الرواية

هناك أشياء مختلفة يحسن أن نميز بينها، فهناك القصة والرواية Novel والمسرحية Drame فلنصطلح على أن نسمي القصة ما كانت قصيرة، والرواية ما كانت طويلة، والمسرحية ما كانت رواية تمثيلية، فمن الناحية التاريخية كانت المسرحية تسبق الرواية لأنها نشأت قبلها، ولكننا هنا سنعكس الترتيب والزمن فندرس الرواية أولًا، وواضح أن المسرحية والرواية تتكونان من عناصر واحدة.

والرواية مدينة بوجودها لاهتمام الرجال والنساء في كل مكان وزمان بالرجال والنساء وبالعواطف الإنسانية والسلوك الإنساني، وقد كان هذا الاهتمام من أكبر الدوافع للأدب، والمسرحية ليست أدبًا خالصًا، بل هي فن مركب يتكون من الفن الأدبي والإخراج المسرحي والأداء التمثيلي وبهذا تختلف عن الرواية لأنها مستقلة عن هذه الفنون الأخرى.

والمسرحية تعتمد أيضًا على الملابس والمناظر وجميع الأشياء الأخرى المساعدة على العرض التمثيلي، والرواية لتخلصها من هذه القيود تكتسب حرية في الحركة واتساعًا ومرونة لا يمكن أن تصل إليها المسرحية، وهذا أحد الأسباب التي أدت إلى أن تحل الرواية محل المسرحية، وكذلك نجد اختلافًا أساسيًّا بين الرواية والمسرحية، وهو أن المسرحية أشد صور الفن الأدبي إجهادًا، والرواية النثرية أسهلها، فالمسرحية تستلزم تدريبًا طويلًا على الصنع ومعرفة كاملة بالمسرح، بينما يستطيع أي إنسان أن يكتب رواية إذا كان لديه القلم والحبر والورق وقدر من الفراغ والصبر، ومن أجل ذلك كان من السهل نسبيًّا وضع قوانين للمسرحية، ولكن يصعب ذلك في الرواية.

ومع ذلك يمكن وضع بعض القوانين للرواية. فالرواية أكثر مرونة وحرية، ولنذكر الآن موجزًا للعناصر الرئيسية التي تتكون منها الرواية، وهي تفيدنا أيضًا في الحكم على المسرحية.

الرواية أولًا تتناول حوادث وأعمالًا، وهي ما نسميه بالتصميم، وثانيًا: هذه الأحداث تحدث لناس يفعلونها ويقاسونها، وثالثًا: تخاطب هؤلاء الناس.

والناس الذين في الرواية يسمون الأشخاص، وحديثهم يسمى الحوار، والحوار عنصر مرتبط أشد الارتباط برسم الأشخاص، وهذه الحوادث تحدث والأشخاص يعملون ويتحاورون في زمان ما ومكان ما، وهذا يكون عنصر الزمان والمكان. ثم إنهم يتكلمون بأسلوب خاص، وهذا هو عنصر الأسلوب، ويبقى بعد ذلك عنصر أخير، سواء أدركه الكاتب أو لم يدركه، وهو عرض الكاتب رأيًا ما في الحياة ومشاكلها.

فالتصميم والأشخاص والحوار، وزمن الحوادث ومكانها والأسلوب والفلسفة الصريحة، أو الضمنية عن الحياة، هذه كلها هي العناصر الرئيسية للرواية النثرية جيدة أم رديئة، وسنهمل عنصر الأسلوب لأنه عام في كل أنواع الأدب، وقد شرحناه من قبل.

التصميم

وكل أديب يستطيع أن يجد موضوعًا للرواية مما يشاهده أو يقرؤه أو يسمع عنه من أحداث لأي ناحية من نواحي الحياة. والروائي الكبير من كانت تصميماته لها قيمة ذاتية في نفسها، ومعنى إنساني صادق، ولا يتناول الشئون التافهة التي تقع فوق السطح، بل يتناول العواطف والصراعات والمشاكل التي مهما اختلفت صورها فهي تنتمي إلى الماهية الإنسانية، فالرواية العظيمة هي التي تهتم بالأشياء التي تجعل الحياة نشيطة جياشة ذات قيمة أخلاقية، والرواية قد تكون كذلك، وهي مستمدة من أبسط قصة ومن أوضع الناس، كما تكون كذلك في الحركات العظيمة في التاريخ والبطولة، وليس معنى هذا أن الرواية يجب أن تقتصر على أنواع المآسي في الحياة، بل إن هزل الحياة له أهمية عظمى كالمآسي، وإنما نعني أن الرواية لا تكون عظيمة حقًّا إلا حين تضرب بدورها إلى مدى واسع عميق في الأشياء التي تتعلق بنا أشد تعلق وأدونه في صراعات إنسانية. ومن مهمات الرواية أن تقدم للإنسان المتعة في ساعات الفراغ، وتقدم شعورًا بالخلاص من قيود الشئون العملية، وأية رواية تؤدي المهمة في هذا السبيل تكون قد أدت واجبها بشرط أن تكون هذه المتعة صحيحة وقوية وسليمة، وتكون مهارة الروائي في تصوير الأشخاص وفكاهتهم، أو أية صفة أخرى تكفي في رفعها إلى درجة عالية في الأدب الروائي، ولو كانت ناقصة من النواحي الأخرى.

أهمية الأشخاص

ونرجع إلى المبدأ الأصلي في كل الأدب وهو أن الرواية لا يمكن أن يكون لها شأن عظيم إلا إذا اتصفت بالصدق، أعني أن يكتب الروائي روايته في فهم ودقة، في موضوع يعرفه تمام المعرفة.

وقد فسر هذا المبدأ بأن الروائي يجب أن يقصر نفسه على ميدان علاقته الشخصية ولا يتجاوزه، ولذلك انتقدت بعض الكاتبات الروائيات بأنهن يحاولن أن يكتبن مثل ما يكتب الرجال، ومن وجهة نظرهم بدل أن يكتمن من وجهة نظرهن، ولهذا مدحت الكاتبة الروائية (جان أوستن) لأنها كانت تقصر كتابتها على ما كانت تعرفه شخصيًّا، وكانت تصف الرجال من جهة نظر النساء، ومحاورتها تدور بين النساء والرجال وقل أن يكون ذلك بين الرجال وحدهم.

وهذا المبدأ لا يتبعه إلا الأقلون، والخروج من هذا المبدأ غلطة يقع فيها الكتاب الناشئون، فيكتبون في موضوعات لا يعرفونها معرفة تامة، كأن يكتبوا عن البحر وهم لم يركبوه، أو عن الصيد وهم لم يصيدوا، أو عن المصايف وهم لم يصيفوا، وعند بعض الأفراد ملكة تجعلهم يتخيلون في صحة وصدق ما لم يروا، وهذه ميزة اتصف بها شكسبير، فقد كان يستطيع أن يصف في دقة طباخ الملك في القصر ومشاعره وهو لم يره قط.

وهنا نتساءل عند كل رواية نقرؤها هذين السؤالين: هل هي رواية جديدة وشائقة، ثم هل هي تحكي بطريقة جيدة فنية؟ ومعنى هذا أننا نتطلب من الرواية أن تكون جيدة من نوعها وبكيفيتها الخاصة، وأن تكون محبوكة حبكة ماهرة لا يبدو فيها ثغرات ولا تهافتات، وأن أجزاءها تتلاءم وتتوازن وتتناسق، وحوادثها تبدو كأنها طبيعية تنشأ وحدها من غير تكلف، وأن تعطي الحوادث قيمة بحسب أهميتها، وأن يكون الروائي ماهرًا في القص، وهي موهبة أندر مما نظن، ونستطيع أن ندرك ذلك من الناس الذين يقصون القصص على الموائد والمجالس، فإنا قلّ أن نجد بين المتحدثين ماهرًا في القصص، وهي موهبة ليس لها علاقة بثقافة المتحدث، فقد يكون الروائي مثقفًا ثقافة محدودة، ومع ذلك يكون في استطاعته أن يقص القصة بطريقة طبيعية سهلة مشوقة، وهناك من هم أعظم ثقافة، ولكنهم فقدوا هذه الملكة فكان قصّهم ثقيلًا قابضًا للصدر.

وعلى العموم فأداء الرواية غير الملائم يضيع كثيرًا من الرواية ومن المسرحية.

التصميم المفكك والتصميم المحكم

يمكننا أن نميز بين نوعين من الرواية، فبعض الروايات لها تصميم مفكك، والأخرى محكم. ففي الحالة الأولى تتكون الرواية من عدد من الحوادث قد جمع بعضه إلى بعض دون علاقة منطقية، أو بعلاقة ضعيفة.

فالرواية إذ ذاك لا تعتمد على سير الوقائع، بل تعتمد على شخصية البطل الذي يكون المركز الرئيسي للرواية، فيجمع كل العناصر المتفرقة في شخصه، وتكون الرواية في الواقع تاريخًا لمخاطرات متنوعة تحدث لفرد في مجرى حياته أكثر منها تصميمًا للوقائع المنتظمة المترابطة التي تقربنا كل خطوة فيها إلى النتيجة النهائية. فقد تكون كل مرحلة منها مترابطة، ولكن ليس بين هذه المراحل معًا ترابط، وذلك كمجموع مقامات بديع الزمان الهمذاني، ومقامات الحريري، وفي هذا النوع ليس بضروري أن يكون الكاتب قد وضع تفاصيل روايته مبدئيًّا، بل يكفيه أن يكون في ذهنه فكرة عامة عن المجرى الذي ستتخذه، ثم يدعها تتدرج وحدها في خلال سيرها.

أما في روايات التصميم المحكم فلا تنفصل الوقائع بعضها عن بعض، بل تضم بعضها إلى بعض على صورة محددة. ففي هذه الحال تكون لدى الكاتب فكرة عامة قبل البدء في كتابة الرواية، ولا بد أن يدرس بالتفصيل المشروع بأكمله وأن ينظم الأشخاص والحوادث حتى تكون في أماكنها الصحيحة، وأن يرسم الاتجاهات المتعددة التي ستتلاقى في الخاتمة.

ولكن هذا التمييز بين نوعي التصميم ليس تمييزًا دقيقًا تامًّا، فقد يكون في روايات التصميم المحكم مقدار كبير من المادة المفككة، وقد يقترب النوعان تمامًا في بعض الروايات. ويجب ألا نعتقد أن الرواية المحكمة أسمى فنًّا من الرواية المفككة، بل قد تكون الرواية العظيمة حقًّا من النوع المفكك، والرواية التي يكون تصميمها محكمًا معرضة لنوعين من الضعف. فقد تكون أحكمت بطريقة آلية تسبب عدم الارتياح لما تجده من الصنعة المصطنعة، وقد ينقصها الإقناع في التفاصيل، وذلك بأن يسيء الكاتب استخدام عامل المصادقة. فقد ترى في بعض الروايات أن جميع أنواع الأشياء غير المتوقعة تحدث مفاجأة، ويوجد الرجال والنساء المطلوبون في المكان المطلوب من غير سبب يدعو إلى وجودهم في ذلك الوقت. وقد يدافع بعضهم عن استخدام عامل المصادفة في الرواية بأن المصادفات كثيرًا ما تحدث في الحياة الواقعة، ولكنه دفاع ضعيف لأنه إذا صح ما يقولون من أن الحقيقة أغرب من الرواية، فمعنى ذلك أن الرواية يجب ألا تكون في غرابة الحقيقة. وعلى العموم يجب في تصميم الرواية أن يسير سيرًا طبيعيًّا ويكون خاليًّا من الصنعة والتكلف.

