسنة المصريين مثلًا لم يكن يعني حتى وقت قريب ما نفهمه الآن من هذه اللفظة المرادفة للعروبة، وإنما كانت تعني القومية المصرية والأمة المصرية.
والمهم هو التأكيد على أن هذا التصور القومي لمصر لم يكن قط في مواجهة الفكرة العربية، بل ظل دومًا في مواجهة الجامعة الإسلامية. لم تكن الرؤيا القومية العربية واضحة، ولكن الخلافة العثمانية كانت واقعًا سلطويًّا مباشرًا. لم يكن التوحيد القومي العربي برنامجًا سياسيًّا مطروحًا، ولكن الإمبراطورية التركية كانت واقعًا جاثمًا. لذلك كان الطهطاوي — نبي النهضة الأولى — رمزًا للوطنية المصرية التي حلت معادلة التقدم على أساس الثنائية التوفيقية بين «الإسلام الصحيح» و«الغرب الحديث». أما الأفغاني فقد تبلبلت رؤياه بين الخلافة والقومية بسبب انتماءاته المتعددة. وأما المسيحيون اللبنانيون فقد ركزوا على حضارة الغرب، وكان من الطبيعي أن يناوئوا الخلافة الإسلامية لأكثر من سبب واحد. كان عبد الرحمن الكواكبي — وهو الاستثناء الوحيد — قد ندد بالاستبداد وجاهر بالعدل، ولكنه لم يرفض الخلافة إذا كانت للعرب. وهو في ذلك يشبه التيار الإسلامي في الهند، ويختلف قليلًا عن تصور محمد عبده للخلافة ذات السلطة الرُّوحية فقط. وكان أحمد لطفي السيد لذلك عودةً جريئة إلى ينبوع الطهطاوي في زمن مختلف، يهبط فيه الحُلم إلى أرض الواقع المغايرة لأرض محمد علي. أسعف الواقع الجديد لطفي السيد بشق عصا الطاعة على الثنائية التوفيقية، فقال بمصر والغرب الليبرالي، دون الحاجة إلى خلافة رُوحية أو زمنية تركية أو عربية، بل أكثر من ذلك دون الحاجة إلى التوفيق بين الإسلام والحضارة الجديدة، وإنما التوجه إلى أوروبا مباشرة. إنه في ذلك يصوغ تركيبًا جديدًا من الطهطاوي والمسيحيين اللبنانيين. وهو التركيب الذي يركز على «الوطن» كما دعا إليه الطهطاوي، و«الحرية» التي نقلها عن الفرنسيين، كما يركز على «العلم» و«فصل الدين عن الدولة» كما دعا إليهما الرواد اللبنانيون. ولكنه ينظر إلى الإسلام كإحدى مراحل التاريخ المصري، لا كدين يصلح للعالم أجمع كما كان يرى محمد عبده. وهو يأخذ عن الإسلام جانبه «الخلقي» لا جانبه التشريعي. والمفارقة الرئيسية في تكوين أحمد لطفي السيد أنه ينتمي بالنشأة إلى الريف، وبالمصلحة الطبقية إلى كبار الملاك. غير أنه في التعبير الأيديولوجي كان أكثر التجسيدات البرجوازية لفكر النهضة الثانية، فقد اتجه مباشرة إلى الفكر الغربي ليأخذ عن كونت ورينان ومل وسبنسر أفكارهم عن «التقدم البشري» شبه الحتمي كالقوانين الطبيعية، و«سيطرة العقل» المطلقة على نواميس التطور، والأصول الليبرالية للحرية الفردية في الاقتصاد «دعه يعمل دعه يمر» وفي السياسة «التعاقد الحر – حقوق الإنسان». كما اتجه إلى جوستاف لوبون الذي نُقل مبكرًا إلى العربية لاهتمامه وثنائه على حضارة العرب في العصر الوسيط. ومنه — كما يقول ألبرت حوراني — «تعلم المفكرون العرب فكرة الطبع القومي القائلة بأن لكل شعب بنية ذهنية ثابتة ثبوت بنيته الجسدية، تتكون بالتراكم التاريخي البطيء ولا تتغير إلا ببطء وإلى حد ما، وبأن في هذه البنية الذهنية عنصرين أساسيين: الأول عنصر العقل، والثاني عنصر الطبع، أي مجموع المواهب» (ص۲۱۲ من الفكر العربي في عصر النهضة، الترجمة العربية).
