الفصل الثاني

نقطة النهاية البرجوازية لفكر النهضة المصرية

(۱) مضى نصف قرن تمامًا على أعظم معارك العقل الليبرالي في مصر. كانت الجمعية الوطنية التركية قد ألغت السلطنة — بعد انتصار مصطفى كمال — عام ۱۹۲۲م وأقامت خلافة رمزية ذات سلطات رُوحية فقط. وفي ٣ مارس ١٩٢٤م ألغى أتاتورك «نظام» الخلافة العثمانية نهائيًّا. وفي عام ١٩٢٥م أصدر مثقف مصري شاب من أبناء الأزهر وعلمائه، ويعمل قاضيًا شرعيًّا بمدينة «المنصورة» كتابًا عنوانه «الإسلام وأصول الحكم» أثار دويًّا هائلًا لم يعرفه كتاب آخر منذ وصول «المطبعة» أرض مصر. هذا المثقف الأزهري الشاب هو الشيخ علي عبد الرازق (۱۸۸۸–١٩٦٦م). وقبل أن نتساءل عما احتواه «الإسلام وأصول الحكم» حتى يحدث الزلزال الفكري والسياسي الذي صاحب ظهوره، علينا أن نتذكر جملة أمور أهمها: أن الإنكليز رأوا في غياب الخلافة التركية فرصة سانحة لتنصيب ملك مصر — السلطان فؤاد سابقًا — خليفة للمسلمين يستطيعون من خلاله السيطرة على بلاد الإسلام. وكان العرش المصري من جانبه طامحًا في تولي هذا المنصب العظيم حتى أن مؤتمرًا إسلاميًّا عامًّا للخلافة أقيم في مصر حوالَي ذلك التاريخ، وأصدر مَجلة تدعو إلى الخلافة، وشيد خلايا شعبية في الريف المصري تنظم هذه الدعوة. وكان الملك فؤاد في ذلك الوقت أيضًا قد آثر الحكم الأوتوقراطي المباشر، فانقض على دستور ۱۹۲۳م الذي أنجزته ثورة ۱۹۱۹م، كما انقض على حزب الوفد وزعيمه سعد زُغلول الذي فاز في الانتخابات بأغلبية ساحقة (في ٢٤ فبراير (شباط) ۱۹۲٥م)، ولكن الملك أصدر مرسومًا بحل البرلمان المنتخب في ٦ مارس (آذار) ۱۹۲٥م، أي في اليوم الذي كان مقررًا لافتتاحه، وعيَّن أحمد زيور باشا رئيسًا للوزراء، وألَّف حكومة ائتلافية من حزب الاتحاد الذي يرأسه يحيى باشا إبراهيم وحزب الأحرار الدستوريين الذي يرأسه عبد العزيز باشا فهمي.

في هذا المناخ صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» بقلم شاب ينتمي إلى أسرة عريقة في العلم والثراء، فبالرغم من أنه لم يكن حزبيًّا على الإطلاق، إلا أن شقيقه مصطفى عبد الرازق كان عضوًا بارزًا في حزب الأحرار الدستوريين. وهنا يجب أن نلاحظ أن مدرسة لطفي السيد قد مضت في طريقين: الأول على الصعيد السياسي المباشر بتمثيلها الطبقي لأحد القطاعات الهامة من الأرستقراطية المصرية التي اختلطت في عروقها الدماء شبه الإقطاعية بالدماء البرجوازية الكبيرة، والطريق الآخر هو «الثقافة» التي هيأت لأبناء البيوتات الكبيرة، وخاصة من أغنياء الريف، التزود بثمرات الفكر والأدب والفلسفة والفن من الغرب، حيث كانت حرية الفكر والتعبير من أهم المبادئ التي انطوت عليها هذه الثقافة. لذلك كانت «الازدواجية» بين الموقف السياسي والموقف الفكري لهذه الطبقة — وربما غيرها من الطبقات — من السمات «الخاصة» بالتجرِبة المصرية في الحكم والثقافة على السواء.

فسوف نتأكد من السياق التاريخي أن ليبرالية الأحرار الدستوريين تناقضت غير مرة مع التشريعات الملكية ضد الدستور وحريات الشعب الأساسية،١ كموافقتهم أصلًا على الاشتراك في حكومة تألفت في مواجهة الحزب الفائز بالأغلبية، بعد تعطيل الدستور وحل البرلمان، وموافقتهم على قانون يمنع الموظفين من الاشتغال بالسياسة، وموافقتهم على تشريعٍ مُعادٍ لحرية الصحافة! رغم ذلك كله فقد تصدت «الصفوة المستنيرة» من قادة هذا الحزب وشبابه ومثقفيه تصديًا شجاعًا وتاريخيًّا إلى جانب «الإسلام وأصول الحكم» في وجه الإنكليز والملك والأزهر وقطاعات واسعة من الرأي العام (المتدين)، بينما وقفت المعارضة الراديكالية للاحتلال والعرش والممثلة في حزب الوفد وزعيمه سعد زُغلول موقفًا مناوئًا للشيخ علي عبد الرازق وكتابه، بالرغم من أنها المعارضة الدستورية للحكم الأوتوقراطي، ومن أنها تجسد الطموحات الديموقراطية لثورة ۱۹۱۹م. فالازدواجية إذن سمة بارزة وخطيرة من سمات التجرِبة المصرية حين نرى أن شرائح معينة في بعض الطبقات الرجعية سياسيًّا في إحدى المراحل أكثر تقدمًا على صعيد الفكر، بينما الشرائح الثورية من الطبقات المتوسطة أكثر تخلفًا، ومرد ذلك بالقطع هو الظروف الموضوعية لنشأة البرجوازية المصرية، وتداخل مصالحها وهياكلها الإنتاجية وعَلاقاتها الاجتماعية تداخلًا مثيرًا مع قوى التخلف.

إن الطبقة المتوسطة التي ثارت عام ۱۹۱۹م كانت رادارًا اقتصاديًّا وسياسيًّا لمصالح الفئات التي تكونت منها، ولكن عمودها الفقري المتخلف حضاريًّا (صغار الفلاحين والموظفين والحرفيين ومدرسي الإلزامي) لم يُتِح لها الجهد الخلَّاق لتأصيل «فكري» مُعادٍ لجذور الأوتوقراطية والثيوقراطية. كانت المصلحة الاقتصادية المباشرة (تكوين السوق المحلية) والصيغة السياسية المباشرة (الملكية الدستورية) هما «محرك» الطبقة نحو الديموقراطية. أما التركيب النظري لقضية الحرية — وعماده الفكر البرجوازي الليبرالي — فقد غاب عن «تكوين» الطبقة المتوسطة المصرية مما أوقعها في عديد من التناقضات وصلت بها في النهاية إلى مأزق فاجع. أي إن ازدواجية حزب الوفد ومن يمثلهم اجتماعيًّا، مصدرها الرئيسي التخلف الفكري الذي أتاح للقيم الزراعية شبه الإقطاعية أن تستولي على السواد الأعظم من «الجماهير»، وغرس جرثومة التناقض بين هذه القيم والعَلاقات الاجتماعية الجديدة، وهي الجرثومة التي نخرت أسس البناء البرجوازي المصري وآلت بالمرحلة الثانية من «النهضة» إلى السقوط.

ذلك أن الأرستقراطية المصرية لم تكن مؤهلة تاريخيًّا لإنجاز جوهر النهضة — رغم تقدم الصفوة المستنيرة وإبداعاتها الثقافية — بحكم تمثيلها الطبقي لفئات اجتماعية يتناقض تطورها مع متطلبات الثورة الوطنية الديموقراطية. أي إن مشهد النهضة المصرية في الربع الأول من القرن العشرين كان على وجه التقريب نقيضًا للمشهد في أواخر القرن الماضي، حيث كانت هناك درجة من الاتساق بين التكوين الاجتماعي للثورة — النهضوية — المتعددة، وربما كان من ثمار النكسة ما جرى بعدئذٍ من انفصال بين التكوين الاجتماعي والإطار الفكري حيث قادت الطبقة المتوسطة الثورة السياسية، بينما قادت الطبقة الأرستقراطية الثورة الفكرية. ولم يؤد هذا الوضع — بطبيعة الحال — إلى التكامل المستحيل، بل إلى التمزق والارتداد.

وكانت قضية «الإسلام وأصول الحكم» أولى النماذج وأعظمها وأخطرها على هذا الازدواج المركب في مسيرة النهضة.

•••

كان فكر أحمد لطفي السيد قد ألغى الثنائية التوفيقية التي قالت بها المرحلة الأولى من النهضة، سواء في صورتها الحالمة عند الطهطاوي، أو صورتها الواقعية عند محمد عبده. ألغاها حين استبعد «الإسلام» كطرف في معادلة التقدم، واكتفى بجانبه الخلقي (القيم) دون جانبه التشريعي (العَلاقات الاجتماعية)، قائلًا: إن المعادلة الجديدة تتكون من طرفين هما مصر والغرب. وكانت الترجمة السياسية لهذا التفكير هي الانسلاخ عن الخلافة العثمانية وفصل الدين عن الدولة وقيام حكم دستوري. وبالرغم من التباين بين فكر الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ثم محمد فريد، وفكر حزب الأمة بقيادة لطفي السيد حول عَلاقة مصر بكل من تركيا وإنكلترا (الغرب عمومًا)، إلا أن الجامعة الإسلامية كمحورٍ للاهتمام المصري العام انزوت شيئًا فشيئًا، وما إن ألغت الثورة الكمالية الخلافة العثمانية نهائيًّا عام ١٩٢٤م حتى أصبح المناخ مهيَّأً — موضوعيًّا — لتقنين «الفكر» المتخلف عن هذا الإنهاء.