التصميم البسيط والتصميم المركب

تصميم الرواية إما أن يكون تصميمًا بسيطًا أو مركبًا أو أن يكون متكونًا من قصة واحدة فقط، أو قصتين فأكثر. وقانون الوحدة يقتضي في التصميم المركب أن تكون الأجزاء مترابطة، ويفقد التصميم المركب عادة جودته إذا كانت الرواية مؤلفة من قصتين أو أكثر ليستا متداخلتين تداخلًا صحيحًا.

وأخيرًا يجب أن تكون أجزاء الرواية، أو الروايات متوازنة لا يطغى جزء منها على الآخر.

وهناك ناحية أخرى في دراسة التصميم، وهي أن الروائي له الاختيار بين ثلاث طرق، الطريقة المباشرة والطريقة الشخصية، وهي أن يتحدث القاص على لسان شخص آخر وطريقة الرسائل. ففي الطريقة الأولى يكون المؤلف مؤرخًا يقص عن الخارج، وفي الثانية يكتب في لهجة المتكلم متخذًا لسان أحد أشخاص الرواية، وفي العادة يكون هذا الشخص هو البطل أو البطلة، وفي الطريقة الثالثة نعرض الوقائع المتعددة واليوميات، وأحيانًا تتعاون الطرق الثلاثة. ولكل طريقة مزاياها، فالطريقة المباشرة تسمح بحرية السير وسعة المجال، والطريقتان الأخريان أكثر صعوبة، ولكنهما تمتعان أحيانًا متعة أدق وأحب. والأفضل أن تتجنبا إلا إذا نجحتا نجاحًا يعوض متاعبهما. ففي الطريقة الشخصية قد يخفق الروائي في أن يعرض كل مادته في دائرة معرفة المتكلم وقوته، وقد يخطئ النغمة الشخصية وطريقة الرسائل معرضة حتى في يد الفنان الماهر إلى أن تكون جافة غير مقنعة، وفي دراستنا للرواية من أحد هذين النوعين يجب أن نتساءل دائمًا لماذا اختار المؤلف هذه الطريقة، وإلى أي حد نجح في عمله؟

التشخيص أو تصوير الأشخاص

ننتقل الآن من التصميم إلى التشخيص، فنسأل هل نجح الروائي في جعل رجاله ونسائه حقيقيين، وهل هم يتمتعون بحياة حقة؟ والروائي الماهر من تغلبت أشخاصه واستولت عليه، وجعل القارئين والناظرين يعرفونهم ويتعاطفون معهم ويحبونهم أو يكرهونهم، كما لو كانوا ينتمون إلى عالم اللحم والدم، وأول شيء نتطلبه من الروائي أن يكون رجاله ونساؤه متحركين في روايته كأنهم مخلوقات حية، وأن يبقوا في أذهاننا بعد أن ندع الرواية جانبًا وننسى تفاصيلها.

وعند بعض الروائيين عبقرية في خلق أشخاصهم حتى إنهم يستغربون شخصيات رواياتهم كما يستغربها الناس. فهي قوة خفية، وقد قال بعضهم: «إنني لا أضبط أشخاص بل هم الذين يضبطونني ويأخذونني حيث يريدونني». فالروائي وهبهم حرية الاختيار والاستقلال، وبذلك أصبحوا خارج دائرة نفوذه فتكلموا وعملوا بشعورهم الخاص، وقد ينتجون نتائج غريبة غير منتظرة، ويفرق بين الكاتب ذي العبقرية الخالقة وبين المقدرة المجردة. فالأخيرة تصيغ نتيجتها دائمًا في دائرة المجهود الاختياري الواعي، أما الأولى فتمنح لصاحبها منحًا من غير أن يعرف من أين أتت.

ونلاحظ أن نجاح الروائي في التشخيص يعتمد إلى حد ما على قدرته على الوصف الفوتوغرافي: فأداء الممثل وتفسيره لدوره يرينا هيئة الشخصية التي يمثلها وأثوابها ومظاهرها وحركاتها، ولكن في قارئ الرواية تكون كل هذه الأشياء من عمل الخيال وحده، ولذلك يكون جزءًا هامًّا من عمل الروائي أن يساعد في الوصف على أن يحصل على إدراك الأشخاص وتصرفاتهم.

الطريقة التحليلية والطريقة التمثيلية في التشخيص

نجد أن الرواية تسمح باتخاذ نوعين متعارضين من التشخيص: الطريقة المباشرة، أو التحليلية، والطريقة غير المباشرة أو التمثيلية. ففي الأولى يصور الروائي أشخاصه من الخارج ويحلل عواطفهم ودوافعهم وأفكارهم وإحساساتهم، وكثيرًا ما يصدر أحكامه عليهم. أما في الطريقة الثانية فيقف على الحياد ويسمح لأشخاصه أن تكشف عن نفسها بواسطة الكلام والحركة، ويجعلهم يعبرون عن نفوسهم بما يضعه في أفواه الأشخاص الآخرين من تعليقات عليهم وأحكام. وطبيعة الرواية تسمح باستخدام هاتين الطريقتين ولكن ليس دائمًا، ففي الرواية التي اتبعت فيها الطريقة الشخصية، أو طريقة الرسائل يكون عرض الشخصيات مقصورًا على الطريقة التمثيلية، ولكن يمكننا أن نقول على وجه العموم: إن مجرد تكوين الرواية من القص والحوار يتضمن جمعًا بين الطريقة التحليلية والتمثيلية. ومن الدراسة اللذيذة دراسة صنعة روائي معين كيف يستخدم هاتين الطريقتين وكيف يعادل بينهما، وفي العادة نجد كل روائي تغلب عليه طريقة خاصة، وأكثر الروائيين السيكلوجيين يستخدمون طريقة التحليل المباشر. والنقد الحديث يشجع الطريقة التمثيلية، لأن هناك مبدأ صحيحًا، هو أن الشخصية يجب أن تكشف نفسها أكثر مما تحلل من الخارج، وإذا استخدم الروائي طريقة التحليل استخدامًا دائمًا وفي كل المواقف فإن ذلك يرجع إلى نقص عنده في المعنى والقوة الروائيين، ولكن ليس من اللازم المبالغة في تفضيل الطريقة التمثيلية دائمًا، والرواية بطبيعتها تسمح للروائي أن يكون بناؤه للشخصية وتحليله لها سائرين جنبًا إلى جنب، فسعة فراغه تمكنه من أن يصور الشخصية تصويرًا متدرجًا متمهلًا، فيبدأ برسم صورة رئيسية يصور ما فيها من احتمالات، ثم يتتبع سير هذا الشخص إلى الأعلى أو إلى الأسفل تحت تأثير الناس الآخرين والأحوال المحيطة والتجارب الشخصية وكل ما يدخل كعامل مكون في حياته.

وأخيرًا يجب أن نلاحظ أنه في تقديرنا العام لتصوير أي روائي لشخصياته يجب ألا نهمل تقدير سعة مجاله أو ضيقه، فكلما كان مجاله أوسع كان تقديرنا له أعظم، وكل روائي يكثر من كتابة الروايات ويتناول مدى واسعًا، لا بد أن يكون له موضع قوة وموضع ضعف، وكلاهما يلقي ضوءًا كثيرًا على الصفات الأساسية لعبقريته وفنه. وطريقة ذلك أن تحلل تحليلًا دقيقًا الطبقات المختلفة للأشخاص الذين يكونون شخصيات الروايات وبذلك نكشف عيوبها ونعرف ميزتها.

التشخيص والخبرة بالحياة

إن ما قلناه من قبل من وجوه الإخلاص والخبرة الشخصية في تصميم الرواية يقال أيضًا في تشخيصها، فالروائي يكتب أحسن ما يكتب إذا كان لديه معرفة تامة بموضوعه وخبرة صادقة بالدنيا، وإهمال هذا المبدأ قد سبب إخفاقات كثيرة حتى عند أعظم الروائيين. فلا بد من حصول الروائي على معلومات خاصة عميقة عن عادات ما يكتب عنهم وأحاديثهم ومعرفة واسعة بالطبيعة الإنسانية عامة، وعمق النظر إلى دوافعهم وعواطفهم.

وهناك علاقة بين التصميم والأشخاص، ففي الحديث العادي نميز بين نوعين من الروايات، فروايات تكون الأهمية فيها للأشخاص، بينما الوقائع ليست إلا إشارات إليها، وروايات تكون الأهمية العظمى فيها للوقائع، بينما الأشخاص لا يستخدمون إلا لإحداثها، وهذا التمييز ليس محدودًا على إطلاقه، ولكنه مفيد في بيان قيمة كل من الشخصية والواقعة، والتشخيص على العموم أكبر قيمة في الروايات من التصميم، ولذلك كانت الروايات التي تهتم بالأشخاص أسمى من التي تعتمد على الحوادث.

وقد تتعارض مطالب التصميم ومطالب التشخيص، فإذا ما بذلت العناية للتصميم أرغمت الأشخاص على أن تكون في خدمته، وإذا ما بذلت العناية للتشخيص فإن الشخصية كثيرًا ما تعوق التصميم. وما قدمناه يقودنا إلى مبدأ هام جدًّا، وهو أن الطريقة الصحيحة لعلاقة التشخيص بالتصميم أن تكون أسباب الحوادث صادرة عن الصفات الشخصية للأشخاص أنفسهم، أما الطريقة الخاطئة فهي أن نُعْنَى بكل واحد وحده من غير أن نجعل كلًّا منهما يعتمد اعتمادًا منطقيًّا على الآخر.

والروائي يجب أن يُعنى بالدوافع، وأن يقدم تفاصيل مرضية عن أسباب الحوادث المتفرقة، وأن يقنع الروائي بأن أشخاص روايته يتصرفون تصرفًا طبيعيًّا ملائمًا للوقائع الناتجة، وأنهم يتخذون اتجاهًا معينًا في التصرف مناسبًا لشخصياتهم.

الحوار

والحوار إذا أدى في الرواية أداء جيدًا كان من أمتع عناصر الرواية، فهو الجزء الذي يقترب فيه الروائي أشد الاقتراب من الناس، ويزيد في حيوية الرواية المكتوبة، وهو على قدر عظيم من الأهمية، وله قيمة عظمى أيضًا في عرض الانفعالات والدوافع والعواطف، والحوار في يد الروائي الذي يميل إلى الطريقة التمثيلية يحل محل التحليل والتعليق، ويجب توافر شروط في الحوار، فأولًا يجب أن يكون عنصرًا منتظمًا في الرواية يخدم سير الحوادث، وتصوير الأشخاص وعلاقتهم مع الحوادث. أما الحوار الدخيل فمهما يكن بارعًا أو ممتعًا، فإنه يجب أن يطرد كما يطرد الدخيل الغريب. وثانيًا يجب أن يكون طبيعيًّا ملائمًا للرواية ومتصلًا اتصالًا وثيقًا بشخصية المتكلمين، وملائمًا للموقف الذي يعرض فيه، وأخيرًا أن يكون سهلًا وحيويًّا وممتعًا، وهذه الشروط كلها تحتاج إلى مهارة.

وهناك خطر يتعرض له الروائي، وهو أن يكثر من التكرار والثرثرة والألفاظ الحادة، وهناك خطر آخر وهو أن يجعل الروائي الحوار في روايته المقروءة كالحوار في المسرحية.