هكذا أصبحت فكرة الحرية — حرية الفرد وحرية الوطن — والفكرة القومية (أرض مصر وتاريخها) هما محور تفكير لطفي السيد ومدرسته التي أنجبت الدكتور محمد حسين هيكل والدكتور طه حسين وفتحي زُغلول (شقيق سعد) وطلعت حرب، وقد تفرعت عن هذا المحور مشكلات وقضايا فكرية عديدة: أولها أن «البحث عن الجذور» بات بحثًا في التاريخ المصري القديم والوسيط والحديث، وأن «التراث» أصبح التراث الإنساني وفي مقدمته تراث الإغريق، وأن «المعاصرة» هي أوروبا الحديثة منذ فجر النهضة. كانت هذه الدوائر الثلاث هي الرد الشامل لمرحلة النهضة الثانية على التحدي الغربي والتخلف العثماني معًا. وبالرغم من أن الفكر الفرنسي ظل كما كان في مرحلة النهضة الأولى نبعًا لا ينضب من الأفكار والإلهام، إلا أن الفكر الإنكليزي بدأ يزاحمه ويتخذ لنفسه مكانًا واضحًا، بالإضافة إلى الفكر اليوناني القديم. هكذا ترجم لطفي السيد أرسطو، خاصة مؤلفه البارز «الأخلاق» حتى إنه أضاف من مؤلفات الفيلسوف اليوناني إلى مفهوم الحرية عند الليبراليين في القرن التاسع عشر، بحيث إنه خرج بتركيب جديد للحرية مؤداه أن للدولة وظائف محددة لا تتجاوز الأمن الداخلي والخارجي والعدل، وليس لها مطلقًا أن تتدخل في شئون القضاء وحرية الفكر والاعتقاد، وما إليها من حريات المواطن الذي يحقق — بالحرية — ذاته الإنسانية الحقيقية، ويفجر طاقاته البشرية الخبيئة. ومن هنا اتجه نضاله السياسي نحو تقييد سلطة الخديو، والتحرك على مراحل نحو الحكم الدستوري. كما اتجه نضاله الوطني نحو سداد الديون الأجنبية التي ستظل خطرًا على الاستقلال ما دامت باقية، وبناء الصناعة المصرية التي بدونها يستحيل تحقيق «الحرية المصرية». وهكذا تدين نشأة الصناعات المصرية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي لدعوة أحمد لطفي السيد وتنفيذ طلعت حرب مؤسس «بنك مصر» وشركاته للغزل والنسيج والتمثيل والسينما.
وهكذا أيضًا كانت «المسألة الدستورية» التي أشعلت فتيل الثورة العرابية هي جوهر المرحلة الثانية لفكر النهضة المصرية، ولكن «بالتدريج» و«الاعتدال» و«التعقل» إلى آخر سمات «الصفوة المستنيرة» من أبناء الطبقة البازغة الذين تعلموا في الغرب. وهي في الحقيقة سمات اجتماعية تختلف عن الجذور الأكثر عمقًا للانتفاضة العرابية حيث كانت الثورة «بالعنف» تجسيدًا لوضعيتها الاجتماعية الأكثر تقدمًا، والتي زاوجت بين مطالب الحكم الدستوري والديموقراطية الاقتصادية في آنٍ واحد.
