النقد الأدبي

النقد الأدبي مكون من كلمتين: أدبي منسوب للأدب، وخير تعريف للأدب أنه التعبير عن الحياة أو بعضها بعبارة جميلة. ونقد، وهي كلمة تستعمل عادة بمعنى العيب، ومنه حديث أبي الدرداء: «إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك» أي إن عبتهم. وتستعمل أيضًا بمعنى أوسع، وهو تقويم الشيء والحكم عليه بالحسن أو القبيح. وهذا يتفق مع اشتقاق الكلمة، فإن أصلها من نقد الدراهم لمعرفة جيدها من رديئها. فمعنى النقد هنا استعراض القطع الأدبية لمعرفة محاسنها ومساوئها، ثم قصرت على العيب لما كان من مستلزمات فحص الصفات ونقدها عيب بعضها، وهو بهذا المعنى ضد التقريظ، فالتقريظ مدح الشيء أو الشخص والثناء عليه، مأخوذ من «قرظ الجلد» إذا بالغ في دباغته بالقرظ، وبهذا المعنى يستعمله بعض الكتاب المحدثين، فيقولون في المجلات باب النقد والتقريظ يريدون بذلك ذكر المساوئ والمحاسن. ونحن هنا سنستعمل الكلمة بمعناها الواسع وهو تمييز جيد الشيء من رديئه. والنقد في اصطلاح الفنيين هو تقدير القطعة الفنية، ومعرفة قيمتها ودرجتها في الفن، سواء كانت القطعة أدبًا أو تصويرًا أو حفرًا أو موسيقى.

وتسمى الملكة التي يكون بها هذا التقدير الذوق، وهذا الذوق ليس ملكة بسيطة، بل هي مركبة من أشياء كثيرة يرجع بعضها إلى قوة العقل، وبعضها إلى قوة الشعور كما سيأتي توضيح ذلك.

والغرض من دراسة النقد الأدبي معرفة القواعد التي نستطيع بها أن نحكم على القطعة الأدبية أجيدة أم غير جيدة، فإذا كانت جيدة أو رديئة فما درجتها من الحسن أو القبح، ومعرفة الوسائل التي تمكننا من تقويم ما يعرض علينا من الآثار الأدبية.

فالنقد الأدبي متصل اتصالًا كبيرًا بجملة علوم وفنون، فهو من ناحية متصل بالإبداع أو الخلق أو الإنشاء، والنقد أقل من الإبداع، لأنه ينتظره حتى يتم، فإذا تم حكم عليه النقد بالحسن أو القبح.

ويلاحظ أن هناك دائمًا عداء بين النقاد والأدباء الإبداعيين، وفي الغالب يقتصر الأديب على الناقد، كما يقال أيضًا: إن الناقد عادة يميل إلى مهاجمة الابتكار الذي يدعو إليه الأديب، لأن الأديب متحرر من القيود ما أمكن، يسير حسب ذوقه ما أمكن، والنقاد يتبعون غالبًا قواعد متجمدة غير مرنة يريدون أن يطبقوها ولا يخرجوا عنها.

وهذا ظاهر في سلسلة التاريخ الأدبي من عهد اليونان إلى عهد الرومان إلى وقتنا هذا. وكما يلاحظ ثالثًا أن الناقد الجيد لا يمكن عادة أن يكون أديبًا جيدًا، لأن الناقد مقيد بقواعد وقوانين تمنعه من التحليق في الجو الخيالي الحر الذي يتطلبه الأدب.

والناقد على العموم يجب أن يكون ذا حظ كبير من العقل، وحظ كبير من الذوق. ويتجادل الباحثون في أنه هل لا بد للناقد من معرفة آداب أخرى حتى يمهر في نقد لغة أو ليس بضروري. وعلى كل حال فاطلاعه على الآداب الأخرى يوسع أفقه ويزيد في تجاربه.

والنقد الأدبي يخضع لقواعد خاصة كما يخضع كل علم، وكما تخضع الفلسفة، وهذه القواعد مأخوذ بعضها من الفلسفة، وبعضها من علم النفس، وبعضها من الأخلاق، وبعضها من علم الجمال.

والنقد الأدبي ككل علم ناشئ عن ملكات خاصة تنمو بالتربية والتمرين، فلو سُئِلتُ عن ناشئ يريد أن يعد نفسه ليكون ناقدًا أي طريق يسلك؟ أقول: إنه يجب عليه أولًا أن يكثر من قراءة الأدب ويتفهمه ويحاكي جيده، كالذي رُوي أن ناشئًا عربيًّا سأل أستاذه كيف يشدو في الأدب؟ فنصحه أن يحفظ ديوان الحماسة ثم يجتهد أن يجعل شعره نثرًا بليغًا. فلما فرغ من ذلك طلب منه الإعادة، ثم أمره أن ينساها، والظاهر أن الشيخ نصح بذلك لأن الناشئ إذا نسيها نسي مادتها وبقيت أنماطها في ذهنه يستمد منها عند حضور ما يناسبها. ثم يجب أن يسائل نفسه بعد هذا، هل منهج النقد الأدبي منهج تفسيري أو حكمي؟ أعني أن واجب الناقد أن يفسر القطعة الأدبية فقط، ويكتفي بذلك ويترك الحكم لها وعليها للقارئ بحسب ذوقه، أو وظيفته أيضًا الحكم عليها بالحسن أو القبح. قال بهذا قوم، وبذاك قوم، وسيأتي توضيح ذلك. ثم يسائل نفسه: هل قوانين الأدب مقررة ثابتة أو خاضعة للتغير بتغير الزمان؟ ماذا يجب على الناقد أن يكون غرضه من نقده؟

والنقد له اتصال وثيق بالفلسفة. وقد أبان «كانت» في فلسفته العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والنقد، فيجب على الناقد أن يقرأ آراء «كانت» الفلسفية في هذا الموضوع.

والنقد ترقى كثيرًا بكثرة المران وزيادة الخلف عما فعله السلف، فقد كان أوائل النقاد يلقون النقد على عواهنه من غير تعليل. وكان ارتكاز النقد الأدبي فيما بعد على علم النفس وعلم الاجتماع سببًا كبيرًا في رقيه، فقد بحث علماء النفس مثلًا فيما عند الأديب من غريزة حب الاستطلاع، وحب نفسه، وبما عنده من عجب أو إعجاب إلى آخره.

