النثر

هذه هي الملاءمة في الشعر.. أما الملاءمة في النثر فتكون بحسب أقسامه، ومما يؤسف له أن كثيرًا من المحاولات بذلت في تقسيم الشعر سواء في ذلك علماء الشرق وعلماء الغرب، ولكنهم لم يعنوا هذه العناية في تقسيم النثر، ولا بد لنا من تقسيمه لنعرف ما يلائم كل قسم، وهو في الغالب إما خطابة أو دراسة أو تاريخ وسيرة أو مقالة أو قصص تمثيلي نثري أو رواية أو صحافة، فلنبين الملائمة في كل نوع. فالخطابة هي الحديث المنطوق تميزًا لها عن الحديث المكتوب، وهي الصورة البدائية للنفس صحبت الإنسان من قديم، ولها صورتان رئيسيتان: هما الخطابة المدنية والخطابة الدينية.

فالأولى قد تكون سياسية أو قضائية أو نحو ذلك، والثانية أكثر ما تستعمل في الوعظ. ومن أهم مميزات الخطابة على العموم البلاغة، والفنون البلاغية تدخل جميع صور الأدب ولكن حاجة الخطابة إليها أكثر.

وفي الخطابة شيء كثير بجانب التعبير اللفظي كالإشارات والنبرات والإيماءات والحيل. وكل هذه الأشياء لا قيمة لها كبيرة في أنواع الأدب الأخرى. ومن أجل هذا نرى أن كثيرًا من الخطب تفقد قيمتها إذا قرئت لأنها خلت من هذه الأشياء. أما الخطابة الدينية فيدفعها إلى التزام البلاغة الجلال لأن موضوعها الأساسي هو العلاقة بين الله والإنسان، فهذه العلاقة تدفع الخطيب إلى البساطة والوضوح أو الفخامة والتسامي. وثانيًا تحتاج إلى يقين الخطيب إذ يتكلم الواعظ تحت شعور خاص من اليقين وعدم الشك، وهذان يقودانه إلى استعمال البلاغة؛ فإنه إذا أحس بأن ما يتكلم فيه حقائق لا شك فيها دعاه ذلك إلى تأكيدها والمبالغة في إثباتها فيستعمل البلاغة. وثالثًا ما تستَتْبِعه عادة من الحث والتحريض فإنه إذا استحثهم دفعه ذلك إلى استعمال كل فنون البلاغة، وقال بعضهم: إنه إذا قلت البلاغة سواء في الخطابة الدينية أو المدنية كانت الخطابة أفضل؛ لأنها إذا تجردت من البلاغة اعتمد الخطيب على عرض الحقائق كما هي.

أما الدراسة فنعني بها دراسة الأدب والأديب، فالكتاب الكبير يولد من عقل مؤلفه وقلبه، فإن الأديب قد وضع نفسه في صفحاته وهو مستمد من حياته ومتولد من ذاتيته. فلنبدأ بأن نبحث عن الأديب الذي يبدو في الكتاب، ويجب أن يكون غرضنا الأول تأسيس علاقات شخصية مع كتبنا بطريقة بسيطة مباشرة إنسانية. ويجب أن نقرأ الكتاب لا على أننا علماء، بل على أننا مستفيدون، ولنكن قراء مجيدين. ولا نكون كذلك إلا إذا أسسنا قراءتنا على أساس الصداقة الوثيقة بيننا وبين المؤلف، والكتاب العظيم ترجع عظمته إلى عظمة الشخصية التي أنتجته، إذا كان ما نسميه العبقرية ليس إلا اسمًا آخر لصفاء الطبيعة وصدقها وابتكارها. والكتاب العظيم يتطلب قراءة عميقة وفهمًا لشخصية المؤلف وربط الصلة به وبعبقريته، فإن ذلك يجعلنا نرى بعينه ونشعر بشعوره.

مبدأ الصدق: ويتصل بهذا شيء يحتاج إلى اهتمام خاص وهو الإخلاص التام من الفرد لنفسه، والإخلاص التام منه لتجربته الخاصة في الحياة، ولصدق الأشياء كما يراها لا كما يراها غيره، وقد كان أفلاطون أول من أعلن ذلك قال الفرد دي موسيه ردًّا على من يلومه في العشق: «إنه أنا الذي عشق.» وهي جملة تحتوي على معان كثيرة، أي إنه هو الذي يتذوق العشق وأنه يعشق بشعوره لا بشعور غيره، وأنه هو المسئول عن ذلك. والأديب الحق هو الذي يتكلم بصراحة عن نفسه وعن شعوره وتجاربه، وربما نجد أدبًا أقوى في الطبيعة وأوسع ثقافة وأكمل في الفن، ولكنه أقل صراحة فأتى أعمال أقل من الأول، وبدون الإخلاص لا يمكن أن يوجد في الأدب عمل حي. وميزة التجديد التي يدأب الناس في البحث عنها ليست في الجدة ولكنها في الصدق، وهو مبدأ يجب أن لا ينساه طالب الأدب قط، وسواء كانت تجارب الأديب صغيرة أو كبيرة فيجب أن تكون هي محور أدبه، وأن يهتم بها وأن يصف بصدق وأمانة ما عاشه وما رآه وما اشترك فيه وأحس به، وقد يهمل المتعلم هذه الحقيقة لما يرى من كتب كثيرة رائجة خلت من الصدق، ولكن الحق أن قيمة الأدب هي في مقدار صدقه.

ولسنا ندعي أن الصدق هو الفضيلة التي يقولها الأخلاقيون، وإنما نعني بالصدق مطابقة الكلام لتجارب الشخص ولو كانت رذيلة. فأبو نواس حين يتكلم في تجاربه في الخمر ومدحها، وفي الغزل بالمذكر صادق مخلص لأنه يعبر عن تجاربه الشخصية، ولو كان الموضوع غير مستساغ في الخلق، والسكير المعربد حين يتكلم عن الفضائل ومدح الفضيلة وذم الرذيلة كاذب؛ لأنه لا يعبر عن تجاربه الشخصية ولو كان يدعو إلى فضيلة، وبعض الصوفية إذا قلدوا أبا نواس ومسلم بن الوليد فشعروا في الخمر وغزل المذكر كاذبون لأنهم لم يعبروا عن تجاربهم الشخصية.