وقد صدرت عدة بيانات في تركيا وغيرها من البلدان الإسلامية (السُّنية) لتساوم هذا الإلغاء أو تبرره أو تعارضه. ولكن مصر من بينها جميعًا — وفيها الجامع الأزهر — راحت تغلي بين إرادة الإنكليز والملك فؤاد من ناحية، والصوت الجديد الجريء الذي رفعه القاضي الشرعي الشاب علي عبد الرازق من ناحية أخرى. فقد كان سؤاله الظاهري: هل الخلافة أصل من أصول الدين الإسلامي؟ أما سؤاله الجوهري فكان: هل يصلح الإسلام — أو غيره من الأديان — نظامًا للحكم؟ أي إن علي عبد الرازق، القادم من الأزهر كالطهطاوي ومحمد عبده، أراد أن يخطو بعدهما خطوة أبعد وأكثر جذرية، هي الخطوة ذاتها التي «دعا» إليها لطفي السيد، ولكن الشيخ عبد الرازق هبَّ «يؤصلها» بصفته من أهل الاختصاص. كان يدري أن هناك الفكرة الثيوقراطية القائلة بأن سلطة الخليفة مستمدة من الله مباشرة، وأن هناك الفكرة التي تدعي الديموقراطية فتجعل سلطة الخليفة مستمدة من الأمة بالبيعة والإجماع، وإن انتهت في النهاية إلى الأوتوقراطية. وقد أراد علي عبد الرازق أن يفند كلا الدعوتين على النحو التالي:٢
  • نفى أن يكون ورد في القرآن أو الأحاديث أي نص حول الخلافة كنظام سياسي يتبعه المسلمون. أما الإجماع فقال بشأنه إنه باستثناء الخلفاء الثلاثة الأول، لم تقم الخلافة بالإجماع بل بالسيف. وروى العديد من الأمثلة أشهرها قصة يزيد بن معاوية، وقال: إن ازدهار العلوم والفنون في ذروة تألق الحضارة العربية، ما عدا علم السياسة، له دلالة على أن الحكم كان استبداديًّا مطلقًا. ثم نفى أن تكون الخلافة ضرورية للدفاع عن الإسلام؛ لأن دين الله لا يحتاج إلى خليفة يذود عنه. وأكد على أن القرآن لم يحدد شكلًا معينًا للحكومة، بل أشار فحسب إلى ضرورتها أيًّا كان نوعها، أما الخلافة «فليس بنا من حاجة إليها لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين.»

  • ضرب مثلًا بقول المسيح «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» وتساءل ما إذا كانت «الدولة» جزءًا جوهريًّا من رسالة النبي أم أنها لم تكن كذلك. في الحالة الأولى ينبغي — وقد أتم النبي رسالته بوفاته — أن تكون أركان الدولة التي يريدها قد شُيدت، وهذا لم يحدث على الإطلاق لا بالإشارة ولا بالتنفيذ، فالهيكل الرئيسي للدولة (كميزانيتها ودواوينها للشئون الخارجية والداخلية والقضاء والجيش) لم يكن قائمًا أيام النبي الذي لم يتحدث عن شكل الشورى وكيف يكون. وفي الحالة الثانية، وهي الأرجح، فإن الدولة ونظامها السياسي لم يكن جزءًا رسالة النبي، وإلا ما مات دون تمامها. والأدق هو أن الرسول جاء ليبلغ الناس دينًا لا نظامًا للحكم، وهو رسول «كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكًا ولا مؤسس دولة، ولا داعيًا إلى ملك.» وقد استشهد المؤلف بخمس وأربعين آية من القرآن، والعديد من الأحاديث التي تبرهن على أن الرسول كان رسولًا ولم يكن قط حاكمًا، كان نبيًّا ولم يكن ملِكًا.

  • قال الشيخ علي عبد الرازق أيضًا: إن الإسلام كدين هو دعوة عالمية، ولكن العالم كله لا يستطيع أن ينتظم في دولة واحدة أو نظام سياسي واحد «فذلك مما يوشك أن يكون خارجًا عن الطبيعة البشرية، ولا تتعلق به إرادة الله.» كذلك فإن النبي حين مات لم يعين بعده خليفةً أو حاكمًا، ولم يحدد نظامًا للشورى أو البيعة. كما أن الرسالة قد تمت بانتهاء حياة النبي، وبالتالي فالزعامات القادمة من بعده لا «تَخلُفه» في رسالته الدينية التي انتهت بالفعل، بل هي زعامات مدنية سياسية. وكان أبو بكر أول من أطلق على نفسه لقب «خليفة»، وكان ذلك من جانبه تجاوزًا، فالنظام الذي حكم به هو اجتهاد دنيوي لا عَلاقة له بأسس الدين. والدولة الجديدة التي أقامها أبو بكر هي دولة عربية وليست دولة إسلامية، عرَفت الإمارة والأمراء والوزارة والوزراء لأول مرة. ويسوق المؤلف دليلًا على ذلك أن الذين لم يبايعوا أبا بكر لم يكفروا، بعكس الذين أنكروا الرسول، لأن حكم أبي بكر سياسي يقبل الجدل، بينما كانت الرسالة وحيًا إلهيًّا.

  • ويختتم صاحب «الإسلام وأصول الحكم» كتابه قائلًا: «تلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين، أضلوهم عن الهدى، وعمُّوا عليهم وجوه الحق، وحجبوا عنهم مسالك النور باسم الدين، وباسم الدين أيضًا استبدوا بهم وأذلوهم، وحرَّموا عليهم النظر في علوم السياسة، وباسم الدين خدعوهم وضيقوا على عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعًا، حتى في مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة» إلى أن يقول في الأسطر الأخيرة: «لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا به واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن ما دلت تجارِب الأمم على أنه خير أصول الحكم.»

•••

هذا هو كتاب «الإسلام وأصول الحكم». هدفه الشامل فصل الدين عن الدولة، أي نزع الرداء «الثيوقراطي» للحكم، وهدفه الموضعي المحدد هو الأخذ بالقوانين الوضعية للنظام السياسي، أي نزع الرداء «الأوتوقراطي» للحكم، وهي خطوة أبعد كثيرًا من البحث عن «نصوص» دينية تحرم الكهنوت والدكتاتورية، وهي أيضًا خطوة أبعد كثيرًا من «التوفيق» بين نصوص الشريعة وقوانين العصر الحديث، لذلك كان لا بد أن تقف في وجه الكتاب ومؤلفه قوًى متباينة الأصول والمنابع والاتجاهات والوسائل والغايات. وكان الشيخ علي عبد الرازق قد بدأ كتابه بعد البسملة: «أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحدًا سواه. له القوة والعزة، وما سواه إلا ضعيف ذليل.» والرمز واضح لا يحتاج إلى بيان أن الشيخ يغمز الجالس على العرش بدءًا من السطر الأول في الكتاب. لذلك كان لا بد من أن تتشكل طلائع الحملة من الملك والإنكليز وحزب الاتحاد ممثل القطاع غير المستنير من الأرستقراطية المصرية. وكان لا بد أن تتجسد الحملة في أهل الاختصاص من «علماء الدين». وكان لا بد أخيرًا من أن يلتحق بالحملة عنصر التخلف الفكري لدى ممثلي الطبقات الشعبية، وفي مقدمتهم زعيم ثورة ۱۹۱۹م سعد زُغلول.٣

هكذا تم أولًا، الإيحاء الملكي إلى «هيئة كبار العلماء» بالأزهر، أن تستدعي الشيخ علي عبد الرازق لتحاكمه وَفقًا للمادة ۱۰۱ من القانون رقم ۱۰ لسنة ۱۹۱۱م. ونصها: «إذا وقع من أحد العلماء أيًّا كانت وظيفته أو مهنته ما لا يناسب وصف العالِمِية، يُحكم عليه من شيخ الجامع الأزهر بإجماع تسعة عشر عالمًا معه من هيئة كبار العلماء، المنصوص عليها في الباب السابع من القانون، بإخراجه من زمرة العلماء، ولا يُقبل الطعن في هذا الحكم. ويترتب على الحكم المذكور محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته من أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية.» والمعروف أن هذا القانون وضعه الخديو عباس حلمي الثاني ضمن قوانين أخرى لتكميم الأزهر؛ على أثر النشاطات الفكرية والوطنية التي لوحظت بين جنباته. المهم أن هيئة كبار العلماء اجتمعت في ١٢ أغسطس (آب) ۱۹۲٥م برئاسة الإمام الأكبر محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر وحضور ٢٤ عضوًا آخر، وكذلك «المتهم» الشيخ علي عبد الرازق الذي دفع شكلًا أول الأمر بعدم اختصاص الهيئة الموقرة بالنظر في «قضيته». ولكن الهيئة رفضت هذا الدفع الفرعي، وحكمت عليه بعد أقل من ساعتين بما نصه: «حكمنا نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبد الرازق، أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الشرعية ومؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» من زمرة العلماء.»

كان هذا الحكم يقتضي طرد الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته في القضاء. وكان عبد العزيز باشا فهمي وزيرًا للحقانية (العدل) في حكومة زيور باشا الغائب حينذاك، وقد حل مكانه بالنيابة يحيى باشا إبراهيم. الوزير هو رئيس حزب الأحرار الدستوريين الوثيق الصلة بالإنكليز، والرئيس بالوكالة هو رئيس حزب الاتحاد الوثيق الصلة بالملك. وبدت الفرصة مزدوِجة في الأفق: فالملك قد ساءه موقف المثقف الأزهري من الخلافة وهو الطامع فيها. ورئيس حزب الاتحاد يريد التخلص من رئيس حزب الأحرار، ولو على أنقاض الائتلاف الحكومي. كانت الفرصة مزدوجة، فالملك لا ينسى لعبد العزيز فهمي أنه رفض يومًا حصوله على صفقة من الأراضي الزراعية الخِصبة بمبادلة تقل قيمتها أربعة أضعاف، ويحيى باشا إبراهيم لا ينسى له أنه رفض تعيين نجله في منصب استثنائي بسلك القضاء.