وبحث علماء الاجتماع مثلًا في أن الأديب هل ينبغي أن يوجه أدبه إلى خير مجتمعه أو هو غير مقيد بقيد، بل يترك نفسه تتجه كما تشاء من غير قيد ولا شرط وهو ما يعبرون عنه بـ(الفن للفن).

وإذا كان النقد الأدبي فنًّا وجب أن يخضع لكل قوانين الفن، فهناك قواعد أصلية تشترك فيها كل الفنون ومنها الأدب، وهذه القواعد منها ما هو مستمد من علم النفس، ومنها ما هو مستمد من علم الجمال وغير ذلك. وكلما تقدم الناس في فهم علم الجمال زاد تقدمهم في فهم قواعد الفن، وتبع ذلك تقدمهم في التطبيق على النقد الأدبي. والناقدون والأدباء تناولوا دراسة تاريخ الأدب من نواح مختلفة، فبعضهم تناوله من الناحية التاريخية، فهم مثلًا يدرسون العصر الجاهلي ثم العصر الإسلامي، ثم العصر العباسي وهكذا. وحجتهم في ذلك أن الأدب ظل للحياة الاجتماعية وممثل لها، ولا يمكن فهم الأدب حق الفهم إلا إذا فهمت البيئة التي أنتجته. فمثلًا لا يمكننا أن نفهم قصيدة طرفة إلا إذا فهمنا حالة البيئة التي كان يعيش فيها طرفة من أصدقاء يصادقهم، ويلهو معهم ويعاقر معهم الخمر وينفق عليهم وعلى نفسه ماله. ولا تفهم شعر المتنبي إلا إذا فهمنا الأوساط التي جال فيها وقال فيها قصائده، ففهمنا حال حلب إذ ذاك وما كان فيها من حروب صليبية ونحو ذلك، وفهمنا حال مصر وما كان له فيها من أحداث، والدواعي التي دعته إلى قول الشعر فيها، وفهمنا حال العراق وما قاله فيه ونحو ذلك، وهي أمور لا بد منها لفهم شعر المتنبي. ولا نفهم أبا نواس حتى نفهم العصر العباسي على حقيقته وهو الذي نبغ فيه أبو نواس، وكيف كانت حالته الاجتماعية. والنقد الأدبي في كثير من الأحيان يعتمد على هذه الدراسة التاريخية، فلسنا نستطيع أن ننقد جريرًا والفرزدق والأخطل، ونقدر شعرهم تقديرًا صحيحًا إلا إذا علمنا قبيلة كل منهم ومنزلة الشاعر من قبيلته، ومنزلة قبيلته من القبائل، والحالة الاجتماعية والسياسية إذ ذاك، والدواعي التي دعت إلى التهاجي بينهم.

والكتب الأدبية نفسها لا نستطيع أن نفهمها كما ينبغي أن تفهم إلا إذا فهمنا الجو الذي أُلّفت فيه، فكتاب الأغاني مثلًا إنما نفهمه يوم نفهم كل ما كان يحيط بالمؤلف من بيئة، ولسنا الآن نستطيع أن نفهم رموز أغانيه؛ لأننا لم نعلم الكثير عن الموسيقى في عصره، كما لا نفهمه إلا إذا علمنا لماذا كان مؤلف الكتاب وهو من نسل الأمويين يذكر الكثير من عيوب بني أمية، ولماذا يسير على منهج الأدب المكشوف لا الأدب المستور، ولماذا يعتمد على رواية السند، ونحو هذا من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا بعد دراسة عصره، بل نذهب إلى أكثر من هذا فنقول: إن أفكار الشاعر أو الأديب هي لدرجة كبيرة وليدة بيئته، فمحال أن يكون طرفة عباسيًّا أو أبو نواس جاهليًّا، بل لا يمكن أن يكون أبو نواس إلا عباسيًّا عراقيًّا، ولا يمكن أن يكون البهاء زهير إلا قاهريًّا أيوبيًّا، بل إن شكل الشعر وطريقة النظم ونحو ذلك خاضعة للبيئة التي نشأ فيها.

قد يقال: إنا نرى بعض الشعراء يَنبُغون في عصر واحد، وفي قطر واحد، ومع ذلك نرى بينهم من الفروق ما قد يفوق الفرق بين بعضهم وبعض الشعراء في غير عصرهم. ألا ترى الفرق الكبير بين أبي العتاهية في زهده وأبي نواس في فجوره، وهما متعاصران؟ أو ما ترى الفرق بين عمر بن أبي ربيعة وسلاسته، والفرزدق وخشونته؟ بل ما لنا نذهب بعيد؟ ونحن نرى الفرق كبيرًا بين شعرائنا اليوم في مصر، فبعضهم بعيد الخيال سهل الألفاظ، والآخر قريب الخيال غريب اللفظ؟ فنقول: إنا لا ننكر أن هناك فروقًا كبيرة بين أدباء كل عصر في المعاني والألفاظ، وفي الأسلوب، وفي المنحى الذي ينحوه في أدبه، ولكن شيئًا من ذلك لا يضعف ما نقول، فإن شعراء كل عصر مع الاختلاف بينهم تجمعهم جامعة واحدة، وتؤلف بينهم وحدة كالأسرة الواحدة يكون فيها المذكر والمؤنث، والغضوب والحليم، والذكي والغبي، وهذا كله لا يمنعهم أن ينتسبوا إلى أسرة واحدة.

وقد قرأت رواية روسية مغزاها أن ثلاثة أشقاء من أسرة واحدة تفرقت بهم السبل، فكان أحدهم قسيسًا والآخر ضابطًا في الجيش والثالث مدرسًا، ومع هذا إذا تعمقت في نفوسهم مع اختلافهم الكبير في وظائفهم وجدتهم متحدين في جوهر الحياة ومبادئها الأساسية، ولا يختلفون إلا في المنظر والعرض.

كذلك من الواضح أن كل أمة في عصر من العصور لها طابع خاص يطبع أدبها، وهذا الطابع هو نتيجة بيئته. والأدب العربي نفسه وإن اشترك كله في الخضوع لقوانين اللغة العربية من نحو وصرف وبحور شعر وقافية فإنه يختلف إلى درجة كبيرة باختلاف البيئة التي أنتجته، فالأدب العراقي غير الأدب الحجازي، وكلاهما غير الأدب الأندلسي، وكلها غير الأدب المصري.