وعلى الجملة يجب دراسة المؤلف دراسة عميقة، ولدراسته طريقتان: الطريقة الزمنية والطريقة المقارنة، فالطريقة الأولى دراسة المؤلف من حيث بيئته وعوامل تأثيرها فيه ونتائجها عنده. والطريقة الثانية مقارنة الأديب بغيره من الأدباء المعاصرين له والسابقين عليه، وخاصة في الموضوعات التي امتاز بها الأديب. ويجب أن نفرق تفريقًا تامًّا بين القارئ العادي للكتاب وبين متعلم الأدب، فالأول لا يستمتع بما يقرأ، والثاني يستمتع، والأول يقرأ بطريقة اختيارية مطلقة لا تخضع لشروط، والثاني يقرأ قراءة منظمة وفق نظام معين أو خطة خاصة. وما دمنا نأخذ ببساطة كتابًا من هنا، وكتابًا من هناك حسب الصدفة أو كما توحي الرغبة الطارئة فإننا نكون مجرد قراء، أما إذا أدخلنا النظام في قراءتنا فإننا نكون متعلمي أدب.

فطريقنا الطبيعي أن ندرس بعمق الكتب، وننتقل إلى دراسة المؤلفين، ونؤسس علاقات شخصية معهم في عملهم الأدبي، وندرك عبقرية الأديب في مجموعها وتنوعها. قد تبدأ بناحية خاصة من نواحي الأديب، ولكننا نتوسع بعد ذلك في جميع أعماله فنرى أنها وحدة، والطريقة الزمنية أيضًا تتطلب أن نعرف أعمال المؤلف وترتيبها في الوجود. هذا الترتيب يضيء لنا حياته الباطنة، وكيف نتصورها، ولذلك كان ترتيب الدواوين بحسب تطور الشاعر خيرًا من ترتيب الديوان على حسب حروف الهجاء.

أما الطريقة الأخرى فتقارن بين الرجل ونفسه وبين الرجل ومعاصريه وبين الرجل ومن كتبوا في مثل أدبه.

وعلى الجملة فيجب أن نقارن بينه وبين الرجال الذين عملوا في ميدانه وعالجوا نفس الموضوعات التي عالجها. ومارسوا نفس المسائل التي مارسها وكتبوا تحت نفس الظروف التي كتب فيها، أو الذين بينهم وبينه في أذهاننا أي سبب آخر.

أما دراسات السير فتفيدنا فائدة جليلة في الأدب، فحين يستثار اهتمامنا بكتابة أي مؤلف كبير سنزداد رغبة في أن نعرف شيئًا عن الرجل نفسه، وسيكشف لنا عمله نفسه، وسنكون مشتاقين إلى أن نراه في الأوساط الاجتماعية التي يعيش فيها وفي علاقته اليومية مع رفاقه، وأن نعرف أهم العوامل في تاريخه الخارجي، وفي آماله وجهاده ونجاحه، وإخفاقه، والصلة بين كتبه وهذه البيئة الخارجية والداخلية، والطريقة التي بها كتبت، والظروف التي كتبت فيها، مقتصرين على ما يفيدنا في تنمية ثقافتنا الأدبية، وهذا التحديد مهم جدًّا. وبعض الأدباء يكتب أحداثًا تافهة فارغة لا تفيدنا في دراسة أدبه، كما فعل فرويد في كتابته عن «كارليل» فقد ملأ كتابه بأحواله الشخصية، وعلاقته الزوجية مما لا يفيدنا كثيرًا في دراسة أدبه.

إنما نهتم بالمسائل الأساسية المكونة لعبقرية الأديب، لأن مبدأنا في دراسة الأديب أن يعنى القارئ عناية تامة بروح المؤلف، وبالتعمق في القوى الحيوية لشخصيته.

وفي دراساتنا للأديب دراسة جيدة يخيل إلينا أننا نرسم صورة واضحة للأديب تلقي ضوءًا كبيرًا على أدبه.

هذا فضلًا عن أن سيرة الأديب في حد ذاتها لذيذة، ومن الأسف أن دراسة الأديب في الأدب العربي قاصرة ينقصها العمق والتحليل، وذلك كالسير التي يعرضها الأغاني وابن قتيبة وأمثالهما. ثم يجب أن نربي في أنفسنا روح العطف على المؤلف الذي ندرسه، ولسنا نلزم الدارس أن يحب الأديب المدروس لأن كل قارئ له مزاجه الخاص، وقد لا يتفق مزاجه مع مزاج الأديب الذي يدرسه، وقد ندرك عظمة الأديب، ولكننا لا نستطيع أن نصادقه، بل قد تكون علاقتنا معه علاقة كره صريح، كل الذي يجب أن نفعله حينئذ أن نكون حريصين، فلا يطغى علينا كرهنا في الأحكام القاسية عليهم، كما يجب أن يكون ذهننا مرنا، ونظرتنا إلى الأدباء واسعة سمحة.

وقد تنقلب علاقة الكره إذا نحن تعمقنا في دراسة الأديب إلى علاقة عطف ومحبة.

ثم تأتي بعد ذلك طريقة المقاربة في الأدب، فكل من ينتقل من أدب أمة أو عصرها إلى أدب أمة أخرى أو عصرها سيدهشه التغير في الجو الفكري والخلقي، ومهمة الدارس حين يقوم بدراساته في هذه الآفاق الواسعة أن يلاحظ بدقة هذه الاختلافات الأساسية، وبذلك يمكن التعبير عن المسائل العظمى للأدب من الحب والبغض، والغيرة والأمل، وأفراح الناس وأحزانهم، ومشاكل الحياة كيف عبر عنها في الأمم المختلفة والعصور المختلفة، وسيلاحظ الدارس أن موضوعًا واحدًا عبر عنه عند قوم وفي عصر معين بتعبيرات خاصة، وعبر عنه عند قوم آخرين أو في عصر آخر تعبيرات مغايرة، وسيلاحظ أيضًا أنه إذا عبرت أقوام مختلفة عن موضوع واحد، كان الفرق في المزاج والنفسية، وبذلك يستطيع أن يتتبع تاريخ التحول والتغير للصور الأدبية العظمى، والشعر الغنائي، والقصة التمثيلية وهكذا.

والاقتصار على دراسة كاتب واحد بمفرده يضيق أفقنا، أما إذا درسناه في ضوء دراسة أمته، ودرسنا أمته في ضوء أمة أخرى فإنه بذلك يكون أوسع أفقًا، فالأدب العربي يتضح تمام الوضوح إذا ما قارنّاه مثلًا بالأدب الفارسي، وكيف تأثر كل أدب منهما بالآخر، وكيف تطور النثر العربي بعد هذا الامتزاج أو الشعر العربي في العصور المختلفة.