الفكاهة في الرواية

ويجب أن يكون الروائي قويًّا في فكاهته وعاطفيته ومأساته، فالفكاهة هي ما يستثير الضحك، والعاطفة ما تستثير العاطفة الرقيقة، والمأساة ما تستثير الانفعال الحاد الحزين، وهناك روائيون ضعيفو الفكاهة قويو العاطفية، وآخرون بالعكس وغيرهم يتقن الانفعالات القاسية، وقلّ منهم من يجيد الحالات المختلفة ويستثيرنا إلى الحزن أو العطف أو الرعب. وهذه الملكة وإن بدت بسيطة عند النظرة الأولى فإنها في الحقيقة مسألة صعبة، فيجب أن يتساءل القارئ هل أحسن الروائي في استخدام هذه العناصر في روايته أم أساء.

والفكاهة من أعظم مواهب العبقرية، ومن أشد العوامل التي تحفظ عمل الروائي سليمًا صحيحًا ممتعًا، وقد يساء استخدامها حين نستخدم في التشهير والعيب والفضيحة أو حين تستخدم للسخرية بدل استخدامها للعطف.

والفكاهة من أعظم العوامل النافعة الفعالة في تهذيب الطباع، وهي تعتمد على روح الروائي وأدائه، فهو إذا كان ماهرًا أضحك على أشياء غير تافهة ولا قاسية، ويجب ألا يبالغ ويجعل القارئ أو الناظر يستلقي على قفاه بل يكون ذلك بقدر.

ومسألة ثانية وهي العواطف الأليمة فنحن نستمتع بهذه العواطف الأليمة في عالم الفن، مع أننا لا نستمتع بها في عالم الواقع، وقد اختلفوا في تعليل ذلك من عهد أرسطو، ومهما كان السبب فالواقع هو أننا نستمتع بها.

ومع الأسف قد يساء استخدامها، فكما أن العاطفة قد يساء استخدامها فتصبح عواطف مائعة ضعيفة متخنثة، فكذلك العواطف الحزينة قد تستثار إلى درجة شنيعة دون سبب منطقي كاف.

وليس من الممكن وضع مبادئ عامة للذوق في هذه المسائل، فقد تنتقل العواطف بخطوات قليلة من عواطف صحيحة إلى عواطف مريضة. وكذلك من الصعب وضع حد بين الرعب المشروع وغير المشروع، وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن نلاحظ تأثير الرواية فينا. فإذا تلاشى هذا التأثير بعد الفراغ من قراءتها أو النظر إليها فوجدنا أننا كنا مخدوعين إذ استثارت منا عواطف قوية دون سبب قوي كاف، دل هذا على فشل الروائي، ولذلك فنيت هذه العواطف بعد قليل.

أما إذا استمرت زمنًا طويلًا بعد قراءة الرواية، دل ذلك على مهارة الروائي.

العنصر الاجتماعي

وعنصر آخر للرواية وهو العنصر الاجتماعي والمادي، أو بعبارة أخرى عنصر الزمان والمكان اللذين تمت فيهما حوادث الرواية، وهذا العنصر يتضمن البيئة الكاملة للقصة والعادات والتقاليد، وطرق المعيشة التي تدخل فيها.

وبعض الروائيين في الرواية الحديثة يصورون تصويرًا كاملًا الحياة كاملة في عصر من العصور لا برواية واحدة، ولكن بمجموع روايات فيمثلون مثلًا حضارة أمة من الأمم في عصر من العصور في كل مرافقها ومظاهرها، ولكنهم قليلون، وكثير منهم خصص نفسه لجانب واحد، أو جانبين كروايات البحر، وروايات الحياة الحربية، وروايات الطبقة العليا والطبقة الوسطى أو السفلى، وروايات الحياة الصناعية والتجارية أو الفنية أو العملية، ونحو ذلك.

خصصت بعض الروايات للمكان فوجدت روايات تختص بأقاليم خاصة وبنوع خاص من الناس في مكان ما.

ووجدت روايات تاريخية ترمي إلى الجمع بين المتعة التمثيلية، وبين شرح ظواهر مختلفة لحياة قوم في عصر من العصور. كتصوير النهضة الإيطالية، ولا تقتصر هذه الرواية على الحياة الظاهرة، بل تتعداها إلى الحركات الثقافية الممتازة والصراع الروحي.

ومن الضروري أن نلاحظ العلاقة القوية بين التصميم وبين البيئة. ومتعة الروايات التاريخية تنحصر في تصويرها الحيوي للحياة في عصر ما، وهذا هو المبرر لوجود الرواية التاريخية. ومهمة الروائي هنا أن يستخدم الخيال الخالق في الحقائق الجافة التي يرويها المؤرخ العلمي. وهذه ملكة عند بعض القصاص تمكنهم من إيضاح عصر ما منظورًا دون استخدام معلومات جافة، وتجعل القارئ العادي عالمًا بهذا العصر.

وهناك نقطتان هامتان يجب أن نوضحهما:
  • الأولى: أن الرواية التاريخية يجب أن تكون صادقة في حكاية الحوادث الواقعية التي جرت في أيامها، ويجب أن تصور تصويرًا أمينًا عادات العصر ومزاجه. فلا تجعل مثلًا هارون الرشيد يجلس في مجلس مضاء بالكهرباء، أو أن يتحدث مع جعفر البرمكي بالتليفون، وكالذي وقع للمؤلف الروائي الإنجليزي سيرولتر سكت، إذ جعل في إحدى رواياته شكسبير يؤلف روايته «حلم في منتصف ليلة صيف» في زمن لم يكن شكسبير فيه يزيد عن سن الحادية عشرة.
  • والأمر الثاني: أن معنى أهمية الصدق في الرواية التاريخية أن يتحمل الروائي مسئوليات المؤرخ العلمي، ويجب في وقت واحد أن يرضي مطالب التاريخ ومطالب الفن.

ومن الناحية المادية يجب أن يستخدم الروائي الطبيعة استخدامًا صحيحًا كأنه وسام للمناظر الطبيعية، لكن يجب أن نتذكر أن الروائي مثل الشاعر إذا عرض لمناظر طبيعية كمّلها بخياله، وربطها ربطًا محكمًا بقصته، إما بوسيلة التعارض أو بوسيلة التعاطف.

فوسيلة التعارض هي أن يجعل موت البطل العظيم مثلًا في يوم صحو باسم، كأن الطبيعة لا تعنى به، ولا تحزن لموته، كالتي قالت:

فيا شجر الخابور مالك مورقًا
كأنك لم تجزع على ابن طريف

ووسيلة التعاطف أن يجعل موته في يوم غائم عابس كأن الطبيعة قد حزنت لموته، وأكثر هاتين الوسيلتين استعمالًا هو جعل الطبيعة منسجمة مع الحوادث، أو مع الحالة النفسية للأشخاص.

أما التعارض فيستخدم على معنى السخرية، وعدم مبالاة الطبيعة بأفراح الإنسان وأحزانه، كقوله:

والشمس كاسفة ليست بطالعة
تبكي عليك نجوم الليل والقمر!

وكما نجد كثيرًا في أشعار ذي الرمة إذ يمثل لنا إذا صدت حبيبته عنه كأن كل شيء حوله في الوجود باكٍ حزين، ووسيلة التعاطف أسمى وأكثر إنسانية من وسيلة التعارض.

النقد الروائي للحياة

إن الرواية أول ما تهتم، تهتم بالحياة وبالرجال والنساء وعلاقاتهم، والأفكار والعواطف والانفعالات والدوافع التي تحكمها وتسيطر عليها بأفراحهم وأحزانهم، وصراعهم ونجاحهم وفشلهم. وإذا كان موضوع الروائي هو الحياة من جانب واحد، أو عدة جوانب فلا بد للروائي أن يستخدم قصته كأداة لنظرياته وآرائه في الحياة، وحتى ما كان من أبسط أنواع الروايات، فإن التحليل الدقيق يدلنا على ما للروائي من نظرات إلى الحياة مهما كانت نظراته تافهة، كما تدلنا على فلسفته في الحياة. والفرق بين روائي وروائي، هو الفرق بين فلسفة جديدة عميقة وفلسفة تافهة، والروائيون العظام يمتازون بفكرة في الحياة، وخبرة بها وتناولهم للحقائق، ومشاكل التجربة الشخصية، عدا حكمتهم الناضجة التي يستخدمونها في رواياتهم. وهذه التجارب والفلسفات تتخلل الرواية ولو من غير قصد، فما يعتقد الروائي عن الحياة سوف يقوده إلى قوله، سواء كان شاعرًا بذلك أو غير شاعر، ويتجلى ذلك في تصميمه للرواية، وتناوله لشخصياته.

ويستطيع الروائي أن يعرف نقده للحياة وفلسفته فيها بطريقتين: الأولى أن يعمل عمل المؤلف المسرحي فيفسر الحياة بعرضها فقط، والطريقة الثانية أن يشرح فلسفته مباشرة بذكر الوقائع ومناقشة الأشخاص، فيتكلم عن المسائل الخلقية التي تعرض لأشخاص.

والناقد يختبر القصة من ناحيتين: من ناحية صدقها، ومن ناحية أخلاقيتها، فصدق الرواية ليس هو الصدق الذي تتطلبه الأخلاق. وقد أدرك الفرق في ذلك أرسطو، فبين أن أعمال الخيال العظيمة فيها شيء اسمه الصدق الشعري، كنكتة ساخرة رويت، وقد قال بعضهم: إن كل شيء في الرواية صادق إلا الأسماء والتواريخ، وكل شيء في الدنيا كاذب إلا الأسماء والتواريخ.

ولكن هذه العبارة مهما كانت مبالغة فإنها توضح نوع الصدق الذي تقوم عليه الرواية.

وفي الرواية نوع من الواقعية ونوع من المثالية، قال (جوته): «إن عمل الفنان يكون واقعيًّا فيما هو فعله نفعي، ومثاليًّا فيما لا يكون واقعيًّا أبدًا.» وعلى الرغم مما بين الروائيين والنقاد من التخاصم حول الواقعية والمثالية فسوف نرى أن كلتيهما إذا فهمت فهمًا صحيحًا كان لها ما يبررها، فإن الواقعية تنشأ من استمتاعنا برؤية القريب والمألوف، ومنشأ المثالية هو استمتاعنا بالبعيد غير المألوف، ولكلتيهما ظروف خاصة، فالواقعية يجب أن تمزج بالعنصر المثالي، والمثالية يجب أن تُنقذ من الشذوذ بمزجها بالواقعية.

والعنصر الأخلاقي في الرواية مهما قال النظريون بعدم مبالاة الرواية بالأخلاق، فإن الروائيين العظماء في العالم كانوا أخلاقيين، واهتموا كثيرًا بالمعاني الخلقية، ولكن يجب على الروائي ألا ينقلب واعظًا، وإذن يجب أن تبحث عن عنصر الأخلاق لا في الدروس المباشرة، بل في النقد العام للحياة وثنايا عرض الشخصيات والأعمال وشرحها. وغريزة حفظ النوع ترفض الفن الذي لا يفيد في تغذيتها الثقافية وقوتها الخلقية، فكل الفن العظيم يجب أن يكون أخلاقيًّا، وجهاد الجنس الإنساني في انتقاله من البربرية إلى المدنية هو محاولة واحدة مستمرة في سبيل الاحتفاظ بالأخلاق والتوسع فيها. ومن الواضح أن هذه الملاحظات تنطبق على الرواية النثرية والشعرية وليس من حق أحد أن يقول: إن الفن كفن ليس له شأن بالأخلاق، فالفن يصدر من الحياة ويغذي الحياة، وإذن فلا يمكن أن يهمل مسئولياته تجاه الحياة. ومن السخف التحدث عن الفنان كأنه يقف مستقلًّا عن الأخلاق.