والعالم بالبيئة الاجتماعية والتطورات التي طرأت على الأمة وتاريخها علمًا تامًّا يستطيع أن يتبين تأثير ذلك كله في أدبها، وإذا عرض عليه شعر لم يسمعه من قبل أمكنه أن يعرف من أي إقليم هو، وفي أي عصر كان، والعالم بهذا كله يستطيع أن يذكر السبب الذي من أجله نبعت الموشحات وكثرت في الأندلس، ولمَ كثُرت الأزجال في مصر، ولمَ كثُرت المقامات في العراق.

من هذا كله تظهر لنا قيمة الدراسة التاريخية في فهم الأدب، وقد حدا ذلك بعض الباحثين إلى دراسة الأدب حسب قانون النشوء والارتقاء، وأبانوا خضوعه لهذه القوانين، وألفوا كتبًا في الأدب المقارن بينوا فيها أن الأدب بأنواعه آخذ في سلم الرقي تبعًا لرقي الأمة الاجتماعي، ولكن هذا المنحى من غير شك لا يفيدنا كثيرًا في موضوعنا وهو تقدير القطعة الأدبية، ومعرفة قيمتها، ودرجتها الفنية.

والخلاصة أن الأديب الكبير ليس حقيقة مفردة مستقلة منعزلة، فله صلاته التي تربطه بالماضي والحاضر، وفي هذه الصلات يقودنا هو بالضرورة إلى معاصريه ومتقدميه، وهكذا يقودنا الأديب إلى نوع من أدب قوي موحد ذي كيان قائم بذاته، وحياة مستمرة خاصة، ولكنها متطورة تتبدل في مراحل وأطوار مختلفة. ودارس الأدب من ناحيته التاريخية يجب أن يدرس أمرين اثنين: الأول: ما فيه من حياة مستمرة، أو بعبارة أخرى الروح القومية فيه، والثاني المراحل المختلفة لهذه الحياة المستمرة، أو الطريق الذي يحمل فيه الأديب الروح المتغيرة للعصور التالية، ويعبر عن هذه الروح، وليست دراسة الأدب التاريخية تعني فقط سردًا زمنيًّا للرجال الذين كتبوا أو شعروا في هذه اللغة، والكتب التي ألفوها، والتغيرات التي طرأت على اللغة والأذواق، ولكننا نعني الاستكشاف المستمر عصرًا بعد عصر لعقل الأمة وخلقها.

قد يختلف الكاتب أو الشاعر عن النموذج القومي، ولكن عبقريته رغم ذلك ستظل تستمد الروح المميزة لجنسه، فنحن نتكلم عن الروح الإغريقية، أو الروح العربية، ولسنا نعني أن كل الإغريق فكروا وشعروا على طريقة واحدة، وأن كل العرب فكروا وشعروا بنفس الطريقة، وإنما نعني أننا حين نلغي كل الاختلافات كالتي تكون بين الرجل والرجل، والرجل والمرأة، يبقى على العموم طابع واحد متميز من الخلق الجنسي، ويبقى عنصر قوي يشمل كل الإغريق وكل العرب.

وربما كان المانع الأكبر من اقتباس العرب من الأدب اليوناني الفروق الاجتماعية والذوقية بين الأدبين. فالعرب بذوقهم العربي وبيئتهم العربية لم يستسيغوا الأدب اليوناني كما استساغوا علم اليونان وفلسفتهم، لأن الأدب ذوق عاطفي، والذوق والعاطفة مختلفان. وأما العلم والفلسفة فعقليان، والعقل متقارب. وإنما اقتبسوا من الآداب الأخرى الشرقية كالفارسية والهندية لأنها تقارب الذوق العربي. هذا إلى أن الحياة الاجتماعية أو البيئة الاجتماعية عند اليونان من ظهور نساء على المسرح اليوناني، وتعدد آلهته وتنادر نابع من البيئة اليونانية فرق بين الأدبين ومنع اقتباس العرب منهم.

والشاعر أو الكاتب هو المصور الكامل لعقل الجنس الإغريقي أو العربي، وهكذا يصبح الأدب ملحقًا لما نسميه التاريخ وشرحًا عليه، فالتاريخ يُعْنَى في الأمم بالأشياء التاريخية من حضارة الناس، ويصور الصورة الظاهرة لوجودهم، ويخبرنا بما عملوا وما لم يعملوا.

أما الأدب، فهو الذي يجب أن نرجع إليه إذا أردنا أن نميز أو أن نفهم ميزات الأمة العقلية والنفسية وعيوبها.

وبهذا يكون الأدب هو روح العصر، ونتاج المجتمع، وتكون دراسة أدب عصرنا تعبيرًا عن روحه ومُثُلِه. والقارئ لهذا يروعه أن يجد صفات كثيرة متحدة تبدو في أدباء العصر الواحد. وحسبنا أن نقارن بين امرئ القيس ومعاصريه من الشعراء لنعلم مصداق ذلك. ومع الفرق بين زهد أبي العتاهية وخلاعة أبي نواس، فإن المدقق يرى أن بينهما صفات مشتركة.

وهذا ما اتجه إليه في بحثه الناقد الفرنسي «تين» فإن أبان بطريقة علمية قوية خضوع الأدب للعناصر الثلاثة: الجنس والوسط والزمن. ويعني بالجنس ما يرثه الناس من المزاج والنفسية، وبالوسط الأوساط المحيطة بهم من مناخ وبيئة طبيعية، وأحوال سياسية واجتماعية ونحوها. وبالزمن روح العصر أو روح تلك المرحلة المعينة للتطور القومي الذي وصلت إليه الأمة في ذلك العصر.

ويتبع دراسة الأدب من الناحية التاريخية الطريقة المقارنة في دراسة الأدباء أفرادًا لما قلناه من العلاقة بين الأديب وحياة الجنس والعصر، فإن كل من ينتقل من أدب أمة أو عصر إلى أدب أمة أو عصر آخر سيدهشه التغير التام في الجو الفكري والخلقي.