لذلك بدأت الخطة بأن طلب رئيس الوزراء بالنيابة من وزير الحقانية تنفيذ الحكم على الشيخ عبد الرازق بطرده من وظيفته. ولكن الوزير آثر أن يرسل القضية برمتها إلى «لجنة قسم القضايا» بالوزارة لإبداء الرأي، حيث إنه يشك في المقصود من المادة التي حُكم بمقتضاها. وقال إن إسماعيل صدقي باشا والمرحوم فتحي باشا زُغلول هما اللذان وضعا قانون الأزهر عام ۱۹۱۱م، وأن الفقرة الأولى من المادة ۱۰۱ مقصود بها السلوك الشائن، وليس الخطأ في الرأي، وأن النص الفرنسي لهذه الفقرة ترجمته الحرفية: «الذي يرتكب فعلًا مُزريًا بوصف العالِمِية.» ولكن رئيس الوزراء بالنيابة لم يعجبه هذا الموقف، فاستصدر مرسومًا ملكيًّا يعفي عبد العزيز فهمي من منصبه الوزاري. غير أن حزب الأحرار الدستوريين انتقم لرئيسه بسحب وزيريه الباقيين من الحكومة وانفض الائتلاف. واستطاع الوزير الجديد — علي ماهر باشا — أن يشكل مجلسًا للتأديب من مفتي الديار المصرية وبعض مشايخ القضاء الشرعي اجتمع في ١٧ سبتمبر (أيلول) ١٩٢٥م وقرر «بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته.» ورغم ذلك كله، لم يستطع جلالة الملك فؤاد الأول — ولا ابنه من بعده — أن يصبح خليفة المسلمين!

أين كان الإنكليز في هذه القضية، وهم حلفاء العرش من ناحية، وأصدقاء الأحرار الدستوريين من ناحية أخرى؟ نشرت «الأهرام» في ١٤ سبتمبر (أيلول) ١٩٢٥م عن التايمز البريطانية قولها: «… بعد أن أُقصِيَ الخليفة الأخير من تركيا، اقتُرح عقد مؤتمر في القاهرة من زعماء السنيين لتعيين خليفة. ولأسباب عديدة تعذَّر عقد المؤتمر في مارس (آذار) ۱۹۲٥م، ولكن ترجو السكرتارية التي تألفت في الأزهر أن يُعقد المؤتمر في الربيع القادم، والمعتقد أن علماء الدين في مصر يحبذون ترشيح الملك فؤاد للخلافة. وليس ثمة ما يدعو إلى القول بأن الملك فؤاد يرفض شرفًا عظيمًا كهذا، وما ينطوي عليه من تقدير ظاهر لتمسكه بالمبادئ الدينية الصحيحة.» وجريدة التايمز لا تتكلم في السياسة وحدها، فهي تعرف جيدًا الأهمية الفكرية الفائقة لكتاب الشيخ علي عبد الرازق الذي تقول عنه كما نشرت «الأهرام» في ١٦ سبتمبر (أيلول) ۱۹۲٥م: «… أما الشيخ علي عبد الرازق فهو خلف الشيخ محمد عبده وقاسم أمين في آرائهما الفكرية.» وفي ۱۸ سبتمبر (أيلول) ١٩٢٥م تنقل «الأهرام» عن المورننغ بوست قولها الصريح: «إن الأزمة الحالية رمز للإشارة الأولى التي تشير إلى انقلاب الشعور ضد نفوذ عالٍ».

هذا ما صرحت به الصحافة الإنكليزية، مما يؤكد الدور النشيط لبريطانيا في محاولة نقل الخلافة إلى مصر، ومساندتها العملية للملك فؤاد في أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم». ولكن ما موقفها من أصدقائها التقليديين مزدوجي الشخصية الذين وصلوا في الدفاع عن حرية الفكر والتعبير حدًّا انفض مع الائتلاف المعادي أصلًا لحزب الأغلبية، واهتزت معه الحكومة التي شاركوا فيها رغم غياب الدستور وتعطيل البرلمان؟ نشرت جريدة «الأخبار» لسان حزب «الاتحاد» في ٧ سبتمبر (أيلول) ١٩٢٥م تصريحًا لدار المعتمَد البريطاني نقلَتْه عنه وكالة رويتر وجاء فيه: «إن دار المعتمد البريطاني نظرًا لوصف المسألة بأنها دينية، لم تتدخل، عملًا بالتقاليد التي جرت عليها من قبل في مثل هذه الأحوال.» وكان الكلام موجهًا — بهذا الأسلوب الملتوي — إلى «الأصدقاء» حتى يعذروا بريطانيا. ولكن الوثائق السرية لوزارة الخارجية البريطانية التي نقل عنها الصحفي المصري محسن محمد٤ ما ورد فيها عن قضية «الإسلام وأصول الحكم» تعطي الدليل الدامغ على هذا الموقف المنافق للحكومة البريطانية. يقول المندوب السامي بالوكالة نيفيل هندرسون في برقية رقم ٦٥١ بتاريخ ١٢ سبتمبر (أيلول) ١٩٢٥م إلى رئيس الوزراء أوستن تشمبرلين أن يحيى باشا إبراهيم جاءه منفعلًا «حاولت جهدي أن أهدئه، وأخبرته أنه بالنظر إلى الطابع الديني للخلاف، فإن الموضوع من نوعٍ لا يستطيع معه قصر الدوبارة (مقر المندوب السامي البريطاني في القاهرة حينذاك) أن يبتَّ بشيء.» وفي مكان آخر من البرقية البالغة الطول: «ركزت جهدي قدر الإمكان للمحافظة على الائتلاف التام، أو إذا تعذر ذلك، تخفيف الصدمة الناجمة عن تمزق الائتلاف، بحيث نضمن أن يظل الأحرار الأكثر اعتدالًا، مؤمنين بأن سقوط سعد زُغلول هو هدفهم الرئيسي. فالنزاع بين الحزبين لا يعني حكومة جلالة ملك بريطانيا إلا من حيث إنه يضاعف أو يقلل من فرصة هزيمة سعد في الانتخابات.»

هكذا كان موقف الاستعمار البريطاني من «الخلافة» موقفًا مؤيدًا للفكر الثيوقراطي — رغم استمتاع بريطانيا بفصل الدين عن الدولة — وهكذا كان موقفه من دكتاتورية الملك والأقليَّات الأرستقراطية الحاكمة في غياب الدستور، موقفًا مؤيدًا للفكر الأوتوقراطي، رغم استمتاع بريطانيا بالنظام الليبرالي!

وذلك كان الوجه السياسي المباشر للقضية، فكيف طالعتنا الوجوه الفكرية؟

•••

ربما كانت حيثيات حكم هيئة كبار العلماء هي الوثيقة الفكرية الرئيسية التي عارضت كتاب «الإسلام وأصول الحكم» في سبع نقاط محددة هي:

(١) أنه جعل الشريعة الإسلامية شريعة رُوحية محضًا لا عَلاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا. (۲) وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي، ، كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين. (۳) وأن نظام الملك في عهد النبي ، كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص، وموجبًا للحيرة. (٤) وأن مهمة النبي كانت بلاغًا للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ. (٥) وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا. (٦) وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية. (۷) وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده، رضي الله عنهم، كانت لا دينية.

وقد ردت الوثيقة على هذه النقاط معارضة رأي المؤلف بشأنها، مستشهدة بآيات من القرآن وببعض الأحاديث النبوية. وفور إقرار الحيثيات أبرق شيخ الأزهر إلى القصر الملكي ما نصه: «صاحب السعادة كبير الأمناء بالنيابة، بالإسكندرية … أرجو أن ترفعوا إلى السُّدَّة العَليَّة المَلَكية، عني، وعن هيئة كبار العلماء، وسائر العلماء، فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء على أنْ حُفِظ الدين في عهد جلالة مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحُفظت كرامة العلم والعلماء. وأننا جميعًا نبتهل إلى الله ونضرع إليه أن يديم جلالة مولانا الملك مؤيدًا للدين، ورافعًا لشأن الإسلام والمسلمين، وأن يحرس بعين عنايته حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فاروق، ولي عهد الدولة المصرية. إنه سميع مجيب. توقيع: شيخ الجامع الأزهر.»

وكان الشيخ محمد رشيد رضا هو أول من كتب (في صحيفته المنار) يقول: لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه — أي عن المؤلف — لئلا يقول هو وأنصاره أن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه. كانت هذه الكلمات هي الإشارة — الملكية؟ — الأولى لمحاكمة الكتاب والمؤلف، غير أن رشيد رضا تابع نقده قائلًا:

إن الكتاب هو آخر محاولة يقوم بها أعداء الإسلام لإضعاف هذا الدين وتجزئته من الداخل.٥ أما الشيخ محمد بخيت فنسب إلى علي عبد الرازق تبنيه نظرية السير توماس أرنولد التاريخية المعادية لإجماع الفكر الإسلامي بكامله. وكانت أخطر الردود للشيخ محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» الذي أهداه إلى «خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم» وبرهن فيه على أن المسلمين عرَفوا العلوم السياسية كغيرهم؛ كقول الحسن بن أبي الحسن البصري: «كن للمثل من المسلمين أخًا، وللكبير ابنًا، وللصغير أبًا.» وكقول معاوية: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا شدُّوها أرخيتها وإذا أرْخَوها شدَدْتُها.» وكقوله أيضًا: «إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.» ويعلق أحمد بهاء الدين في كتابه «أيام لها تاريخ» بأن هذه الأقوال «من قبيل الحِكم المأثورة، وهي شيء آخر تمامًا غير العلوم السياسية بمعناها الحقيقي.» ويلاحظ أيضًا أن الشيخ لم ينتبه، وهو يضرب المثل بكلمة معاوية الأخيرة، أنه يسوق دليلًا على الاستبداد السياسي الذي يريد أن ينكره؛ فمعاوية يقول «إنه يترك الناس أحرارًا يقولون ما يشاءون ما داموا لا يمسون سلطانه.»٦ ولكن الغريب حقًّا أن محمد عمارة — محقق كتاب «الإسلام وأصول الحكم» وجامع وثائقه وكاتب مقدمته — يُشِيد بهذه الدراسة للشيخ الخضر حسين، ولعل مأخذه الوحيد عليها أن صاحبها أهداها إلى جلالة الملك! ويضيف محمد عمارة مجموعة من الانتقادات إلى الشيخ علي عبد الرازق وكتابه، بعضها خاص بالمنهج ويبدو فيه الناقد وكأنه على يسار المؤلف يطالبه تقريبًا بما قد يطالب به أحد الباحثين عام ١٩٧٥م لا عام ١٩٢٥م، وبعضها الآخر يخص أدوات البحث ويبدو فيها الناقد وكأنه على يمين المؤلف حين يطالبه بما قد يطالب به من عاش في القرن الثاني أو الثالث الهجري!
إن أكثر المواقف المتخلفة دلالة هو بالطبع موقف سعد زُغلول، الذي يُستبعد أن يكون «نكاية» سياسية في الائتلاف الوزاري بقدر ما هو «قناعة» عقلية خالصة، يقول: «قرأت كثيرًا للمستشرقين ولسواهم فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدَّةً كهذه الحدَّة في التعبير، على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق. لقد عرَفت أنه جاهل بقواعد دينه بل بالبسيط من نظرياته، وإلا فكيف يدعي أن الإسلام ليس مدنيًّا، ولا هو بنظام يصلح للحكم؟ فأية ناحية مدنية من نواحي الحياة لم ينص عليها الإسلام؟ هل البيع أو الإجارة أو الهبة، أو أي نوع آخر من المعاملات؟ ألم يدرس شيئًا من هذا في الأزهر؟ أولم يقرأ أن أُممًا كثيرة حكمت بقواعد الإسلام فقط عهودًا طويلة كانت أنضر العصور، وأن أممًا لا تزال تحكم بهذه القواعد وهي آمنة مطمئنة؟ فكيف لا يكون الإسلام مدنيًّا ودينَ حُكم؟» إلى أن يقول: «وما قرار هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي من زمرتهم إلا قرار صحيح لا عيب فيه، لأن لهم حقًّا صريحًا — بمقتضى القانون، أو بمقتضى المنطق والعقل — أن يُخرجوا من يخرج على أنظمتهم من حظيرتهم، فذلك أمر لا عَلاقة له مطلقًا بحرية الرأي التي تعنيها السياسة.»٧

وذلك هو رأي زعيم الأغلبية الشعبية وممثل الشريحة البرجوازية الأكثر تقدمًا، ولعله كان أكثر حدة مما جاء في جريدة «الأخبار» لسان حال حزب الاتحاد المناوئ له سياسيًّا واجتماعيًّا، باستثناء الألفاظ الخشنة التي استخدمتها الجريدة المذكورة ضد الكتاب ومؤلفه والحزب الذي يسانده. إن هذا التناقض الفاجع بين التمثيل السياسي والاجتماعي لحزب الطبقة المتوسطة (الوفد) ورؤاه الفكرية في القضايا الجوهرية يَزيد مسيرة «النهضة» انفصامًا بين قاعدتها المادية وأفكارها. أية انتكاسة لحقت بهذه المسيرة بعد أن خَلَتْ مسوَّدة دستور الثورة العرابية من النص على دينٍ للدولة، فإذا بقائد ثورة ۱۹۱۹م يستهجن كتابًا يعارض الحكومة الدينية!

هذا بينما كان الفكر الليبرالي موزعًا بين «المثقفين» ذوي الانتماءات المختلفة، كمَجلة «الهلال» التي قالت في عدد يوليو (تموز) ١٩٢٥م: «إن كل أمة إسلامية حرة في انتخاب من تريده حاكمًا عليها، وسواء كان الأستاذ علي عبد الرازق قد وُفِّق إلى أن يُسند نظريته هذه إلى الدين — كما نعتقد — أم لم يُوفَّق، فإن هذه النظرية تتفق وأصولَ الحكم في القرن العشرين، الذي يجعل السيادة للأمة دون سواها من الأفراد مهما كانت ولادتهم أو ميزاتهم الأخرى.» وتبرر مَجلة «المقتطَف» في عدد أغسطس (آب) ١٩٢٥م وقفتها إلى جانب الكتاب «لا لأننا نعتقد أن كل ما قاله حضرة القاضي علي عبد الرازق وأمثاله قرينُ الصواب وخالٍ من الخطأ، بل لأن قيام بعض المفكرين ووقوفهم موقف الانتقاد والشك يشحذ الهمم ويغري بالبحث والتنقيب.» ويعلق سلامة موسى في «هلال» أكتوبر (تشرين الأول) ۱۹۲٥م بأن لعلي عبد الرازق «الحق في أن يكون حرًّا يرتَئِي ما يشاء من الآراء دون أن يُقيَّد بأي قيد سوى الإخلاص.» وحتى «الوفد» لم يخل من صوت ليبرالي كأحمد حافظ عوض يكتب في «كوكب الشرق» بتاريخ ۱۷ أغسطس (آب) ۱۹۲٥م متسائلًا: «هل لمصر نظام هو الدستور تُحكَم على موجِبه؟ أم لها غير الدستور نظام خفيٌّ تمتد خلال ظلماته أيدٍ تَفتِك بما قرر الدستور من حقوق؟»

ولكن الذي قاد الحملة إلى جانب الكتاب ومؤلفه وضد التخلف الفكري المخيف والموقف السياسي المشين، كان بطبيعة الحال حزب الأحرار الدستوريين عبر جريدته «السياسة» وبأقلام صفوة المثقفين في ذلك العصر كالدكتور طه حسين، والدكتور هيكل، والدكتور منصور فهمي، ومحمود عزمي، وعبد القادر المازني. ولقد كان جوهر كتابات هؤلاء جميعًا هو نفسه جوهر كتابات الليبراليين المصريين غير المنتمين إلى حزب الأحرار: الاعتراف بحق الشيخ علي عبد الرازق في إعلان ما يراه حقًّا. أي إن الدفاع كان في واقع الأمر عن «الشكل» بغض النظر عن المضمون. لذلك كان العمل الفكري الهام الذي قدمته «السياسة» هو مقتبساتها عن الإمام محمد عبده (عدد ٦ يوليو (تموز) ۱۹۲٥م) الذي يُعَد كتاب «الإسلام وأصول الحكم» تطويرًا شجاعًا لها. وقد رتب الأستاذ محمد عمارة في دراسته الوثائقية هذه المقتبسات على النحو التالي: (۱) قال الشيخ محمد عبده إن الخليفة «حاكم مدني من جميع الوجوه». (۲) «وليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر» و«ليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه.» (۳) «إن الشرع لم يجئ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام، ولا طريقة معروفة للشورى عليهم.» (٤) «لم يقتتل هؤلاء (يقصد الخوارج والقرامطة) مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة، ولكن لأجل أن يغيروا شكل حكومة.» (٥) «إذا صدر قولٌ مِن قائلٍ يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجهٍ واحدٍ حُمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر.»

إن الاستشهاد بأقوال الإمام محمد عبده تعني أن تفكيره كان مقبولًا من الرأي العام، كما تعني قَرابةً ما بين «الإسلام وأصول الحكم» وهذا التفكير. وإذا كان نضال محمد عبده قد انتهى بنفيه أمدًا من الزمن ثم عودته ومباركته لنظرية «المستبد العادل» فإلى أين انتهى نضال الشيخ علي عبد الرازق؟

•••

نشرت جريدة «السياسة» بتاريخ ۱۳ أغسطس (آب) ١٩٢٥م مذكرة الشيخ علي عبد الرازق ردًّا على الملاحظات السبع التي وجهتها إليه — كاتهامات — هيئة كبار العلماء بالأزهر. ونحن نذكر أن الشيخ قد أصر أمام الهيئة المذكورة على كل ما جاء في الكتاب. وهو في رده المطول على التهم ينفيها بقوله إنها لم ترِدْ أصلًا في الكتاب. وهو بالطبع رد ضعيف ومساومة على الرأي تشكِّل إحدى درجات التراجع. إنه من جهة لم يتخل عن الكتاب، ولكنه يرفض من جهة أخرى أن «يُتهم» بما جاء في بيان هيئة كبار العلماء ويلاحَظ أن هذا الإيحاء بالتراجع قد التقطته صحافة تلك الأيام فيما نُشر له من أحاديث اقتطف منها الكثير محمد عمارة في كتابه الوثائقي عن القضية كلها. وأهم هذه الأحاديث أدلى به إلى جريدة «بورص إجبسين» ونقلته «السياسة» في عدد ١٤ أغسطس (آب) ١٩٢٥م، وفيه يؤكد «أن فكرة الكتاب الأساسية التي حكم من أجلها هي أن الإسلام لم يقرر نظامًا معينًا للحكومة، ولم يفرض على المسلمين نظامًا خاصًّا يجب أن يُحكَموا بمقتضاه، بل ترك لنا مطلق الحرية في أن تُنظَّم الدولة طبقًا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي نوجد فيها، مع مراعاة تطورنا الاجتماعي ومراعاة مقتضيات الزمن.» وقال: «إن الخلافة ليست نظامًا دينيًّا، والقرآن كما قلت في كتابي لم يأمر بها ولم يشر، ثم إن النبي لم يكن قط ملِكًا، ولم يحاول قط أن ينشئ حكومة أو دولة، فقد كان رسولًا بعثه الله ولم يكن زعيمًا سياسيًّا.» هذه التصريحات الحاسمة تتناقض مع نغمة المذكرة، كما تتناقض مع «نهاية» الشيخ علي عبد الرازق حيث منع إعادة نشر كتابه حتى وفاته عام ١٩٦٦م، ويقال إنه أوصى بعدم نشره على الإطلاق مما أثار قضية أخرى بين ورثته والأستاذ محمد عمارة ومَجلة «الطليعة» حين نشرت النص الكامل قبل أن يضمه كتاب. كذلك فإنه لم يكتب شيئًا ذا بال طيلة أربعين عامًا، واستعاده الأزهر مرة أخرى إلى هيئة كبار العلماء في عهد الملك فاروق.