الرواية التمثيلية (الدراما)

وبما أن الرواية والدراما تتكونان من نفس العناصر فإن مقدارًا كبيرًا مما يقال عن الرواية ينطبق على الدراما، وعلى ذلك فالمبادئ العامة التي وضعناها لدراسة التصميم والتشخيص والمحاورة والبيئة المكانية وتفسير الحياة في الرواية تصلح أيضًا في معظمها بالنسبة لنفس العناصر في القصة التمثيلية. وإذن ففي دراستنا للدراما سنجد أننا قد قمنا بكثير من هذه الدراسة سابقًا، وقد أجبنا عن كثير من المسائل وخاصة مسائل التقدير، ولكننا قلنا أيضًا بعد ذلك إنه برغم أن الروائي والمؤلف التمثيلي عناصر عملهما واحدة، فإنهما يعملان تحت ظروف مختلفة جدًّا، ولهذا السبب يصدران مادتهما في طريقتين مختلفتين. ومن هنا نشأ الاختلاف العظيم بين الرواية والدراما في كل شيء يتصل بالصنعة، وهذا الاختلاف هو نقطة بدايتنا في هذا الفصل. وسندرس المسائل الأخرى فيما بعد، وهي وإن كانت متضمنة في تحليل الرواية كما هي في الدراما، فقد أخرنا دراستها حتى الآن لأنها تكون أفضل في الفهم في هذا المكان من دراستنا، ولكن اهتمامنا الآن سيكون ببعض العناصر الأولية من الدراما كنوع خاص من الفن الأدبي.

من المهم في البداية أن ندرك أن ما نسميه مبادئ التكوين الدرامي وقوانين الصفة الدراسية تنتجها وتفرضها المطالب التي تضطر الدراما إلى الخضوع لها بسبب ظروف وجودها. الملحمة القديمة كانت تنشأ للإنشاد، والرواية الحديثة تكتب لتقرأ، وأما الدراما١ فتخطط لغرض العرض بواسطة الممثلين الذين يشخصون أشخاص قصتها، والذين تتوزع بينهم الحكاية والمحاورة. وإذن فبينما الملحمة والرواية تقصان وتخبران إذا بالدراما تقلد بالحركة والكلام. وظواهر تكوين الدراما يجب أن تحدد وتشرع بالرجوع إلى الضرورات الأساسية التي يتطلبها هذا التقليد. وعلى ذلك نجد ميزة كبيرة للاسم القديم للدراما وهو القطعة المسرحية Stage-play لأنه يساعدنا على تذكر هذه النقطة دائمًا وعلى تذكيرنا بأن الفن الأدبي للدراما تتحكم فيه ظروف تمثيلها المسرحي.

الدراما كقصة مسرحية

برغم أن كل قارئ للدراما والرواية يعرف معرفة نظرية الاختلافات الأساسية في الصنعة بين الفنيين، فهو لا يعرف ما لهذه الاختلافات من تأثير عملي في تكوين كل منها، ولذلك يجب أن نوضح ذلك توضيحًا تامًّا.

والرواية تحتوي في ذاتها على كل شيء لها، أي أنها تحتوي في دائرتها الخاصة على كل شيء رآه الكاتب ضروريًّا لإدراك عمله وتقديره. وأما الدراما فهي حين تصلنا في صورتها المطبوعة وحين نقرؤها كأدب كما نقرأ الرواية لا تكون محتوية في ذاتها على كل شيء فيها، فهي تتطلب في كل مكان فيها معاونة العناصر الخارجة عن ذاتها، وهذه العناصر لا تكون موجودة فيها وهي على تلك الصورة، فما نقرؤه لا يزيد كثيرًا عن أن يكون تخطيطًا تقريبيًّا أراد أنه يملأ بواسطة فن الممثل وعمل الإخراج المسرحي، وعلى كونه أساسًا أدبيًّا لهذا العرض المسرحي حسب فيه حساب الأداء الكامل لتخطيطه، ولذلك ففي قراءتنا المجردة لقصة تمثيلية نتعرض لمصاعب وأخطار معينة، إذ كثير من تأثيرها علينا معرض لأن يضيع لنقص هذه الأشياء التي تخاطب الخيال مخاطبة مستمرة، كالأوصاف والشروحات والتعليقات الشخصية التي تساعدنا في الرواية على أن نرى المناظر ونفهم الناس ونقدر العوامل وندرك المغزى الأخلاقي للحوادث. ولهذا السبب يكون فهم القصة التمثيلية والاستمتاع بها كقطعة من الأدب يستلزم منا مطالب أعظم بكثير مما يقتضيه منا فهم الرواية وإدراكها، إذ يجب علينا أن نمد أنفسنا بالظروف الخارجية التي تستمد منها كثيرًا من حياتها، والسير الكامل للأداء الفعلي. وبدل أن نعتمد على الممثل نعتمد على أنفسنا في الإدراك والتفسير، وعلى ذلك يجب أن يكون خيالنا حاضرًا إلى درجة أن كل منظر يصبح مرئيًّا كأننا نراه يمثل أمامنا، ونحن في قراءتنا العادية للروايات المسرحية نغفل أشد إغفال هذه الأمور التي هي على بساطتها عظيمة الأهمية، ونحن نهمل ذلك بنوع خاص حين ندرس دراسات شكسبير التي نعتقد أنها أدب خالص، وقلّ أن ننظر إليها في صفاتها البدائية كقصص تمثيلية كتبت لأجل الأداء على المسرح.

وعلى ذلك من اللازم أن نؤكد أننا في دراستنا لأي دراما يجب أن نبذل كل جهدنا لكي نخلق ظروفها ومحيطاتها المسرحية الصميمة، وبذلك نجعل قراءتنا الشخصية لها بديلًا صالحًا إلى أقصى درجة ممكنة عن الأداء المسرحي. والقصص المسرحية الحديثة تطبع، وفيها قدر كبير من الشرح الموجه إلى القارئ حتى يستعيض به عن أداء الممثل والمخرج، ففي دراسات إبسن Ibsen مثلًا نجد وصفًا تفصيليًّا للبيئة التي يحدث فيها كل منظر، ووصفًا لمظاهر الأشخاص وتعبيرات وجوههم ونبرات أصواتهم وحركات أجسامهم، ولو أن الطابعين الأوائل لدرامات شكسبير عملوا مثل هذا العمل لساعدونا كثيرًا على فهم طبيعة الأداء المسرحي في أيامه أكثر مما نفهمه الآن.

اعتماد الدراما على ظروف المسرح

حتى الآن فهمنا الظروف العامة للعرض المسرحي، ولكننا أيضًا يجب أن نفهم الظروف الخاصة التي تتغير في الأزمان المختلفة فتؤثر على طرق الكاتب التمثيلي، وتعطي قالبًا خاصًّا لفنه واتجاهًا خاصًّا له. ونمثل لذلك بمثالين: المأساة الإغريقية، والدراما الشكسبيرية.

المأساة الإغريقية

من المستحيل أن نفهم الميزات التكوينية أو أن نقدر التأثير الجمالي للمأساة الإغريقية بدون معرفة حالة المسرح الأثيني، فالنظارة كان عددهم عظيمًا يزيد على عشرين ألف نفس، وخشبة المسرح ضيقة، والممثلون يلبسون ملابس ثقيلة تقليدية، فيضعون نعالًا غليظة محشوة لها كعوب عالية لكي يظهروا في هيئات البطولة، ويضعون فوق وجوههم دائمًا أقنعة مرسومًا عليها ملامح أعظم وأعرض من ملامح الرجل العادي. وهذه الحقائق الثلاث إذا أخذت معًا شرحت المبادئ البارزة المتعددة للدراما القديمة، وبخاصة خلوها من كل شيء يقارب الحركة الحرة السريعة أو الشخصية الفردية البارزة للمثل أو الصفة الواقعية، وكل هذا نجده في القصص التمثيلية الحديثة، فضيق خشبة المسرح حال دون مناظر الجماعات، ودون كل منظر يقتضي الاتساع والبعد، وابتعاد الممثلين عن النظارة جعل من المستحيل الإيماءات والإشارات المفصلة الدقيقة، ولما كان الإلقاء السريع والنبرات المنخفضة والنغمات المتبدلة أمورًا تضيع في هذا المسرح العظيم في الهواء الطلق، لذلك كانت اللغة المستعملة لغة بلاغية وليست لغة الحديث الواقعي. فكانت نوعًا ملائمًا لإلقاء الكلام كمحفوظات، وهذا يشرح ما تتميز به المحاورة الإغريقية من جمود وتحدد يختلفان عن هذه الحيل الماهرة في استعمال الكلمات والألفاظ في أسلوب شكسبير وغيره من أساتذة الدراما الإنجليزية. وملابس الممثلين الثقيلة المرهقة كانت ترغمهم على أن يتحركوا في خطوات محددة بطيئة، وعلى أن يتجنبوا كل حركة قوية مجهدة، بينما استعمال القناع حال دون كل محاولة لتغيير سحنات الوجه دليلًا على العواطف المتبدلة فظلت الملامح واحدة جامدة، وأصبح الأشخاص أشخاصًا نموذجيين للجنس أكثر منهم شخصيات فردية. كل هذه الحقائق تكفي لتوضح لماذا كانت ظروف العرض في المسرح الإغريقي غير ملائمة لعرض أعمال العنف والانفعال، ولعرض المعارك والمبارزات والحروب وجرائم القتل وأمثال هذه المناظر.

وهكذا نفهم كيف أن كثيرًا من الميزات الغربية للمأساة الإغريقية كانت نتائج مباشرة وضرورية لهذه الظروف الخاصة من العرض العام، وذلك مثل بساطتها المتناهية، والقالب البلاغي الذي لمحاورتها، وكون شخصيتها شخصيات نموذجية تقليدية، وليست فردية مستقلة، وخلوها من الحركة والسرعة. ولنذكر حقيقة أخرى ليس أشد غرابة على القارئ الحديث للدراما الكلاسيكية من وجود (الكورس Chorus)٢ فيها.

وقد سبب وجودهم الدائم أمام الممثلين هذه النتيجة الخطيرة: وهي أنه لما كان من المفروض أن الدراما تؤدى من أولها إلى ختامها أمام الكورس — وهم مجموعة من الشهود لا يتغيرون ولا ينتقلون من مكانهم ولا يغيبون — كان من الواجب على المؤلف أن يجعل قصته تحدث كلها في مكان واحد، وتحدث كلها في يوم واحد، ومن هنا نشأت وحدات الزمن والمكان وكانت قواعد مقررة للتكوين الدرامي.

الدراما الشكسبيرية

كان المسرح الإليزابثي مختلفًا تمامًا عن مسرحنا الحديث؛ ولذلك فمن المستحيل تمثيل روايات شكسبير كما كتبها وبترتيب فصولها الأصلي على خشبة المسرح الحديث؛ ولذلك نجد المخرجين يحدثون تغييرات كثيرة فيها، فيضمون مناظر بعضها إلى بعض، ويلغون مناظر إلغاء تامًّا، وسبب ذلك أن المسرح في عصر شكسبير لم يكن مسرحًا متحركًا، أي مسرحًا تتغير فيه المناظر كمسرحنا الحالي، بل كان خشبة بسيطة لا تتغير ولا يتبدل ما عليها، ويدخل الممثلون ويخرجون وتتعاقب المناظر دون أن تتغير، وتصور المنظر المطلوب يترك لخيال النظارة، فيتصورون في الخشبة تارة قصرًا، وتارة حجرة، وتارة شارعًا، وهكذا. دون أن يحتاج المخرج إلى عرض هذه المناظر حقيقة، وسبب ذلك أن كان المؤلف في حرية واسعة من الإكثار من مناظره كما يشاء، ما دام المخرج لن يتعب نفسه في تصويرها، وسبب ذلك كثرة المناظر في روايات شكسبير، وتتابعها في سرعة عظيمة إذ لم يكن الأمر يحتاج إلا إلى خروج الممثلين ودخول غيرهم، وبذلك يتغير المنظر بلا حاجة إلى تغييره فعلًا. أما في المسرح الحديث الذي لا تتبع فيه هذه الطريقة، والذي يصور كل منظر تصويرًا فعليًّا، فإن إخراج هذا العدد العظيم من المناظر وبتلك السرعة أمر عسير، بل هو أحيانًا مستحيل؛ ولذلك يلجأ المخرجون المحدثون كما قلنا إلى ضم المناظر بعضها إلى بعض أو إلغاء بعضها.