ولما كانت دراسة الأدب هي محاولة ربط الظواهر بعضها ببعض، كان على الدارس أن يلحظ في دقة الفروق بين الأدباء والعصور، وأوجه الاختلاف الأساسية التي تظل مبهمة عادة، فيجب أن يدرس الطرق المختلفة عن وسائل التعبير، وعن المسائل العظمى للأدب من حب وبغض، وغيرة وأمل. وأفراح وأحزان، ومشاكل القدر الخالدة، وكيف يكون التعبير عن هذه المسائل ونحوها باختلاف العصور.

وسيلاحظ الدارس أن أهمية الموضوعات في كل عصر تختلف، فبينما يختفي موضوع من الموضوعات، ويصبح عديم الأهمية، إذا بموضوع آخر يظهر ويبرز إلى الأمام.

وكيف يبرز موضوع عند أمة ولا يبرز عند الأخرى، وكيف تعبر أمة عنه، وكيف تعبر عنه الأمة الأخرى، وهكذا من مسائل عديدة، حتى إن الأديب الواحد قد يعبر عن مسألة بتعبيرات معينة إذا هو عالجها في الأدب العربي، ثم هو نفسه يعالجها بطريقة أخرى إذا عالجها في الأدب الفارسي، وذلك يظهر بين التعبير والموضوع في التصوف العربي والتصوف الفارسي الإسلامي.

•••

واتجه آخرون إلى دراسة الأدب من حيث هو فن، وقالوا: إن الذي يعنينا أكثر من كل شيء آخر هو تقرير الآثار الأدبية بقطع النظر عن بيئتها أو قائلها، وأن نجيب عن الأسئلة الآتية: ما منزلة هذه القطعة الفنية؟ ما موضع الحسن أو القبح فيها؟ ما الذي جعلها أثرًا فنيًّا على كرّ الأجيال؟ وهذه الأسئلة ترينا قلة الارتباط بينها وبين دراسة البيئة أو حياة الأديب؛ فكثيرًا ما نجد في ديوان الحماسة أو غيره: «وقال آخر» ولا يذكر القائل، ولا يبين هل إسلامي هو أم جاهلي، وهذا لم يمنعنا من الإعجاب بالأبيات أحيانًا ووضعها في درجتها التي تليق بها. فالغرض من النقد الأدبي إذن تقدير الصفات الأساسية التي يجب توافرها لتكون القطعة أثرًا فنيًّا أدبيًّا.

واتجه آخرون إلى دراسة حياة الأديب لا الأدب نفسه، فوجهوا عنايتهم نحو تأثر الأدب بالأديب وصدوره عنه، ولاحظوا في ذلك أن نفس الأديب هي المنبع الذي صدرت عنه القطعة الأدبية، فيجب أن تدرس هذه النفس ليفهم ما يصدر عنها، فالكتاب الذي ألف والقصيدة التي نظمت، لا يمكن فهمهما حق الفهم إلا إذا فهمت نفسية القائل — وهذا من غير شك صحيح إلى درجة كبيرة، فأنت لا تفهم ديوان الأخطل إلا إذا علمت أنه كان نصرانيًّا وعلمت مقدار تدينه، ولا تفهم قصائد البارودي فهمًا صحيحًا إلا إذا علمت نشأته، والمناصب التي تقلب فيها، والمحن التي انتابته. بل هناك أبيات وقطع نرى عند قراءتها أنها تحتمل نوعين من التأويل والشرح، ومعرفة الشاعر هي التي تعين على ترجيح أحد التأويلين.

إن شئت فانظر إلى الدواوين وقارن بينها، تجد أن بعض الجامعين اكتفى بترتيب الديوان على حروف الهجاء، وبعضهم رتبها حسب أدوار حياة الشاعر، أو قدم للقصيدة بمقدمة تشرح الظروف التي بعثت على قول القصيدة، وترى الفرق كبيرًا في فهم النوعين من الدواوين؛ فترتيب الديوان حسب عمر الشاعر، وذكر الظروف قد ألقى نورًا على القصيدة يوضح جوانبها وما في ثنايا السطور. على حين أن ترتيب الديوان على حروف الهجاء لم يُفد من هذه الناحية أية فائدة. وكذلك الشأن في الكتب، فأنت إذا علمت أن أمالي القالي ألفها أبو علي للأندلسيين، وأنه أراد أن ينقل علم المشارقة إلى المغاربة أعطاك ذلك الكتاب لونًا صحيحًا يعينك على فهمه وترتيبه. وإذا علمت أن ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة شيعي معتزلي جعلك ذلك أقدر على فهم الكتاب. فإذا علمت أن مؤلفًا لم يكن ثقة قدّرت الكتاب تقديرًا أقرب إلى الحق … وهكذا … ولكن ينبغي أن لا يفوتنا أن المغالاة في هذه الناحية ضارة بالفن، فكثيرًا ما تكون معرفة حياة المؤلف أو الأديب أو الشاعر سببًا في عدم تقدير القطعة الفنية تقديرًا صحيحًا، فقد يبخس بعض الناس حق الأخطل لأنه نصراني أو يرفعونه فوق منزلته لأنه نصراني أيضًا، وكذلك قد يؤثر في نفس القطعة الفنية ما تعرفه عن منشئها من ورع وسمو خلق، أو تهتّكٍ أو ضَعة، أو انتساب إلى حزب سياسي يعجبك أو لا يعجبك.

من أجل هذا ألح بعض الأدباء في إبعاد حياة الأشخاص، وعدم حسبان ذلك في تقديم الفن. وقالوا ليس يهمنا كثيرًا معرفة ما إذا كان مجنون ليلى شخصًا حقيقًّا أو خياليًّا ما دمنا نستطيع أن نقوّم القصائد المنسوبة إليه تقويمًا حقيقيًّا. وليس يهمنا من الناحية الفنية أكان ديوان امرئ القيس من شعر امرئ القيس أم من شعر خلف الأحمر أو غيره، كما لا يهمنا إن كانت هذه الصورة لروفائيل أو لغيره … إن ذلك قد يهم المؤرخ ويهم مؤرخ الفن، ولكن لا يهم الناقد؛ كما لا يهم من يريد أن يعرف مساحة بيت أن يعرف من مالكه ولا من بانيه ولا جمال هندسته أو قبحها. وهم يقولون: إن الفنان قد قدم لك قطعة فنية لتحكم لها أو عليها، فأصدر حكمك عليها وحدها. والأديب لم يقدم حياته لتحكم لها أو عليها. والواجب أن يحكم على قيمة الفنان بما يقدمه لا على ما يقدمه بقيمته هو.