ثم تأتي بعد ذلك دراسة الأدب من ناحية الصنعة الأدبية، فإن هذه الصنعة تمدنا بنوع من المتعة الفكرية والعاطفية، كما تعطينا متعة بقالبها الذي تصاغ فيه، ذلك لأن الأدب فن جميل، وهو — ككل فن جميل — له قوانينه وشروطه في الصنعة، وكل ما يتعلق بالصنعة الأدبية كالسجع، وأنواع البديع الأخرى يستمد متعته من ذاته، فقد نكتفي بها كما هي موجودة فنستمتع بها، ولكن إذا تتبعنا مؤلفها ومن أين أخذ صنعته، ودرسنا كيف يصنع عمله الأدبي ولاحظنا خطواته وفحصنا الوسائل التي حقق بها نتائجه كانت متعتنا أكبر، إذ بذلك يمكننا أن نحكم على هذه الصنعة من نواحي مزاياها وقوتها وضعفها، ثم يقودنا هذا بعد ذلك إلى أن نبحث في مبادئ هذا الفن وقيمة الصنعة التي ظهرت فيه.

وهكذا نجد أن كثيرًا من الأشياء التي تبدو للقارئ العادي ذات أهمية عادية يستجلب الانتباه ويثير اللذة.

وهذا يسلمنا إلى دراسة الأسلوب من حيث صنعته، وقد درسناها أولًا من ناحية شخصية الكاتب، وثانيًا من الناحية التاريخية، وهذه هي الثالثة أعني من ناحية الصنعة في الأسلوب.

وقد وضع لنا الخبيرون من علماء البلاغة القواعد التي يجب اتباعها لتكوين أسلوب جيد، وهناك العناصر الفكرية، وهي الصحة الناتجة من الاستعمال الصحيح للكلمات، والوضوح الذي ينتج من الوضع الصحيح لها، وتكوين الجمل ومراعاة مقتضى الحال، وهناك العناصر العاطفية، وهي القوة والجدة والإيحاء، وهناك العناصر الجمالية من الموسيقى والروعة والسحر التي تجعل للأسلوب لذة بصرف النظر عن الفكرة والعاطفة. وكل هذه الأشياء قد استقصاها علماء البلاغة ودرسوها درسًا متقنًا.

وهناك مسألة هامة، وهي أن دراسة الصنعة الأدبية متميزة عن دراسة الأدب من نواحيه الشخصية والتاريخية، فإذا كان الأدب يمكن أن يتخذ هو نفسه موضوعًا للدراسة والتحليل، فإنه يمكن أن تدرس الصنعة الأدبية من جهة المتعة.

أما المقالة (Essey) فمن أهم صور النثر الأدبي وأمتعها، وهي إنشاء نثري قصير كامل يتناول موضوعًا واحدًا غالبًا كتبت بطريقة لا تخضع لنظام معين، بل تكتب حسب هوى الكاتب، ولذلك تسمح لشخصيته بالظهور. والمقالة النموذجية تكون قصيرة، ولكن القصر ليس صفة ضرورية، فقد تكون المقالة طويلة والسر الأعظم فيها هي أنها لا تخضع لنظام معين كما قلنا، أو صورة محدودة في كتابتها، بل نتبع هوى الكاتب وذوقه. ويجب أن تكون لديه الأنانية أو الذاتية كما سميناها. فالمقالة ليست إلا تعبيرًا عن النفس وتنفيسًا عنها، فهي في النثر تشبه النوع الغنائي في الشعر، ولذلك كان كاتب المقالة واسع التفكير أكثر من أي كاتب آخر، فله حرية واسعة غير محددة في أسلوبه. ومن الصعب أن تجد موضوعًا ليس صالحًا لأن يتناوله كاتب المقالة، وكثيرًا ما يطلق اسم مقالة على نوع من الكتابة ليس له من ميزات المقالة إلا قصره كبعض وسائل الجاحظ، فإنها قطع قصيرة من التاريخ أو السيرة أو الدراسات. ومن أنواع المقالات المقالة النقدية، وهذه المقالة ينظمها دافعان: أحدهما ضعيف وهو كتابة السيرة، والثاني قوي وهو الرغبة في الوزن والتقدير. وللمقالة النقدية شروط:
  • (١)

    أن تكون محدودة واحدة الموضوع. فإن قصرها لا يسمح لكاتبها بالتخبط والخروج عن الموضوع والكلام المبهم عن الرجال وأعمالهم، أو عرض المشاكل دون محاولة حلها. وليس يستطيع أحد أن يكتب في اختصار إلا إذا كانت أحكامه محدودة يستطيع أن يعبر عنها بوضوح.

  • (٢)

    ويجب أن يكون الناقد متعاطفًا مع من ينقده فيتجاهل أحقاده وحزازاته، وأن يسمح بأقصى ما يستطيع بالدافع الطيب والخلق السامي، وأن يسعى جهده في أن يحب من يكتب عنه.

  • (٣)

    ويجب عليه أن يكتب طبقًا لمبادئ لا مجرد الهوى، فالنقد الأدبي الذي يمليه الهوى الشخصي والكره الذاتي هو نوع وضيع من النقد، فعلى الناقد أن يكون عالمًا بالمثل العليا في الفكرة والعاطفة والأسلوب قبل أن يتعرض بالنقد لأي فكرة أو عاطفة أو أسلوب.

  • (٤)

    وعلى الناقد أن يكون عادلًا تمام العدل، واسع الصدر أمام التجديد. والتجديد ليس ضروريًّا أن يكون استكشافًا لمعنى جديد، بل هو أيضًا تعبير صادق عن ذاتية الكاتب وشخصيته، فعلى الناقد أن يعترف بهذه الشخصية الخاصة.

القصة التمثيلية النثرية

وهي تكون نوعًا من الإنشاء الأدبي لا يمكننا أن نغفله، والغالب أن تكون هذه القصة هزلية، وإذ ذاك يكون هناك ترابط طبيعي بين الأسلوب الفكاهي للحياة وبين النثر؛ فنظرة الكاتب التمثيلي الهزلي إلى الحياة في العادة نظرة سخرية ولذع ونقد، وهو ينجح أتم النجاح إذا جعل شخصياته تعبر عن نفسها بنفس الكلام المعتاد لها، ولكن هذا الكلام المعتاد يجب أن يكتب كتابة أدبية، وبعبارة أخرى يجب أن يكون هذا الكلام لا كلام الشخصية وحدها، بل كلام المؤلف أيضًا، وبذلك توجد المشكلة الأساسية في اختيار الأسلوب الملائم لهذا النوع، ففي النثر التمثيلي تكون هناك منافسة دائمة بين الواقعية والمثالية، فالواقعية الخالصة تريد أن تجعل كل شخصية تقول بالضبط ما تقوله في الحياة الواقعة، ولكن يقلل من شأن هذا أن شخصيات الرواية التمثيلية هي شخصيات مخترعة؛ أي أن مخيلة الكاتب هي التي أنشأتها واخترعتها، وإذن ففي استطاعة الكاتب أن يجعلها تتكلم كما يشاء هو لا كما يتصورها باعتبار أنه خالقها ومخترعها. وهذا التصوير يرجع إلى الشعور الذي يخترع به الكاتب شخصياته، فإن كان شعورًا هزليًّا أمكنه أن يمزج كلام الشخصيات بفكاهته وهزله، وإن كان هجاء أو نقدًا لاذعًا استطاع أن يجعل كلماته سببًا لسخريته ونقده ولذعه.

