عناصر الأدب

أجمع النقاد تقريبًا على أن الأدب يتكون من عناصر أربعة: العاطفة، والمعنى، والأسلوب، والخيال. ونعني بذلك أن كل نوع من الأدب لا بد أن يشتمل على هذه العناصر الأربعة ولا يخلو من عنصر منها، غاية الأمر أن بعض الأنواع الأدبية قد يحتاج إلى كمية أكبر من بعض هذه العناصر مما يحتاجه من نوع آخر. فالشعر مثلًا يحتاج إلى مقدار من الخيال أكثر مما تحتاج إليه الحكم، والحكم تحتاج إلى مقدار من المعاني أكثر مما تحتاجه من الخيال وهكذا.

العاطفة

هي عنصر هام في الأدب، ومع علم الأقدمين بها، فإن اسمها لم يستعمل في الأدب العربي إلا حديثًا، كالذي قالوا عن الأدب الألماني فيه عشق كثير، ولكن ليس فيه كلمة عشق. فأنت تقرأ طبقات الشعراء لابن قتيبة مثلًا، فتجد فيه قول الشعر للرغبة أو الرهبة، ولكن لا تجد فيه كلمة العاطفة؛ لأنها لم تخترع إلا في العصر الحديث، وكذلك في كتاب العمدة لابن رشيق وفي غيره من الكتب. على كل حال فهي عنصر هام، وقد كثر في تعبير الأدباء المحدثين أن فلانًا مشبوب العاطفة أو هو ذو عاطفة بليدة، وهذه العاطفة هي التي تمنح الأدب الصفة التي نسميها بالخلود، فنظريات العلم ليست خالدة، فالعلم الذي كان في زمن الإلياذة قد مات وبقيت الإلياذة، والعلم الذي كان في زمن المتنبي مات وبقى شعر المتنبي، ولم يبق العلم الذي في زمنه إلا للتاريخ، والسبب في ذلك أن العلم خاضع للعقل، والعقل سريع التغير حتى في الإنسان الواحد من صباه إلى شبابه إلى شيخوخته، فقد يرى الرأي في زمن ثم يرى غيره في زمن آخر وهكذا.

أما العاطفة فلا تتغير إلا قليلًا، وإذا تغيرت تغيرت في أشكالها دون أساسها، فمثلًا عاطفة الحزن على ميت قد تضبط عند الألمان والإنجليز، ولا تكون مضبوطة عند المصريين، ولكن الحزن هو الحزن. وعاطفة الإعجاب بالبطولة قد تتخذ شكل عبادة الأبطال عند البدائيين، وقد تبعث على إقامة تماثيل عند الأوروبيين، وقد تتخذ أشكالًا عند غيرهم، ولكنها في جوهرها ثابتة عند الجميع، وهكذا.

وأيضًا فإن العلم يتعلق بالموضوع، والموضوع تتغير قوانينه كلما جد جديد. أما العاطفة فتتعلق بشي ذاتي قليل التغير، وما خلا من العاطفة كالتقاويم والنتائج والأخبار المحلية والمعادلات الجبرية وقوانين اللوغاريتمات وكتب الإحصاء، فلا تسمى أدبًا بحال من الأحوال. وكذلك كتب الرياضة وكتب علم طبقات الأرض أو علم النفس. على حين أننا نعد أبياتًا من الشعر ولو تافهة في فتاة أو زهرة أو خصلة من الشعر أدبًا. ذلك لأن النوع الأول غير مرتبط بالعواطف والثاني مرتبط بها.

وكتب التاريخ قد تعد أدبًا وقد لا تعد، فإذا كان كتاب التاريخ لا يشتمل إلا على حقائق مجردة من العواطف ومستندة فقط على الوثائق والإحصاءات لم يعد أدبًا. أما إذا مزج فيه المؤرخ حقائقه بعواطفه، وضحك أحيانًا وبكى أحيانًا، وأتبع الحادثة برأيه فيها، وأكمل بخياله ما نقص، وبعث عند القارئ ما حمسه أو خذله كان أدبًا بمقدار ما فيه من عاطفة.

وإذا كانت العواطف أساسًا من أسس الأدب وهي التي تجعله خالدًا، وكانت العواطف لا تتغير حُبِّب إلينا قراءة الشعر مرارًا. فنحن لا نمل من إعادة قراءة المتنبي أو أبي العلاء، على حين أننا نمل بسرعة من قراءة كتاب علمي متى كنا نعلم ما فيه؛ لأنه مرتبط بالعقل لا بالعاطفة. وشيء آخر وهو أن العاطفة أوسع مجالًا لتوضيح الشخصية، ففهم الحقائق العلمية فهمًا مطابقًا للواقع والتعبير عنها يشترك فيه الناس على السواء تقريبًا، فنحن إذا قلنا: الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين كانت هذه الحقيقة عامة يستوي الناس إلى درجة كبيرة في فهمها والتعبير عنها. فليس فيها كبير مجال للتعبير عن الشخصية، ولكن ما أشعر به إذا رأيت نجمًا في السماء يخالف ما شعر به من بجانبي، وتعبير عنه يخالف تعبير صاحبي، على حين أن الفلكيين في كلامهم عن النجوم وأحجامها، وبعدها وحركاتها متقاربون في الإدراك العقلي والتعبير القولي. وعندما تدخل العاطفة في الشعور والتعبير تظهر الشخصية ويكون الأدب.

وإذا أردت أن تعرف شخصًا أعالم هو أم أديب أم هو عالم وأديب معًا، فانظر بنتاجه أيؤثر كلامه في العقل أم في العاطفة أم فيهما معًا، فالأول عالم والثاني أديب والثالث عالم وأديب معًا.

معنى الأدب: وهم يعرفون الأدب عادة بأنه تفسير الحياة واستخراج معانيها. ومن الواضح أن استخراج معاني الحياة والتعبير عنها إنما يرجعان إلى ما للإنسان من قوة عاطفة؛ لأن الحياة بمعناها الواسع لا تسيطر عليها الحقائق الخارجية ولا الظروف الخارجية ولا التفكير العقلي بقدر ما تسيطر عليها العواطف، والعواطف هي التي تحركنا إلى العمل وهي التي توجه الإدارة، وهي التي تحدد مجرى الحياة.

ولذلك نلحظ أن أعمال الحياد ليس ينطبق عليها كلها المنطق، لأن المنطق قانون العقل لا العواطف، والحياة خاضعة للعواطف والعقل معًا، ولذلك نراهم يقولون إذا عجزوا عن تطبيق المنطق العقلي: إن هذا ما يقتضيه منطق الواقع، بل قد يكون منطق العاطفة أحيانًا مخالفًا لمنطق العقل، كالعطف على ابن عاقّ، والبكاء على شرير، وتفضيل ابن الزوجة الجميلة ولو لم يكن كفئًا، كما كان من هارون الرشيد في تقديمه الأمين على المأمون.

والأدب أداته العواطف، وهو الذي يحدث عن شعور الكاتب ويثير شعور القارئ ويسجل أدق مشاعر الحياة وأعمقها.

ولكن إذا نحن سلمنا بأن ما كان مصدره العواطف أدب، فهل يمكننا أن نسلم بصحة العكس، وهو أن ما لا يصدر عن عاطفة ولا يثير عاطفة لا يسمى أدبًا؟

والجواب أن هذا صحيح أيضًا، وهو أن ما لا يحرك عاطفة ولا يثيرها لا يسمى أدبًا، فالتاريخ إذا صدر عن عاطفة وأثار عاطفة سمي أدبًا وإلا كان علمًا. والشروط التي وضعوها لكتابة التاريخ كالدقة والإلمام بجميع نواحي الموضوع والإنصاف في الحكم هي شروط من الناحية التاريخية، فإذا فقدناها لم يعد كتاب تاريخ، ولكنه إذا كان ذا أثر في العواطف ظلت ناحيته الأدبية باقية. والسبب في أننا نعد كاتبًا أو ناقدًا أو باحثًا أديبًا وآخر غير أديب، أن الأول يثير الحقائق التي يذكرها ويقويها ويلهبها باللعب بالعواطف.

ثم إنه أحيانًا تكون كميات العناصر الأخرى كبيرة، وهي عنصر العقل والخيال والأسلوب، ولا يكون فيها شيء من العواطف، كبعض حكم المتنبي، وبعض الأمثال، فهذه يختلف النقاد فيها، وبعضهم لا يعدها أدبًا لخلوها من عنصر هام، وهو العاطفة، وبعضهم يعدها أدبًا لما كان من التعويض بزيادة العناصر الأخرى، وقالوا إنه إذا زادت كمية الخيال وقوي الأسلوب فمن البعيد ألا يؤثر في العاطفة.

وعلى الجملة فإثارة العواطف هي العنصر الظاهر في الأدب، فإذا كانت هذه الإثارة هي أهم غرض للكاتب أو الأديب كان لنا من هذا شعر أو أدب كفن من الفنون الجميلة، وإذا لم يثر هذه الإثارة بحال من الأحوال صعب أن نسميه أدبًا، بل ربما كان علمًا، وإذا كانت الإثارة وسيلة لا غاية فقصد إليها الأديب أو كان غرضًا عرضيًّا لا أساسيًّا، قلنا: إن على هذه الكتابة مسحة من الأدب بقدر ما فيها من إثارة العواطف.

ومن هذا نستطيع التفرقة بين العالم والأديب بأن العالم يلاحظ الأشياء ويستكشف ظواهرها وقوانينها وعلاقتها بالأشياء الأخرى وعلاقتها بالظروف التي تحيط بها، على حين أن الأديب يلاحظ الأشياء من حيث علاقتها بعواطفه وطبيعته الأخلاقية. فالعالم النباتي مثلًا يدرس النبات، يدرس كل شيء فيه على طبيعته الخاصة به، فيدرس أوجه الشبه بينه وبين أمثاله من النباتات الأخرى، ويدرس وظيفة كل جزء منه، ويدرس التغيرات التي تطرأ عليه كلما نما حتى وصل به إلى الموت والفناء. وغرضه من ذلك عقلي محض، يسعى وراء الحقائق والقوانين التي تنتظم وهذا النبات. أما الأديب فكل هذه الأشياء التي تتصل بالنبات ثانوية عنده، وإنما ينظر إليه ليسأل نفسه لمَ خلق؟ إن أجزاءه المختلفة متناسبة متناسقة وهو يلائم الأوساط التي عاش فيها، وهذا ما يضمن البقاء لها … ولكن لم كان كل ذلك؟ ثم لا يلبث أن يجيب عن هذا بأن النبات خلق لجماله، وأن شجرة الورد إنما خلقت لزهرة الورد، وليس في النبات شيء إلا زهرته. نعم، إن كثيرًا من أنواع الكتابة عليه ظل من العلم وظل من الأدب، ولكن هذا لا يمنع من التفرقة الواضحة التي ذكرناها بين العلم والأدب. والحق أن إثارة العواطف وتشبيبها عنصر كبير في الأدب، ولكن ليست هي كل العناصر فلا بد كل الآثار الفنية من مزج الحقائق العلمية بالعواطف الإنسانية بالخيال. وهذا هو ما يفرق بين الأدب والموسيقى. فالموسيقى تخاطب العاطفة وتثيرها من غير اعتماد على حقائق علمية أو مادة عقلية، ولسنا نتساءل في قطعة الموسيقى ما معناها، وعلام تدل من الناحية العقلية، ولو فعلنا ذلك لكان ضربًا من السخف ولبعدنا عن الفن الموسيقي. نعم، إن التلذذ بالموسيقى قد يزداد إذا قرن بشعر لذيذ، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول: إن الموسيقى تستثير الشعور بنفسها، وأوضح دليل على ذلك أدوار الموسيقى، كالأدوار التي لا تصحب بشعر غنائي، فإنها تلذ بنفسها من غير أن يفهم أي معنى منها، بل إن بعض الأفراد يقلل لذتهم اقترانها بما يفهم منه معنى عقلي. فالموسيقى أوضح لغة للعواطف، لا يشاركها في ذلك إلا الضحك والبكاء والصراخ وما إلى ذلك، فهي جميعًا لغات العواطف، ولكن الموسيقى أقواها وتأثيرها أسرع في الانتقال، وإذا كانت الموسيقى لا تعتمد على معان عقلية، فهي لا تسترعي العقل، ولكن تسترعي العواطف. أما الأدب فليس شأنه شأن الموسيقى فهو يعتمد على قدر صالح من المعاني ويصحبه المقدار الفني الأدبي الذي يثير العاطفة.