والحق أن قدرًا من معرفة حياة الفنان لازم لفهم ما صدر عنه من فن، وهو القدر الذي يرسل الضوء على الآثار الفنية. فأما ما وراء ذلك فليس يهمنا في موضوعنا وهو النقد الأدبي.

والنقد، بهذا الشكل، أقرب إلى العلم منه إلى الفن، فهو يقرر القواعد النظرية أكثر مما يبين طريقة استخدامها، ويوضح النظريات التي يمكنك أن تعرف بها القطعة الفنية ومقدار جودتها، ولكن لا يتعرض كثيرًا لتدريبك وتبيين الطرق العملية لتكون فنانًا.

وبذلك نستطيع أن ندرك الفرق بين النقد وفن البلاغة، فالفرق بينهما من وجهين:

  • الأول: أن البلاغة تغلب فيها الناحية الفنية، فهي تقصد أكثر ما تقصد إلى تمرين المتعلم أن يأتي بقطع بليغة، أما النقد فيوضح النظريات التي تقدر بها تلك القطع.
  • والثاني: أن البلاغة أكثر ما تعني بالشكل وصورة الكلام، فهي تفرض أن المعاني حاصلة في ذهن الكاتب، ثم تعلمه كيف يصوغها ويخرجها في قالب بليغ. أما النقد فيتعلق بما وراء الشكل، بمقدار ما في القطعة مثلًا من عواطف، وبمقدار ما في القصيدة من خيال … وهكذا، فإذا عنيت البلاغة بالنظم وتأليف الكلام وتركيب الجمل ومظاهر الأسلوب، فالنقد يُعْنَى بمنابع الأسلوب من فكر وعاطفة وخيال ونحو ذلك مما لا يتعلق بالشكل.

على أنه يجب ألا يغرب عن الذهن أن علم النقد على رأي مؤلفي العرب — وقد قسموا العلوم إلى علوم نضجت واحترقت، وعلوم لم تنضج، وعلوم نضجت ولم تحترق — لم ينضج بعد، ولم تحدد موضوعاته تحديدًا دقيقًا؛ لأنه لا يزال في طور التكون بخلاف فن البلاغة أو كما يقولون علم البلاغة.

يتضح لنا مما تقدم أن النقد الأدبي غرضه أن يستكشف العناصر التي لا بد منها لما يسمى أدبًا، والتي إذا تحققت على الوجه الأكمل كانت المثل الأعلى للقطعة الأدبية، والتي هي المقياس الذي نقيس به الآثار الأدبية لنعرف قيمتها.

ولكن هل هذا ممكن؟ وهل هناك أصول للصفة التي وصفوا؟ وهل يمكن تأسيس علم غرضه ما ذكرنا؟

شك قوم في إمكان هذا، بل أحالوه، ووجهت اعتراضات عدة على هذه المحاولات.

وأهم هذه الاعتراضات، أولًا: أن النقد الأدبي يعتمد على الذوق، والذوق بحكمه على الأشياء لا يستند على أحكام عقلية، وإذ ذاك لا يمكن أن تكون هناك قواعد يصدر عنها الحكم وتتخذ مقياسًا، ألا ترى أن الناس إذا اختلفوا في قطعة فنية لم يستطع أحدهم استخراج حجج عقلية يقنع بها الآخرين. فالأدب فن شأنه شأن الحب، وكما قال الشاعر:

ليس يُستحسن في شرع الهوى
عاشقٌ يحسن تأليف الحجج
بُنِيَ الحبُّ على الجَوْرِ فلو
أنصفَ المحبوب فيه لسَمج

وإنا لنرى هناك مقياسًا لكل المسائل النظرية، وللبحث عن الحقائق تتحاكم إليه، ووضعت قواعد المنطق للسير على ما يقتضيه العقل لإقامة البرهان. ونستطيع أن نقول بعد الامتحان: إن هذا صواب وهذا خطأ. ولكن فيما يتصل بالفن وفيما يتصل بالأشياء التي تصدر عنه، وفي الأحكام التي تصدر عليها، ليس الشأن كذلك، فإذا رأيتُ صورة وقلتُ: إنها جميلة، فمعنى ذلك أنها تسرُّني وتلائم ذوقي، وليس في إمكانك أن تقول: إن هذا حق أو باطل كما تقول في الحقائق العلمية؛ وليس الأدب إلا ضربًا من الفن، فإذا سمعت أو قرأت قطعة فأعجبتني قلت إنها جيدة، أي إن ذوقي يستحسنها وإذا لم تستحسنها أنت فلك ذوقك، وليس هناك مرجع نحتكم إليه. وكل ما قيل في شأن قواعد الاستحسان والاستهجان ليس إلا ضربًا من التحكم أو اللعب بالألفاظ، أو استخدام القدرة البلاغية تعمل في الإقناع عمل الحجج المنطقية ومحال ذلك. وإن شئت مثلًا لذلك فاقرأ ما يقوله عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، يقول: «ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع، فلفظ الأخدع في بيت الحماسة:

تلفتُّ نحو الحي حتى وجدتُّني
وَجعت من الإصغاء ليتًا وأخدعا

وبيت البحتري:

وإني وإن بلّغتني شرف الغنى
وأعتقت من رق المطامع أخدعي

فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن. ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام:

يا دهرُ قوّم من أخدعيك فقد
أضججتَ هذا الأنام من خُرُفك

فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة.» ا.هـ.

فأنت ترى أن عبد القاهر لم يرجع في كلامه إلى حكم عقلي ولا تعليل منطقي، وإنما ترى أن الدعوة والبرهان من صنف واحد، كلاهما يعتمد على الذوق من غير حجة.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن مما لا شك فيه، ومما يسلم به كل باحث أن هناك فرقًا بين ذوق وذوق، وأن هناك ذوقًا أرقى من ذوق كما قال الأستاذ «بين»: «إن الفكرة الأولى في الجمال تنشأ عن الألوان، فالطفل قبل أن يشعر بلذة لجمال شكل أو جمال حركة تأخذ ببصره الألوان الزاهية والصور البديعة». وإني أميل إلى تقرير ذلك عند القرويين، فإنه تغلب عليهم هذه الفكرة في الجمال حتى في تقدير جمال النساء، فمن أخذوا بحظ قليل من المدنية يميلون إلى الألوان القوية كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبهم من الثياب الألوان الكثيرة الصارخة، أما المتمدنون فتعجبهم الألوان الحفيفة المتناسقة الخافتة.