هذه النهاية المثيرة للعجب والأسى تدعو إلى التأمل من جملة زوايا:

  • أولها أن الشيخ علي عبد الرازق لم يكن استثناء بين الليبراليين المصريين، سواء في المقدمات أو النتائج، فقد تألقوا فجأة وانطفَئُوا فجأة بين انكسار الثورة العرابية وانكسار ثورة ۱۹۱۹م.

  • أن اليقظة المفاجئة والموت المفاجئ للعقل الليبرالي المصري يعكسان التناقض الفادح الثمن بين الطبيعة الاجتماعية للطبقة التي رفعت لواء هذا العقل على صعيد الفكر وداسته تحت الأحذية على صعيد المصالح الطبقية، وبين الطبيعة الاجتماعية للطبقة «الثورية» على الصعيد السياسي و«المتخلفة» على صعيد البنية الفكرية.

  • لقد وصلت قضية «الإسلام وأصول الحكم» — وعمودها الفقري فصل الدين عن الدولة — إلى ذروة التعارض الذي لا يلتئم بين الاعتماد على شواهد الدين (القرآن والسنة)، والتوصل إلى نتائج غير دينية. فاللعب على «أرض» الآخرين لا يقود بالضرورة إلى كسب الجولة.

غير أن التناقض بين القاعدة المادية للثورة والقيم الفكرية للتقدم قد أثمرت معادلة يستحيل حلها في ظل البرجوازية المصرية.

•••

(۲) لم يكد العام يكتمل على قضية «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ عبد الرازق، حتى استيقظ الرأي العامُّ المصري من جديد على «محاكمة ثانية» عالية الضجيج، لم تختص بالنظر فيها هذه المرة هيئة كبار العلماء بالجامع الأزهر، وإنما تولت التحقيق فيها النيابة العامة مباشرة بعد حصار عنيف للمتهم في البرلمان والجامعة والأزهر والصحافة والشارع جميعًا وفي وقت واحد. تلك كانت محاكمة الدكتور طه حسين المدرس حينذاك بالجامعة الرسمية الحديثة الولادة، لأنه جمع بعض المحاضرات التي يلقيها على طلابه وأصدرها في كتاب عنوانه «في الشعر الجاهلي» ضمن مطبوعات دار الكتب المصرية عام ١٩٢٦م، وإذا ببلاغ من طالب أزهري يُدعَى خليل حسنين مؤرخٍ في ٣٠ مايو ١٩٢٦م «إلى سعادة النائب العمومي» يتهم فيه طه حسين بأنه أصدر كتابًا يشتمل على «طعن صريح في القرآن العظيم حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم.» ثم وصل «سعادةَ النائب العمومي» خطابٌ آخر أكثر خطورة؛ لأن صاحبه هو شيخ الجامع الأزهر شخصيًّا يوجز فيه تقريرًا لعلماء الأزهر حول كتاب طه حسين المذكور «كذَّب فيه القرآن صراحة، وطعن فيه على النبي ، وعلى نسبه الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين، وأتى فيه بما يخل بالنظم العامة، ويدعو الناس للفوضى.» وطالب الإمام الأكبر ﺑ «اتخاذ الوسائل القانونية الفعالة الناجعة ضد هذا الطعن على دين الدولة الرسمي وتقديمه للمحاكمة» وأرفق بالبلاغ صورة من تقرير العلماء. وفي ١٤ سبتمبر (أيلول) ١٩٢٦م تقدم النائب الوفدي عبد الحميد البنا ببلاغ ثالث إلى «سعادة النائب العمومي» ضد طه حسين وكتابه الذي «طعن فيه على الدين الإسلامي — وهو دين الدولة — بعبارات صريحة.» وكان لا بد للنيابة العامة، أمام هذا الحصار المكثف، من أن تفتح التحقيق مع الدكتور طه حسين — تمهيدًا لمحاكمته — حول ما جاء في كتابه «في الشعر الجاهلي».

وهذا ما كان … ففي ۱۹ أكتوبر (تشرين الأول) ١٩٢٦م تولى الأستاذ محمد نور رئيس نيابة مصر مسئولية التحقيق مع «المتهم» في أربع نقاط رئيسية أجمع عليها أصحاب البلاغات السالفة الذكر، وهي:

  • أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل حيث ذكر في ص٢٦ (المقتطفات كلها من الطبعة الأولى من كتابه) ما نصه: «… للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلًا عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى.»

  • أن المؤلف تعرض للقراءات السبع المجمع عليها والثابتة لدى المسلمين جميعًا، فزعم بأنها ليست منزلة من عند الله، وأن هذه القراءات إنما قرأتها العرب حسب ما استطاعت، لا كما أوصى الله بها إلى نبيه. مع أن معاشر المسلمين يعتقدون أن كل هذه القراءات مروية عن الله تعالى على لسان النبي .

  • أن المؤلف طعن في نسب الرسول طعنًا فاحشًا حين قال في ص۷۲ من كتابه: «ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه إلى قريش، فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية كلها.»

  • أن المؤلف أنكر أن للإسلام أولوية في بلاد العرب إذ يقول في ص٨٠ من كتابه: «أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا أن للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يُبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله إلى الأنبياء من قبل.» وفي ص۸۱ قال: «… وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرةُ أن الإسلام يجدد دين إبراهيم، ومن هنا أخذوا يعتقدون أن دين إبراهيم هذا كان دين العرب في عصر من العصور، ثم أعرضت عنه لِمَا أضلَّها به المضلُّون وانصرفت إلى عبادة الأوثان.»

تلك هي التهم التي ووجه بها طه حسين في التحقيق، من جملة البلاغات التي وصلت النائب العام. في هذا الوقت كان البوليس السياسي يكتب تقريرًا سريًّا من نسختين إحداهما للملك والأخرى للمندوب السامي البريطاني. وبتاريخ ۲۲ أكتوبر (تشرين الأول) ١٩٢٦م يقول التقرير الأول: «أتشرف بالإيماء إلى طلب سعادتكم (يقصد رئيس الديوان) عن كتاب «في الشعر الجاهلي» للشيخ طه حسين، فإن المنهج الذي اتبعه الشيخ طه حسين قد استعاره من ديكارت الفيلسوف الفرنسي، وهو منهج الشك في كل شيء. والقاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خُلُوًّا تامًّا. وكما يقول الشيخ: «يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى عواطفنا القومية وكل شخصياتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكل ما يتصل بها، وأن ننسى ما يضاد هذه العواطف القومية والدينية».» ثم يستطرد التقرير السري: «ولذا فإن الشيخ طه حسين حين بدأ في تأليف كتابه طرح عن نفسه العواطف القومية والدينية، وبالتالي أصبح بلا مقدسات. وقد بدأ الشيخ طه في تطبيق هذا المذهب في الجامعة وقال فيه كثيرًا من المحاضرات.»

أما تقرير القلم السياسي إلى الملك بتاريخ أول نوفمبر ١٩٢٦م فيقول: «علِمنا أمسِ حوالَي الساعة العاشرة صباحًا بعزم بعض طلبة الأزهر، ومنهم الشيخ الفقي والشيخ محمد الأسمر، على عمل مظاهرة والمناداة بسقوط الشيخ طه حسين.

وفي الساعة الحادية عشرة صباحًا بعد انتهاء الحصة الثانية وقف المدعوُّ محمد الأسمر ومعه الشيخ الفقي، والشيخ محمد محسن والي، وهم من طلبة السنة الرابعة قسم عالي الأزهر، وقال أولهم، وهو الشيخ محمد الأسمر: سيروا بنا أيها الطلبة نحو المشهد الحسيني لنعلم الرأي العام هناك غضبتنا على الملحدين، لأن «المولد» يجمع كثيرًا من طبقات المصريين، فصفق له الحاضرون وحبذوا فكرته وخرجوا جميعًا قاصدين هذه الجهة، وعند خروجهم من باب الأزهر هتفوا قائلين: ليسقط طه حسين … ليسقط عبد العزيز فهمي … ليسقط البنداري … وما زالوا كذلك حتى وصلوا إلى سيدنا الحسين، وهناك اشترى بعضهم أعدادًا من جريدة السياسة وهتفوا وهي في أيديهم بسقوط الجريدة، ثم مزق كلٌّ منهم جريدته وداسها بقدمه.»

وفي تقرير القلم السياسي إلى الملك بتاريخ ٥ يناير (كانون الثاني) ۱۹۲۷م برقم ۳۲ سياسي سري، وبتوقيع حكمدار بوليس مصر، نلاحظ (مع جمال سليم مؤلف «البوليس السري يحكم مصر»)٨ أن الغضب على طه حسين قد انتقل من الأزهر والقاهرة إلى أهل المدن الأخرى في الدلتا والصعيد من الأعيان والتجار وغيرهم. ويقول التقرير المذكور: «أتشرف بأن أرسل لمعاليكم (يقصد كبير الأمناء) بصورة التلغراف الذي وصل إلى بعض الصحف المصرية اليوم بشأن الدكتور طه حسين مذيَّلًا بإمضاء فريق من علماء وأعيان وتجار «إسنا» بأمل التكرم بالمعلومية.» ويرفق التقرير بالنص البرقي: «… إذا كذبنا القرآن الكريم مرضاة لطه حسين وصيانة للائتلاف، فلا غرابة في هدم الباقي من أحكام الدين وهي الأوقاف. كفى بلاء يا نواب الأمة المسلمة. هل أقاموا لنا دينًا جديدًا قبل الإجهاز على ديننا القديم؟ ويشاع أن المشاريع اللادينية أجمع ستُنفَّذ في وزارة الائتلاف بإيعاز حزب وأعضاء كل المراد أن يحمي دين الله لا حماية الأعداء، فنستغيث بجلالة الملك وبالعلماء وبالأمة وبالبرلمان …»

وبلغ عدد الموقعين نيابة عن الأهالي ٢٦ رجلًا.