وعلى هذا الضوء نفهم كثيرًا من مميزات الدراما الشكسبيرية، فهي لا تهتم مطلقًا بالبيئة المكانية، ولا تُعنى بوحدة المكان وهي تحتوي على كثير جدًّا من المناظر الثانوية التي تفكك التصميم وتسبب حيرة كبيرة للمخرجين المحدثين، والتي قد لا تُرضي الآن ذوقنا الذي تعوّد في الدراما الحديثة على التركيز واختصار المناظر وحصر الانتباه في عدد قليل منها، وغير هذا من الأمور. ومن الحقائق المسرحية التي أثرت في تكوين درامات شكسبير أيضًا أنه كان المسرح خاليًا من الستار، ولذلك كان إذا انتهى المنظر فلا بد أن يخرج كل أشخاصه لكي يدخل أشخاص المنظر الجديد، إذ ليس من ستار يسدل عليهم ثم يرتفع فيرى النظارة الأشخاص الجدد، فكان النظارة يشاهدون بأنفسهم خروج الممثلين؛ ولهذا ترى كل منظر في درامات شكسبير ينتهي بأن يخرج جميع الأشخاص، ولكن هذا ليس شيئًا هامًّا. وأهم منه أن الستار الآن يؤدي نفعًا عظيمًا للمؤلف، فإنه يستطيع به أن يختم منظره عند أي نقطة يرغبها بمجرد إسدال الستار، وهذا نافع في اللحظات الرائعة التي تبلغ فيها الدراما أقصى تأثيرها وقتها، ثم يسدل الستار فيحتفظ ذلك بكل التأثير على النظارة. أما في درامات شكسبير فهذا مستحيل، لذلك لا بد أن يطيل الكاتب بعد بلوغه القمة الحقيقية لعظمة الفن التمثيلي لكي يحتال في إنهاء المنظر وإخراج الأشخاص من على الخشبة، وذلك يؤدي كثيرًا إلى إضعاف التأثير القوي على النظارة، ويضطر الكاتب إلى الإطالة المملة في كثير مما لا حاجة إليه بعد بلوغ المنظر إلى أحسن نقطة فيه.

من كل هذا نفهم كيف أن طبيعة الدراما تتأثر في عناصر تكوينها بطبيعة الإخراج المسرحي وضرورات الأداء التمثيلي.

التصميم في الدراما

في وضع المؤلف التمثيلي لتصميمه plot نجد مشكلة واحدة تضايقه، وليست تضايق زميله المؤلف الروائي، فالروائي يتمتع بحرية تامة في طول عمله، وبالتالي في كمية المادة التي يكون منها هذا العمل. وأما التمثيلي ففي كلتا النقطتين يتقيد بقيود شديدة قاسية، فالرواية ليست مرسومة لكي تقرأ خلال جلسة واحدة، بل يمكن القارئ أن يدعها ثم يأخذها ثانيًا كيف شاء وحين يحب، ومطالعتها قد تمتد إلى أيام وأسابيع، وليس من شرط ضروري إلا كون الروايات شائقة بحيث تحمله على أن يعود إليها حين تسنح له الفرصة. وأما القصة التمثيلية فعلى العكس من ذلك قد وضعت لكي تسمع في جلسة واحدة، ولما كانت القوة البدنية لاحتمال النظارة محدودة، وبما أنه حين تبلغ الدراما إلى هذا الحد يكون من المستحيل على أروع المناظر وأشوقها أن تجتذب الانتباه وتمنع السأم، لذلك كان القانون العملي الأول للعمل المسرحي قصره، فالدرامي إذن مرغم على أن يعمل في حيز فسحة محدودة جدًّا عن تلك التي يعمل فيها الروائي، ولذلك يجب عليه أن يركز مراده، ويلغي كل شيء ليس له ضرورة لازمة لغرضه، ويختار أهم الحوادث والمواقف، ويركز انتباهه عليها، وعلى هذا يمكن أن نقدر الفرق بين امتداد الرواية النثرية وبين قصر الدراما، ولذلك إذا أردنا تحويل رواية إلى دراما فالواجب اختصارها وتركيزها، حقًّا إن المؤلف التمثيلي يعاونه على تحقيق هذا القصد هذه الفنون الثانوية على المسرح، فكثير مما يجب على الروائي أن يشرحه يمكن الدرامي أن يدعه لأداء الممثل، بينما البيئة المسرحية تحرره من ضرورة الوصف اللفظي، ولكن برغم ذلك فمشكلة وضع مادته وضعًا واضحًا مؤثرًا في حدود الدائرة الضيقة التي يجب أن يخضع لها هي مشكلة لا بد أن تجهد مهارته في حلها، وعلى ذلك فأول انتباه نوجبه إلى تصميمه يكون إلى هذا الجانب منه. والتحليل سوف يرينا أنه بينما الروائي يحكي قصته في قصص مستمر متتابع يعالج علاجًا كاملًا كل مسألة تنشأ في طريق سيره وقت نشوئها، فإن المؤلف الدرامي يستبقي للمعالجة الكاملة عددًا من المناظر الهامة يضمها بعضها إلى بعض بحلقات القصة. ولكن القصص التمثيلية قد تختلف في هذه الناحية باختلاف ظروفها وأزمانها، فالدراما الحديثة أشد ميلًا إلى هذا التركيز والاختصار والضم، أما في درامات شكسبير كما شرحنا سابقًا فإن التصميم أكثر تفكُّكًا وتراخيًا.

التشخيص

إذا كانت الاختلافات بين الدراما والرواية في التكوين كبيرة فإنها أكبر في تصوير الشخصيات.

التشخيص في الدراما

يظن بعض الناس خطأ أنه بما أن المسرح يعتمد إلى حد كبير على الحركة فإن التشخيص أو تصوير الشخصية في القصة التمثيلية له أهمية ضئيلة. وهذا خطأ محض، وكل ما قلناه عن أهمية التشخيص في الرواية ينطبق على التشخيص في الدراما، قال المستر هنري أرثر جونس: «إن القصة والحوادث في العمل المسرحي إذا لم تربطا بالشخصية كانتا أشياء صبيانية وغير ثقافية. فإنها يجب أن تكون مظهرًا ثانيًا من مظاهر الشخصية.» وهذا قول صائب؛ فالتشخيص هو العنصر الأساسي حقًّا والباقي حقًّا في عظمة أي عمل درامي، ويكفي أن نرجع إلى شكسبير لنجد مثالًا مقنعًا، فليس من أحد يدعي أن مسرحياته مدينة بمكانتها الخالدة في الأدب إلى صفة تصميماتها، بل إن المتعة التي تحتفظ بحياتها هي متعة الرجال والنساء الذين فيها.

«وإن السبب في أن دراما ماكبث مأساة عظيمة وليست مجرد مجموعة من مواقف الرعب والفظاعة هو أن لبها ليس الجرائم التي يرتكبها ماكبث، بل هو شخصية ماكبث نفسه، وإن السبب في أن (تاجر البندقية) مهزلة عظيمة وليست مجرد مجموعة من السخافات الصبيانية، هو أن لُبّها ليس الأشياء التي تحدث، بل الناس الذين يحدثونها». وإذا اعتبرنا دراما هاملت بمجرد تصميمها فإننا يجب أن نعدها من بين هذه المآسي الفياضة بالدم، أو روايات الانتقام التي تخاطب الأعصاب القوية في الجمهور الإليزابثي بما فيها من قوة عنيفة وانفعالات فظيعة. ولكن شكسبير قد صنع من هذه المادة التي لا تبشر بنجاح دراما على أعظم قدر من الإمتاع، وقد صنعها كذلك بواسطة تنمية ما نسميه في لغة عصرنا بالعنصر السيكولوجي، وإن حيوية هذه الدراما لا تعتمد على شيء إلا على هذا العنصر السيكولوجي.

شروط التشخيص

الشرط الأول في التشخيص في الدراما هو كالشرط الأول في تأدية تصميمها ألا وهو الإيجاز. قد يقال في تبرير رواية أطول من اللازم: إن عرض الدافع والتصوير التام للشخصية يستدعي ويبرر تطويلًا وإسهابًا، أما الدرامي فإنه يجب أن يتناول الدافع والشخصية في داخل الفسحة الضيقة لمناظر أقل نسبيًّا، وفي خلال نفس الوقت يجب عليه أن يهتم بتدرج قصته، وأرى من اللازم أن أزيد انتباه القراء إلى هذه النقطة الهامة بالتأكيد في الشرح.

ويكفي أن نمثل لذلك بماكبث، فماكبث نموذج للإيجاز في تناول الوقائع، وأهم من ذلك أنها نموذج للإيجاز في تصوير الشخصية، وشخصية ماكبث وشخصية زوجته من أخلد الشخصيات التي صورها شكسبير، وقد اتفق النقاد على أنه قد أمدهما بالصدق وغرابة الحياة والحيوية، ولكن قد ندهش إذ نجد أن شكسبير لم يقل عنهما في الرواية إلا شيئًا قليلًا، ولم يجعلهما يتكلمان إلا قدرًا صغيرًا من الكلام، ومع ذلك فقد صورهما التصوير الكامل التام الوافي، ولذلك كانا المثل الرائع الأعظم للتركيز في تصوير الشخصية.

فالتركيز على ذلك صفة ضرورية في التشخيص الدرامي، وهو يستدعي لذلك التأكيد البارع الدقيق للصفات التي يجب أن تتضح أشد الاتضاح. وإذن فالحاجة في الدراما أشد منها في الرواية إلى أن يكون لكل كلمة من المحاورة معناها وفائدتها، ويجب أن لا يصور من الشخصية إلا الجوانب الهامة المتعلقة بمجموع القصة والشخصيات الأخرى.

الحياد الشخصي

شرط آخر أشد أهمية في التشخيص الدرامي هو ضرورة الحياد الشخصي، فهو يستطيع أن يختلط بنفسه بحرية برجال ونساء قصته، ويحللهم من الخارج ويصدر أحكامًا عليهم وعلى أفكارهم وعواطفهم؛ أما الدرامي فلا يستطيع أن يفعل هذا، فإنه مرغم على أن يقف محايدًا، وهذا من المميزات التي يتمتع بها الروائي ولا يتمتع بها الدرامي، وبخاصة حين توجد التعقدات في الشخصية والظلال الدقيقة للدافع والانفعال، فإذا أضفنا إلى هذا ما يتمتع به الروائي من الاستخدام الحر لسعة المكان وسعة الزمان أدركنا أنه يتفوق على الدرامي في ميدان التشخيص، وهذا من الأسباب التي أدت إلى اكتساح الرواية لمقام الدراما في عالم الأدب.