ونحن إذا قرأنا شعر الجاهليين في وصف النساء، وجدنا الصفات المادية من مثل قوله:

بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقّها وأجلّها
حجبت تحيّتها فقلتُ لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلّها

ولكن لا يلتفتون إلى جمال الحديث وجمال خفة الروح، كما يقول بشار العباسي:

وحديثها السحر الحلال لوانها

لأن جمال الحديث يتصل بالمعنى أكثر مما يتصل بالمادة.

وقل مثل ذلك في الأدب، فالقطع الأدبية التي تعجب الشعبَ المنحطّ لا تعجب الأديب الراقي من ناحية الألفاظ ومن ناحية المعاني. وهذا من غير شك يرجع إلى اختلاف الذوق وتدرّجه في الرقي، بل إن الأديب نفسه إذا رقى استحسن ما لم يكن يستحسن، واستهجن ما لم يكن يستهجن تبعًا لرقي الذوق، وإذا كان الذوق يرقى وينحط فهو خاضع لنظام وقوانين يمكن دراستها. وهناك مقاييس للذوق الراقي والذوق المنحط يمكن أن تصاغ في قالب قواعد علمية، بل صيغت بالفعل في علم الجمال، وإن لم يستكشف جميعها بعد. فليس الحكم النقدي يصدر اعتباطًا أو يلعب فيه بالألفاظ، وإنما هو مبني على ذوق خاضع للبحث العلمي.

الاعتراض الثاني: اعترض أيضًا بأننا نرى حتى الأدباء المتضلعين يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا عند الحكم على القطعة الفنية وعلى الأديب، فنرى علماء الأدب يختلفون في أيهم أفضل، جرير أم الفرزدق أم الأخطل؟ وأيتهما خير: مقامات الحريري أم مقامات البديع … ونحو ذلك. ونراهم يختلفون في أحسن مقامة للحريري وأحسن قصيدة لأبي نواس والمتنبي، وأحسن قول قاله امرؤ القيس أو النابغة. وإذا كان الأدباء — وهم الخبراء في الفن — يختلفون هذا الاختلاف، فليس هناك من أمل في وضع قواعد ثابتة يمكن الخضوع إليها واتخاذها مقياسًا.

والجواب عن هذا أن الاختلاف في الذوق مسلم به؛ ولكن ما اتفق عليه الأدباء أكثر مما اختلفوا فيه، وليس بينهم من يشك في أن كلًّا من الفرزدق وجرير والأخطل شاعر عظيم، ولا أن امرأ القيس والنابغة فرسا رهان، ولا أن مقامات البديع فيها مزايا وعيوب، كما أن مقامات الحريري كذلك، وأن عديّ بن زيد شاعر ضعيف، وهكذا. هناك ضروب من الاتفاق عدة، وهذا الاتفاق دلّل على أن هناك معاني في نفوس الأدباء ومقاييس متفقًا عليها يصدرون عنها هذه الأحكام المتفقة، فالنقد الأدبي ينبغي أن يسمح بهذا الاختلاف البسيط بين الأدباء ولا يضيره ذلك، فإن وراء هذه الأصول والقواعد التي اتفقوا عليها أو هي في نفوسهم محل اتفاق — شخصية تسبب هذا الاختلاف، فمن غلبت عليه فكرة التشاؤم وأَلِمَ من عيوب الناس واحتقر شئونهم مثلًا يميل إلى شعر أبي العلاء. ومن قضى حياته في لهو وسرور وخمر وتشبيب ونحو ذلك فضل شعر أبي نواس، وهكذا. وهذا الاختلاف في التفضيل لا يؤثر كثيرًا في قواعد النقد التي تقرر مركزًا أدبيًّا ممتازًا لكل من أبي العلاء وأبي نواس.

الاعتراض الثالث: واعترض ثالثًا بأن مجال الأدب غير محدد ونتاجه متنوع تنوعًا لا يحصى، فلا يمكن أن يوضع إذن لغير المحدد قواعد محدودة تحيط به وتنطبق على كل أنواعه. فشعر أبي العلاء الباكي، وشعر أبي نواس الضاحك، وشعر أبي العتاهية الجاد، وشعر ابن الحجاج الماجن، وشعر المتنبي العاقل، وشعر العباس بن الأحنف العاشق، وشعر مؤدب، وشعر فاحش، وأنواع من الشعر لا تحصى، ومن النثر الفني لا تحصى. كل هذا يجعل من المستحيل أن توضع له قواعد تجمعه، ومقاييس تقتبس منه؛ لأن الأدب سجل الحياة، ومناحي الحياة عديدة ومتابعها مختلفة: عقل وشعور وخيال وما إلى ذلك، وكل منبع من هذه المنابع له ضروب وألوان لا يحصرها عد، فكيف يمكن وضع قواعد ومقاييس تجمع شملها وتحدد قيمتها.

وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن هذا التنوع والاختلاف يجعلان مهمة النقد الأدبي صعبة لا مستحيلة. فوراء هذا التنوع أسس يحاول هذا العلم ضبطها ووضع مقياس لها، فمثلًا مجال الخيال متنوع أنواعًا لا عداد لها، ولكن هذا لا يمنع أن يضبط الخيال، وتوضع له قواعد، ويحدد له مقياس ينطبق على أنواعه الكثيرة.

الاعتراض الرابع: وهناك اعتراض رابع، وهو أن الأدب إنما يصدر عما في نفس الأديب من عبقرية ونبوغ، والقطعة الأدبية تتلون بلون هذه العبقرية وما للأديب من شخصية، وهذه العبقرية أو الشخصية لا تخضع لقواعد؛ لأن كل عبقرية من طبيعة خاصة ولها ميزات خاصة لا يشاركها فيها غيرها، ومن أجل هذا كان نتاجها، وهو القطع الأدبية له كذلك ميزات خاصة لا يشاركها فيها غيرها، وهذا يجعل وضع قواعد شاملة من المستحيل إن واجب النقد أن لا يكتفي ببيان شعر المتنبي مثلًا، وما يشبه فيه غيره من الشعراء وما ينفرد به لأن هذا لا يعرفنا المتنبي حق المعرفة، وإنما واجبه أن يشعر القارئ بطعم المتنبي، ويجعله يتذوقه ويحس أن له طعمًا خاصًّا يخالف بقية الطعوم، وهكذا في كل الأدباء … وهذا ما لا يمكن أن توضع له قواعد ثابتة.