والقصص النثري يعد في عصرنا الحاضر من أهم أنواع الأدب، وأدباء العالم ينتجون فيه أكثر من إنتاجهم في فروع الأدب الأخرى، ولا يدانيه نوع آخر في كثرته وانتشاره، لأن الرواية يقرؤها المتعلم وغير المتعلم، والجاد والكسول، وهي تثير مشاعر الناس المختلفة أكثر مما يثيرها الشعر وغيره من أنواع الأدب، ولذلك اتخذ القصص وسيلة من أكبر الوسائل لنشر النظريات الاقتصادية والاجتماعية والدينية.

وإقبال الناس على قراءة القصص والتلذذ منها ونجاح أصحاب النظريات المختلفة في نشر مبادئهم بواسطتها أقام البرهان على قيمة هذا النوع في التعليم ونشر الثقافة، وساعد في انتشاره واتخاذه وسيلة لما ذكرنا سهولته وكثرة تنوعه وأنه غير محكوم حكمًا تامًّا بالقوانين الفنية التي تحكم أنواع الأدب الأخرى، فالقصصي يختار أي نوع شاء، ويعبر عنه أي تعبير يناسب نفسه في سهولة لفظ وتدفق في القول. وكل مناحي الحياة الإنسانية، وكل الطبائع البشرية وما يعرض لها من حوادث صالح لأن يكون موضوع قصة. ومن ناحية أخرى الرواية أسهل أنواع الأدب قراءة، فلا تستخرج من القارئ جهدًا كبيرًا، ولا تتطلب إجهادًا في الخيال كما يتطلب الشعر، ولا إمعانًا في التفكير وإجهادًا للعقل، كما تتطلب المقالة، وإنما يتلذذون قراءة القصة كما يتلذذون من أكلة شهية أو منظر جميل، فهي نوع من الجمال الفني يتقبل العقل تحت تأثيره وفي سكرة التلذذ به الفكرة المبثوثة في ثنايا الرواية، ولذلك كان تأثيرها في قبول العقائد والنظريات كبيرًا، وسهولتها وعدم فنيتها وشيوعها وارتباطها بالحوادث المعروضة يفقدها غالبًا صفة الخلود، فكثير من القصص إذا قُرئت كان من الصعب على قارئها أن يعيد قراءتها، ولهذا كانت كل الروايات التي تظهر كل فصل تختفي سريعًا وتحيا حياة قصيرة كحياة الفراش، ولكن لا بد أن نستثني من ذلك بعض القصص لصفات خاصة كجودة معانيها أو عظمة فنها.

والقصة تقوم بشيئين: أولًا بموضوعها، وثانيًا بالطريقة التي عولج بها الموضوع، ونعني بالموضوع الفكرة التي دارت عليها القصة والأشخاص الذين جاء بهم القصاص لتمثيل الفكرة وإيضاحها. فمن حيث الموضوع نستطيع أن نقول: إن الطبائع الإنسانية وتجاربها وإن كانت تصلح موضوعًا للقصة فإن بعضها يفضل بعضًا، ونحن نقوّم الموضوع بعظم شأنه وبقوته على إثارة العاطفة، فإذا كان موضوع القصة تافهًا فقلّ أن تعد الرواية جيدة مهما أسبغ المؤلف عليها من فن. وكل قصة عظيمة كانت كذلك لأنها تحوي غرضًا عظيمًا وتهدف إلى مقصد سامٍ. وهي أيضًا كصورة من صور الحياة الإنسانية تعتمد قيمتها على مقدار تصويرها لنوع الحياة، ولكن ليس كل ما كان هامًّا من أوجه الحياة الإنسانية يثير اهتمام الناس، لذلك كان ضروريًّا أن نضيف إلى شروط الرواية شرطًا آخر وهو أن يكون موضوعها يثير الاهتمام، ومن أجل هذا كان واجبًا على الروائي أن يختار من البواعث ما كان دافعًا قويًّا للأعمال الإنسانية ومثارًا عظيمًا لعطفهم، وأكثر ما يجد الروائي ذلك في الحب. ومن الراجح أن تسعة أعشار الروايات أساسه الحب بين الجنسين، ولذلك أسباب متنوعة، من ذلك أن عاطفة الحب بين الجنسين تكاد تكون شائعة بين الناس وطبيعية وعامة أكثر من كل العواطف الأخرى، وهي تستخرج عطف القارئ وتثير اهتمامه أكثر من غيرها، وليس هناك عاطفة مثلها تؤثر أثرًا عميقًا في حياة الأفراد ولا عاطفة عاتية عتوها ولا عاطفة يضحي صاحبها في سهولة وعن رضا كما يفعل المحب.

وعاطفة الحب إذا كانت صحيحة غير عليلة وكانت عادية لا شاذة دعت إلى إثارة عواطف المحب ليحترم نفسه، كما دعت إلى رقة شعوره وتهذيب نفسه وصبغها صبغة روحانية. وأما إن كانت عاطفة الحب مريضة أو شاذة غيّرت مجرى الشعور الطبيعي وخربت الأخلاق. والحب كذلك ألذ العواطف وهو يستخرج من الناس رحمة المحب والعطف عليه، فكل الناس يحبون المحب وهو يثير في الإنسان حب الفن والجمال والرقة ولا شيء مثله يوسع الخيال. قال شكسبير في أحد أشعاره: «إن المجنون والمحب والشاعر يتفقون في قوة الخيال».

والحق أن كل محب يجب أن يكون مجنونًا قليلًا وشاعرًا كثيرًا، ولهذا كان تصوير المحب لعاطفة الحب يتطلب خيالًا قويًّا نشيطًا. والمحب يقرأ الجمال دائمًا فيمن يحبه وإلا ما أحبه. وفوق ذلك فالحب عاطفة الشباب، وما يشعر الإنسان بقوته وشبابه يستخرج منه السرور، من أجل ذلك كان هذا النوع من الروايات لذيذًا سارًّا كما أن ذكر الشيب والهرم يستثير الألم ويستخرج شعورًا بالضعف، وأن الحياة أصبحت حزينة أليمة خاملة، والرواية التي تصف الشباب والحب قد تنعش الهرم وتعيد له الذكرى السارة.