طرق التشخيص

وصلنا الآن إلى الفرق الأساسي بين التشخيص في الدراما والتشخيص في الرواية، ولذلك تنشأ مسألة طرق التشخيص الدرامي، فالدرامي محرم عليه أن يستخدم طريقة الروائي البسيطة في أن يجعل نفسه القائم بمهمة المفسر لرجاله ونسائه، والذي يخبرنا بما نحتاج إلى أن نعرفه عنهم، وإذن فكيف يؤدي الكاتب التمثيلي شخصياته إلينا! وكيف يصور لنا أشخاصه التي يرسمها؟ هو يفعل ذلك في طريقتين فقط بواسطة التصميم، وبواسطة أقوال أشخاصه.

الحركة

التصميم أداة هامة من أدوات التشخيص، ونحن عادة نخطئ فهم قيمته في التشخيص بسبب تعودنا الفصل بين الاثنين، فالحق أن الحركة تحتوي الشخصية وتتضمنها فخلال حركة القصة، وبنوع خاص خلال أزماتها ومواقفها الكبيرة نشعر بالصفات العامة الثقافية والخلقية للأشخاص الذين يشاركون فيها، نعرفهم بما يعملون، كما نعرف الشجرة بثمرتها، ويزداد هذا وضوحًا إذا تذكرنا ما قلنا عن الأهمية المتبادلة بين التصميم والشخصية، وفي الدراما الجيدة، كما في الرواية الجيدة يستقر التصميم في الحقيقة على الشخصية، فهو يتضمن كما قلنا أن عددًا من الناس لهم هذه النفسيات المعينة، وتحت إرغام هذه الدوافع والانفعالات المعينة قد اجتمعوا معًا في ظروف أنشأت تبادلًا من التأثير بينهم، وإذا كان كذلك فتدرج القصة بالضرورة يظهر نفسياتهم ودوافعهم وانفعالاتهم، وهي في الحق القوى الفعلية التي من وراء الحوادث التي تتألف منها القصة، ولذلك قال المستر جونس: «إن القصة والحادثة والموقف يجب أن تكون مظهرًا ثانيًا من مظاهر تدرج الشخصية». وقد كان «ديدرو» له عادة غريبة، هي أن يذهب إلى المسرح بعد أن يسد أذنيه حتى لا يسمع حديث الممثلين، وبذلك يحكم على القصة الممثلة من مجرد حركتها، ويمكن أن نقوم بنفس التجربة لكي نرى كيفية تصوير الحركة وحدها للأشخاص، وإذ ذاك سنرى أن الصفات العامة للأشخاص لا بد أن نعرفها وندركها إدراكًا صحيحًا لا يتطرق إليه الخطأ من مجرد أعمالهم، أما التفصيلات في هذه الصفات فبالطبع لا نعرفها إلا من المحاورة.

المحاورة

التصميم لا يدل من شخصيات الأشخاص إلى على صفاتها العامة، ثم هو لكي يدل على هذه الصفات العامة دلالة واضحة يجب أن يكون قويًّا بارزًا في تخطيطه وفي حركته التامة، وأن مواقفه النقدية تكون محددة تحديدًا جيدًا بحيث لا يمكن الخطأ في فهم معناها. وكل هذه الشروط تحققها الدراما الإنجليزية الرومانتيكية، أما عن تفاصيل التشخيص، وعرض الدوافع والانفعالات والعواطف في نموها وتعقدها وتضاربها فإننا يجب أن ننتقل من الحركة نفسها إلى المحاورة التي تصاحبها، وهذا يكون ألزم إذا كانت الدراما نفسانية تعنى بتحليل الدوافع الخفية المستترة في أعماق النفس، وهكذا تصبح المحاورة ذيلًا ضروريًّا للحركة، بل تصبح جزءًا داخلًا فيها، فالقصة تتحرك في خلال الكلام وتتضح مرحلة فمرحلة بواسطته، ولكن المهمة الرئيسية للمحاورة في الدراما كما هي في الرواية تتعلق كما قلنا تعلقًا مباشرًا بالتشخيص. فالمحاورة هي الأداة التي يستخدمها الدرامي للشرح والتحليل.

والمحاورة أداة من أدوات التشخيص عن وسيلتين: الأولى الأقوال التي يقولها الشخص عن نفسه في حديثه مع الآخرين، والثانية الملحوظات التي يقولها الآخرون عنه في الدراما.

فأما عن الوسيلة الأولى، فإن أقوال أي شخص في الدراما تقدم شرحًا دائمًا مستمرًّا على سلوكه وشخصيته، وحين يكون هذا الشرح ضروريًّا بنوع خاص فإننا نجد الحركة تتوقف في بعض المناظر وتستمر الأفكار والعواطف والعوامل في سيرها ونموها وتدرجها، وبذلك نجد ما يسمى (الكلام المجرد mere talk) أي الذي لا يحمل حوادث، ولكنه فقط يزيد في عرض الشخصية وتحليلها، ولكن يجب أن نحذر في الحكم على شخصية شخص من أقواله هو فقط، فهو قد يخفي صفاته الحقة ويحاول ادّعاء غيرها.

والمؤلف المسرحي في تصوير شخصيته قد يبدأ بأن يصور منها قليلًا من صفاتها ثم يأخذ يندرج في إكمال تصويرها قليلًا قليلًا حتى تأتي أزمة أو موقف خطير يوضح السر الكامل في حقيقة هذه الشخصية، والمؤلف الماهر قد يبدأ بأن يعرض كل الصفات الأساسية في أشخاصه الرئيسية، وهي الصفات التي يدور حولها التصميم، وهذه في العادة طريقة شكسبير.

هذه الوسيلة المباشرة يعاونها في تصوير شخصية الشخص ما يقوله عنه الآخرون في مواجهته أو بينهم وبين أنفسهم. ولكن في حكمنا على شخصية بما يقوله عنها الآخرون يجب أن نحترس ونتذكر أن ما يقوله عنها شخص آخر إنما يعبر أولًا عن نفس هذا الشخص وعن رأيه في تلك الشخصية وفهمه لها، وهو في ذلك متأثر بحبه لها أو كرهه إياها. وإذن فيجب ألا نأخذ حكمه حجة لا تناقش، بل نفهم قيمته الحقة والسبب الذي أدى إلى أن أصدره، ثم نقابله بما يقوله الآخرون عن نفس الشخصية، ومن كل ذلك نستطيع أن نحصل على ما يعيننا على الفهم الحقيقي لطبيعة هذه الشخصية.

حديث الفرد إلى نفسه

من أهم الوسائل التي يستعين بها المؤلف الدرامي على تصوير نفسية الشخص ما يضعه على لسان هذا الشخص حين يجعله يتكلم إلى نفسه منفردًا، والمؤلف الدرامي يستعين بذلك على التعمق بنا في المنابع الخفية لطبيعة الشخص، وعلى عرض هذه المنابع التي ينشأ عنها السلوك، والتي لا يستطيع أن يظهرها في المحاورة العادية. فإنه قد يكون من اللازم لكي نفهم شخصًا فهمًا تامًّا أن نعرف ما يجول في داخل نفسه من العوامل والأسرار التي لا يعبر عنها ولا يكشفها، وفي سبيل ذلك نجد الدرامي يجعل أشخاصه يتحدثون إلى أنفسهم بصوت عال؛ وهكذا نسمعهم، وحديث الفرد إلى نفسه Soliloquy كان وسيلة شائعة الاستعمال في الدراما الإليزبثية. وشكسبير يستعمله في دراماته كثيرًا، ولكن النقد في أيامنا هذه يعارضه معارضة شديدة ويكره استعماله في الدراما الحديثة، ويرى أن واجب الدرامي تجنبه، ولهذا اختفى حديث الفرد إلى نفسه من الدرامات الكبيرة المعاصرة، وبدلًا من ذلك يبيح النقد المعاصر حيلة يستعيض بها المؤلف عن جعله الشخص يتحدث إلى نفسه، وهي جعله يتحدث إلى صاحب أمين أو صديق مخلص له يصارحه بكل شيء فيكون في الحقيقة كأنه يخاطب نفسه. ولكن النقد يشترط في سبيل ذلك أن يكون لهذا الصديق دوره الحيوي واشتراكه الضروري في القصة التمثيلية.

ولكن يجب ألا نحكم على شكسبير بقواعد النقد المعاصر إذا رأيناه يكثر من استعمال حديث الشخص إلى نفسه، فهي كانت وسيلة مقبولة متبعة في العصر الإليزابثي، وشكسبير يستعملها بنوع خاص في شخصياته المعقدة الصعبة.

التقسيمات الطبيعية للتصميم الدرامي

لا نستطيع أن نمضي قدمًا في دراسة أي دراما إلا بعد معرفة شيء عن المبادئ العامة لتخطيط الدراما.

كل قصة درامية تنشأ من نوع من الصراع، أي اصطدام أفراد متعارضين أو عواطف متعارضة أو أغراض متعارضة، وفي أبسط أنواع القصة وأكثرها شيوعًا يكون هذا الصراع شخصيًّا محضًا، فيكون الاصطدام بين الخير والشر كما هما مجسمان في بطل القصة، ولكن قد يتخذ الصدام أشكالًا أخرى متعددة، فيكون الصراع بين البطل وبين القدر أو الظروف كما في «أوديب الملك». أو بينه وبين القانون أو تقاليد المجتمع كما في «أنتيچون». أو يكون الصدام بين البطل وبين القوى الخارجية المعادية مصاحبًا للصراع الداخلي الذي ينشأ في طبيعة الرجل نفسه، فيكون الرجل في حرب مع نفسه كما في «هملت» و«ماكبث» ونورًا في «بيت اللعبة» ومهما يكن من شيء فإن أساس التمثيلية نوع من الصراع، وبابتداء هذا الصراع يبدأ التصميم الحقيقي، وبانتهائه ينتهي التصميم الحقيقي. ولما كانت المتعة الأساسية للقصة بين هذين الطرفين مكونة من تدرج الصراع وتقلباته، فإن حركة التصميم ستتبع بالضرورة سبيلًا تام التحديد والانضباط، فالتعاقدات الناشئة من الصدام الابتدائي بين القوى المتعارضة تظل تتزايد حتى تصل إلى نقطة يكون فيها التحول النهائي إما هذا الجانب أو ذاك الآخر، وبعد ذلك يكون سير الحوادث متجهًا إلى الانتصار النهائي للخير على الشر أو للشر على الخير وإن تخلل ذلك بعض عقبات ثانوية. وهكذا نستطيع أن نتميز في أي مسرحية ما يسمى (الخط الدرامي dramatic line) ويتكون من:
  • أولًا: الحادثة أو الحوادث الابتدائية التي ينشأ عنها الصراع.
  • ثانيًا: حركة النهوض أو النمو أو التعقد وتشمل الجزء من الدراما الذي فيه يستمر الصراع يزداد في الخطورة بينما تظل نتيجته مبهمة.
  • ثالثًا: نقطة التحول، وفيها يحصل جانب من الجوانب المتعارضة على فوز وتغلب بحيث يضمن النصر النهائي.
  • رابعًا: حركة الهبوط أو الحل وتشمل جزء الدراما الذي يتكون من المراحل التي يسير فيها اتجاه الحوادث إلى هذا النصر النهائي.
  • خامسًا: الخاتمة أو الكارثة، وفيها ينتهي الصراع.