ويظهر أن الموسيقى في هذا هي التي ينطبق عليها ما ذكرنا دون أنواع الفنون الأخرى، فالنقش والتصوير مثلًا لا بد أن يضعا أمام أعيننا شيئًا جميلًا، فلهما مادة يقومان عليها بخلاف الموسيقى فلا مادة لها أو على الأقل ليس لها مادة ظاهرة. وشأن الأدب شأن الفنون غير الموسيقى، فهو يسترعي العواطف، لكن لا بالمباشرة بل بواسطة ما فيه من معان وأفكار، حتى الشعر نفسه لا بد أن يكون ذا معنى وفيه حقائق ومادة عقلية تعتمد عليها المشاعر، وبدون هذه الحقائق والمعاني لا يستطيع الأدب أن يثير العاطفة. وإذا لم يدعم القول بمعان صحيحة أثار عواطف مريضة.

الخيال

كذلك لا بد للأدب من عنصر الخيال وهو ضروري في كل أنواع الأدب، وهو الكوة التي نستطيع بها أن نصور الأشخاص والأشياء والمعاني، ونمثلها شاخصة أمام من نخاطبه ونستثير مشاعره.

وأخيرًا لا بد من عنصر رابع، وهو حسن النظم وتأليف الكلام كما قدمنا من عناصر الأدب، أعني العاطفة والخيال والمعاني لا بد أن يكون لها لفظ ونمط راق من القول يدل عليه، وهذا هو الذي نسميه نظم الكلام، وهذا النظم وسيلة لأداء المعاني لا غاية، ولكن له من الأهمية ما لباقي العناصر، فإثارة العواطف وهي أهم عنصر في الأدب تعتمد إلى درجة كبيرة على ما للكلام من نظم، فإذ نرى أن المعنى قد يكون مطروقًا شائعًا حتى إذا أجيد نظمه خرج كأنه جديد، بل يفوق المعاني الجديدة إذا أسيء التعبير عنها، والقدرة على تأليف الكلام هي مظهر الأديب، وهي أقوى أدواته، وهي تساوي ما عند الفنانين الآخرين من قدرة على التصوير والنقش أو إبراز الموسيقى قطعة فنية، وهي إنما تكون بحسب الاستعداد وكثرة المران.

والخلاصة التي نصل إليها من كل هذا أنا إذا امتحنا العناصر التي في الأدب وجدناها أربعة:
  • (١)

    العاطفة وهي أظهر ميزة في الأدب، وفي بعض أنواع الأدب تكون الحاجة إليها أشد من أي عنصر آخر.

  • (٢)

    الخيال وبدونه يكون من المستحيل في أغلب الأحيان أن تستثار العاطفة.

  • (٣)

    المعاني وهي أساس كل نوع من أنواع الفن إلا الموسيقى، وفي بعض أنواع الأدب يكون هذا العنصر أهم ما فيه كالحكم.

  • (٤)

    نظم الكلام وتأليفه وهو ليس غاية، ولكنه وسيلة للتعبير عما لدينا من أفكار وآراء، ولكن له من القوة ما يجعله عنصرًا قائمًا بنفسه، والأدب يؤثر ما يؤثر بعناصره الأربعة وليس لعنصر وحده قيمة إلا بتأثير باقي العناصر الثلاثة. هذا وسنتكلم — إن شاء الله — على كل عنصر من هذه العناصر الأربعة بشيء من التفصيل.

وحصر بعض الأدباء العواطف الشعرية، أو بعبارة أخرى العاطفة الأدبية في أربعة: حكى ابن رشيق في العمدة قال: «قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب. فمع الرغبة يكون المدح والشكر — ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف — ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب — ومع الغضب يكون الهجاء والوعيد والعتاب.» ا.هـ. والذي يلاحظ أن قائل هذا القول إنما راعى عواطف الشاعر والأديب لا عواطف السامعين وهو الذي نقصده.

وقد حاول قوم آخرون إرجاع كل المشاعر والعواطف إلى شيء واحد، ومن هؤلاء من قال: إن الأدب يثير عاطفة الجمال أو الشعور بالجمال، واقتصر على ذلك؛ فكأنهم يريدون أن يقولوا: إن كل العواطف التي يثيرها الأدب مرجعها جميعًا إلى الشعور بالجمال، والقائلون بهذا يذهبون في تحديد الجمال إلى مدى بعيد، وهم يعرِّفونه بأنه اللذة التي تحدث من إدراك صفات الشيء، سواء كان هذا الشيء امرأة أو شعرًا أو فكرة أو حركة أو عملًا أو غير ذلك. وهذا التعريف كما نرى يشمل حقيقة كل العواطف التي يثيرها الأدب، ولكنه كذلك يشمل غيرها حتى ليعد شعور من قويت شهيته عند أكلة لذيذة جمالًا، ولكن الاستعمال الدقيق يحصر الجمال في دائرة أضيق من ذلك. وهناك آخرون أرجعوا كل العواطف الأدبية إلى المشاركة في الحياة، فنحن نشعر بأن ما يزيدنا شعورًا بالحياة يزيدنا لذة، وما يضعف ذلك يشعرنا بألم. فكل مصادر الأدب والفن منشؤها أنها تزيد في شعورنا بالحياة. فمثلًا عاطفة الإعجاب بالقوة منشؤها على ما يظهر شعورنا بالمشاركة في القوة التي تُعجب بها ولو من طريق التخيل، ونحن نعجب بالقوة دائمًا ما لم تهدد أمننا، فعند ذلك ينقلب الإعجاب إلى خوف، كمواجهتنا للأسد. وكذلك الشعور بالسرور والحب في جميع أشكالهما فهو عواطف تزيد في حيويتنا. ومثل ذلك العواطف الأخلاقية؛ كالميل إلى الصدق والعدل وحرمة الدين ونحو ذلك فكلها تشعرنا بقوة وسمو فوق الحياة المادية. وهناك مشاعر غامضة يصعب تحديدها كالذي يحدث عند سماع قطعة موسيقية، أو رؤية بعض المناظر الطبيعية التي تبعث وجدًا أو حزنًا لا ألمًا، أو تهز فينا عاطفة القلق والاضطراب، ولكنها مع هذا تجعلنا نشعر بأن حياتنا طامحة إلى مثل عليا، وفي هذا معنى الحياة.

وهنا يعرض لنا سؤال هام، وهو كيف نقيس هذا العنصر أي عنصر العاطفة في الأدب؟ ويجب أن ننبه إلى أن صلاحية القطعة الأدبية لإثارة عواطف كثير من الناس ليست برهانًا على جودتها، فكثيرًا ما تثار عواطف الجمهور بشيء ليس له قيمة أدبية. بل هو مجرد تهريج؛ وإنما تثار عواطف الجمهور عادة بأشياء لا دخل لها في رفع مستوى الآثار الأدبية، مثل: جدة الموضوع، أو جدة الشكل. وهذه الجدة قد تلفت النظر إلى القطعة أو الكتاب، وتثير الانفعال، ولكن إثارة الانفعال شيء وقتي لا يدوم، وقد تكون إثارة العواطف الأدبية نشأت عن موضوع حاضر سواء كان دينيًّا أو سياسيًّا أو اقتصاديًّا. وإذا فتر هذا الموضوع فترت القطع الأدبية التي قيلت فيه، وهذا في كثير من الأحيان ينطبق على الروايات والخطب. أو أن يكون الأثر الأدبي سهلًا بسيطًا يتفق وعقلية الجمهور. وإذا كانت إثارة عواطف الجمهور ليست مقياسًا صحيحًا، فلنبحث عن المقياس الصحيح وسنجده:

يُقَدَّر عنصر العاطفة بصحتها واعتدالها: ونعني بصحتها واعتدالها أن الأسباب التي أثارتها أسباب صحيحة جيدة. يقول «راسكن»: «إن الإعجاب قد يثار بعرض ألعاب نارية أو بتنظيم الحوانيت في شارع من الشوارع، ولكن هذه العاطفة ليست بعاطفة شعرية، لأن الأساس الذي بنيت عليه باطل مزيف، وليس فيما ذكر شيء يستحق الإعجاب، ولكن الإعجاب من انعقاد الزهرة ثم تفتحها عاطفة شعرية، كان ظهور هذه القوة الروحية التي تعمل في تكوين الزهرة وما في ذلك من جمال حي لا ينتهي الإعجاب بها.» (ا.هـ.). فإذا أردنا أن تقوم عاطفة في قطعة أدبية فلنتساءل: هل العاطفة التي تثيرها هذه القطعة قوية وصحيحة؟ وهل هي نبتت عن أسباب صحيحة؟ فإذا نحن استعرضنا مثلًا عاطفة الحب عند مجنون ليلى أو في رواية غادة الكاميليا، وجدناها عاطفة مائعة نشأت من عاطفة مريضة، وهذا ما تلمحه في كثير من شعر لزوميات أبي العلاء: فهو شعر متشائم حزين نشأ عن عاطفة مريضة، فقد يصبّ غضبه على الدنيا وما فيها لأن إنسانًا جنى على الأخلاق، أو يفضل الصخرة على الإنسان لأن الصخرة لا تظلم ولا تكذب. وهكذا كل شعر الغزل الممعن في وصف ما يلاقي المحب من الضنى، والذي يذوب رقة وحنانًا ليس ناشئًا عن عاطفة صحيحة قوية، وكذلك شعر العباس بن الأحنف فهذا الشعر وأمثاله إن أرضى الجمهور ولذهم، فهو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان ناشئ عن عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة وهذا الرخص، وليس من المستحسن أن يعطي الممدوح الشاعر حفنة من الدراهم فتثور عاطفته وينبعث عنها شعر كثير. والشاعر الجيد على هذا القياس هو الذي يثير العواطف بقدر ويبنيها على أساس عميق. أما إن تغالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية، فإنه يكون شعرًا خفيفًا ضعيف القيمة مهما استلذه الناس.

تقدر العاطفة بقوتها وحيويتها، فإذا عرض علينا كتاب أو قطعة أدبية تساءلنا هل حرك هذا الكتاب وهذه القطعة عواطفنا وأهاجت شعورنا؟ هل وسعت نظرنا وأحيت قلبنا؟ إن كانت كذلك كانت أدبًا رفيعًا. وكلما كان فيها هذا المعنى واضحًا كانت القطعة أقرب إلى الكمال في الأدب. يقول إمرسون: «ليس للكتاب قيمة إلا أن يوحي». ويجب أن يعلم أنه من المستحيل أن تجد مقياسًا عامًّا للعواطف المختلفة، فهناك عواطف حنان وعواطف جلال، وعواطف جمال وعواطف إعجاب وعواطف كره واشمئزاز إلى آخر ما هنالك. ومن الصعب أن نقول: إن هذه العاطفة أقوى من تلك كما لا يصح أن نقول: إن العسل أفضل من البصل فلكل فائدته. وكذلك يختلف الناس باختلاف طبائعهم وأمزجتهم في العاطفة التي تهيجهم، فإنسان تثيره عاطفة الحزن، وآخر عاطفة السرور، وثالث عاطفة الإعجاب. ولهذا كان من المستحيل وجود مقياس واحد مضبوط لمعرفة أي العواطف أقوى، ومع هذا فإننا نستطيع على وجه العموم أن نقول: إن مقياس القطعة الأدبية ما فيها من قوة عاطفة.