لهذا كله كان الحب موضوع أكثر الروايات، والحب كالحمى له دور ينتهي إليه، وفي كثير من الروايات ينتهي الحب بالزواج والزواج نهاية المأساة. وليس يستطيع الروائي أن يقول كثيرًا في الحب بعد الزواج. وإذا نحن دققنا النظر رأينا أن الرواية التي تمثل الحب بين شابين لا تمثل أرقى درجة ولا أرقى عاطفة في الأدب، فإن الأدب الراقي العظيم يجب أن يمثل مظاهر الجد ومظاهر الإرادة القوية، ومظاهر التجارب العريضة العميقة في الحياة الإنسانية. ورواية الحب عادة تكون بين غِرَّيْنِ لم يختبرا الحياة خبرة كافية وليس يتوقع الإنسان في حياتهما الحلوة حكمة أو عظة، وليس الشباب إلا «وجهة» الحياة. وكثير من هذا النوع من الروايات ليس بطلا الحب فيها ذوي أخلاق قوية ولا تجربة تامة، وهذا ما جعل نقاد الفرنسيين يوجهون إلى رواياتهم من هذا النوع نقدًا حادًّا إذ يقولون: «إن البطل في رواية الحب عندنا ماسخ فاتر، لا يشعر شعورًا قويًّا ولا يلهم عاطفة قوية عالية».

ويختلف الروائيون في المناهج التي يتبعونها في رواية الحب، فبعضهم لا يضع كبير اهتمام في بطلي الحب في الرواية، بل يجعل حبهما وأعمالهما أمورًا ثانوية، ويجعل الأهمية لما يحيط بهما من أحداث وأحوال. وبعضهم يتجنب بواعث الحب في الأيام الأولى للشباب الحاد ويجعل بطل روايته من المتقدمين في السن الذين يستطيعون أن يقصوا علينا تجارب ناضجة، ويظهروا عاطفة الحب ممزوجة بشيء من البواعث الأخرى، وبعضهم يجعلون أبطال رواياتهم أشخاصًا كبارًا، ولكن عاطفة حبهم هي أكبر مظهر فيهم، ثم يجعلون ميولهم وشهواتهم تسير سيرًا غير شرعي ولا نظامي. وأحيانًا يقفون أبطال الرواية موقف من تتنازعه ظروف مختلفة، وعوامل متباينة، ثم يجعلون هذا الحب يتغلب رغم الظروف والقانون والنظام الاجتماعي. وهذا النوع عاش في الأدب الفرنسي أكثر منه في الأدب الإنجليزي. ولسنا نستطيع أن نمنع هذا النوع من ناحيته الفنية، ولكن يجب أن نعالجه بعض المعالجة من الناحية الخلقية. ونلاحظ أن هذا النوع يتقدم كلما كان الانحلال الخلقي، إذ تختفي في الروايات من هذا النوع المرأة الطاهرة، ويحل محلها المرأة العصبية المختلة التوازن، المصابة بحمى التهور والاندفاع. وإن في هذا النوع من الحياة وأمثاله من العواطف الشاذة الحادة خطرًا كبيرًا من ناحية أنه يضع في الأذهان اقتراحات خطيرة، ويبعث شهوات خاصة ويحمل على حياة هائجة غير هادفة، وملوثة غير نظيفة، ثم هو يثير عواطف مريضة. وإنما الرواية الجيدة ما تبعث عواطف صحيحة وقوة إرادة وقوة مقاومة.

ولسنا من القائلين: إن الفن للفن، بمعنى أن الفن يجب أن يكون فوق الأخلاق لا يخضع لها، ولا يأتمر بأمرها، بل نرى أن الفن إذا لم يتصل بالأخلاق الفاضلة اتصالًا وثيقًا لم يكن فنًّا طيبًا فإن وظيفة الفنون إنما هي إثارة العواطف النبيلة. فالنظرية التي تقول: إن الفن الذي يثير الشهوة ومنازعها وميولها وأهواءها معرض للذة ومبعث للسرور نظرية غير صحيحة نهايتها إثارة الشعور المادي، والشهوات المادية في غير جمال. والفن الصحيح ما مثل الحياة الصحيحة التي يقتضيها الخلق، والأدب الذي يغذي الشهوات وحدها أدب وضيع. والفن إذا مثل حياة الإنسان إنما يمثلها لتظهر قوة الإنسان الروحية، وبيان احتماله ومقاومته للشرور. والفن الراقي هو الذي يلهم الإنسان المعاني الشريفة ويوسع نظره للحياة، ويكون مبعث قوة لملكات الإنسان.

إن كثيرًا من الروايات تصف ظروفًا وأحوالًا تبعث في النفوس هياجًا عصبيًّا حادًّا غير مشروع ولا منظم، وهي لا تبعث إلهامًا شريفًا، وإنما تثير الشهوات وتفتح الطريق أمامها في غير هدوء واعتدال. وليس هذا غاية الأدب الراقي وإنما غايته أن يحرك العاطفة والشعور في حالة صحية حقة، والروائي الناجح في نظرنا من يقوي روحنا، ولا يترك عواطفنا ومشاعرنا في حالة هياج وفزع ينتهي بالسقوط والتدهور. نعم، إن هناك مقياسين متميزين: مقياسًا أدبيًّا، ومقياسًا خلقيًّا. فالمقياس الأدبي إنما يقيس الفن بما فيه من فن، سواء وافق الأخلاق أو لم يوافقها، ولذلك يفضل أبو نواس على تبذله أبا العتاهية مع زهده وورعه، لأن الناحية الفنية عند أبي نواس أرقى من الناحية الفنية عند أبي العتاهية. أما مقياس الخلق فيقدر الأدب بمطابقته للخلق، أو عدم مطابقته. والحق أن كليهما يجب أن يتخذ مقياسًا في دائرته، فالمقياس الفني في التقويم الأدبي، والخلقي في التقويم الخلقي، ولكن من الناحية الاجتماعية يجب أن يخضع الفن للخلق لا العكس، وخير أدب ما عد راقيًا من ناحيته الفنية، وراقيًا من ناحيته الخلقية.

كتب كاتب ناشئ في الأدب إلى أديب كبير يسأله ما يجب أن يصنع، فقال له: «اكتب في الموضوع الذي تهتم به كثيرًا، ونصحه بأن يكتب ما يعتقده الحق من غير نظر إلى أي شيء آخر» ولكن هذه النصيحة ينقصها نصيحة أخرى، وهي ألا يكتب إلا بعد ما ينظر إلى ما يترتب على عمله من نتائج، فليس كل حق يقال، وليس الحق يقال للناس جميعًا في أدوار حياتهم.

ونعود بعد ذلك إلى الرواية فنجد أنها هي الفن النثري الوحيد الذي لا تنطبق عليه الصفة العامة للنثر من أنه منفعي الغاية، ومن أن ميزتيه الأساسيتين المنطق والوضوح.

•••

أما نثر الصحافة فيلزم فيه أن يكون واضحًا متدفقًا، لأن دائرة الصحافة أوسع يقرؤها المثقف، وغير المثقف، فإذا كانت غامضة المعاني، بطيئة الأسلوب، ملّها القارئ وزهدها، كما يلزمها أن تثير مواضيع معاصرة جذابة لتستهوي القارئ لقراءتها، وكما يلزمها أن تثير مشاعر وطنية قومية، وهذا إنما يكون في الصحف السياسية.