هذا هو التقسيم الطبيعي لتكوين القصة الدرامية أعني إلى أقسام خمسة، ولكن هناك التقسيم الآلي إلى فصول خمسة عادة، وفي هذا التقسيم الآلي تبدأ حركة النهوض أو التعقد في الفصل الأول وتستمر حتى الفصل الثالث، والفصل الثالث يحتوي عادة جنبًا لجنب مع جزء من التعقد على نقطة التحول وبداية حركة الهبوط، ويستمر الهبوط أو الحل في خلال الفصل الرابع والخامس، والتقسيم الطبيعي بما أنه طبيعي فهو مستقل عن كل تقسيم للقصة إلى عدد معين من الفصول. ففي الدراما الحديثة التي تتكون من أربعة فصول، وفي الدراما القصيرة من فصل واحد يظل يوجد هذا الخط الدرامي بكل أقسامه.

ولكن تحليلنا للتكوين الدرامي لا يزال ناقصًا؛ فبرغم أن التصميم الحقيقي للدراما يبدأ بابتداء الصراع فإن هذا الصراع ينشأ عن ظرف معين موجود من الأشياء وعلاقات معينة بين الأشخاص الذين سيصطدمون، ولذا لا بد من وجود هذا الظرف وهؤلاء الأشخاص. ولا بد إذن من شرح هذه العلاقات والظروف وإلا فإننا لن نفهم القصة، ولذلك يوجد قسم آخر من الدراما وهو المقدمة أو العرض، ويشمل الجزء الذي يقود إلى الحادثة الابتدائية ويمهد لها.

وقد تعوّد الكتّاب عن النظرية الدرامية أن يرسموا الخط الدرامي في خط بياني يكون له أشكال مختلفة ويكون عادة هرمي الشكل. فمنها هذا الشكل:

figure

وفي هذا الخط البياني يمثل:

  • (١)

    المقدمة أو العرض.

  • (٢)

    الحادثة الابتدائية.

  • (٣)

    نهوض الحركة إلى نقطة تحولها.

  • (٤)

    نقطة التحول.

  • (٥)

    الهبوط أو الحل.

  • (٦)

    الخاتمة أو الكارثة.

وهذا الرسم البياني لا يمثل إلا الدراما التي فيها تكون نقطة التحول في منتصف التصميم تمامًا، وبذلك تنقسم إلى قسمين متساويين كما في «يوليوس قيصر». وإذن فيجب تغيير هذا الرسم البياني لكي يمثل الحالات التي لا يوجد فيها هذا التوازن التام.

ففي «الملك لير» تبدأ نقطة التحول الحقيقية للتصميم في المنظر الأول، ولذلك يمثل الخط الدرامي لها بهذا الرسم:

figure

وفي عطيل لا تبدأ نقطة التحول إلا في المنظر الأول من الفصل الرابع، ولذلك تمثل الخط الدرامي لها بهذا الخط البياني:

figure

وقد انتشرت عادة استعمال هذا الرسم البياني الهرمي الشكل في دراسة الصنعة الدرامية.

والآن وقد درسنا ما هي التقسيمات الكبرى للقصة الدرامية ننتقل إلى اختيار هذه التقسيمات واحدًا فواحدًا وندرس في كل منها ما يحقق المطالب الرئيسية للعمل الدرامي الجيد.

المقدمة أو العرض Introduction or Exposition

غرض المقدمة أو العرض أن تمكن الناظر من كل المعلومات الضرورية للفهم الصحيح للدراما التي يشهدها، ففي البداية يجد الناظر نفسه أمام عدد من الناس يأمل أن يهتم بعد قليل بأحوالهم، ولكنه لا يعرف عنهم ولا عن حظوظهم الآن شيئًا، ولما كان من الضروري أن يعرف بأقصى سرعة ممكنة من هم وما هم وما هي العلاقات بين بعضهم والبعض قبل أن تبدأ الحركة، فإن المنظر الافتتاحي أو المناظر الافتتاحية في أي دراما يجب أن تكون مشغولة إلى حد كبير بالشرح والعرض. ومن المعروف في النقد المسرحي أن هذه المحاولة من أشق الاختبارات لمهارة المؤلف المسرحي، فمهما كانت قصته سهلة، فإنه سيلاقي في هذا البدء صعوبات شديدة، وتزداد هذه الصعوبات بالطبع بازدياد تعقد موضوعه وعدد أشخاصه، فيكون متحيرًا: بأي شيء يبدأ، فلديه عدد من الناس يعرفهم ويريد تقديمهم إلى النظارة الذين لا يعرفونهم، ومعرفة كل منهم تقتضي معرفة الآخر فبأيهم يبدأ؟

وقد اخترعت وسائل متعددة للتغلب على هذه الصعوبة، وأبعدها عن الطبيعة الدرامية الصحيحة جعل أحد الأشخاص يقوم بمهمة الشارح والمفسر، فيضع الكاتب على لسانه المعلومات اللازمة عن سائر الأشخاص، وأكثر هذه الوسائل فجاجة ما كان يتبعه يوريبيدس وسينيكا من تقديم الدراما بقصيدة منظومة تشرح الأشخاص، وكان المسرح الإليزابثي يستعمل كلامًا تمهيديًّا طويلًا مملًّا في كل دراما، وبعض قصص شكسبير فيها هذا التمهيد الممل أحيانًا على لسان هذا الشخص أو ذاك.

ننتقل من استئثار شخص بالقيام بمهمة المفسر إلى وضع الكاتب لهذا التفسير الضروري في شكل محاورة بين أشخاص مختلفين، ومن السهل جدًّا أن نميز بين ما هو محاورة حقًّا فيها الصفة الدرامية، وما هو حيلة مفضوحة فجة. فكل من شاهد المسرحيات تمثل يعرف هؤلاء الخدم الذين بينما هم منهمكون في تنفيض الغبار عن الأثاث، أو في وضع الفطور على المائدة إذا بهم يتحدثون بصراحة عن أسيادهم! وهو أيضًا يعرف هذا الشخص الذي قد عاد للفور من رحلة طويلة، فهو مشتاق إلى أن يعرف كل الأخبار المحلية، وبالصدفة يقابله شخص هو صديق قديم له يقدم له ما يرضي فضوله، وهو أيضًا يعرف «السيد الأول» و«السيد الثاني» اللذين يستخدمهما شكسبير حين يكون في عجلة، وفي كل هذه الحالات يكون التصنع واضحًا ومتكلفًا بحيث إننا — ونحن نصغي إلى الكلام — نعرف أننا يجب أن نحصل منه على المعلومات اللازمة لكي نفهم الحوادث القادمة. فإننا نفعل ذلك، ونحن نشعر شعورًا عميقًا بأن كل هذا وضع للاشيء إلا لكي يقدم لنا الأخبار. وإن فن الكاتب المسرحي لا يتجلى في شيء كما يتجلى في قدرته على صياغة عرضه بحيث لا يشعرنا بأي تصنع أو جهد، ولذلك يأخذ العرض الجيد شكل محاورة تبدو في الظروف طبيعية وملائمة، وتدور بين نفس الأشخاص الذين ستهتم بهم مباشرة، وتتصل بابتداء الحركة اتصالًا يجعلها غير متميزة عنها. وفي الافتتاحات الدرامية الجيدة مثل افتتاح «عطيل» تبدأ مهمة الدراما بمجرد ارتفاع الستار، فنجد انتباهنا يجذبه ويستثيره مباشرة مناظر وكلام مليء بالحياة والشخصية، وفي تتبعنا للمناظر والكلام نحصل بدون أن نشعر على ما هو ضروري لمعرفة الموقف الابتدائي فنعرف الحوادث التي قادت إليه. والناس الذين تكون ظروفهم مادة التصميم، ويكون أحيانًا من المستحيل على الدرامي أن يحقق كل الكمال المثالي في هذا القسم من عمله، فلا يخلو عرضه من ظهور بعض الجهد والتعمل مهما كان ماهرًا، وإذن واجبنا أن نتسامح في قبول مثل هذا التكلف لكي نحصل من المقدمة على المعلومات الضرورية، ولكن مع ذلك يجب أن نحتفظ بالنموذج المثالي كقياس نقيس عليه في الحكم.

فالعرض يجب أن يكون واضحًا، وأن يكون مختصرًا إلى أقصى حد تسمح به طبيعة المادة، وأن يكون متصلًا اتصالًا حيويًّا إذا أمكن بالحركات الأولى في التصميم، وأن يكون مخفيًّا بمهارة بحيث لا يشعر به الناظر، وإن كان التحليل الدقيق لا بد أن يكشفه.

المحادثة الابتدائية Initial Incident

في رسمنا البياني للتصميم جعلنا العرض قسمًا مستقلًّا عن الحركة، وإن كان ممهدًا لها، ولكن الحق أن التصميم يبدأ قبل أن ينتهي العرض. ففي موضع ما من الجزء المبكر في الدراما في المنظر الأول مثلًا، أو قبل انتهاء الفصل الأول على كل حال، سنجد منبع الحركة في حادثة أو حوادث تسبب ميلاد الصراع الذي تتكون منه الدراما، ولذا تسمى الحادثة الابتدائية، وقد تسمى بالقوة المثيرة exciting force. وليس من الضروري أن تجعل الحادثة الابتدائية بحيث تشعر بها شعورًا بارزًا، وإن كانت عادة شكسبير أن يجعل نقطة ابتداء الصراع بارزة، وليس من الضروري أن تكون الحادثة حادثة حقًّا، فقد تكون حالة ذهنية ما لأحد الأشخاص.

وبعض المسرحيات تنشأ من اجتماع حادثتين ابتدائيتين لا حادثة واحدة، وفي الدرامات التي تتكون من أكثر من قصة يكون لكل قصة حادثتها الابتدائية.

حركة النهوض Rising action

بالحادثة الابتدائية ندخل في المهمة الحقة للدراما، ويكون القسم الأول منها متكونًا من تعقد الحركة أو نهوضًا إلى نقطة تحولها، وهنا تتميز مهارة المؤلف بمقدار ما يجعل هذا النهوض واضحًا ومنطقيًّا، فما دام الناظر قد عرف الأشخاص وظروفهم فمن اللازم أن تبدو كل حادثة أمامه ناشئًا نشوءًا طبيعيًّا عما تقدمها. في اتجاه الحركة كلها يجب ألا تطمس التفاصيل غير الهامة ما هو ضروري مهما تكن التفاصيل شائقة في حد ذاته، ويجب أن يعرض تأثير العوامل عرضًا بارزًا واضحًا بحيث يكفي لأن يشرح ما يقال وما يعمل. ويجب أن يحتفظ بالعلاقات الصحيحة بين الأشخاص والحركة، ثم يجب أن يشغل كل منظر مكانًا محددًا من تطور المجموع الدرامي، إما بأن يظهر مرحلة جديدة في تدرج التصميم، أو بأن يزيد في معرفتنا بالأشخاص، أو بكلا العملين معًا.

ثم من الجوانب التي ندرسها في عمل المؤلف الدرامي ناحية الصنعة في معالجته لمادته، فيجب أن يكون جهد الدرامي مبذولًا في أن يخفي كل أثر للجهد والتصنع والتكلف في صياغته لدرامته، بحيث تبدو أمامنا هذه الصياغة طبيعية لا تعمل فيها.

وكل هذه الشروط يجب أن تتوفر لا في المرحلة الأولى من الحركة الدرامية فحسب، بل في التصميم كله، ولكن هناك شرطًا يجب أن يتوفر في حركة النهوض خاصة، ففي خلال حركة النهوض يجب أن تذكر كل عناصر الصراع التي ستبرز في نقطة التحول باعتبارها العوامل الرئيسية التي ستحدث الخاتمة. فإذا كان الصراع بين أشخاص فإن القسم الأول من الدراما يجب أن يعرفنا بكل الأشخاص الذين سيوجدون في القسم الثاني، وإذا كان الصراع محصورًا في ذهن البطل فإن سلوكه الذي سيقوده إلى سعادته أو شقائه يجب أن يشرح بعرض الصفات التي ستتغلب عليه، وخلاصة هذا أن أسس الحركة التالية يجب أن تكون قد وضعت في الابتداء، فمن الخطأ المحض أن يقذفنا المؤلف بعامل جديد بدون تحذير أو تمهيد، كأن يقدم إلينا شخصًا جديدًا، أو أن يقدم دوافع وعوامل لم يسبق له أن أشار إليها أي إشارة، فكل هذا فقر في الفن.