وجوابنا هنا كجوابنا السابق، وهو أن هذا يوضح صعوبة البحث، ولكن لا يوصل إلى النتيجة التي وصل إليها المعترض من استحالة البحث، وأيضًا فليس من خصائص النقد أن يشعرك بطعم كل أديب، فهذا شيء لا يكونه النقد؛ بل تكونه القراءة الشخصية لآثار الأديب. وإنما الناقد يستحسن الآثار الأدبية أو يستهجنها ثم يضع لاستحسانه واستهجانه عللًا معقولة، وهذا هو موضوع النقد فهو يضع القواعد التي يرجع إليها في الاستحسان أو الاستهجان، ويرى إن كان يمكن تطبيق ذلك على جميع الآثار الفنية أو لا.

والآن نخرج من هذه الاعتراضات بنتيجة واحدة، وهي أن هذا العلم محفوف بصعاب كثيرة، وأن هناك نواحي لا يمكن وضع قواعد لها كالشخصية المختلفة للأدباء؛ وقواعد يمكن وضعها وتطبيقها على الأدب عامة، كما يمكننا القول هنا أن علم النقد يريد أن يخرج بالنقد من أن يكون مجرد استحسان أو استهجان لا يستند على تعليل، فكل ما كان مبنيًّا على ذوق الناقد وحده، ومجرد ادعائه أن هذا بليغ وهذا غير بليغ؛ لأنه يتذوقه أو لا يتذوقه، واكتفاؤه أن يصوغ عباراته بالاستحسان والاستهجان في قالب جميل كما يفعل عبد القاهر الجرجاني وأبو هلال العسكري في كثير من المواضع، كل هذا ونحوه لا يفيدنا كثيرًا في موضوعنا، ولا يصح أن يعد من علم النقد، كذلك يجب أن ننبه هنا على أن قواعد النقد لم يلاحظ في وضعها الفنان بقدر ما لوحظ الحكم على الآثار الفنية، فليس الغرض الأساسي منها أن تعلم الشاعر كيف يشعر، ولا الكاتب كيف يكتب. وإنما تعلم الناقد كيف يحكم على الآثار الفنية. فهي قواعد مستنبطة من الفن وليس الفن مستنبطًا منها، ويجب أن نلفت النظر إلى أننا بهذه القواعد لا نريد أن نهدر الذوق الخاص بالناقد فإن له دخلًا كبيرًا في قيمة الناقد؛ ولكن مما لا شك فيه أن هذه القواعد تساعد ذوق الناقد على تعرف الصواب.

وأيًّا ما كانت اتجاهات الدراسات الأدبية يجب على قارئ الأدب أن يقرأ القصيدة أولًا قراءة دراسية، ثم يقرؤها بعد ذلك قراءة نقدية، ففي القراءة الأولى يحاول أن يتعمق في نفسية الشاعر وأن يتفهمها، وأن يملأ قلبه مما كان يفعمه من عواطف وإحساسات، أن يحيط نفسه بنفس الجو الشعوري الذي كان الشاعر فيه ينشئ قصيدته. أما في القراءة الثانية فعليه أن يقارن بين هذه القصيدة وغيرها من جنسها، ويزداد تعمقًا في فهم لمحاتها وتبين إشارتها.

وبديهي أن القراءة الثانية لا تكون إلا بعد القراءة الأولى، فنحن لن ننقد قصيدة حق النقد إلا إذا درسناها أولًا، وتفهمناها وتعرفنا روح صاحبها، وتعمقنا في عواطفه وشعوره وانسجمنا في جوِّه العاطفي. ثم إن قيمة القراءة الثانية تتوقف على مقدار القراءة الأولى من الجودة والإتقان.

ونحن في نقدنا للقصيدة لا نعني إلا بالناحية الأدبية العاطفية دون أن نهتم بالمسائل الخلقية أو المناقشات الفلسفية. فهذا النقد هو ما نسميه النقد الأدبي.

وحين يبدأ الإنسان في النقد يبدأ في استعمال اصطلاحات معينة مثل وزن وبحر وقافية واستعارة وتشبيه، وغير ذلك من ألوف المصطلحات. فالأسلوب هو طريقة تعبير الإنسان عن نفسه، والأسلوب الجيد هو الذي يحسن التوضيح كما يريده الإنسان. فقولنا: اثنان واثنان أربعة تعبير جيد؛ لأنه يبين ما نريد أن نقوله في جلاء، ولكن ليس كل ما نريد أن نعبر عنه في هذه الدرجة من السهولة، وليس كل ما نريد أن نعبر عنه في الدرجة من الاعتماد على العقل، ولا هذا التعبير أيضًا فيه جمال فن، فهناك أشياء أخرى نحس بها في داخل أنفسنا ونريد أن نخرجها إلى العالم الخارجي عن طريق القول، وهذه الأشياء لا تتصل بعقلنا وتفكيرنا فقط، ولكنها تتصل بروحنا وعواطفنا وكياننا كله، ولذلك يكون فيها خفاء هذه العواطف ودقة هذه الروح وتعقد هذا الكيان. فيكون التعبير عنها نوعًا آخر لا يكتفي بمجرد هذا التقرير السهل البسيط الذي وجدناه في تعبير «اثنان واثنان أربعة» بل يلجأ إلى فنون أخرى يدخلها في الأسلوب حتى يمكنه حسن التعبير، كالتشابه والاستعارة والمجاز والكتابة ونحو ذلك مما وضع له علم البلاغة. ومن أجل هذا اختلفت التعبيرات الأدبية باختلاف الأشخاص في هذه العواطف، والاختلاف في النفوس. ولهذا أيضًا اختلفت أساليب الأدباء اختلافًا كبيرًا. أما الأساليب العلمية فليس فيها هذا الاختلاف، بل هي متحدة متشابهة. وسبب ذلك أن الأساليب العلمية تقوم على العقل وحده، والعقل يكاد يكون قدرًا متشابهًا عند الناس ليسوا يختلفون فيه اختلافهم في العواطف، وتضارب العوامل النفسية، ولذا كانت التعبيرات عن أغراض هذا العقل متقاربة متشابهة. بل قد يلجأ العلماء إلى استعمال الرموز المطبقة الحسابية والجبرية والهندسية، فيقل هذا الاختلاف في التعبير.