وللصحافة مهمة أخرى، وهي أن تثقف القارئ بالسياسات الخارجية والأحداث العالمية، ثم هي تغذي القارئ بكل ما يطرأ من أحداث.

فإذا أثيرت مشكلة عالمية أمدت القارئ بما يلزمها من إيضاح، وما تقتضيه من إحصاء. والناظر إلى أسلوب الصحافة العربية وموضوعاتها اليوم وعند نشوئها، يرى فرقًا كبيرًا في الموضوع والأسلوب عندما نشأت، وما عليه اليوم، انتشارًا وتثقيفًا، وإلهاب مشاعر.

•••

وقد جد في الأيام الأخيرة قسم هام في النثر، وهو نثر أحاديث الإذاعة، وهو أقرب ما يكون إلى المقالة، غير أنه يمتاز عنها بسهولته ووضوحه. ذلك لأن المتحدث في الإذاعة يجب أن يراعي جمهور السامعين، وفيهم الجاهل والمتعلم، والمثقف وغير المثقف. ويجب أن يراعي أحط أنواع السامعين وأرقاهم، وهذا يقتضيه أن يبسط موضوعه ويبسط أسلوبه، والمتحدث الماهر من يخلب ألباب السامعين بموضوعه وأسلوبه، ويأخذ بيدهم ويرقيهم معه، لا أن ينزل إلى الحضيض معهم، وهو واجب ثقيل دقيق يحتاج إلى مهارة فائقة.

•••

والآن نرجع إلى موضوع هام، وهو دراسة العناصر الأساسية للأسلوب، سواء كان نثرًا أو شعرًا.

ولنبدأ بالكلمة، والكلمة هي المادة الخامة للتعبير، وليس بصحيح أن اختيار الكلمات المفردة هو أول خطوة في الإنشاء، فالأديب لا يختار الكلمات ثم بعد ذلك يجمعها في قطعة من النثر أو الشعر كما يختار البناء الأحجار ثم يجمعها بعد ذلك في منزل أو قصر، بل إن الأديب يبدأ العمل الإنشائي بفكرة عامة عن الموضوع أو بعضه، كما تسبق فكر المهندس المعماري عمل البناء، ثم إن الأديب أيضًا لا يصمم فكرة عامة قبل البدء في العمل كتصميم المهندس، ولا يختار الكلمات كما يختار البناء الأحجار إلا إلى حد محدود. ولكن الأديب مع ذلك وخاصة الأديب الناثر يفكر قبل أن يكتب أو حين يكتب في الكلمات والعبارات والجمل، وكلماته هي رأس ماله، وهو حين يكتب يختار الكلمات، إما بلا شعور أو بشعور باطن، وبعض الأدباء الناثرين أو الناظمين يختارون كلماتهم بعناية فائقة، كما كان يفعل زهير في حولياته، وآخرون لا يعنون كثيرًا باختيار الكلمات على الإطلاق. وفي بعض أنواع النثر أو الشعر قد يختار الأديب كلماته، ويلائم بينها بدقة كبيرة. فحين يكون المثل الأعلى للأديب المنطق والوضوح، فإن حرية الأديب في اختيار الكلمات وفحصها تكون على أقلها، لأنه يكون أسير المنطق والوضوح أكثر مما هو أسير كلمات، فالفكرة تستولي عليه ويكون مثله هو الوضوح لا تزويق الألفاظ.

وهناك بعض الأدباء مثلهم الأعلى هو الدقة والضبط والإتقان ومتى قصد إلى الدقة يجب عليه اختيار كلمة معينة بدل أخرى مثلها، والأديب الذي يريد الدقة يرغم على أن يتخير الكلمات بكل اعتناء وبطء وجهد، حتى يلائم بين الكلمات والمعنى الدقيق الذي يريده.

والحد الذي تصل إليه حرية الأديب في اختيار الكلمات يعتمد على التجربة الفردية للفنان. وفي النثر يكون التأثير للكلمات المفردة أقل، والتأثير الأكبر إنما هو للعبارات والجمل. أما في الشعر فهناك تأثير كبير للكلمات في جمالها أو غرابتها أو اندفاعها. وهنا نتساءل؟ ما هي المبادئ التي يجب أن نتخذها مرشدًا حين نفحص مفردات الأدب؟ وما هي الأصناف التي تقسم إليها الكلمات؟

فأولًا، يمكننا أن نبحث كلمات الأديب أطويلة هي أم قصيرة، وكثيرة المقاطع أم قليلتها، والكلمات القصيرة عادة أخف على السمع وعلى اللسان من الكلمات الطويلة، وقلما نجد كلمة طويلة تلائم الشعر. أما في النثر فالأمر على العكس، فمعدل الكلمات الطويلة أكثر. ومن الصعب أن نصل إلى رأي نهائي عام في طول الكلمات في النثر وقصرها. وعند بعضهم تفوقت الكلمات الطويلة وعند البعض الآخر تفوقت الكلمات القصيرة، ولكن على العموم أكثر النثر العربي قصير الكلمات.

في الشعر والنثر معًا نجد أن الفخامة تستدعي الكلمات الطويلة. ويجب أن نفرق بين الفخامة والجلال، وكلاهما صورة من صور العظمة، فالفخامة تتعلق بظواهر العظمة، وأما الجلال فيتعلق بباطنها، والأسلوب الجليل لا يحتاج إلى طول الكلمات، أما الأسلوب الفخم فهو الذي يحتاج إلى الطول.

والفلسفة والعلم يستدعيان كمية كبيرة من الكلمات الطويلة، لأن الفلاسفة والعلماء مضطرون إلى استعمال مصطلحات أكثرها طويلة المقاطع.

وثانيًا، يجب أن نبحث عما إذا كانت كلمات الكاتب غريبة أو مألوفة، واستعمال الكلمات المألوفة يأتي عادة من الرغبة في الموضوع وفي الإفهام السريع، وهذا من أعظم المثل في الأدب وأنبلها، لذلك ينتظر أن يكون الكتاب المنفعيون مألوفي الكلمات، أما الميل إلى استعمال الكلمات الغربية النادرة فينتج من الرغبة في الفخفخة، وهي رغبة أقل قيمة من القوة والنبل.

وقد أولى دارسو الأدب هذه المسألة عناية كبيرة، فأرسطو مثلًا اعتقد أن مفردات الكلمات في الشعر يجب أن يكون فيها عدد كاف من الكلمات غير العادية لحفظ أسلوبه من أن يكون عاديًّا مألوفًا، وألا تكون هذه الكلمات كثيرة إلى حد يجعل أسلوبه غامضًا مبهمًا.