وتعتمد قوة العاطفة:
  • أولًا: على طبيعة الكاتب أو الشاعر، فيجب أن يكون هو قوي الشعور فيما يكتب، وإلا لم يستطع في العادة أن يثير شعور القارئين. وكثيرًا ما يكون الكاتب أو الأديب مزودًا بأسباب كثيرة من القوة، كحسن التعبير وقوة الخيال ثم هو يفشل؛ لأنه تنقصه قوة العاطفة. وكذلك قد يكون له عين تدرك الجمال وشعور رقيق وفكاهة حلوة، ولكن ليست له العاطفة القوية فيفشل، بل كثيرًا ما نجد الشاعر له من قوة العاطفة ما يعوض نقصه في النواحي الأخرى. ولسنا نعني بالعاطفة القوية العاطفة الهدامة المعربدة الهائجة المضطربة، فقد تكون هذه مظاهر ضعف فيها، وتفضلها العاطفة القوية في ثبات. وبخارٌ حارّ مضبوط خير من نار هشيم سريعة الاشتعال سريعة الخمود ثم هي لا تضبط.
  • ثانيًا: وتعتمد قوة العاطفة وإثارة الأدب عواطف الناس أيضًا على قوة الأسلوب، وسنجد فيما بعد أن لقوة الأسلوب مدخلًا كبيرًا في إثارة العواطف ووضوح المعاني. والأديب قد يستطيع أن ينقل إلى سامعيه معانيه، ولكن لا يستطيع أن ينقل عواطفه ومشاعره إلا بقوة الأسلوب. ويظهر أن هناك شعراء وأدباء قد مُلئوا شعورًا، ومُنحوا عواطف قوية، ولكنهم لم يُمنحوا أسلوبًا ينقلون به عواطفهم إلى سامعيهم وقارئيهم. وسبب ذلك ضعف أسلوبهم. نعم، إن كثيرًا من صنوف النثر يكون القصد منه ليس إثارة العواطف، وإنما القصد منه نقل المعاني، ولكن ليس هذا الصنف ممعنًا في باب الأدب، وما نسميه قوة وجزالة وحياة إنما يرجع في أغلب الأحيان إلى قوة الأسلوب.
  • ثالثًا: وتقاس العاطفة أيضًا باستمرارها وثباتها، ولذلك معنيان: الأول بقاء أثرها في نفوس السامعين زمنًا طويلًا، فتكون كالقطعة الموسيقية يسمعها السامع، ثم لا تزال ترن في أذنه بعض الأنغام ويتكرر أمدًا بعيدًا. وكذلك الشأن في الأدب، فبعض القطع الأدبية يؤثر تأثيرًا وقتيًّا، وآخر يبقى في الذاكرة طويلًا، والمعنى الثاني أن تكون القطعة الأدبية تثير شعورًا متجانسًا متسلسلًا، وبعبارة أخرى أن تكون هناك وحدة في الشعور، فلا ينتقل الأديب من شعور إلى آخر من غير صلة. ولسنا نعني أن الكاتب أو الشاعر لا ينتقل مطلقًا من عاطفة إلى أخرى، وإنما نعني أن يحكم كل منهما الربط، كما هو الشأن في الموسيقى، حتى لا يكون انتقال فجائي. وقليل من الأدباء من يستطيع العناية بهذا المعنى، وقد يكون السبب في ذلك راجعًا إلى غموض العواطف في نفس الأديب أو ضعفها أو اضطرابها، فإذا أخرجها في آثاره الأدبية بدت مضطربة لا اتساق فيها. وفي الحق أن الاحتفاظ بهذه الوحدة من أشق الأمور، لا سيما في القصائد الطويلة، ويتيسر ذلك للشاعر في الأشعار القصيرة كالشعر الغنائي والمقطعات، ولهذا يقال: إن أجود أنواع الشعر القصائد الغنائية لما فيها من وحدة العواطف، ومن ثم كان الشعراء الغزليون من أتقن الناس لهذا الباب.
  • رابعًا: أن تكون العواطف خصبة غنية متنوعة، وقلما يوهب الأديب هذه الموهبة. وقد يشتهر الأديب ويعظم أمره، وهو مع ذلك مفتقر إلى هذه الصفة، ونعني بها كثرة التجارب التي تجعل في استطاعته إذا تعرّض لنوع من العاطفة أن يستوفي الكلام فيها، كما يستطيع أن ينوع في كتابته أو شعره فيمس مشاعر مختلفة وهو في كل منها غزير. وأحوج الناس إليها أصحاب الروايات والدراما؛ لأن كتابتهم ليست ذاتية ولا تعبر عن نفوسهم وعواطفهم الشخصية فحسب، وإنما هم يخلقون أشخاصًا يمثلون نواحي الحياة المختلفة ويصفونها وصفًا دقيقًا. وهذا يحتاج من غير شك إلى غزارة العاطفة وغناها وتنوعها، وليس في طاقة ذوي المشاعر الضعيفة أو القاصرة أن يتسللوا إلى خفايا الطبائع البشرية المتعددة في الطفولة والشباب والكهولة، وفي الرجال والنساء والضعفاء والأقوياء والمرضى والأصحاء والأشرار والصلحاء. كما أنهم لا يسعهم أن يتعمقوا في بواطن الأمور وأغوار النفوس ليبينوا حقيقتها، ويكشفوا مكانها. فالأديب لا بد أن يكون واسع المعرفة جم المشاعر، قد ذاق كل طعم وتعلق من كل شيء بسبب.
  • خامسًا: تقوم أيضًا القطعة الأدبية بنوع العاطفة ودرجة رفعتها أو ضعتها، وهنا يعرض أمر كثر حوله الجدل؛ لأن القول بأن للعواطف درجات يستلزم أن هناك عواطف سامية وأخرى وضيعة، وإذا قيل هذا القول فما هو المقياس؟ أعني ما هو نوع العواطف التي نسميها سامية والتي نسميها وضيعة؟ لم يتفق النقاد على الإجابة عن هذا السؤال وإن اتفقوا على القول باختلاف درجتها. فهناك عواطف جليلة، وأخرى هُزأة، وكلاهما وضع للأدب وإن كانا يختلفان قيمة، وهناك عواطف تثيرها موسيقى الشعر وجناسه، وهناك مشاعر تثيرها معاني الشعر، وهناك أدب يثير لذة حسية، كالميل إلى الخمر والنساء وما إلى ذلك، وهناك أدب أرقى يثير شعورًا أخلاقيًّا، كالإعجاب بالبطولة واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة. وإنما يجب أن ننبه هنا إلى أننا لا نقصد بالشعور الأخلاقي المعنى الضيق الذي يفهمه الأخلاقيون من حث على الفضيلة أو نهي عن رذيلة، وإنما نفهمه بمعنى أوسع، وهو ما يمس الحياة ويبعث على ترقيتها. فالشعر الذي يشكو الحياة وآلامها والحب وآلامه، والذي ينظر نظرة تشاؤم إلى الحياة وشئونها شعر أخلاقي بهذا المعنى، والعاطفة التي تتصل بحياة الناس وسلوكهم أرقى من عواطف تثير لذة الحواس، ومن هذا نستنتج أن أرقى العواطف الأدبية هي التي تحيي الضمير وتزيد حياة الناس قوة، وحينئذ إذا نحن أردنا أن نقوّم قطعة أدبية أو كتابًا تساءلنا: هل هو يثير فينا انفعالًا وميلًا إلى الحياة الراقية أم لا؟ فإذا لم يكن لم يكن أدبًا راقيًا.

يستنتج من هذا أن الأدب الراقي ينبغي أن تكون له صفة أخلاقية، ويجب أن يثير مشاعرنا الصحيحة لا المريضة، وينمي طبيعتنا، ولسنا نعني بقول من يقول: إن قيمة الأدب كبقية الفنون في قدرته على إثارة اللذة والسرور فينا، بقطع النظر عما فيه من صفة أخلاقية، ويعبرون عن ذلك عادة بقولهم: الفن للفن، والحق أن الفن لا قيمة له في ذاته إنما قيمته في أنه يمدنا باللذة الراقية، ومن الحمق أن تَعُدَّ فنانًا راقيًا من لم يصبغ فنه بالصبغة الخلقية.

يحتج القائلون بأن الأخلاق لا تصح أن تكون مقياسًا للأدب ولا يجب أن يضع لها الأدب بجملة حجج، منها أن الأدب مثله مثل سائر الفنون لا يقاس بالأخلاق، فالموسيقى من الصعب أن يقال في قطعها إنها ذات صبغة خلقية أو غير خلقية، والنحت والتصوير وغير ذلك إنما يعني بالشكل والألوان وإرضاء ذوق الجمال، ومنها المبدأ المشهور وهو: الفن للفن. فإن هذا المبدأ يقضي بأن الأدب وهو فن لا ينبع من الأخلاق، وليس الشاعر واعظًا يبشر بالأخلاق، وليس ينكر أحد أن هناك شعرًا قويًّا ولا نعده أخلاقيًّا، فمن الخرق أن نقول إن الشعر خاضع للأخلاق، بل يذهب هؤلاء إلى أن الأدب مهما كان لا يخلو من صيغة خلقية، فمتى كان فنًّا جميلًا فالمشاعر التي يبعثها ولو كانت هي إثارة المشاعر الحسية، لا تخلو من نغمة خلقية، وكما يبعث المنظر الجميل والشكل الجميل كذلك يبعث القول الجميل في الحب ونحوه شعورًا خلقيًّا.

ومهما اختلف القائلون فالذي نذهب إليه أن الصبغة الخلقية ليست لازمة للأدب، بل قد يكون الشيء أدبًا ولو لم يكن خلقيًّا، ولكن المشاعر الخلقية أرقى بلا شك من غيرها من المشاعر، وبعبارة أخرى لا يمكن أن يقاس الأدب الراقي بقياس اللاخلقية.

إن غرض الأخلاق واضح بسيط، فهو يتطلب أن كل أحد، أديبًا أو غير أديب، يجب أن يرفع مستوى العواطف ولا يخدع الضمير ولا يضعف الإرادة، والأخلاق ذات سلطان كبير على الناس ويجب أن يكون لها هذا السلطان، فهل تتعارض مطالب الأدب مع مطالب الأخلاق؟ هل لا يمكن أن يكون الأديب أديبًا راقيًا إلا إذا خضع للقوانين الأخلاقية؟ يقول قوم: إن الأديب ليس له وظيفة إلا أن يصف الحياة الإنسانية ويشرحها، ويجب أن يعرض الطبيعة الإنسانية بما فيها من خير أو شر، وبما فيها من شهوات حادة أو معتدلة، وليس الفن درس وعظ، وإنما يعرض لما ينظر وما يتخيل لذلك لا يستطيع أن يتقيد بقيود الأخلاق، فالروائي أو الشاعر أو الكاتب لا يستطيع أن يقف ليسائل الأخلاق إن كانت ترضى عن عمله أم لا، ولو فعلنا لضاقت دائرتهم ولم يتسع مجال القول لهم. إننا نعجب بأشياء كثيرة لا تتصل بالأخلاق، ونعجب بالقوة كائنة ما كانت، ونعجب بخمريات أبي نواس وبغزله ولو كان بالمذكر، ونعجب بنابليون وأمثاله ممن لا نستطيع أن نبرر جميع أعمالهم ومناحي قوتهم من الوجهة الأخلاقية، فيجب أن تطلق العنان للأديب يصورهم ويُعجب بهم ويصفهم وصفًا دقيقًا ولو لم يرض الأخلاق.