في هذا المناخ كان يجري التحقيق مع طه حسين.

•••

ولا بد أن طه حسين — المتهم — ومحمد نور — المحقق — فوجئ كلاهما بالمضاعفات التي تواترت في قاعة البرلمان، وبين جدران الجامعة، وصفحات الجرائد، حتى أصبح البحث العلمي الجاف «في الشعر الجاهلي» حديث رجل الشارع.

كان طه حسين، كعلي عبد الرازق، من أبناء الأزهر، وكان مثله صديقًا لحزب الأحرار الدستوريين دون ارتباط عضوي أو التزام تنظيمي. وكلاهما — في ذلك الوقت — لم يكن ذا طموح سياسي مباشر في السلطة، وإن كانت لأفكارهما أبعاد سياسية. وكانت الشهور القليلة التي مضت بين قضية «الإسلام وأصول الحكم» و«في الشعر الجاهلي» قد عرَفت تغيرًا سياسيًّا هامًّا باعتلاء عدلي يَكَن رئاسة الوزارة، وعودة البرلمان حيث أصبح سعد زُغلول زعيمًا للمعارضة.

هنا تبلورت المفارقة التاريخية بين تجسيد الطبقة المتوسطة — ممثلة في حزب «الوفد» بقيادة سعد — للديموقراطية السياسية، وتخلفها الفكري المروع. بينما كانت الأرستقراطية المصرية ذات التراث الاجتماعي المثقل بالعداء للشعب، هي التي رفعت لواء الحرية الفكرية وتقدم البحث العلمي والنهضة. تبلورت هذه المفارقة بشكل حاد في قضية طه حسين، أكثر حدة مما كان عليه الأمر في قضية الشيخ علي عبد الرازق، بالرغم من أن «موضوع» الشعر الجاهلي أبعد كثيرًا عن خياشيم رجل الشارع من «موضوع» الإسلام وأصول الحكم ومشكلة الخلافة. حتى إن الملك والإنكليز لم يتدخلا هذه المرة لإشعال الحريق، وربما كان هذا الموقف سببًا في إطفائه حيث بات مكتب النائب العام بعيدًا — على وجه التقريب — عن ضغوط الذين يكبسون أزرار الضوء الأحمر والأخضر. بل أصبح ضغط الأزهر والرأي العام هو — تقريبًا — الضغط الوحيد والخطير.

لماذا؟

لأن العقل العلمي لم يكن هو الذي يفكر، بل الوجدان الديني الذي التقط «تفاصيل النتائج الثانوية» لبحث طه حسين، وبعض «الإشارات الدينية» و«لهجة بعض الفقرات» فزلزلته جرأة الرجل على اقتحام المقدسات. إن القيمة الأولى والعظمى لكتاب «في الشعر الجاهلي» هي المنهج الذي اتبعه طه حسين في البحث، المنهج القائل — على حد تعبير الدكتور لويس عوض في كتابه «ثقافتنا في مفترق الطرق»٩ — «إن الدليل النقلي وحده لا يكفي، وإن عنعنة القدماء أو المحدِّثين عن القدماء لا تكفي، بل ينبغي أن يُمتحن كل شيء بالدليل العقلي وبالدليل الاستقرائي.» أو كما قلت في كتابي «ماذا يبقى من طه حسين» ما نصه: «إن ما وصلنا عن القدماء ليس منزهًا عن إعادة النظر والتمحيص، ويجب أن نلتقي به بعيدًا عن اليقين والإيمان، وقريبًا من الإنكار والشك.»١٠

وفي كتابي ذاك أوجزت «الموقف» في نقطتين:

  • الأولى هي أن طه حسين «كان يتوجه إلى ما هو أخطر من النظام السياسي، كان يقتحم النظام الفكري للمجتمع والسلطة على السواء، لذلك فهو بالرغم من أنه لم يتعرض لشخص محدد — كالذات الملكية مثلًا — أو حتى مبدأً سياسيًّا مباشرًا، إلا أنه طورد ولوحق بصورة غير مسبوقة في ذلك الوقت. ولا يكفي القول بأن طه حسين قد طبق منهج الشك عند ديكارت على الشعر الجاهلي، ولا يكفي أيضًا أنه رأى في هذا الشعر انتحالًا دفعه لأن يرجح بإنشاء هذا الشعر في صدر الإسلام. وإنما ينبغي، بالإضافة إلى ذلك كله، القول بأن طه حسين كحلقة في سلسلة الفكر البرجوازي الجديد قد دعم الرؤية الليبرالية الوافدة على الثقافة بشاهد خطير يمس قدس الأقداس عند الفكر السلفي وهو اللغة. لقد حاول طه حسين — مثلًا — ليدلل على صحة الفرض الذي شرع في إثباته، أن يستشهد بالقرآن لغة وأسلوبًا على مدى القرابة التي تصل بين هذا «البيان» الإسلامي، والنسيج البلاغي للشعر الذي استقر في التاريخ والوجدان المتوارث بأنه يمتُّ إلى العصر الجاهلي … بينما صوره وأوزانه وأخيلته، بل وأشباح معتقداته، تمتُّ إلى صدر الإسلام.»

  • «وكانت المشكلة من الناحية الفكرية أهم بكثير مما أراد البعض أن يسبغه عليها من الناحية الدينية. إن مجموعة المقدمات والنتائج التي تَوصَّل إليها طه حسين لا تعني مطلقًا أنه ملحد، بل هي بعيدة كل البعد عن أن تجعل منه مفكرًا ماديًّا بالمعنى الصحيح لهذا التعبير، سواء في فلسفات القرن الثامن عشر وما سمي بعصر التنوير، أو في فلسفات القرن التاسع عشر والقرن العشرين من الماركسية إلى البراغماتية والوضعية والتجريبية. إن طه حسين في بحثه الرائد يظل مفكرًا مثاليًّا بالمعنى الفلسفي كديكارت نفسه، وإن لم يتخذ من ديكارت ولا من أوغست كونت سوى بعض العناصر المنهجية غير المترابطة عضويًّا في نظام فلسفي متسق. أي إنه بلغة هذه الأيام قد استلهم الشعار أكثر من استلهامه لأسس البناء المنهجي وطوابقه الشاهقة. أخذ عن هذين الفيلسوفين الكبيرين شكهما في المسلَّمات واعتمادهما على العقل. وقد كان العلم وقوانينه المكتشفة حديثًا حينذاك، بمثابة الدِّعامة النظرية التي أغنت ديكارت وأوغست كونت كليهما — رغم تباين فلسفتيهما — بعديد من عناصر الصياغة المنهجية لرؤيتهما الوجود والطبيعة والمجتمع في العصر البرجوازي الأوروبي.

ولم يكن هذا حال طه حسين، ولا حال زملائه من جيل النهضة في تاريخنا الحديث. كانت البرجوازية المصرية الناشئة من الضعف والوهن — فقد بدأت حياتها أصلًا بالقطاع التجاري — ومن التخلف أيضًا، بسبب انضمام شرائح إليها من القطاع الزراعي، بحيث إنها لم تكن لتستطيع في مواجهة الفكر الإقطاعي الراسخ إلا أن تأخذ من البرجوازيات الأوروبية أسلحتها القديمة التي واجهت بها المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية والمؤسسة الاجتماعية. ولكن هذه الأسلحة التي كانت ثمرة إبداع اجتماعي مغاير لظروفنا التي لم تصاحبها مثلًا كشوف علمية وتطبيقات صناعية لهذه الكشوف، وانتقال بالمهن الحرفية إلى مستوًى أرقى للعَلاقات الاجتماعية؛ هذه الأسلحة ما كان يمكن استيرادها كما هي بلا زيادة أو نقصان. وإنما كان إبداع جيل الرواد أنهم نقلوا وتأثروا بما يلبي الاحتياجات الموضوعية للواقع المصري في اتجاه التخلي عن المجتمع شبه الإقطاعي المستعمِر، إلى المجتمع الوطني الديموقراطي المستقل.

هكذا كانت الآداب الرومانسية الأوروبية والنظرات الاشتراكية التدريجية البرلمانية، وأفكار وقيم الإصلاح الديني، هي الواجهة الليبرالية التي رفعتها «الإنتلجنسيا» المصرية في ذلك الزمن. ومن هذه الزاوية كان المنهج الذي قدمه طه حسين في تضاعيف كتابه «في الشعر الجاهلي» هو ناقوس الخطر الذي بلور معالم الثورة الأولى في فكرنا الحديث.» وأحب أن أركز على هذه الفقرة الأخيرة مما قلته في كتابي «ماذا يبقى من طه حسين»، لأني أقصد ألفاظها قصدًا، فقد «بلور» صاحب «في الشعر الجاهلي» ذروة المرحلة الثانية من عصر النهضة، فإذا كانت المرحلة الأولى قد انتهت إلى التوفيق بين الدين والعلم الحديث، فقد بدأت المرحلة الثانية بالفصل بين الدين والدولة، وانتهت كما نرى بالفصل بين الدين والعلم. وقد كان ذلك أقصى ما يستطيع فكر النهضة المصرية أن يصل إليه ويساوم عليه معًا.

كان الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، يقولون بدرجات متفاوتة إن الحضارة الحديثة لا تتناقض مع الإسلام الصحيح. وجاء علي عبد الرازق ليقول ألا عَلاقة بين الإسلام كعقيدة دينية والدولة كنظام سياسي للحكم. وجاء طه حسين بما يشبه «الضربة القاضية» ليقول: إن العاطفة الدينية والوجدان الروحي ومعتقدات السلف، لا عَلاقة لها بالعلم وقوانينه وتجارِبه ورؤاه ومقدماته ونتائجه. وإذا كان كل إنسان ينطوي على هاتين الشخصيتين، العاطفية والعقلية، فإن العالِم حين يبحث لا يعتمد سوى العقل، وبالتالي الشك، بل ونسيان العواطف القومية والدينية بشخصياتها وأحداثها وشواهدها وقيمها. لذلك كان كتابه — من بعض النواحي — أول مساسٍ مباشر بالإسلام بقلمٍ يَدين صاحبُه بالإسلام، وتعلم في الأزهر، وفي بلد تَدين غالبيته بالإسلام، وفوق أرضها شُيِّد الأزهر.