وهكذا أخيرًا كانت «التربية» التي سبق لمحمد عبده أن ركز عليها تركيزًا شديدًا هي نفسها «أسلوب» لطفي السيد ومدرسته في إشاعة وترويج المبادئ الجديدة جنبًا إلى جنب مع النضال الحزبي. ومن الدلالات ذات الأهمية البالغة ترجمة أحمد فتحي زُغلول ومقدمته لكتاب ديمولان «مصادر تفوق الأنجلوسكسونيين». فبالرغم من أن الوجه الرئيسي الذي يطالعنا به الكتاب هو التمجيد الجنوني للعنصر الأنجلوسكسوني وفتوحاته الإمبراطورية، إلا أن الوجه الآخر الذي توقف عنده فتحي زُغلول طويلًا هو رُوح المبادرة الفردية التي يفتقر إليها الوجدان والعقل المصريان. وكان لطفي السيد قد هاجم بعنف النظام التربوي القائم من ناحية على تخلف المدارس القرآنية القديمة، وغربة مدارس الإرساليات الأجنبية، وبينهما تقع التربية البيتية الزغلة في التدهور بتلقين الأجيال الجديدة الأفكار والقيم وأشكال السلوك القديمة.
وكان لطفي السيد — قبل ذلك — قد هاجم طويلًا السياق التاريخي والاجتماعي للشخصية المصرية، حيث إن الغزوات الهائلة، والدكتاتوريات الأجنبية المتتالية قد خلقت مجموعة من السلبيات الراسخة، في مقدمتها العَلاقة بين الفرد والسلطة وهي عَلاقة محورها الخضوع والقهر والإذلال، وما يتولد عن ذلك كله من أخلاقيات العبيد، بدءًا من النفاق حتى انعدام المبادرة الفردية، وبالتالي الخَلق والإبداع والاستقامة الخُلقية. أي إن لطفي السيد لم يكن شوفينيًّا في دعوته «المصرية» فهو يرى أن ما يجعل من المصري مصريًّا «إنما هو إرادته في اتخاذ مصر وطنه الأول والوحيد»، كما أنه لا يرى تاريخ مصر الاجتماعي صفحة ناصعة البياض، ولعله يرى السواد أكثر من البياض دون رؤية طبقية تكتشف الأسباب وتعلل النتائج، وإنما في ضوء «وطني» شبه مجرد هو انعكاس اجتماعي لمفارقة المجتمع الوليد وتعبيراته الأيديولوجية المتناقضة. «فالحزب الشعبي» الذي أسسه لطفي السيد ثم أصبح «حزب الأمة» وبعدئذٍ «حزب الأحرار الدستوريين» يصوغ طبقيًّا طموحات الأرستقراطية المصرية، ولكنه على صعيد الفكر كان أكثر تقدمًا من أيديولوجيات ومواقف بعض الشرائح المتوسطة من البرجوازية المصرية. ولعل موقف هذه المدرسة من قضايا المرأة والأدب والفن والثقافة عمومًا والصناعة، يمنع المرء من التصنيف الميكانيكي والمتعسف لعَلاقة الفكر بالمجتمع في الواقع المصري إبان عصر النهضة، كما يضع أيدينا على خصوصية التجرِبة المصرية من حيث تطورها الاجتماعي والثقافي معًا … ففي قضية المرأة كان الطهطاوي رائدًا في ضرورة «العلم والعمل» للفتاة حتى لا يصاب نصف المجتمع بالشلل، ومن ثم يصاب الإنتاج بالخلل، مما يؤدي إلى تناقض حادٍّ بين حتمية التطور ووسائله، وبين عَلاقات الإنتاج وقواه. كان ذلك أيام «الحُلم» بالمجتمع البرجوازي. وأقبل محمد عبده إلى «الواقع» فاكتشف تبريرًا من الشريعة الإسلامية للمساواة بين الرجل والمرأة، ولكن قاسم أمين — خاصة في كتابه الثاني عن «المرأة الجديدة» — هو الذي اكتشف العَلاقة بين الحجاب الداخلي عند الرجل والحجاب الخارجي لدى المرأة، وهمزة الوصل بينهما هي عبوديتهما معًا للدولة، وأسلوب الحكم والقيم الموروثة على مر الزمان من القهر الاجتماعي والطغيان السياسي. أما لطفي السيد وتلامذته فقد نظروا إلى المرأة من زاويتين: أولاهما الكِيان الوطني لمصر الذي يكاد يشبه الكِيان العضوي، بحيث لا تستقيم صحته النفسية والحضارية والاجتماعية وأحد أجزائه الرئيسية مريض، والزاوية الثانية هي الصعوبة التي تواجه «المثقفين» في العثور على زوجة تعادل «تربيتهم»، ومن ثم فالتناقض العائلي يتعقبهم سواء تزوجوا من «المصرية المستعبدة» أو «الأجنبية المتحررة».