فنجيب عن ذلك بأن الأدب يشرح الحياة الإنسانية لا لذاتها بل لغاية، وهذه الغاية هي ترقية المشاعر لا إضعافها، فإذا هو حاول إفساد العواطف وإضعافها منعناه من ذلك، والحق أن هناك كثيرًا من الكتب الأدبية في درجة راقية تمثل الجمال والقوة والحقيقة، وهي من الناحية الخلقية تمثل الرذيلة، وتميت الوجدان، وتضعف الإرادة، وتحمل على الاستهتار بالقوانين الأخلاقية والاجتماعية. ولكن هل كان هذا الانهماك في الرذيلة ضروريًّا لبلوغها هذا المبلغ من الأدب، الجواب: لا، وكان من الممكن الوصول إلى الدرجة القصوى في الأدب من غير طريق الرذيلة، وليست الرذيلة عنصرًا من عناصر الأدب الراقي، فالتعبير الصحيح أن الأدب ليس راقيًا لما فيه من ضعف الخلق، ولكنه راق برغم ما فيه من ضعف خلق. فالقطع الأدبية الراقية يجب أن تحكم عليها بأنها من الناحية الأدبية جيدة، ومن الناحية الخلقية ضعيفة. فإذا قيل: إن الشاعر أو الروائي يجب أن يمنح الحرية التامة لشرح نواحي الحياة المختلفة. قلنا: نعم، يجب أن يمنح هذه الحرية في حدود أنه يثير مشاعر مشروعة، فليمثل كل ناحية من نواحي الرذيلة، وليقل الشعر فيها، ولكن لا يدعو إليها ولا يثير المشاعر لارتكابها، يجب أن يحمل على أداء الواجب وبوحي النبل والشرف وإلا كان سطحيًّا، وإلا كان أيضًا بعيدًا عن الذوق الجميل والفن الجميل، فالفن يتطلب الحقيقة والأخلاق تتطلبها أيضًا، فيجب أن يتفقا؛ فالمأساة التي تصفي النفس بما تبعثه من شفقة وأسى وتوجع، والمهزلة التي تبعث السرور والفرح نقيًّا طاهرًا، وتستهزئ بالباطل وبالرذيلة وتثير الضحك والسخرية بهما. والرواية التي تصور لنا الحياة كما يحياها الرجال والنساء، والشعر الذي يصور أعمال الناس، كيف يكون كل هذا حقًّا وصحيحًا إذا تجاهل الحقائق العميقة للطبيعة الإنسانية؟ أم كيف يكون حقًّا وصحيحًا إذا كتبها قوم ليس لهم قوة خلقية تقوم الحقائق خير تقويم؟

فقول أبي العلاء المعري:

يحسن مرأى لبني آدمٍ
وكلهم في الذوق لا يعْذُبُ
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذبُ

وكثير من شعر مجنون ليلى، ورواية غادة الكاميليا، ونحو ذلك كلها ناشئة عن عاطفة مريضة. ولكن قول أبي العلاء:

ظلموا الرعيةَ واستجازوا كيدَها
وعدوا مصالحها وهم أُجَرَاؤها

ناشئ عن عاطفة رزينة ثابتة، وشعره له رنين ثابت في النفوس، وقول أبي نواس:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء

شعر يحسن في الذوق، ويجمل في ميزان الفن، وإن كان لا يجمل في ميزان الأخلاق.

•••

والخيال كذلك عنصر من عناصر الأدب، فكل أدب كما قلنا يثير العواطف، ولكن مما لا شك فيه أن للخيال دخلًا كبيرًا في إثارة تلك العواطف، فنحن إذا قرأنا خبرًا عن ثورة بركان، أو شبوب حريق، أو تخريب زلزال، فمجرد قراءتنا له لا تثيرنا إلى حد كبير لو اقتصرنا على أن بركانًا ثار ودمر ألف منزل وأمات آلاف النفوس. ولكن قطعة من رواية خيالية تهيجنا أكثر من سماع هذا الخبر الحقيقي، فيهيجنا أن نرى منظرًا أو تعرض علينا رواية، والذي يعين على هذا المنظر أو هذا العرض إنما هو قوة الخيال، وهي قوة لا بد منها للأديب شاعرًا كان أو روائيًّا أو كاتبًا، فما هو الخيال؟

إن تعريفه ككل المعاني عسير، ومن أسباب صعوبة التعريف أن الكلمة تستعمل في أنواع مختلفة من العمليات العقلية، وكما قال رسكين: «إن ملكة الخيال غامضة لا يمكن تعريفها، إنما يمكن معرفتها بأثرها.» فلنصف ملكة الخيال بآثارها المختلفة، إذا تصورت في ذهني صورة حيوان، رأسه رأس طائر وجسمه جسم كلب، فهذا يسمى خيالًا، وإن كان ذلك خيالًا بسيطًا لأن رأس الطائر قد رأيته وكذلك جسم الكلب، وإنما الجمع بينهما هو عمل الخيال، وكذلك لو أن حفارًا تصور شكلًا يريد حفره في قطعة رخام، فهذا خيال، وكذلك لو تصورت قطعة من الأرض فيها تلال حول واد يجري فيه نهر على جانبيه مزارع ترعى فيه الإبل، وكنت لم تر هذا المنظر من قبل، ولم يكن مجرد استذكار لما رأيت فهذا خيال.

ففي هذه الأمثلة عنصر الخيال ضعيف، إذ أساسه المدركات بالنظر، ولكن هناك أمثلة للخيال أقوى من هذه وأوسع مجالًا، من ذلك ما يسمى بالخيال الخالق أو المبدع كالروائي يخلق خياله أشخاصًا من رجال ونساء، ويمنح لكل شخصية خاصة معتمدًا في ذلك على ما يناسب هذه الشخصيات التي لم تكن في الخارج وإنما خلقها الروائي خلقًا، وليس هذا من عمل العقل المفكر، بل من عمل الخيال. فالروائي يرى الرجل الذي يخلقه ويتحققه، وهو يتكون بطريقة غير إرادية إذ تأتي الصور على ذهن الروائي من كثرة تجاربه ومشاهداته لا عن تعمل وإرادة وكثرة تفكير.

ويشرح رسكن عملية الخيال فيقول: «كل من الشاعر والمصور يلتقط كل ما رأى وما سمع طول حياته، ولا يفوتهما منظر حتى ولو كان أدق طيات الملابس أو حفيف أوراق الشجر، ثم يخزنانها ثم يهيم الخيال، فيستخرج منها صورًا وآراء متناسبة منسقة في الأوقات الملائمة.» ومن هذا نرى أن الصور التي يخلقها الخيال لا عداد لها. وهو يدخل كثيرًا أو قليلًا في عملياتنا العقلية، فهو الملكة التي تربط الحقائق المفككة للحياة.

وبعض أنواع الأدب أحوج إلى الخيال من بعضها الآخر، فالشاعر والروائي يحتاجان إلى قدر من الخيال أكبر مما يحتاجه قائل الحكم والأمثال.

والإنسان دائم التفكير في ربط الأشياء بعضها ببعض وتكوين أشكال مهذبة تصور حالة كان يجب أن تكون في الماضي أو ينبغي أن تكون في المستقبل. وأكثر الناس ليس لخيالهم قوة وحياة يستطيعون بها أن يؤثروا في عواطف غيرهم تأثيرًا كبيرًا، إنما يستطيع ذلك جمهور قليل هم الأدباء، فهم الذين يستطيعون أن يجعلوا عالمهم الخيالي حيًّا قويًّا مؤثرًا أكثر مما تؤثر الحقيقة.

وبعض الخيال يكون كحلم النائم، ففي الحلم تعتقد صحته وقت حلمك له وتُسرّ أو ترهب أثناء نومك حتى إذا انتهت علمتَ أن حلمك لم يكن معقولًا وأنك وقت حلمك قد فقدت قدرتك العقلية على مقياسه بمقياس العقل، لأن العقل نائم والخيال يقظان. وكذلك بعض الخيال يكون كحلم النائم غير معقول، ولا يرتبط برباط عقلي، ولا يرتكز على قوانين طبيعية، فنسميه لذلك «وهمًا»، ويسميه الفرنج Fancy فالوهم إذن خيال يسبح في الفضاء لا يقيده عقل، مثل قولك: هو يفتت أكباد الشهوات. (والله يُبقي الأمير وأنجاله مسلسلين بقيود النعمة في وتاد الدوام.)

ويتلخص لنا من هذا أن هناك نوعًا من الخيال يسمى خيالًا خالقًا، وهو الذي يخلق العناصر الأولى التي تكتسب من التجارب صورة جديدة لا تنافي الحياة المعقولة، فإن نافتها كانت وهمًا.

وهناك نوع آخر مثل أن ترى شجرة مزهرة ناضرة أحياها الربيع، وأسبل عليها جماله، ثم يأتي الشتاء فيعري أوراقها وأزهارها، ويرى الشاعر هذا المنظر فيعمل فيه خياله، ويقارن بينه وبين منظر آخر، كشعر ابن الرومي في وصف الخباز:

ما أنس لا أنس خبازًا مررت به
يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كُرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في لجة الماء يُلقَى فيه بالحجر

وكقول الأندلسي:

وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا
حنوّ المرضعات على الفطيم
يروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم

فقد ألف بين امرأة شعرت كأن عقدها انتثر فتلمسته لتعرف حقيقة ذلك، وبين رجل يسير في واد جميل الحصا حتى ليشك في هذا الحصا: أهو حصا أم أحجار كريمة.

ويصح أن نسمي هذا النوع من الخيال «الخيال المؤلف» لأنه يؤلف بين مناظر مختلفة، فالشاعر يشعر بالشيء وأثره في نفسه، وهذا يستدعي عنده صورة أخرى أثارت مثل ذلك الشعور من قبل، فيؤلف بين الشعورين بضرب من التشبيه كالذي يقول أبو تمام:

وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود

فالشاعر شعر بشيء عند مهاجمة الحسود لفضيلة من فضائل الحسود وشعر شعورًا مماثلًا لذلك عند احتراق عود الطيب، فألف بينهما، وصاغ من ذلك هذين البيتين. وفي هذا الضرب من الخيال يأتي الوهم أيضًا، وذلك إذا كان الشاعر يتصور صورًا لم تنبع من العواطف المألوفة، ولم ترتبط برباط معقول، إنما كانت الصلة بينها اتفاقية. وإذا كان الشاعر ليس لديه قوة على أن يلقف الجمال ويفهمه بسرعة، إنما يغلب عليه العقل أكثر مما يغلب الشعور بالجمال ضعف خياله وتفه شعره: ومن هذا الضرب بعض الشعر الصوفي، وتجد في ابن الفارض أمثلة كثيرة من هذا النحو.

ونوع آخر من الخيال، ولنسمه الخيال الموحي أو الموعز: ويختلف عما قبله من الخيال المؤلف بأنه بدل أن يقرن صورة بصورة يفيض على الصورة التي يراها صفات ومعاني روحية تؤثر في النفس، وبعبارة أخرى يغوص في باطن الشيء، فيصل إلى مكان الحياة منه، ثم يخرجه إلى الناس كما يشعر به. ويستطيع الأديب به أن يصل إلى قمة الشيء الروحية، ثم يظهر صفاته مظهرًا أخّاذًا. وعملية الخيال هنا هي شرح لما أفاض المنظر على روح الشاعر. فمثلًا إذا أبصرت بحرًا فلست ترى إلا ألوانًا معينة يبصرها كل إنسان، بل وكل حيوان. ولكن ليس ذلك هو الذي يسمو بك ويؤثر فيمن سمع شعرك، وإذا أنت حللت أجزاء ما ترى لم يعطك ذلك أكثر من كميات معلومة من الصخور أو الزرقة أو أن الماء مكون من عناصر كيماوية معينة، وكل ذلك لا يمكن أن يوضح قوة ما ترى. ولكن المنظر بأكمله يكون وحدة بما صبغته نفسية الشاعر، وبما أثار فيه من قوة معنوية روحية، والخيال هو الذي يعمل هذه العملية فيدخل أعماق الشيء ليدرك روحه ومعناه.

كقول ابن الشبل البغدادي في وصف الإنسان:

متصرف وله القضاء مصرف
ومكلف وكأنه مختار
طورًا به تصبو الحظوظ وتارة
حظ تحيل صوابه الأقدار
فتراه يُؤخَذ قلبه من صدره
ويُردّ فيه وقد جرى المقدار
فيظل يضرب بالملامة نفسه
ندمًا إذا لعبت به الأقدار

فقد تغلغل في باطن الإنسان وشرح أمره من حيرة أمام القدر في أسلوب يبعث على التفكير.