قلت «أول مساس مباشر» بمعنيين: أولهما أنه نظر إلى القرآن نظرته إلى نص أدبي (وهكذا ألغى محور الخلاف بين الحنابلة والمعتزلة حول زمن القرآن وما إذا كان قديمًا أو حديثًا). والمعنى الثاني أنه نظر إلى هذا النص الأدبي في سياقه التاريخي ومحيطه البيئي حيث الضغوط الاقتصادية والمناورات السياسية والنزوات العسكرية والأهواء الشخصية، تشارك في صنع النص وتنعكس في تفسير القدماء له ورؤيتهم إياه.

هكذا يصف قصة إسماعيل في القرآن بأن أمرها «إذن واضح، فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام، واستغلها الإسلام بسبب ديني وسياسي أيضًا، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى، وإذن فنستطيع أن نقول: إن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي كانت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات الساميَّة المعروفة، وإن قصة العاربة والمستعربة وتعلم إسماعيل العربية من جدهم؛ كل ذلك أحاديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه.» هذا من ناحية اللغة التي يريد طه حسين — عبر الفرض غير الآخذ بالرواية القرآنية — أن يصل منها إلى «أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحًا؛ ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئًا كثيرًا من الشعر الجاهلي قومًا ينتسبون إلى عرب اليمن، إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن.» أما على صعيد التاريخ، فإن طه حسين يريد أن يذهب إلى ما هو أبعد فيقول: «نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وإن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويبنون فيه المستعمرات»، «… وأن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن نثبت الصلة بين الدين الجديد وبين ديانتي النصارى واليهود، وأنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة مادية.»

ثم يحدد طه حسين معالم منهجه في التفكير — أيًّا كانت النتائج العقائدية — حين يشير صراحة إلى هدف «إسلامي» يؤيده الشعر «الجاهلي» سلفًا، والحقيقة أن الشعر ليس جاهليًّا، بل صيغ في صدر الإسلام ليبرر الهدف الإسلامي، ويظهر ذلك واضحًا — كما يرى طه حسين — في قضيتين: أولاهما قضية نسب الرسول والأخرى قضية دين إبراهيم. في الأولى يقول — كما أوردنا في مقدمة هذا الفصل — إنه «لأمر ما» اقتنع الناس أن النبي «يجب أن يكون منحدرًا من «صفوة العرب»، وأن «العرب صفوة الإنسانية كلها». وفي القضية الثانية يقول طه حسين: إنه قد «شاعت» في العرب «أثناء» ظهور الإسلام و«بعده» أن الإسلام كان على نحوٍ من الأنحاء هو نفسه دين إبراهيم أو أنه يجدده؛ لأن دين إبراهيم كان دين العرب في أحد العصور، ثم أعرضت عنه لِمَا أضلَّها به المضلُّون وانصرفت إلى عبادة الأوثان.»

ولم يكن طه حسين في هاتين القضيتين مستهينًا بقدر الرسول أو العرب أو الإسلام، وكان في استطاعته أن يستشهد بعشرات الآيات والأحاديث الأخرى التي تدلل في مجموعها على أن الرسول كان بشرًا مثلنا «أمه تأكل القديد في مكة»، وأن لا فضل لإنسان على آخر في الإسلام «إلا بالتقوى». كان يستطيع ولكنه لم يفعل. وفي اللحظة عينها لم يكن مستعينًا بأحد ولا بشيء، ولكنه أراد، كشأنه على طول الكتاب أن يثبت أمرين: الأول هو أن الشعر «الجاهلي» في معظمه ليس جاهليًّا، وأن الهدف السياسي (كتصوير البعض أن تعظيم النبي يجيء بانتسابه إلى عدنان صفوة العرب)، والأمر الثاني هو التاريخ الذي ينحرف به أحيانًا خيال البعض أو مصالحهم لإثبات الحاضر الذي قد لا يحتاج إلى هذا الإثبات المزيف. ولكن طه حسين قد أراد أن يضيف هذه المرة إلى هذين الأمرين آخرَ ثالثًا هو: محور الشعور العرقي والعنصري والتعصب الديني، فعظمة الرسول ليست بنسبه، وعظمة الرسالة ليست بقوميتها، وعظمة الاثنين ليست بأولوية دينٍ ما على بقية الأديان.

ولكن سبعة كتب ردت على طه حسين وكتابه لم تتوقف قط عند هذه المعاني بل استوقفها ما أسمته بتكذيب القرآن وطعن الإسلام وتجريح الرسول، مثلما ورد في «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» للشيخ محمد الخضر حسين الذي سبق له أن تصدى في كتاب مشابه للشيخ علي عبد الرازق، وكذلك كتاب «نقد كتاب في الشعر الجاهلي» لمحمد فريد وجدي، وأيضًا كتاب «تحت راية القرآن» لمصطفى صادق الرافعي، وكتاب «الشهاب الراصد» لمحمد لطفي جمعة، ومحاضرات الشيخ محمد الخضري، وكتابان لمحمد أحمد عرفة ومحمد أحمد الغمراوي.

وتقدم النائب الوفدي عبد الحميد البنَّان، بخلاف بلاغه إلى النائب العام، باستجواب إلى وزير المعارف العمومية مطالبًا بإخراج طه حسين من الجامعة. وتقول مضبطة مجلس النواب المصري في تلك الدورة عام ١٩٢٦م إن الغالبية الساحقة من المعارضة الوفدية وقفت إلى جانب الاستجواب، وطالبت بطرد طه حسين من التعليم الجامعي، باستثناء علي الشمسي باشا وزير المعارف ومن رجال «الوفد» حينذاك، فإن المضبطة تسجل له قوله: «إننا نطمع أيها السادة النواب … نطمع في أن تكون الجامعة معهدًا طلقًا للبحث العلمي الصحيح.» أما سعد زُغلول فقد أمسك بالعصا من الوسط، إذ خطب في إحدى المظاهرات الغاضبة قائلًا: «إن مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في الأمة المتمسكة بدينها، هَبُوا أن رجلًا مجنونًا يهذي في الطريق، فهل يُضير العقلاءَ شيءٌ من ذلك؟ إن هذا الدين متين، وليس الذي شك فيه زعيمًا ولا إمامًا نخشى من شكه على العامة، فليشك من شاء وما علينا إن لم تفهم البقر؟» ولكن سعد زُغلول أيضًا هو الذي أرغم النائب على سحب استجوابه! خاصة بعد أن هدد عدلي يكن بالاستقالة من رئاسة الوزارة.

أي إن المناخ السياسي هو الذي اضطر سعد زُغلول لاتخاذ هذا الموقف الوسطي المغاير بدرجةٍ ما لموقفه الأكثر عنفًا من قضية «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق. ولست أقصد بالمناخ السياسي الموقف السلبي للملك والإنكليز، بل الموقف الإيجابي الضاغط للشارع الشعبي. وكان «الوفد» يقود أعرض قطاعاته الجماهيرية التي تشكل البرجوازية الصغيرة بفئاتها المختلفة قاعدتها الرئيسية. ومن الطريف أن مؤلف «البوليس السياسي يحكم مصر» — جمال سليم — يقول عام ۱۹۷٥م كلامًا مشابهًا لمنطق تلك الأيام، مما يرجح الاستمرارية الفكرية لمنطقٍ يرى أن طه حسين كان يردد «أفكارًا من شأنها المساس بمعتقدات الشعب الدينية». من هنا كانت الجفوة بين الوفد وطه حسين، وهي جفوة ناشئة عن مراهقة سياسية من طه حسين.

ففي هذه الفترة لم تكن قضية الشعب الأولى هي الشعر الجاهلي أو غيره، صدقه أو زيفه، إنما كانت القضية الأولى هي القضية الوطنية، وكان الوفد يمسك بها. ومقياس الإخلاص هو مدى القرب أو البعد عن هذه القضية، ولذا كان من الطبيعي ألا يحتضن الوفد القضايا الفكرية والثقافية التي يثيرها طه حسين، لا باعتبارها فقط ترفًا لسنا الآن (١٩٢٦م) في حاجة إليه، بل باعتباره يمس صميم معتقدات الشعب الذي كان الوفد يمثله.» إن هذا المنطق الذي لا يزال ساريًا إلى اليوم، يصور أدق تصويرٍ «الفِصام» الذي تحياه الطبقة المتوسطة، وخاصة شرائحها الصغرى البالغة الاتساع في الريف والمدينة على السواء. إنه المنطق الذي يفصل بين الثورة الوطنية بمعنى الاستقلال السياسي عن التبعية الأجنبية، وبين الثورة الفكرية بمعنى الاستقلال العقلي عن التبعية للقديم أيضًا، المنطق الذي يساوم ما يدعى بمعتقدات الشعب الأساسية فيبقيه موضوعيًّا في إسار التخلف، لحساب ما يدعى بالقضية الوطنية. وكأن المسألة الوطنية لا تعني في خاتمة المطاف التحرر من كافة شباك التخلف وفخاخه الاقتصادية والعلمية والاجتماعية والفكرية والسياسية والأيديولوجية.