ولقد كان لطفي السيد مناخًا فكريًّا أكثر منه مفكرًا أو زعيمًا، وقد انعزل في وقت مبكر عن العمل السياسي، واتجه إلى تدريس الفلسفة بالجامعة التي يعود إليه بعض الفضل في تحويلها من جامعة أهلية إلى جامعة رسمية تابعة للدولة. وقد كان هذا المناخ — النهضوي — هو الذي هيأ الدكتور هيكل لترجمة كتاب «إميل» لجان جاك روسو، وتأليفه لكتاب «ثورة الأدب». وأهم من ذلك كله إكبابه على إبداع رواية «زينب» عام ١٩١٤م التي وضعها في الطبعة الأولى بغير توقيع، أو بتوقيع مستعار هو «مصري فلاح». وذلك لأنه كمحامٍ من أسرة معروفة خشي على اسمه من أن يتلوث بالسمعة «الأدبية»، وبالذات حين يقترف كتابة هذا الفن الغريب المسمى «رواية». هكذا اقترنت نشأة الرواية في بلادنا بالنهضة البرجوازية كشأن ميلادها في الغرب. وإذا كانت «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي بمثابة الإرهاص الذي لم يحسم الانقطاع عن عهد المقامة التقليدية فإن رواية «زينب» هي التي قامت بهذا العبء التاريخي. قبلها كانت رواية محمود طاهر حقي «عذراء دنشواي» (۱۹۰٦م) بذرة خِصبة أوجزت المضمون الوطني للنضال ضد الاستعمار. أما «زينب» فكانت الثمرة الأولى ذات الشكل الرومانسي والمضمون المأساوي لوجدان العصر وعقله الممزق بين الريف والمدينة، بين الجهل والمعرفة، بين الحياة والموت، بين الرجل والمرأة، بين الفصحى والعامية. ولذلك أوجزت «الرُّوح» أكثر مما ولدت «الجسد»، بكل سلبيات الرُّوح وبكارتها الأولى شبه البدائية.
وفي هذا المناخ «تألفت» أعظم قصص طه حسين، أعني حياته منذ انخرط في سلك التعليم المدني وتمرد على الأزهر، إلى التحاقه بالسوربون وعنايته الفائقة بأبي العلاء، وضربته المدوية «في الشعر الجاهلي» (١٩٢٦م). كانت المواجهة بين التراث والعصر هي راية طه حسين في حياته قبل مؤلفاته، كانت راية النهضة.
وفي هذا المناخ أيضًا تلقف الشيخ علي عبد الرازق انتصار علمانية مصطفى كمال أتاتورك الذي «فض» الخلافة، وكتب «الإسلام وأصول الحكم» لا ليعطي شهادة وفاة لميت لفظ أنفاسه، وإنما ليعلن حكم الإعدام على نظام ما زالت تتردد أنفاسه.
وفي هذا المناخ كذلك ظهر سيد درويش ليقهر التخلف الموسيقي الموروث، ويستقبل نفحات الموسيقى الحديثة، وقد رصد لها من أوجاع الشعب الكادح خامة الخامات. وبعث مختار آيات النحت الفرعوني غير معزول عن تراث الإغريق والرومان. وكتب توفيق الحكيم «أهل الكهف» ليؤسس المسرح المصري الحديث دون أن يقطع الحبل السُّريَّ بينه وبين التراث. وراح سلامة موسى يدعو للمدرسة القائلة بأن «مصر أصل الحضارة». وعبد العزيز فهمي ينادي بأعلى صوت أن العامية هي لغة الشعب ولا مانع من استخدام الحروف اللاتينية. وكان بيرم التونسي يذهب ويعود من المنفى، ليصوغ آهات الشعب في ألفاظ باقية. وأحمد شوقي يتحول عن البعث الكلاسيكي إلى الشعر الدرامي فيكتب خلال فترة قصيرة (۱۹۲۷–۱۹۳۲م) أعظم ما ترك من التراث الفاجع لمصر القديمة والحديثة.