ومثل قوله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ فهي تلف الدنيا بجميع مظاهرها وزخرفها وتوعز إلى الإنسان بالتفكير في منتهاها من غير أن تتعرض لتفاصيل الدنيا ولا تفاصيل منتهاها.

هذا الضرب من الخيال هو الذي يوضح أسرار الطبيعة؛ وأما وصف الجزئيات فمُمِلّ في الشعر والكتابة؛ لأنه لا يرينا الشيء رؤية تامة ككل حتى ولا التصوير نفسه يمكنه توضيح صورة طبق الأصل، ألا ترى أن الإنسان لا يمكنه أن يذكر كل التفاصيل التي يتأثر بها إذا رأى المنظر نفسه؟ فإذا كان هذا حالنا في منظر رأيناه بأنفسنا، فكيف بنا إذا وصف لنا منظر لم نره؟ وحتى لو أبان لنا التفاصيل لما أغنى شيئًا لأننا رأينا أن تأثير المنظر في العواطف لا يتأتى من جزئياته التي نراها بل من الأثر المعنوي الروحي الذي يسبغه الشاعر على قوله. والفرق بين معالجة المناظر الطبيعية بقوة الخيال ومعالجتها بغيره أن الأول يحاول أن يصف كل أجزاء الشيء على حين الآخر يصف أثر الشيء في نفسه، وقد دلت التجارب على أن المناظر إذا عرضت على عين الخيال أو العقل كانت أجمل مما إذا عرضت على العين الحسية، وكلما قوى خيالنا قويت لذاتنا. وقوة الخيال تصحب النواظر دائمًا، وتكون عاملًا مهمًّا في تفهيم الشيء وإيضاحه والاستنباط منه على حين أن إطالة تصوير النظر للشيء لا يجعله أكثر وضوحًا، إنما الذي يجعله أكثر وضوحًا أن نأخذ الأشياء الأساسية، ونترك للخيال المجال في تفهيم قوة الشيء الروحية، والأمثلة على ذلك كثيرة. لذلك كانت الأخبار المحلية في الجرائد ليست أدبًا لأنها تصف الوقائع، مثل فلان حضر وفلان سافر وفلان رزق بمولود وكذلك الوفيات. والحِكَم كذلك ليست ممعنة في الأدب لغلبة العقل فيها على الخيال، أما إذا سمعت أنت قول الشاعر يصف شمعة:

كأنها عمر الفتى
والنار فيها كالأجل

أدركت عمل الخيال في تحريك الشعور.

وكذلك قول عنترة:

أراعي نجوم الليل وهي كأنها
قوارير فيها زئبق يترقرق

أو إذا كان الشاعر لم يحسن الرباط بين الصورتين كما فعل البحتري في عدم إجادته الربط بين الصورة الغزلية وكرم الممدوح، كقوله في قصيدته الجيدة التي مطلعها:

متى لاح برق أو بدا طلل قفر
لعمرك ما الدنيا بناقصة الجدى إذا
بقي الفتح بن خاقان والقطر

وقد تغزل فيها كثيرًا. ثم انتقل فجأة إلى المديح من غير رباط معقول، وكقول أبي نواس في وصف الخمر:

فاسقني كأسًا على عذل
كرهت مسموعه أذني

ويستمر في وصف الخمر إلى أن يقول:

تضحك الدنيا إلى ملك
قام بالآثار والسنن
سن للناس الندى فندوا
فكأن البخل لم يكن

فهذه القصيدة مع جودتها لم يحسن الرباط فيها بين وصف الخمر ومدح الممدوح، والأمثلة على ذلك كثيرة. ويسمي أصحاب البديع هذا الضرب من عدم التوفيق (الاقتضاب). وليس يستطيع حسن الربط وجودة الانتقال من غزل إلى مديح أو نحو ذلك إلا شعراء ماهرون، وإنما يحدث لهم ذلك في الفينة بعد الفينة.

فكل هذه الأشعار ونحوها تدلنا على أن الشاعر يوضح الطبيعة من غير أن يدخل إلى تفاصيل الشيء.

وليس هذا الخيال مقصورًا على وصف المناظر الطبيعية، بل يتعداها إلى وصف الأخلاق والشخصيات؛ فعندما ينسى الروائي ذلك ويبتدئ يحلل النفس كتحليل الكيماوي في المعمل ويترك إظهار باطنها ككل يكون قد ترك فنه، وإذ ذاك نترك نحن قراءته.

وقد قسمنا الخيال إلى هذه الأقسام الثلاثة حرصًا على توضيحها فقط، ويجب ألا يعزب عن الذهن أن هذه الأنواع الثلاثة عند العمل لا تبقى أبدًا متميزة منفصلة بل على العكس يلقي كل منها ظلًّا على الآخرين، وكل عملية خيالية تكون عليها مسحة من الأنواع الثلاثة.

من كل هذا يتضح أن ملكة الخيال ذات قيمة كبيرة في الأدب إن لم تكن أقوم الملكات؛ وكل ضروب الأدب محتاجة إلى الخيال، وكلما رقّ الموضوع في سلم الأدب كانت حاجته إلى الخيال أوضح، فالشعر والقصص وهما خير ما يمثل الأدب، وخير ما تظهر فيه نفحة الجمال حاجتها إلى الخيال عن البيان. وكذلك ما يسمى من التاريخ أدبًا، بل التاريخ على العموم في كتابته لا بد له من الخيال، فالمؤرخ لا بد له من خيال يكمل به الصورة للرجال والنساء والحوادث مما بين يديه من قطع وأجزاء وتقارير، وهي كثيرًا ما تكون متضاربة. ويستطيع المؤلف بخياله أن يستخرج من كل ذلك أشخاصًا كأنهم يعيشون تحت أعيننا؛ فبقوة خياله يستطيع أن يقدر ما كان يحيط بكل إنسان من الظروف التي كانت في عصره ثم يرتب الحقائق ويمتحنها، ثم يحكم حكمًا عادلًا عليها، فالمؤرخ الحق هو الذي يصور لنا الماضي كأننا نراه بأعيننا اليوم، ولا بد له في كل ذلك من خيال. أما سرد الحوادث كقوله في سنة كذا حارب فلان أو مات فلان أو ولد فلان فلا يصح أن يعد كتابًا تاريخيًّا حقًّا. وبالأولى لا يعد كتابًا أدبيًّا. وليس هناك مؤلف تاريخي له قيمة أدبية إلا إذا كان كاتبه قد استطاع عرض القصص والحوادث في وضوح، وملأها بالحياة ومثلها أمام مخيلاتها تمثيلًا حسنًا.

وهذه الحاجة إلى الخيال يمكن ملاحظتها في جميع أنواع النثر الفني أيضًا، فالكاتب الناقد لا بد له من الخيال يصور به شخص الكاتب الذي ينقده، ولا بد أن يلمس عواطف القراء، وهو في كل ذلك لا بد له من الخيال، لأنه لا بد له أن يمثل المنقود ويصوره بما أحاط به من ظروف، ثم بما ينفثه في كتابته من تشبيه واستعارة لإيضاح ما يريد، وهو على العموم أحوج إلى ما سميناه بالخيال المؤلف، أما الكاتب الذي يسرد الحقائق فقط جافة جامدة فمن الصعب أن نسميه أديبًا.

في كل ما سبق تكلمنا عن الخيال من حيث استعماله في الأدب، وهو كذلك ضروري لكسب معلوماتنا، فمعلوماتنا الأولى تعتمد على المحسوسات، فإذا تقدمنا قليلًا واعتمدنا على القراءة ونحوها فإن الخيال عندئذ يؤدي وظيفة كبرى، فإن ما نقرؤه ترتسم صورة منه في أذهاننا بواسطة الخيال، وبهذا يكون الخيال عاملًا قويًّا في تعلمنا. والتقدم العقلي للأطفال يكون مرتبطًا إذ ذاك بقوة خيالهم على رسم هذه الصورة، فإذا تقدمنا كذلك كان الخيال عاملًا كبيرًا في توضيح ما نقرأ أو نسمع وفي ربط الأسباب بالمسببات، ففي تعليل الظواهر الطبيعية بالفروض مثلًا إنما يعمل الخيال، والقوة العاقلة تأتي بعد ذلك لامتحان هذه الفروض وصحة ربط الأسباب بمسبباتها، فالفرق بين الخيال العلمي والخيال الأدبي أن الأول نتيجة لدافع عقلي، والآخر نتيجة لدافع أدبي، وكلاهما يعطينا صورة واضحة للشيء، وهذه الصورة أحيانًا تهم العقل وأحيانًا تهم العاطفة.

وللخيال الأدبي كما أشرنا، ارتباط كبير بالعواطف، وكلما كانت العاطفة قوية احتاجت إلى خيال قوي يعين عليها، وضعف أحدهما يؤثر أثرًا كبيرًا في ضعف الآخر، فإذا كانت العواطف مسرفة مبالغة ذهب الخيال كل مذهب، وكان وهمًا ككثير من شعر أبي تمام في الأدب العربي كقوله:

لا تسقني ماء الملام فإنني
صبٌّ قد استعذبت ماء بكائي

ومثل شعره «شيلي» و«كيتس» في الأدب الأوروبي، وإذا كانت قوية في اعتدال، وعميقة متينة فإن الخيال يكون تبعًا لها، صحيحًا سليمًا ككثير من شعر البحتري والمتنبي في الأدب العربي، وكما هو الشأن عند شكسبير في الأدب الغربي. ويرى الشعر العربي عادة بضعف الخيال إذا قيس بالآداب الأخرى لقلة ما فيه من قصص وأساطير خرافية، نعم. كان فيه أسطورة شق وسطيح، وأحاديث العفاريت، وأيام العرب، وشياطين الشعراء، ولكنها ضعيفة إذا قيست بأساطير اليونان، أو إذا قيست آلهة العرب التي هي عبارة عن أنصاب جافة بآلهة اليونان التي خلعوا عليها أثواب الحياة، وجعلوها أرواحًا عبدوها كما عبدوا إله الحب والجمال، وقالوا فيه: إن له جناحين من ذهب، وأنه يحمل أبدًا سهامًا حادة ومشاعل ملتهبة، وجعلوا كل إلهة رمزًا لفكرة، وجعلوا للحكمة إلهًا، وللشعر إلهًا، وللموسيقى إلهًا.

•••

والشعر العربي في الجاهلية وصدر الدولة الأموية قلما يتغنى بالطبيعة وجمالها، وحتى فيما بعد ذلك كثر الشعر في الطبيعة، ولكنه كان عبارة عن صور بهلوانية تُعنَى بالإمعان في الاستعارات والمجازات، وقلّما تغنى بالجوهر حتى يذوب الشاعر في نفس المنظر الطبيعي أو يذوب المنظر الطبيعي في نفسه، فعنايتهم موجهة إلى الشكل لا الجوهر. وهذا ما حدث في الشعر الأندلسي وشعراء المغاربة كما حدث لشعراء المشارقة.

عنصر المعاني في الأدب

للمعاني قيمة كبرى في الأدب، وفي بعض أنواع الأدب يكون لها أكبر قيمة ككتب التاريخ الأدبية وكتب النقد والحكم والأمثال. فالغرض الأول منها ليس هو اللذة وإنما هو المعاني والحقائق، وليست إثارة العواطف فيها بالمنزلة الأولى، وإنما المنزلة الأولى فيها للإخبار بالحقائق وأداء المعنى. وإذ ذاك يجب في أداء هذه المعاني أن تكون:
  • (١)

    غزيرة فياضة.

  • (٢)

    دقيقة.

  • (٣)

    واضحة.