وبعكس هذا تمامًا نجد الأساليب الأدبية، فهي متنوعة متعددة الصور كما قلنا، وهذا يسلمنا إلى القول بأنه ليس من قاعدة واحدة تنقد بها كل أنواع الأساليب الأدبية، ويحكم بها على جودتها، وإنما نحكم على كل أسلوب بأحكام نستمدها من الأسلوب نفسه. فننظر إلى طبيعة الأسلوب، وطبيعة المعنى، ومقدار انسجامها، وننظر إلى درجة إجادة الأسلوب في التعبير عن المعنى، ولكن هناك أشكالًا من الأساليب تجمع كل طائفة منها متشابهة مشتركة يكون من السهل خضوعها لقانون نقدي عام يطبق عليها، فالأسلوب العلمي لا يراد منه إلا الإفهام، ولذلك يجب أن يكون سهلًا خاليًا من كل تعقيد، بسيطًا عاريًا عن كل زخرفة أو تنميق، مساويًا للمعنى لا يزيد عنه ولا ينقص، مرتبًا ترتيبًا منطقيًّا متينًا.

أما الأسلوب الأدبي فلا يشترط فيه هذا؛ لأن غرضه ليس مجرد الإفهام، بل له غرض آخر هو التأثير والإقناع والاجتذاب. فالخطيب مثلًا حين يخطب الناس ليس غرضه أن يفهمهم ما يقول، بل غرضه أن يستميلهم إليه، ويجتذبهم إلى موافقته على ما يقول، فهو لذلك لا يكتفي بالتعبير البسيط المألوف، بل يلجأ إلى جمل يستثير بها عاطفة السامعين ويتملق قلوبهم ويستدعي إعجابهم. تلك الوسائل هي التي تكتشفها البلاغة، وكذلك شأن الشاعر في قصيدته إذا هو يريد أن يستثير عواطف معينة، وانفعالات خاصة لدى سامعه وقارئه، لا تكفي في استثارتها هذه اللغة الأولى.

ولكن الأدباء أنفسهم يختلفون في خلجات نفوسهم وفي صبغتهم العاطفية، فتختلف لذلك أساليبهم، فأديب واقعي يعبر عن الحياة الفعلية، وأديب مثالي يعبر عن أدبه تعبيرًا مثاليًّا. ويجب عند دراستنا للكتب الأدبية أن نفرق بين ما يسميه كارليل الأصوات المبتكرة، وبين ما هو مجرد أصداء، أو بعبارة أخرى بين الرجال الذين يتكلمون كلامًا صادرًا عن أنفسهم وبين الذين يتكلمون نقلًا عن الآخرين، أو كما قال بعضهم عن كتاب بعد قراءته: «قد قرأت كتابًا جديدًا وليس طبعة جديدة، وليس انعكاسًا لأي كتاب آخر». ولسنا نحتقر الأصداء والانعكاسات ولا نذمها ولا نبالغ في انتقاصها إذ إنها إن كانت جيدة في نوعها، كان لها مكانها وفائدتها، ولكن لكي نتجنب كل تقدير خاطئ يجب أن نميز الأدب الذي يستمد حياته من شخصية المؤلف وتجربته عن الأدب الذي يستمد حياته من طريق غير مباشر عن شخصيات الآخرين وتجاربهم، فهذا النوع الثاني يجب أن يوضع دائمًا دون الأول في المكانة.

وعلى كل حال يجب أن نعير اهتمامًا لما يسمونه مبدأ الصدق. وقد كان أفلاطون أول من أعلنه، وهو أن أساس كل عمل جيد وخالد في الأدب هو الإخلاص التام من الفرد لنفسه، والإخلاص التام منه لتجربته الخاصة في الحياة، وهذه الصفة من الإخلاص هي التي عدها «كارليل» العنصر الضروري لتكوين كل عظمة وبطولة، وهذا المعنى هو الذي عبر عنه «ألفريد دي موسيه» بقوله: «إنني أنا الذي عشق.» وقد تبدو هذه العبارة عادية، ولكن كم منا يستطيع أن يقولها في صدق؟ وكما قال جورج هنري لويس: «نحن لا نستطيع أن نطلب من كل إنسان أن يكون له عمق غير عادي في فطرته، ولا نستطيع أن نطلب منه تجربة غير عادية، ولكننا نطلب منه أن يعطينا أحسن ما يستطيع، ولن يكون هذا الأحسن شيئًا يملكه غيره..» وكم من الناس قد فقدوا قيمتهم بكبتهم نفوسهم، وجريهم وراء غيرهم في أسلوبه وموضوعه. وهذا هو الذي يفسر أننا نرى الرجل كبيرًا في ملكاته الطبيعية، واسع الثقافة كاملًا في الفن، قد فاقه غيره بسبب أن الأول أقل صراحة وأضعف جرأة في التعبير عن نفسه. وبدون الإخلاص لا يمكن أن يوجد في الأدب عمل حي. وميزة التجديد في الأدب التي يدأب الناس في البحث عنها ليست في الجدة، ولكنها في الصدق. والإنسان سواء كان محيط تجربته وقوته الخاصة كبيرًا أو صغيرًا فإنه يجب أن يكتب عما تقوده إليه أقدامه، وأن يهتم بوصف ما عاشه هو وما رآه وفكر فيه وأحسه بصدق وأمانة، ونعني بالصدق أن يعبر عن إحساسه وشعوره لا عن إحساس غيره وشعوره. فأبو العتاهية مثلًا حين يعبر عن الزهد، وأبو نواس حين يعبر عن غرامه بالخمر، إنما يعبران عن صدق وإخلاص، والرجل الصالح التقي الذي لم يتعرض يومًا ما لحب مذكر، والتغزل فيه لا يكون صادقًا حين يقول الشعر في غزل المذكر، وهكذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