ومما يختلف فيه الشعر عن النثر أيضًا، أن الشعر يحوي كلمات أثرية تقوي التأثير، فنجد الشعراء يستعملون كلمات قديمة أثرية لها جلال وفخامة، ولها تأثير أعظم من الكلمات الحديثة بسبب تاريخها الطويل، وذلك مثل: «ألقى الكلام على عواهنه» و«ألقى الحبل على الغارب»، و«قفا نبك» ونحو ذلك.

وفي النثر يقل تأثير الكلمات المفردة عنها في الشعر، ويرجع نقاء الأسلوب إلى انعدام ثلاثة أشياء: التظاهر بالعلم، وتقليد الكاتب لغيره، والتزويق المتكلف. وإذن فالأسلوب الجيد هو الذي ينشئه صاحبه دون أن يحاول التظاهر بعلمه أو يحاول تقليد كاتب بعينه أو أن يحاول الصفة المتكلفة والزخرف الزائد.

وكثير من النثر نثر أناني، أو يصح أن نسميه نثرًا خياليًّا كنثر المقالة وما يصح أن نسميه النثر الشعري، وفي هذا النثر تلعب الكلمات الغريبة دورًا هامًّا مشروعًا.

ويجب هنا أن نشير إلى موضوع على جانب كبير من الأهمية، وهو استعمال الكلمات العامية في الأدب. والكلمات العامية، وهي كلمات معتادة مألوفة، كثر استعمالها على ألسنة العوام، وحين يستعملها الأديب بين كلماته قد يكون لها نفس التأثير الذي للكلمات النادرة الغريبة، وكل أسلوب غرضه الرئيسي التأثير في القارئ له ميل إلى قبول العامية، لأن العامية مألوفة وسريعة الفهم، والكاتب الذي يتشوق إلى أن يؤثر في قارئه يهمه أن تكون كلماته مألوفة وسريعة الفهم. وأشد الأساليب استعمالًا للعامية أسلوب الصحافة وأسلوب الروائي المشهور.

والكلمات في تطور مستمر، فكثير من الكلمات العامية تصبح بمرور الزمن كلمات صحيحة جديرة بالاستعمال في الأسلوب الأدبي، وليس هناك قاعدة عملية عامة توضع كمرشد في مثل هذه المسائل إلا مهارة الأديب ولباقته.

والأديب يُطلب منه مطالب متعددة، فيُطلب منه أن يكتب كلامًا مألوفًا بدون رغبة في التظاهر بالعلم، ويطلب منه مع ذلك أن يكتب بنقاء وعظمة وجمال، ويطلب منه خصوصًا إذا كان صحفيًّا أو روائيًّا أن يكون جذابًا ممتعًا مؤثرًا، ولا يوصله إلى ذلك كله إلا اللباقة الدقيقة الصافية، ومن أجل ذلك يضطر أحيانًا إلى استعمال الكلمات العامية، ويجب في هذه الحالة أن يتساءل عن هذه الكلمات العامية هل هي ارتفعت عن العامية المبتذلة، وهل هي كلمات جديدة تعبر عن شيء جديد لم يوضع له اسم بعد، وهل هي جميلة على الأذن، وهل هي تستدعي خاطرة نبيلة، وهل هي تعبر تعبيرًا بسيطًا مضبوطًا، وهل الأسلوب يستلزم استعمالها حقًّا، وهل لا يمكن لكلمات فصيحة أن تقوم مقامها؟

ومن مميزات الشعر ميله إلى استعمال الأسماء المشخصة والكلمات المعنوية، وأعني بها الكلمات التي تعبر عن شيء لا يرى بالحواس، فالشعر يشخصها أي يستعملها كأنها أشخاص ترى وتهمس كما يتحدث عن الحرية والعدل والفضيلة، ويخاطبها.

والصفات قد تكون غريبة أيضًا، وقد تكون مألوفة، فإذا وصفنا البحر بأنه أزرق فهذه صفة مألوفة، أما إذا قلنا البحر جائع فهذه صفة غريبة، ولا يبرر استعمالها إلا رغبتنا الأدبية الخاصة، كأن نريد وصف طغيان البحر على الشواطئ واكتساحه ما عليها، وبعض الصفات جميل يستثير فينا شعورًا جماليًّا قويًّا إما بجمال جرسها وصوتها أو بجمال صورتها الذهنية. وجمال الصفة قلّ أن نجده في النثر، إلا أن يكون نثرًا شعريًّا وفي كل النثر غالبًا نجد أن الجمال لا يرجع إلى الكلمات المفردة بل إلى التركيب جميعه.

وبعض الكلمات قد لا يكون له جمال، ولكن يكون له قوة، والقوة هي الصفة الأدبية التي تنتج عاطفة قوية، وليس من الضروري أن تكون سارّة مفرحة، وأمثال هذه الصفات كثيرة في الشعر، وربما كان المتنبي أكثر استعمالًا للكلمات القوية.

ومما يمهر فيه الشاعر ويدل على حسن ذوقه أو قبحه اختيار أسماء الأحلام من أسماء أشخاص أو أمكنة، فهو إذا كان ماهرًا اختار الأسماء التي تدل على جاذبية جميلة، كليلى وعزة وهند وبعض أسماء الأعلام لا نملك أنفسنا من الشعور بأنها قبيحة وغير ملائمة للشعر كبوزع.

وكما أن في الألفاظ المفردة جمالًا وقبحًا، كذلك في الألفاظ المركبة التي تسمى جملًا جمالًا وقبحًا، وقد يحدث أن كل لفظ مفرد يكون جميلًا، ولكن إذا ركبت هذه الألفاظ بعضها مع بعض لم تكن جميلة كذلك كالوجه يكون كل عضو منه جميلًا، ولكنه ليس جميلًا ككل، وكالباقة من الزهر تكون كل زهرة فيها جميلة، ولكنها لما نسقت لم تكن جميلة، وكحبات الخرز تكون كل منها جميلة؛ فإذا ألفت عقدًا لم يكن العقد جميلًا. وتسمّي هذا جمال الانسجام، وقد عبر عن ذلك الأقدمون بقولهم: «ولكل كلمة مع صاحبتها مقام».

بل قد تكون كلمة غيرها أجمل منها، ولكن الموضع يقتضي ذلك الذي هو أقل جمالًا، كالذي قلناه من قبل في قوله تعالى: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ فكلمة جائرة أو ظالمة أجمل من ضيزى، ولكن ضيزى في موضعها في الآية أجمل من جائرة أو ظالمة، لبناء سورة النجم كلها على الألف، وقبلها قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ.