ففي الكتب التاريخية والنقدية وفي الأمثال والحكم يجب أن تعطينا من الحقائق أكثر ما تستطيع، وأن تؤديها في دقة، وأن تستعمل في أدائها أوضح المسالك حتى يسهل فهمها، وموضع تفصيل هذه المسائل الثلاث وكيفية الوصول إليها أليق بعلم البلاغة، وإنما تعد هذه الفروع الثلاثة التي تعتمد أكثر ما يكون على عنصر العقل أدبية بمقدار ما يستطيعه الكاتب من مزج المعاني الدقيقة الواضحة بالعواطف والمشاعر، والناس يختلفون في هذه المقدرة اختلافًا كبيرًا كاختلافهم في العواطف والخيال، فإذا استطاع الكاتب أن يشع على ما عنده من معان وحقائق حرارة من عاطفته، وحيوية من خياله كانت كتابته راقية مؤثرة حية قوية. وإذا عدم الكاتب هذه المقدرة خرجت كتابته كأنها سرد الحقائق، وتكون كأنها تقويم أو أخبار محلية أو مجرد تعداد، وبذلك لا يصح أن تعدّ أدبًا إنما تعد مادة خامة للأدب، أو مادة علمية إذا كانت حقائقها علمية.

أما إن نحن نظرنا إلى ما يعد أدبًا صرفًا كالشعر والقصص، أعني ما كان القصد الأول منه إثارة العواطف، فمراعاة المعاني والحقائق فيه أمر ثانوي، ونحن نرى أنه حتى في هذا القسم ليست الحقائق والمعاني فيه قليلة القيمة، بل يجب أن تعد من مقوماتها. وفي الفصول السابقة رأينا أن العواطف إنما تكون صحيحة سليمة إذا كانت مؤسسة على أساس صحيح، وهذا الأساس هو الحقائق. والشعر — وهو أكبر مثل في الأدب الصرف — يجب أن يقاس أيضًا إلى درجة كبيرة بما فيه من معان ترتكز عليها العواطف، وأكبر الشعراء قوم صح حكمهم واتسعت تجاربهم في الحياة، وكان لهم علم عميق بكثير من الأشياء التي تحيط بهم، وكما قال كارلايل: «إن الشاعر الذي يجلس على كرسيه يتمطى ثم يخرج قطعة الشعر لا يستحق شعره أن يقرأ.» وفي الحق أن الحقائق العميقة التي تتعلق بحياة الناس وبما للناس من عقائد ونظرات في الحياة في العصور المختلفة إنما تقرأ في الشعر أكثر ما تقرأ في كتاب آخر. ويقول بعض النقاد الإنجليز: «إن شكسبير أفادهم في الحياة الإنسانية أكثر مما أفادتهم الفلسفة، وإن تنسون وبراون وماتيو أرنولد أفادوهم عن عصر فكتوريا أكثر مما أفادهم المؤرخون.» فلنا الحق إذا رأينا أي أثر أدبي أن نتساءل: ما معانيه؟ ما الحقائق التي يشتمل عليها؟ وسنجد أنه لا يحق أن يسمى أدبًا إلا ما كان له حظ من أفكار راقية ومعان سامية، وأن قيمة الأثر الأدبي تكبر بما فيه من عمق في المعاني وكثرة في الحقائق.

ويجب أن يلاحظ أنه في الأدب من هذا النوع ليس من الضروري أن يكون ما فيه من المعاني والحقائق جديدًا كما هو الشأن في العلوم الأخرى، فإنا لا نقرأ كتابًا في التاريخ أو في أي علم إذا كنا نعلم ما فيه من قبل. ولكن في الأدب لا نتطلب ذلك، فيصح أن تكون فيه الحقائق التي تضمنتها القطعة الأدبية معروفة، ولكن الجديد فيها صياغتها أو نوع الشعور بها وإعمال الخيال فيها حتى تخرج كأنها جديدة، فكثير من الروايات المؤلفة حقائقها التاريخية أو وقائعها معروفة، ولكن الأديب استطاع أن يخرجها بحلة جديدة حتى كأن معانيها جديدة.

وليست وظيفة الأديب أن يعلم الحقائق. إنما وظيفته أن ينتفع بالحقائق المعروفة، ويهيج بها عواطف الناس، ويجعلهم يشعرون بها أكثر مما كانوا يشعرون من قبل، ولا تكاد تجد كتابًا أدبيًّا أسس كله على حقائق جديدة لم تكن معروفة من قبل أو على معان معروفة للخاصة فقط، فإذا حاول الأديب أو الشاعر أن يفعل ذلك لا يمكن أن يعرف إلا عند طبقة خاصة قليلة، ولم يستطع أن يكون شاعر أمة أو شاعر شعب. وقد حاول بعض الأدباء ذلك فلم يعترف لهم بالأدب إلا في أوساط خاصة، وكما قال بيرك: «ليس هناك مكتشفات كبيرة في الطبيعة الإنسانية. والحقائق التي ترتكز عليها حياتنا تكاد تكون معروفة للناس جميعًا، فلسنا في حاجة إلى تعلمها، وقد تعلمناها من قبل لأنها ليست إلا تطبيقًا لإدراكاتنا الغريزية على تجاربنا في الحياة العادية.» وعمل الأديب أن يجعلنا نشعر بهذه الحقائق لا أن نعلمها، وأن يستخرج منا الانفعالات التي تناسبها، وهذه الحقائق والمعلومات الشائعة هي التي تكون أكثر ما في الأدب من حقائق، وإنه ليعد أديبًا كبيرًا من استطاع أن يجعلنا نشعر بهذه الحقائق شعورًا تامًّا، ويوسع مشاعرنا نحو الحياة الإنسانية ويحملنا على العمل على وفقها.

واعتبر ذلك في أدبنا قبيل عصرنا فقد كان يكاد يكون خلوًّا من المعاني القيمة، وكان عماده كله على السجع والمحسنات البديعية، وكان المثل الأعلى له مقامات الحريري، والعماد الأصفهاني، فعد لذلك أدبًا تافهًا قليل القيمة إلى أن رزقه الله بأدباء جدد أطلقوه من أغلاله وزودوه بالمعاني العميقة، فعد هذا نهضة قوية، وقُوِّم الأدب الحديث أكثر مما قُوِّم الأدب الذي قبله، كأدب المويلحي والمنفلوطي والشيخ على يوسف وأمثالهم. فإذا نحن قارنّا بين كتابة ابن إياس في بدائع الزهور أو الجبرتي في تاريخه أو البكري في صهاريج اللؤلؤ وبين هؤلاء الذين ذكرناهم وجدنا فرقًا واسعًا ونهضة مباركة، بل نكاد نقول: إن هناك فرقًا كبيرًا بين كتابات الشيخ محمد عبده في أول عهده بالكتابة وكتابته في آخره تبعًا لروح العصر وروح النهضة، واعتبر أيضًا بما حدث في تاريخ مصر الأدبي وهو أن كُتّابًا تعلقوا بالنمط القديم فالتزموا السجع أو المزاوجة ومارسوها في كل كتاباتهم فغلبهم الزمن، وكادت تندثر مدرستهم على حين أنه أيد المدرسة الجديدة التي تُعنى بالمعاني أكثر مما تُعنى بالألفاظ وبالجوهر أكثر دون العرض؛ وسارت في طريقها سيرًا حثيثًا بينما تخلفت مدرسة مقلدي الأقدمين.

وهنا يصح أن نثير سؤالًا آخر وهو: إلى أي حد نشترط في هذه المعاني أن تكون حقّة وصحيحة؟ كم نشترط في المعاني أن تكون جديدة، ولكن هل نشترط أن تكون حقّة وصحيحة بأدق معنى الكلمتين؟ ألسنا نرى كثيرًا من الشعر الراقي أو القصص الراقي قد أسس على نظر إلى الحياة مخطئ أو على آراء باطلة؟

قد اختلف الناقدون في الإجابة على هذا السؤال؛ فالأكثرون على اشتراط هذا الشرط، والأقلون على عدم اشتراطه. يقول بعض الناقدين: إن المعاني في الشعر لا تقاس بصحتها من الناحية الفلسفية، ولكنها تقاس بمطابقتها لغرض الفن؛ وذلك ككثير من شعر أبي نواس الذي يرى أن الحياة خلقت ليتمتع فيها الإنسان بالخمر والنساء والغلمان، وفي قصيدة ابن سينا العينية التي أسست على أن الإنسان كان في عالم قبل هذا العالم عالمًا بكل شيء، فلما هبطت نفسه إلى الأرض واتصلت بالجسم نسي ما كان يعلمه، وما يعلمه الإنسان بالغريزة وما يعلمه باللّقانة إنما منشؤهما تذكر ما كان فيه قبل أن يحل في عالمنا هذا، فإن هذين النموذجين من الأدب ينطبقان على حقائق لم تثبت صحتها، ولكنها صحيحة من حيث صدق دلالتها على ما شعر به هذان الشاعران.

والحق أن ما كان من الأدب غير مؤسس على حقائق صادقة ليس ذا قيمة كبيرة، وما عُدّ منه أدبًا إنما عُدّ أدبًا لاستيفائه عناصر أخرى من عناصر الأدب، وكان يكون أتمّ لو اشتمل على هذا العنصر أيضًا. وشأن الأدب في هذا شأن كل فن، فالفنان على العموم يجتهد أن يرى الحقيقة ويريها الناس، وأن يظهر حقائق الأشياء وبواطنها، وهذا صحيح مهما بعد الخيال، ومهما كانت أشخاص القطعة الأدبية جنًّا أو ملائكة، فنحن لا نقوم القطعة الأدبية قيمة كبيرة ما لم تمثل لنا ناحية حقة من حياتنا الإنسانية كما هي أو كما يجب أن نكون.

وهذا يسلمنا إلى موضوع آخر وهو: إلى أي حد يجب أن يصور الأدب الحياة الواقعية؟ هل يجب ألا يخرج الأدب كثيرًا عن تصوير حياتنا كما نحياها؟ وهذا السؤال أثير في كل فن تقريبًا، وانقسم الباحثون فيه إلى مذهبين: مذهب الواقع ومذهب الكمال، فمذهب الواقع يرى أن الفن يرمي إلى تقليد الطبيعة كما هي، أو على الأقل إلى القرب منها جهد المستطاع، ومذهب الكمال يرى أن الفنان إذا أراد أن يقلد الطبيعة يجب أن لا يقلدها تقليدًا تامًّا بل يتصور الكمال فيها ويخرجها إلى الوجود مازجًا فيها الواقع بتصوراته وعواطفه. يحاكي الطبيعة ولكن يعد لها ويختار من الأشياء ويوفق بينها ويخرجها إلى الناس مترجمًا بها عما في نفسه، فهو يرى أن عمل الفن أن يمثل المناظر الأصلية أو الأخلاق الفاضلة أو الآراء العظيمة بخير مما هي في الواقع فيجعلها أعظم تأثيرًا في العقول من حقيقتها، فالمذهب الكمالي يرى أن الفنان تملكه العاطفة فيحولها إلى قوة عاملة فيمثل الشيء لا كما هو ولكن كما يتخيله كاملًا.

وعلى الأساس الثاني وضع بعض الكتاب كتبهم في المدن الفاضلة أو كما يسميه الإفرنج (اليوتوبيا) وقد نقدوا الحياة الواقعية من جملة نواح ولم يعجبهم النظام الحاضر، فتخيلوا عالمًا خلا من كل هذه العيوب التي يشكون منها، ورسموا عالمًا مثاليًّا كاملًا منزهًا من كل عيب، وما كانوا يستطيعون ذلك لو ساروا على المبدأ الواقعي. ولو سار العالم على المبدأ الواقعي وحده ما تقدم منذ كان آدم، ولعاش عيشة الحيوان، يعيش اليوم كما عاشت أجداده.

هذا البحث بحث في الأدب، فالواقعي في الأدب يرى أن حقائق الطبيعة الإنسانية تصور خير تصوير بالأحوال العادية التي تجري بيننا كل يوم لا بالأحوال الشاذة النادرة، وغرض الأديب الواقعي أن يخرج لنا صورة الحياة كما نراها ونلحظها في حياتنا المألوفة، ويكره الحياة الرومانتيكية التي لا تمثل قوانين الحياة بل تمثل شذوذ الحياة، وكما هو الشأن في حياة مجنون ليلى أو ذات الكاميليا. وهو يرى أن هذا النوع من الأدب إنما يلذ الناس الذين هم في حالة عقلية خاصة، كقصص العفاريت، وقصة عنترة فهي تثير العجب عند الأطفال ومن في درجتهم، ولكن لا تكون غذاء صالحًا لمن نضجت عقليتهم. ويرى هذا الواقعي أن الحياة كما نحياها وما فيها من حقائق نجريها ونعلمها هي مقياس الأدب الصحيح.