•••
كانت مصر في ثورة ۱۹۱۹م وكأنها ترد الاعتبار إلى أحمد عرابي في شخص سعد زُغلول. هبت جماهير الشعب في ثورة عاتية ضد القصر والاحتلال، وأنجزت دستور ۱۹۲۳م، وتصريح ۲۸ فبراير (شباط). كانت ثورة الطبقة المتوسطة بكل هشاشتها ومداخلاتها وتعقيداتها الاجتماعية والفكرية. وهي الطبقة التي كان منوطًا بها أن تنجز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية. ولكن سعد زُغلول الذي وصف العرب في ذلك الوقت بأنهم «صفر + صفر + صفر» والذي وجه أول ضربة قاصمة لليسار المصري الوليد، كان يلخص هُوية الطبقة المرشحة لإشعال نور النهضة وإطفائه في اللحظة عينها، كان يكثف أزمة البرجوازية المصرية مع التاريخ، ومأساة المجتمع المصري مع النهضة؛ ذلك أن الصدام بين الفكر والواقع أشعل الشرارة، ولكن «المسار» الذي باعد بين وجهي العملة (الوطنية – القومية، والحرية – العدل الاجتماعي) كان يعكس النهاية الفاجعة في مقدماتها المضيئة.
يقول في الاستشهاد الأول ما نصه: إنه في تأليف كتابه تجنَّب «الأقاويل غير المرضية مما يظهر بعرضه على ميزان العقل أنه محض الخرافات، مما تولَّع به الأخباريون والقُصاص من اختراع الأباطيل والخزعبلات، أو مما توهَّمه أرباب الأوهام الفاسدة من العجائب التخيلية التي بدون فائدة، إذ كثير من كتب السِّيَر مشحون بخوارق العادات، ومملوء ببوارق خيال الاعتقادات، مما ليس بمعجزة ولا كرامة، والجزم به في مقام التاريخ الأرفع مما يخفض مقامه.»
ويقول في الاستشهاد الثاني ما نصه: «… وإذا رأى اللبيب هذه الآثار عَذَر العوامَّ في اعتقادهم في الأوائل بأن أعمارهم كانت طويلة وجثثهم كانت عظيمة، أو أنهم كانت لهم عصًا إذا ضربوا بها الحجر سعى بين أيديهم، وذلك لقصور الأذهان عن مقدار ما يحتاج إليه ذلك من علم الهندسة، واجتماع الهمة، وتوفر العزيمة، ومصابرة العمل، والتمكن من الآلات، والتفرغ للأعمال، والعلم بمعرفة أعضاء الحيوان، وخاصة الإنسان، ومقاديرها ونسب بعضها إلى بعض، إلى غير ذلك مما يُتعجب منه غاية العجب.»
- (a) L’Egypte, Impérialisme et Révolution, éd Gallimard, Paris 1967.
- (b) Les Arabes d’heir à demain, éd Seuil, Paris 1969.
- (c) Langages arabes du présent, éd Gallimard, Paris 1974.
L’Eglise des Arabes, éd Cerf, Paris 1977.
مع تحفظين: الأول هو أن المؤلف لا ينصف الأرثوذكس العرب، وينحاز بوضوح للكاثوليك والموارنة. والآخر أنه لا يعير التفاتًا لأكبر كنيسة عربية هي الكنيسة القبطية في مصر.
راجع لاستكمال هذا النقص كتاب الدكتور وليم سليمان «تاريخ الكنيسة القبطية ونضالها ضد الاستعمار» الصادر عن دار الكاتب العربي، القاهرة، ١٩٦٨م.
- (أ)
أحمد أمين: محمد عبده، مكتبة الخانجي، القاهرة، ١٩٦٠م، ص٢٤–٥٦.
- (ب)
عثمان أمين: رائد الفكر المصري الإمام محمد عبده، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٥٥م، ص٢٤–٥٠.
- (جـ)
محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الجزء الأول، مطبعة المنار، القاهرة، ۱۹۳۱م.
Secret History of the English Occupation, by W. S. Blunt.