والأديب ذو الذوق السليم يتذوق الألفاظ ويتذوق تركيبها، ويختار من الألفاظ للجمل ما يحسن في ذوقه. فلو سمعت قول أبي الطيب:

فلا يبرم الأمر الذي هو حالل
ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم

نفر ذوقك من كلمتي حالل ويحلل. وكان يكون أحسن لو قال:

فلا يبرم الأمر الذي هو ناقض
ولا ينقض الأمر الذي هو مبرم

فإنها إذا ذاك لا يكون قلقًا ولا نافرًا، وإذا سمعت قول دعبل:

شقيقك فاشكر في الحوائح إنه
يصونك عن مكروهها وهو يخلق

فإن الشطر الأول نابٍ قلق، والشطر الثاني جيد مسبوك.

ومن الانسجام أيضًا الذي أدركه البلغاء التوافق بين الجمل ومعانيها، فإذا كان المقام مقام قوة وبطش، وكانت المعاني شديدة ناسب أن تكون الألفاظ قوية كأنها الحجارة. وإذا كان المعنى رقيقًا وديعًا، وجب أن تختار له الجمل الرقيقة الوديعة وهكذا.

وبعد دراسة الكلمات ندرس الأسلوب ككل؛ أي من حيث جمله وتراكيبه.

فحين ندرس الأدب من وجهة الشخصية نشعر بأهمية الأسلوب. وقد يظن الكثيرون أن عنصر الأسلوب في الأدب لا يعني به إلا المتخصصون، وهذا خطأ كبير، فلكل إنسان أسلوبه سواء كان متخصصًا للأدب أو غير متخصص، ولكل أديب مشهور أسلوبه، ولا بد أن كلًّا منا في وقت ما قرأ قطعة نثرية أو شعرية دون أن يذكر معها اسم مؤلفها، فقال لنفسه: لا بد أن يكون كاتب هذه القطعة أو قائل هذه القصيدة فلانًا. وفي مثل هذه الحالة لا تكون فكرة القطعة هي التي عرفتنا قائلها، وإنما عرفتنا به الطريقة التي عبر الكاتب بها عن هذه الفكرة، فإن للقطعة ميزة خاصة كنبرة الصوت نعرف صاحبها بها جيدًا. ومهما تكن الفكرة عادية مألوفة فنحن واثقون من أنه لا يمكّن أحدًا آخر أن يصنعها في مثل هذه الطريقة، فاختيار الكلمات، وانسجام العبارات وترتيب الجمل، وما لها من موسيقى خاصة، كل هذا يختص بذاتية الكاتب، وقد لا يكون في الشيء الذي يقال كثير مما يميزه ويجعله فريدًا، ولكن الرجل قد وضع نفسه فيه برغم ذلك.

وهذا كاف لإثبات أن الأسلوب في أوسع معانيه صفة من صفات الشخصية، أو كما قال بفن في عبارته المشهورة: «إن الأسلوب هو الرجل» وحين قال بعضهم: إن الأسلوب لباس الفكرة، قد عجز تمامًا عن أن يدرك طبيعته الأساسية؛ لأنه فهم الأسلوب على أنه شيء خارج عن الإنسان يمكنه أن يرتديه أو يخلعه. والأسلوب ليس ثوب الكاتب، بل هو جلده، ومن أجل ذلك استطاع بعض المهرة أن يؤلفوا قطعًا شعرية أو نثرية يقلدون فيها الأدباء والكتاب، ويقفون فيها على خصائصهم، فتكون القطعة كأنها حقًّا صادرة منه، وقد أتقن بعضهم هذا الباب فنشروا نماذج منها في الجرائد الهزلية، وهناك بالطبع كتَّاب قد صاغوا أقوالهم في قالب أسلوب رجال أقوى منهم، وحبسوا أنفسهم على أن يقلدوهم في ميزاتهم، ومع ذلك لا يزال الفرق بينهم كالفرق بين المقلَّد والمقلِّد، ولا يزال أسلوبهم ينضح بشخصيتهم، بل إن أقوى الرجال وأشدهم ابتكارًا يتأثر تأثرًا عميقًا بغيره ويحمل أسلوبه. وإذا كان الإخلاص هو المبدأ الأساسي للأدب الحق وجب أن يكون كل كاتب معروفًا بأسلوبه الخاص، وطريقته الشخصية بطريقته الخاصة. والفكرة التي هي من ذاته لن تسمح لنفسها بأن تتشكل في قالب أسلوب لرجل آخر، وحتى لو قلد الكاتب العظيم غيره فإنه نظرًا لمزاجه الخاص لا بد أن يدخل نفسه فيما قلد فيه. وكل روح حسب ما قيل تبني منزلها الخاص. وميزة الأديب العبقري استخدامه الخاص للغة، فبينما الكثيرون يستعملون اللغة كما يجدونها إذا بالرجل النابغة يخضعها لأغراضه، ويصوغها تبعًا لميزاته، فتزاحم الآراء وتتابعها والأفكار والعواطف والخيالات والتأملات تبحث عن قالب يناسبها تصب فيه.

ولدراسة الأسلوب طريقتان: أولاهما من ناحية شخصية الأديب، والثانية من الناحية التاريخية كيف تطور الأسلوب من شيء إلى شيء، وهناك طريقة ثالثة في دراسته هي طريقة دراسة الصنعة، أو الطريقة البلاغية. وليست أهمية هذه الطريقة مقصورة على المتخصص دون القارئ العادي، وقد وضع لنا الخبيرون قواعد للعناصر التي يجب توافرها لتكوين أسلوب جيد، فهناك العناصر الفكرية، وهي الصحة الناتجة عن الاستعمال الصحيح للكلمات، والوضوح الذي ينتج عن الوضع الصحيح لها، وانسجام بين الشيء والذي يقال فيه، والكيفية التي يعبر بها عنه وهكذا. وهناك العناصر العاطفية وهي القوة والجدة والإيحاء، وليس يعبر الكاتب عن فكره فقط، بل عن عاطفته أيضًا مثيرًا في نفس قارئه عواطف وانفعالات مماثلة لعواطفه وانفعالاته، وهناك العناصر الجمالية من موسيقى وروعة وسحر تجعل الأسلوب لذيذًا في حد ذاته بصرف النظر عن الفكرة، وكل هذه المسائل من اختصاص البلاغي، ولكن البلاغي يدرس الأسلوب كمجرد أسلوب، فيحلل عناصره ويدرس مزاياه وعيوبه دون أن يهتم بعلاقته بالشخصية التي وراءه، أما دارسو الأدب فلا يفعلون ذلك، بل يعنون بتعرف العلاقة بين الصفات الفكرية والعاطفية والجمالية لكتابة أي إنسان وبين الصفات الشخصية لعبقريته ونفسيته.

وقد سبق أن تكلمنا عن الأسلوب من حيث هو عنصر من عناصر الأدب الأربعة، فارجع إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