ولكن لا ننكر أن للخيال كذلك قيمة كبرى في الأدب، وأن هناك نوعًا من الأدب راقيًا كالشعر لا يمكن أن يحصر في حدود الواقع، بل يجب أن يفسح له في الخيال فلنبين هذا الواقع بالخيال.

من المسلم به أن الفن علاقته — بحكم طبيعته — لا يستطيع أن يصور الحقائق كما هي تصويرًا تامًّا، بل لا بد أن يخرج عنها قليلًا أو كثيرًا … خذ مثلًا لذلك الحياة الحديثة في الرواية، فالروائي لا بد أن يخرج عن تمثيل الحادث الذي وقع في الخارج تمامًا إلى شيء من التنقية والتصفية، وأيضًا الفنان على العموم لا يصح أن يسرد الحقائق كلها، ويقلد الحياة تقليدًا دقيقًا لأن غرض الفن ليس أن يقلد ولكن أن يوعز ويوحي … ليس غرضه أن يخبرك بكنه الأشياء، ولكن غرضه أن ينقل لك ما أثّر الشيء في الفنان، وهذا بعينه هو الذي ينطبق على الأدب، فالأديب إذا تعرض لوصف الأعمال أن الأشخاص أو المشاعر لا يصفها كما هي في الخارج بل كما أثَّرت فيه.

وهنا يجب أن ننبه إلى شيء هام وهو أن الأديب والفنان على العموم لا يستطيعان أن يقصا تفاصيل الشيء جميعها، إنما يتخيران منها ما يعدانه موضع التأثير، وبهذا يختلف الفنانون، فإن الأشياء لا تقع في نفوسهم موقعًا واحدًا، بل قد يتأثر كل بناحية غير التي يتأثر بها الآخر فيخرجها كلٌّ كما تأثر بها، وهذا ما يصبغ فنه بالكمالية، فهو لا يخرج الشيء كما هو في الخارج، ولكن كما يتصوره ويتخيله ويتأثر به، فكثير من الأشياء كغروب الشمس في البحر، ومنظر البحر يوحي إلينا معاني من الجمال أكثر مما هي في الواقع، فالأديب يشعر بها ويخرج أثره الفني ممزوجًا بهذا الشعور.

قلنا: إن موضوع الأدب هو الحياة الإنسانية، ولكن ليس كل شيء يفعله الإنسان أو يقوله أو يفكر فيه يصح أن يكون موضوعًا للأدب؛ لأن هناك فرقًا بين العلم والأدب، فالعلم يريد أن يعلم كل حقيقة، ويريد أن يوضح ويصنف كل شيء، ولكن الأدب فن غرضه الأول أن يثير العاطفة فيجب أن يختار منها ويوفق بين ما يختار خاضعًا لما استكشف من قوانين الجمال. وخير للأديب أن يمزج ما يختاره بتخيلاته ومشاعره ومثله العليا من أن يعرض علينا كل شيء يقع تحت حسه، وهو بذلك يمزج الواقع بالكمال، والأديب في هذا واقعي كمالي معًا. والقطعة الأدبية إذن تقاس بما فيها من معان وحقائق، وبما فيها من شعور وعاطفة تثير مشاعر القارئ أو السامع.

أما الكمالي فيميل إلى أن يتعمق في باطن الشيء، ويسبح فيما يوحيه إليه الشيء — وأحيانًا نستعمل كلمة الواقع في مقابلة رومانتيك، ويقصدون بالواقع حينئذ استنتاج الحقائق من الحياة العادية المألوفة، أما الرومانتيك فيستمد حقائقه من الغرائب والشواذ وأعمال البطولة — والحق أن الأدب في حاجة إلى أن يلون بالواقع والكمال معًا، وكل أثر من الآثار الأدبية الكبرى فيه الصبغتان، ذلك أنه يكشف الحقائق التي لها قوة على التأثير في نفوسنا ويوحي إلينا بالمعاني ويرفعنا فوق مستوى التجارب اليومية الخالية من الروح، وهذا هو الجانب الكمالي. وفي الوقت عينه يؤدي حقائق الحياة الخارجية التي تؤدي إليها ملاحظاتنا في أمانة وإخلاص وهذا هو الجانب الواقعي.

وعنصر الكمال في الأدب له من غير شك قيمة كبيرة، فقلّ أن نعدّ قطعة ذات قيمة كبيرة في الأدب ما لم توح إلينا بحياة خير من حياتنا الواقعية، وتبعثنا على تعمق النظر في الحياة، أو ترفعنا إلى مستوى أرقى من مستوانا في الحياة العادية، وبعض من الشعراء يفضل آخرين، لأن الأولين أذهب في الكمال، أو لأن الآخرين عواطفهم خفيفة الوزن، يدعون مثلًا إلى إرواء شهواته المادية ويوجهون الناس في شعرهم إليها، وأفكارهم وآراؤهم واضحة، ولكنها محدودة ضيقة، وأرضية لا سماوية، ولا يكادون يلمسون عمقًا ولا رفعة لعالمهم.

حقًّا إن الواقعي يمثل حقائق العالم كما هي، ولكنه كالمصور يبدأ يلاحظ الطبيعة، ويمثلها كما هي، غير أنه ينقصه في الوقت عينه تصوير المعنى الروحي للمنظر. كذلك الأدب (وذلك واضح في الشعر) يبدأ بتصوير الواقع ممزوجًا بالخرافات والتقاليد، وكلما تقدم في الفن كسب قوة على تصوير الحقائق مجردة من الخرافات، وفوق ذلك استطاع أن يرينا معاني الحقائق وروحها، فالواقع يمثل الحقائق كما هي، والكمال يرقى بالمجتمع فيمثل مجتمعًا راقيًا، وبعبارة أدق: الواقعي يمثل الحياة عادية، والكمالي يمثل الحياة لها غايات خاصة يرمي إليها.

نظم الكلام

هذا هو العنصر الرابع في الأدب، فإذا كانت لديّ فكرة وأردت أن أنقلها إلى ذهن القارئ أو السامع فنقلتها إليه نقلًا حرفيًّا، فهذه اللغة التي استعملتها لا تسمى أدبًا، أما إذا كانت لديّ عاطفة سواء كانت مصحوبة بفكرة أو لا، فنقلتُ إليه باللغة فكري وعاطفتي فهذا أدب، وإذا كان القصد الأول مما أنقله هو الفكر، والعاطفة ثانوية بالنسبة للفكر، ولم تستخدم العاطفة إلا في إظهار جمال الفكرة أو كمالها، فهذا نوع من النثر الأدبي كالتاريخ والنقد. أما إذا كانت العاطفة هي المقصد الأول، والفكرة تأخذ مجراها في ذهنه عن طريق مشاعره، فهذا ما يسمى فن الأدب الجميل، أو الأدب الصرف، سواء كان شعرًا أو نثرًا.

وقد أنقل العاطفة بعرض نفس الشيء عليك، كما إذا تأثرت من منظر وردة فقدمتها إليك فأثارت إعجابك بجمالها، فليس في هذا شيء من الفن مطلقًا، إنما يجب أن يقوم الفن على وسائل غير تقديم الشيء نفسه ليثير مشاعرنا، هذه الوسائل في الأدب هي التي نسميها نظم الكلام. ولا تمكن إثارة العاطفة بتسميتها وتحليلها ولا بالكلام حولها ولا بالتفكير فيها في قول مجرّد، وإنما الكلام في موضوع يثيرها معتمدًا إلى حد ما على الخيال، ولاستعمال الخيال في ذلك طرق مختلفة، فإذا أحببتُ أن أثير إعجابك بوردة فقد أثيره بالكلام في جمال لونها وشكلها وشذاها، وربما أثرته بما توحي به الوردة من معان ترتبط بها، مثل: اقتران تفتحها بتفتح الشباب ونشوة الأمل، ومن هذا كله أختار في كلامي ما يتناسب مع عواطفي ويلائم شخصيتي، وأختار من نظم الكلام ما يتناسب مع هذا المقصد. ويعتمد نظم الكلام أولًا على اختيار الكلمات، لا من ناحية معانيها فقط، بل من ناحيتها الفنية أيضًا بما توحيه من أفكار ترتبط بها، ومن ناحية وقعها الموسيقي، فقد تأتلف كلمة مع كلمة ولا تأتلف مع أخرى، وقد تفعل كلمة في إثارة العواطف، ما لا تفعله مرادفاتها.

مثال ذلك، قول المتنبي:

تلذ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام

وقوله تعالى: فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ فإن لفظة (يؤذي) في الآية أجمل من (تؤذي) في بيت المتنبي. والحكم في ذلك الأذن الموسيقية.

ومثل (العسل) في قوله:

نحن بنو الموت إذا الموت نزل
لا عار بالموت إذا حُم الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل

وقول المتنبي:

إذا بي مشت خفت على كل سابح
رجال كأن الموت في فمها شهدُ

فكلمة (عسل) و(شهد) مترادفتان، ولكن كل منهما جميلة في موضعها ومثل قوله تعالى: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ فقد تكون كلمة ظالمة أو جائرة أحلى، ولكن (ضيزى) في موضعها أجمل؛ لأن السورة كلها وهي: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ مختومة بالألف، ولا يتسنى ذلك إلا في ضيزى. بل إن اللفظة الواحدة قد تحسن في وضع ولا تحسن هي نفسها في وضع آخر، مثل قوله تعالى: مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وقوله تعالى: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا. فـ(جوفي) و(بطني) مترادفتان، ولكن كلًّا منهما جميل في موضعه ولا يحسن في غيره.

بل إن الكلمة الواحدة قد يلطف جمعها الخاص في موضع، ولا يلطف جمعها الآخر في موضع آخر، فجمع العيون أجمل من الأعين، والنساء أجمل من النسوان وهكذا. ثم قد تكون كلمة في الجملة جميلة، ولكن ينقصها الجمال الكلي، كالوجه ترى فيه كل عضو جميلًا، من جبهة وعين وأنف، ثم لا تراه كله جميلًا وكذلك الألفاظ. والاعتماد في ذلك كله على الأذن الموسيقية، وربما كان من الأسباب أيضًا اعتماد الألفاظ على الحروف، فبعض الحروف يدل على القوة (كالقاف)، وبعضها يدل على الرقة، (كالسين). وهناك ألفاظ تتخيل فيها الجزلة دون الرقة، وألفاظ رقيقة غير جزلة، وينبغي أن يستعمل كل في موضعه، فكما قال ابن الأثير: «هناك كلمات إذا سمعتها تخيلت رجالًا قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم؛ وألفاظ أخرى تتخيل عند سماعها كأنها نساء حسان، عليهن غلائل مصبغات، وقد تحلين بأصناف الحلي.»

والناس يختلفون فيما بينهم في التعبير عما في أنفسهم من المعاني، بل إن الناس يختلفون في التعبير عن المعنى الواحد. نعم، قد يتفقون في التعبير عن المعاني العلمية أو الرياضة، مثل: أ = ب، و ب = ج، ولكن عندما يراد التعبير الأدبي وخصوصًا عما تكنه العواطف لا يمكن أن يتفقوا. وأي اختلاف في التعبير وطريق نظم الكلام ينتج اختلافًا في التأثير. فلو أنك غيرت ولو تغييرًا طفيفًا كلمة في بيت من الشعر مكان كلمة شعرت توّا باختلاف الأثر الذي يوحيه. وهذا هو السر في أن الشعر لا يمكن ترجمته ترجمة دقيقة، وهذا أيضًا صحيح في النثر الفني، وإن لم يبلغ مبلغ الشعر.