إن هذا التيار الوفدي — إن جاز التعبير — قد امتد أثره فيما بعد إلى بعض التيارات الجذرية، إن جاز التعبير أيضًا، عن الاتجاهات الثورية التي ابتغت التحرير الشامل ولكن بحذر بالغ من قضية الدين والغيبيات عمومًا. هذا التيار كذلك كان انتكاسة على نقطة التطور الثمينة التي حققتها المرحلة الثانية من النهضة المصرية، وعودة ممسوخة إلى فكرة الثنائية التوفيقية التي أصبحت — بمضي الزمن — تلفيقيةً حين آلت الأمور إلى الطبقة المتوسطة ذات القاعدة العريضة من البرجوازية الصغيرة، ثم أصبحت «انتهازية» حين وصلت بعض عناصر هذه البرجوازية الصغيرة إلى الحكم.

ولكن المشكلة هي أن الأرستقراطية المصرية ليست مؤهلة تاريخيًّا للمضي في طريق النهضة، لأن مصالحها الطبقية تحول دون ذلك، وهكذا كان التناقض بين هذه المصالح والمحتوى التاريخي لجملة الأفكار التي رفعتها «الصفوة المستنيرة» حتميًّا، ويؤدي في خاتمة المطاف إلى الطريق المسدود. ولعل التطابق المثير بين نهايتي علي عبد الرازق وطه حسين يضيء لنا هذا المعنى. لقد أصر كلاهما على كتابه وأنكر كلاهما «التهم» التي وُجهت إليه! وإذا كان عبد الرازق قد منع كتابه من إعادة الطبع في حياته وبعد مماته، فإن طه حسين حذف من كتابه الصفحات التي «أثارت» البعض، وصدرت الطبعة الثانية وما تلاها من طبعات تحت عنوان «في الأدب الجاهلي»، وكأنه يريد للناس أن تنسى «في الشعر الجاهلي».

•••

ولْنَرَ ماذا جرى مع طه حسين في التحقيق؟

دار السؤال والجواب في إحدى المراحل بين المتهم والمحقق هكذا:

س: هل يمكن لحضرتكم الآن تعريف اللغة الجاهلية الفصحى (التي يرى المؤلف أنها ليست اللغة التي نُظم منها ما يسمى بالشعر الجاهلي) وبيان الفرق بين لغة حِمْيَر ولغة عدنان، ومدى هذا الفرق، وذكر بعض أمثلة تساعدنا على ذلك؟

ج: قلت إن اللغة الجاهلية في رأيي ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان على الأقل، أولهما لغة حِمْيَر، وهذه اللغة قد دُرست ووُضعت لها قواعد النحو والصرف والمعاجم، ولم يكن شيء من هذا معروفًا قبل الاكتشافات الحديثة، وهي كما قلت مخالفة للغة العربية الفصحى مخالفة جوهرية في اللفظ والنحو والصرف، وهي إلى اللغة الحبشية القديمة أقرب منها إلى اللغة العربية الفصحى، وليس من شك في أن الصلة بينها وبين لغة القرآن والشعر كالصلة بين السريانية وبين هذه اللغة القرآنية.

س: هل يمكن لحضرتكم أن تبينوا إلى أي وقت كانت موجودة اللغة الحميرية ومبدأ وجودها إن أمكن؟

ج: مبدأ وجودها ليس من السهل تحديده، ولكن لا شك في أنها كانت معروفة تكتب قبل القرن الأول للمسيح، وظلت تُتكلم إلى ما بعد الإسلام، ولكن ظهور الإسلام وسيادة اللغة القرشية قد محيا هذه اللغة شيئًا فشيئًا كما محيا غيرها من اللغات المختلفة في البلاد العربية وغير العربية وأقر مكانها لغة القرآن.

س: هل يمكن لحضرتكم أيضًا أن تذكروا لنا مبدأ اللغة العدنانية ولو بوجه التقريب؟

ج: ليس من السهل معرفة مبدأ اللغة العدنانية، وكل ما يمكن أن يقال بطريقة علمية هو أن لدينا نقوشًا قليلة جدًّا يرجع عهدها إلى القرن الرابع للميلاد، وهذه النقوش قريبة من اللغة العدنانية، ولكن المستشرقين يرون أنها لهجة قبطية، وإذن فقد يكون من احتياط العلم أن نرى أن أقدم نص عربي يمكن الاعتماد عليه من الوجهة العلمية إلى الآن هو القرآن حتى نستكشف نقوشًا أظهر وأكثر مما لدينا.

س: هل تعتقدون حضرتكم أن اللغة سواء كانت اللغة الحميرية أو اللغة العدنانية كانت باقية على حالها من وقت نشأتها أو حصل فيها تغيير بسبب تمادي الزمن والاختلاط؟

ج: ما أظن أن لغة من اللغات تستطيع أن تبقى قرونًا دون أن تتطور ويحصل فيها التغيير الكثير.»

وحين يسأله المحقق عن «الجزم» بأن قصة إسماعيل في القرآن حديثة العهد، يقول: «هذه العبارة إذا كانت تفيد الجزم فهي إنما تفيده إن صح الفرض الذي قامت عليه، وربما كان فيها شيء من الغلو، ولكني أعتقد أن العلماء جميعًا عندما يفترضون فروضًا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير، فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة.»

وربما كان من المفيد أن نطالع بعضًا من فقرات رئيس النيابة التي أوردها وقدم لها خيري شلبي في كتابه «محاكمة طه حسين»١١ قبل أن نصل إلى منطوق القرار الأخير. يقول في الحيثيات:
  • إن الأستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم بغير ضرورة يقتضيها بحثه ولا فائدة يرجوها، لأن النتيجة التي وصل إليها من بحثه ما كانت تستدعي التشكك في صحة أخبار القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وبنائهما الكعبة، ثم الحكم بعدم صحة القصة، وباستغلال الإسلام لها لسبب ديني.

    ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين وبين العلم، وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والإنكار.»

  • «المؤلف لم يتعرض لمسألة القراءات من حيث إنها مُنزَّلة أو غير مُنزَّلة، وإنما قال كثرت القراءات وتعددت اللهجات، وقال إن الخلاف الذي وقع في القراءات تقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها، فهو بهذا يصف الواقع»، «ونحن نرى أن ما ذكره المؤلف في هذه المسألة هو بحث علمي لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه.»

  • «كل ما نلاحظه عليه أنه تكلم فيما يختص بأسرة النبي ونسبه في قريش بعبارة خالية من كل احترام وبشكل تهكمي غير لائق، ولا يوجد في بحثه ما يدعوه لإيراد العبارة على هذا النحو.» أما في قضية الإسلام ودين إبراهيم «نحن لا نرى اعتراضًا على أن يكون مراده بما كتب في هذه المسألة هو ما ذكره، ولكننا نرى أنه كان سيئ التعبير جدًّا.»

  • «أنكر المؤلف في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال إنه ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشيء»، «… وهو وإن كان قد أخطأ فيما كتب إلا أن الخطأ المصحوب باعتقاد الصواب شيء وتعمُّد الخطأ المصحوب بنيَّة التعدي شيء آخر.»

  • «إن للمؤلف فضلًا لا يُنكر في سلوكه طريقًا جديدًا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، ولكن لشدة تأثر نفسه مما أخذ عنهم، قد تورط في بحثه حتى تخيل حقًّا ما ليس بحق، أو ما لا يزال في حاجة إلى إثبات أنه حق … إنه قد سلك طريقًا مظلمًا، فكان يجب عليه أن يسير على مهل، وأن يحتاط في سيره حتى لا يضل، ولكنه أقدم بغير احتياط فكانت النتيجة غير محمودة.»

أما القرار الأخير فهو: «وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك تُحفظ الأوراق إداريًّا. توقيع محمد نور، رئيس نيابة مصر، القاهرة، في ۳۰ مارس (آذار) ۱۹۲۷م.»

•••

تلك كانت أمجد معارك النهضة المصرية وآخرها، انتصر فيها البرلمان والقضاء لحرية الفكر والتعبير، وانتصر أيضًا «المجتمع المتخلف»، فلم يعد أحد إلى «النقطة» التي فجرها طه حسين منذ نصف قرن … إلى الآن!

١  راجع تفصيلًا كتاب د. فاروق أبو زيد «أزمة الديموقراطية في الصحافة المصرية»، خصوصًا ما بين ص۷۹ وص۱۰۳، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٧٦م؛ وللمؤلف نفسه أيضًا كتاب «الصحافة وقضايا الفكر الحر في مصر»، خصوصًا الفصل الأول من الباب الثاني (ص۱۳۳ وما بعدها) والباب الثالث (ص۲۰۱ وما بعدها)، كتاب الإذاعة والتلفزيون، نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧٤م.
٢  يعتمد الباحث على النسخة المحققة حديثًا لكتاب «الإسلام وأصول الحكم»، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ۱۹۷۲م.
٣  تُراجَع في هذا الصدد المقدمةُ الوثائقية التي كتبها د. محمد عمارة للنسخة الجديدة المحققة من كتاب الشيخ علي عبد الرازق (من ص٥ إلى ص۱۱۰).
٤  جريدة «الجمهورية» المصرية، ٤ تموز (يوليو) ۱۹۷٥م.
٥  «المنار»، المجلد ٢٦، ص١٠٤، عدد ۲۱ يونيو (حزيران) سنة ١٩٢٥م.
٦  أحمد بهاء الدين: «أيام لها تاريخ»، الطبعة الثالثة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م، ص٢٢٦.
٧  نقلًا عن كتاب سكرتيره محمد إبراهيم الجزيري «سعد زُغلول – ذكريات تاريخية طريفة»، كتاب اليوم، القاهرة، (ص۹۲).
٨  الطبعة الأولى، دار القاهرة للثقافة العربية، ١٩٧٥م. والكتاب يؤرخ بالوثائق للمرحلة ما بين ۱۹۱۰ و١٩٥٢م.
٩  دار الآداب، بيروت، ١٩٧٤م، ص١٢٥.
١٠  دار المتوسط، بيروت، ١٩٧٤م. تقع الدراسة من ص١١ إلى ص۳۰، والحوار بيني وبين طه حسين يقع من ص۳۱ إلى ۷۸.
١١  صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ٧٢ (من ص٤٥ إلى ص۷۰).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