ولسنا نريد أن نقول: إن الشعر أو أي ضرب من ضروب الأدب يؤثر أثرًا كبيرًا بأسلوبه وطريقة نظمه من غير أن يكون متضمنًا معاني شيقة، بل الحق أنه لا بد في الجودة وقوة التأثير فيهما معًا. والحق أيضًا أن الأسلوب أو نظم الكلام ليس إلا وسيلة من وسائل نقل المعاني. نعم، إن جودة الأسلوب قد ترقى بالمعاني المعتادة فتخرجها في كل شكل يدعو إلى الإعجاب، وأحيانًا تطغى قوة العاطفة وجودة الأسلوب على قوة المعنى والتفكير المنطقي، ولكن على كل حال لا بد من معان قيمة، ولا يمكن للأديب أن يتبوأ مكانًا عاليًا إذا اعتمد على الأسلوب وحده وكان مصابًا بالفقر العقلي. والإعجاب إذا كان محوره الأسلوب وحده لا يستمر طويلًا وما أسرع ما يملله الناس ويدركون خفة وزنه كالألعاب البهلوانية.

ومما يلاحظ أن اللغة هي وسيلة التعبير الطبيعية عن الأفكار والمعاني لا العواطف؛ فإذا كان لديّ فكرة، أو لاحظت حقيقة وأردت التعبير عنها فالألفاظ تلبس الفكرة وتنتقل إلى ذهن الآخر. أما العواطف فليست اللغة قادرة على نقلها نقلًا تامًّا صحيحًا كما هو الشأن في المعاني؛ وما يحدث من الغموض في نقل المعاني ناشئ غالبًا من غموض الفكر وعدم وضوح المعاني في ذهن الكاتب أو عدم محاولته الإيضاح. أما الغموض في نقل العواطف فناشئ من صعوبة التعبير عن العواطف نفسها، لأن اللغة تحاول التعبير عن العواطف بترجمة العواطف أولًا إلى كلمات فكرية أو عقلية، وهذه الكلمات الفكرية أو العقلية إنما تعبر عن العواطف من طريق الإيعاز والإيحاء لا من الطريق المباشر. وهذا ما دعا إلى العناية بنظم الكلام وطريقة تأليفه فيستعان بذلك على أداء العواطف. ودعا إلى الاستعانة بالأوزان الشعرية وطريقة الإلقاء. وأحيانًا بالسجع والمحسنات البديعية، وأحيانًا بالتشبيه والاستعارة، وأحيانًا بالإشارات وحركات اليد، ونحو ذلك، وأحيانًا بتجويد العبارة وتقليبها على أوجه مختلفة حتى تثير الشعور، وفي هذا كله يختلف الناس. فقد يكون هناك عالم قدير، ولكنه ضعيف من ناحية نظم الكلام وتأليفه، وهناك على العموم أشخاص لا تتناسب مقدرة عواطفهم أو تفكيرهم مع مقدرتهم في التعبير. فقد يكون عند الإنسان قوة تفكير راقية، أو عواطف راقية، ولكنه مصاب بضعف الأسلوب وغموض التعبير، أو الضعف في نظم الكلام وتأليفه، ويتعب القارئ ويمله في استخراج ما يريده من معان، أو يحاول أن يشعر بما يشعر به الكاتب فلا يستطيع.

ينتج من هذا أن الكمال في النظم يقاس بالقدرة على نقل الفكرة والعاطفة نقلًا صحيحًا صادقًا. فالنظم هو التعبير الخارجي لحالة داخلية فمتى صدق التعبير الخارجي وأدى في أمانة شرح الحالة الداخلية كان نظمًا جيدًا، وإذا قلنا جمال اللغة أو الأسلوب، فلا بد أن نشرك في ذلك المعاني والعواطف ومطابقتها لهما لأن اللغة لا يمكن الإعجاب بجمالها مجردة عن ذلك، وتعد اللغة جميلة وبالغة حد الكمال بمقدار تعبيرها عن المعاني والعواطف. وأهم صفات الكتابة الجيدة شيئان متقابلان، وهما: القوة والرقة. فالكتابة أحيانًا في حاجة إلى القوة لتثير اهتمام القارئ وتؤدي ما عند الكاتب بأمانة وصدق كالكتابة في موضوع الحرب، وفي حاجة إلى الرقة لتنقل العاطفة في لطف ودقة كالكتابة في موضوع الحب. وقد يكون في الأسلوب إحدى الصفتين دون الأخرى، وقد يغلب على كتابة الكاتب إحدى الصفتين فأسلوب بعض الكتاب قوي فقط يلون كتابته بألوان قوية، وينقل إليها ما في ذهنه أو شعوره نقلًا قويًّا، ولكن لا يشعرك بلطفه ودقته، وبعض الكتاب على العكس من ذلك يسيل رقة وعذوبة، ولكن لا يؤثر فيك أثرًا قويًّا.

فمثل الكلام القوي قوله في مهاجمة أسد:

وأطلقتُ المهند عن يميني
فقدّ له من الأضلاع عشرا
فخرّ مضرّجا بدمٍ كأني
هدمت به بناء مشمخرا

ومثال الرقة قوله:

إن التي زعمت فؤادك ملّها
خلقتْ هواك كما خُلقت هوى لها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضميرُ إلى الفؤاد فسلّها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلها

ومن هذا الباب قولهم في قول الشاعر:

ألا أيها النُّوَّام وَيْحَكُم هبُّوا
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب

فقالوا: إن الشطر الأول قوي متين، والشطر الثاني رقيق دقيق.

ومن الأدباء من له حظ قوي في نظم الكلام، ولكنه فقير في المعاني، ومعانيه عادية أو ضعيفة، وبعض الشعراء لديهم من القدرة ما يُخرجون به ما يريدون في شكل جذاب، ولكن ليس لديهم شيء جديد، وهؤلاء شهرتهم دقيقة، وقيمتهم محدودة، ولا يلبث الناس أن يدركوا ضعفهم فينبذوهم، وإنما الأديب الخالد ما زاد في معارفنا أو شعورنا بما في أدبه من معان جيدة.

وهذا النظم يحتاج إلى مران وتربية. فليس الأديب كالبلبل أو الحمام يغني لنفسه، إنما هو يغني للناس، وينقل إليهم ما له من فكر وشعور، فيجب أن يتعلم كيف ينظم الكلام نظمًا جيدًا لينقل إليهم في دقة ما يفكر فيه ويشعر به، ولا يكون ذلك إلا بتعود العناية بتلك التعابير. ومن الحق أن نقرر أن هناك استعدادًا طبيعيًّا للنبوغ في الأسلوب، ولكن هذا الاستعداد مهما قوي لا بد له من مران، بل المران الكثير مع التوسط في الاستعداد خير من نبوغ لا مران معه.

هذه هي العناصر الأربعة للأدب: العاطفة، والمعاني، والخيال، والأسلوب، كما عبر عنها الإفرنج، وأظن أنها تنطبق على كل أدب سواء في ذلك العربي أو الغربي، والنقاد القدماء من العرب عبروا عنها تعبيرات مخالفة، وإن لم يصفوها وصفًا دقيقًا فعبروا عن العاطفة بالرغبة والرهبة والحزن والسرور، ونحو ذلك. وشأن هذه العناصر واتّحادها شأن الموسيقى الإفرنجية والعربية فهي خاضعة لأسس واحدة وإن كانت الآلات الموسيقية الأوروبية أرق وأشمل، ولكنا نستطيع أن نجمع الموسيقى العربية والغربية على درجات في سلم واحد، فالعناصر في الأدب الغربي يمكن فيما أظن تطبيقها على الأدب العربي، فمن الأدباء العرب من قويت عاطفته، وضعفت معانيه، أو ضعف نظمه، ومنهم من كان على العكس، وأيًّا ما كان فالمقياس واحد؛ فكُثيّر عزّة مثلًا، وجميل بثينة قويان في العاطفة، والجاحظ قوي في المعاني ونظم الكلام، وسعد الدين التفتازاني المؤلف في البلاغة ليس قويًّا في الأسلوب ولا في العاطفة، وهكذا يمكن وضع الأدباء وتحليلهم في ضوء هذه العناصر، بل يمكن وضع الآداب نفسها على درجات باعتبار هذه العناصر. فالأدب الإنجليزي مثلًا أقل عاطفة وحرارة من الأدب الفرنسي الرومانتيكي وهكذا.

فالأدب العربي يمكن أن يوضع على درجة من سلم الآداب العامة، لأن هذا شأن كل فن، فالموسيقى والمعمار والنحت والتصوير وغير ذلك، لها قوانين واحدة عامة، يمكن تطبيقها على الفن المصري واليوناني والعربي والغربي، ويمكن لذلك أن يقاس رقي كل فن أو ضعفه، فلماذا يشذ الأدب عن هذا، وهو فن كسائر الفنون؟ غاية الأمر أن له ميزات خاصة يخالف فيها الآداب الأخرى الغربية، وهو يتميز عليها أحيانًا بباب الحكم والشعر الغنائي، وهي تتميز عليه أحيانًا بالقصص ونحو ذلك، ولكن مهما كان هذا الاختلاف والتمييز، فكل الآداب في نظرنا ترجع إلى قواعد واحدة، شأننا في ذلك شأن علم الأخلاق، أو علم النفس أو علم الاجتماع، فليس الصدق فضيلة عند العرب، رذيلة عند الغرب، بل هو فضيلة حيث كان، والطبيعة البشرية في أي مكان خاضعة لقوانين علم النفس، وإلا كانت القوانين فاسدة، والأمم البدائية خاضعة لقوانين علم الاجتماع، كالأمم المتحضرة. وإن كانت تقف في درجة من السلم دون المتحضرة.

وعلى ذلك فالأدب العربي عناصره كعناصر الأدب الغربي، سواء بسواء، ولو دققنا النظر لم نجد مقياسًا آخر غير هذه العناصر الأربعة، نقيس به الأدب العربي وحده، بل لو رجعنا إلى نقادنا القدماء، كقدامة وابن رشيق وابن الأثير، وغيرهم، وجدناهم حاموا حول هذه العناصر، وإن لم يسموها بهذه الأسماء، ولم يفصحوا عنها إفصاح النقاد الغربيين اليوم ولم يحللوها تحليلهم.

فيجب في نظري أن نطبق هذه القوانين الغربية مع مراعاة اختلاف البيئة بين الشرق والغرب، واختلاف الزمان والمكان، وبذلك يمكننا قياس كل شاعر عربي وكاتب عربي، بهذه العناصر الأربعة، ومعرفتنا بعد التامل بأي عنصر يمتاز وفي أي عنصر يضعف؟ فمثلًا أبو العلاء المعري أقوى عقلًا، وأدق معاني، وأضعف خيالًا، وأبو تمام أبعد خيالًا، وأقل عقلًا من المعري، والبحتري أحسن نسجًا وأقوى أسلوبًا من أبي العلاء، وابن خلدون في سلاسته واسترساله، أكثر معاني، وأرقى أسلوبًا من القاضي الفاضل أو العماد الأصفهاني، والبهاء زهير أرقى أسلوبًا وأبسط تعبيرًا من ابن مطروح، والبارودي أقوى شعرًا، وشوقي أوسع خيالًا، وحافظ أجزل لفظًا، وعلى هذا القياس يمكننا أن نعرض كل شاعر وكاتب على هذه العناصر، بل يمكننا أن نعطيه درجة تقريبية في كل عنصر منها ثم نجمع درجاته، ونقارنها بدرجات الشاعر أو الناثر الآخرين، كما يمكننا بهذه العناصر أيضًا أن نقارن بين شعراء أمة كالأمة العربية، وشعراء أمة أخرى كالأمة الإنجليزية أو الفرنسية، لنعرف في أي عنصر تفضل الأولى الأخريين، ويفضل الأخريان الأدب العربي، كما نقارن بمقاييس العمارة العربية بالعمارة اليونانية بالعمارة الحديثة، والله أعلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