نقطة التحول Turning Point or Crisis

لما كان تفاعل القوى المتعارضة لا بد أن ينتهي بتغلب جانب منها فإن كل قصة درامية لا بد أن تصل عاجلًا أو آجلًا إلى مرحلة في تدرجها يبدأ فيها الميزان يميل إلى إحدى الناحيتين، وذلك ما نسميه نقطة التحول في الحركة، والقانون الأكبر في نقطة التحول أنها تكون النتيجة الطبيعية المنطقية لكل ما حدث من قبل، بحيث نستطيع أن نشرحها شرحًا تامًّا بالرجوع إلى الأشخاص وظروف الأشياء التي وجدت، وهكذا لا بد أن يكون نشوء الحادثة التي ستوجه الحركة إلى خاتمتها من الحركة نفسها، ويجب ألا تكون حادثة صدفة تقحم إقحامًا على التصميم من الخارج، فإذا توفر لنقطة التحول هذا الشرط أمكن معالجتها بصور مختلفة باختلاف الظروف.

وقد كان عادة المؤلفين الدراميين القدماء من الإنجليز أن يضعوا نقطة التحول حوالي منتصف الدراما، أما في الدرامات المعاصرة فيجتهد المؤلفون في أن يؤخروا نقطة التحول إلى أقصى حد ممكن.

حركة الهبوط أو الحل Falling action or Denouement

إذا مضت نقطة التحول دخلنا في القسم الذي يأخذ فيه الصراع يقترب من الخاتمة، وطبيعة هذا الحل تختلف باختلاف خاتمة الدراما، أهي ستكون مفرحة أم محزنة؟ ففي المسرحية الهزلية تكون حركة الهبوط عبارة عن انسحاب العوائق بالتدريج وزوال الصعوبات وسوء التفاهم، فيصطلح البطل والبطلة ويتفاهمان، ويتزوجان، أما في المأساة فعلى العكس من ذلك تكون حركة الهبوط قائمة على زوال العناصر التي ظلت حتى الآن تحول دون انتصار الشر، وبذلك يسترد الشر حريته الكاملة في العمل. وعلى كل حال فإن ما يبقى بعد نقطة التحول هو استمرار الاتجاه الجديد الذي نشأ منها، وبذلك نكون قد بدأنا نعرف مصير القصة ونتيجتها، فيختلف نوع استمتاعنا بمشاهدة القصة، فحتى الآن كنا نشاهد التصميم ونحن في شك وحيرة لا نعرف ماذا ستكون النتيجة، أما الآن فقد زال الشك ووثقنا من المصير، فيكون استمتاعنا بمشاهدة التمثيل ناشئًا عن عطفنا على الأشخاص عطفًا يجعلنا نتتبع قصتهم حتى انتهائها، ويكون كذلك ناشئًا عن تشوقنا إلى مشاهدة مهارة المؤلف في معالجة الحوادث بحيث تحقق النتيجة التي عرفناها قبل حدوثها.

وهكذا تتضح الصعوبة الخاصة في الحل، فتكون المشكلة أمام المؤلف هي: كيف يحتفظ بتشوق المشاهدين بعد أن عرفوا المصير الذي بدأت القصة تتجه إليه. ومن هنا نعرف العلة في أن المؤلفين المعاصرين يجتهدون دائمًا في أن يمدوا حركة الصعود ويؤخروا حركة الهبوط إلى أقصى حد ممكن في استطاعتهم، ومن الوسائل التي يتبعها المؤلفون ليضمنوا الاحتفاظ بتشوق النظارة في القسم الثاني من الدراما أن يؤخروا الخاتمة بأن يقدموا حوادث تعوق تقدم حركة الهبوط فتعمل على إثارة الشك الوقتي وعدم اليقين من المصير، وفي المهزلة يتحقق هذا باستخدام عوائق غير متوقعة تعوق المجرى السعيد للأشياء. وفي المأساة يتحقق بالإيماء إلى طرق يمكن البطل والبطلة أن ينجوا بها من المصير الذي ينتظرهما.

الخاتمة أو الكارثة Conclusion or catastrophe

الآن نصل إلى المرحلة الأخيرة للتصميم، وفيها ينتهي الصراع الدرامي إلى نتيجة يشعر معها الذهن بالانتهاء والتمام، ولكن في المسرحيات المعاصرة وفي الروايات المعاصرة نجد خاتمة ليست في الحقيقة خاتمة، بحيث لا نشعر معها بالتمام والانتهاء، ودعاة الواقعية المحضة يؤيدون نظريتهم هذه بأن الدراما والرواية يجب أن تكونا مخلصتين للحياة، وليس في الحياة مثل هذه النهاية، فكل موقف يتضمن في ذاته نواة عوامل جديدة، وهذه النظرة صحيحة من حيث إن الحياة ليس فيها خاتمة، ولكن يرد عليها بأنه وإن كانت الحياة حقًّا ليس فيها نهاية إلا أن أي مجموعة من الحوادث تختار للمعالجة الدرامية يجب أن تؤدي من بداية حقة إلى نهاية محددة وإن تكن نهاية وقتية، فإن الخيال يعتبر هذه المجموعة من الحوادث كأنها كائن مستقل في وجوده. وإذن فلا بد أن تكون له نهاية، والخلاصة أنه وإن تكن الحياة خالية من النهاية وكان كل شيء فيها يقود إلى شيء تالٍ له، فإن الفن بما له من حق الاختيار والترتيب له الحق في أن يضع خاتمة لعمله، ومهما يكن من شيء، فهذا جدل نظري فقط، فإننا جميعًا إذ نشهد قصة مسرحية مشاهدة عملية لا نكون واهمين إذا قمنا ونحن نشعر بأن حلقات هذه القصة لم تتم.

ويتميز النوعان الرئيسيان للدراما، وهما المأساة tragedy والمهزلة comedy بطبيعة خاتمتها، فالمأساة خاتمتها محزنة، والمهزلة خاتمتها مفرحة، ولكن قد يمزج الختام المحزن للمأساة بما يلطف من حزنه، فمقتل روميو وجولييت يخفف وقعه الأليم معرفتنا بأن موت الحبيبين سبب انتهاء العداوة العنيفة الدموية بين أسرتيهما، وعلى العكس من ذلك قد يمزج الختام السعيد المفرح للمهزلة بما يجعلنا في شك من تمام السعادة لأحد الأشخاص، ومثال ذلك أننا نتساءل في ختام دراما much ado هل ستكون الفتاة هيرو Hero سعيدة في زواجها بـ Claudio، وهل سيكون بنديك وبيتريس سعيدين في زواجهما على اختلاف طبائعهما.

الخاتمة

وما قلناه عن نقطة التحول نقوله عن الخاتمة، فيجب أن تكون الخاتمة النتيجة المنطقية الطبيعية للقوى التي كانت تعمل في الحركة كلها، ولذلك تكون خاطئة كل خاتمة لا تنشأ من الأشخاص والحركة، بل تكون صدفة مقحمة من الخارج، كحادثة فجائية لأحد الأشخاص، أو دخول شخص جديد غير منتظر، أو تغير فجائي في سلوك شخص ما وتبدل في أخلاقه. والوسيلة الأخيرة أكثر الوسائل شيوعًا في إحداث خاتمة صناعية للدراما، وللرد عليها نعيد ما قلناه في دراستنا للرواية من وجوب استمرار الشخصية وثباتها.

ولكن من اللازم أن نقول إنه في الدرامات الحفيفة التي تتناول الجوانب الخفيفة من الحياة لا يكون من العدل الإصرار على وجوب اجتماع كل الشروط المتقدمة، فالدرامي إذا ألف مهزلة جاز له أن يستمتع بحقوق في استخدام الصدف لا يستمتع بها إذا كان يؤلف مأساة، وإذن فمن الواجب التسامح مع المؤلف الهزلي في منطقية حوادثه ونتائجه.

بعض الاعتبارات العامة

يجب أن نذكر القارئ ببعض الأشياء في اختتامنا لهذه الدراسة الموجزة للتقسيمات الطبيعية للتصميم الدرامي. فأولًا هذا التحليل يجب ألا يكون قاسيًا شديد الضيق والتحديد، بل في دراستنا لأي دراما يجب ألا ننتظر أننا سنجد النقط المختلفة في الخط الدرامي بارزة واضحة بحيث نراها بسهولة، وثانيًا هناك أنواع من الدرامات لا تنطبق تمام الانطباق على هذا الخط الدرامي للتخطيط، ففي كثير من المهازل المشتملة على الدسائس والحيل يكون البطل في محاولة دائمة للتغلب على المصاعب، كلما تغلب على عقبة جاءت عقبة جديدة أخرى، ولذلك يكون الرسم البياني لهذه المهازل مكونًا من خط دائم التعرج والارتفاع والانخفاض وليس من خط هرمي الشكل. ثم إن بعض الكتاب الدراميين المعاصرين يأنفون من أن يجعلوا دراساتهم تتخذ أي قالب محدد، بل يقولون: إنهم يتبعون الطبيعة، فلا يلتزمون قيودًا في تكوين قصتهم وتقسيم تصميمها إلى المراحل التي عرفناها.

وهكذا يجب ألا نكون في تحليلنا لأية دراما متبعين لقواعد آلية جامدة.

بعض ميزات التخطيط الدرامي

الآن ندرس بعض الظواهر البارزة في التخطيط الدرامي، ويحتل المكان الأول بينها المشابهة والمعارضة.

المشابهة Parallelism

المشابهة عنصر مألوف في تكوين التصميم، وخاصة في عمل مضاعفة العوامل، إذ يتضاعف تأثير الدراما إذا كانت الفكرة الرئيسية لقسم منها تعود إلى الظهور في قسم آخر، وهكذا كل من القسمين يوضح الآخر ويقويه، وكان شكسبير يكثر من هذا التكرار، وهو أحيانًا يعمل ذلك لمجرد زيادة تعقيد المتعة الدرامية لقصته، فكوميديا الأخطاء مثلًا قد استعار قصتها من بلوتوس وهي تدور حول أخوين توأمين متشابهين، فأضاف إلى ذلك من عنده عبدين توأمين متشابهين لا يمكن أيضًا تمييزهما يمتلكهما هذان الأخوان. ولكن في أحيان أخرى لا يكون التكرار لمجرد تعقيد الحوادث وتقوية التأثير التمثيلي، بل يكون لضم موادها المتفرقة في مجموعة واحدة منظمة، ففي muchado يستعير شكسبير قصة عن حبيبين يراد التفريق بينهما بحيلة شريرة، فيرى من الضروري أن يجمع بين هذه وبين قصة ثانوية فيخترع قصة فيها أيضًا حبيبان يراد الجمع بينهما بحيلة مضحكة، ففكرة الاحتيال للشر في قصة، وللخير في الأخرى تستخدم هكذا لضم قصتين إذا لم تضما هكذا ظل بينهما تعارض حاد، ولكن أغرب مثال للمشابهة في شكسبير هي تلك التي توجد في (الملك لير) التي تحتوي على تصميمين يتفقان في كل التفاصيل تقريبًا.

وفي كل هذه الحالات من المشابهة التي نجد فيها أجزاء متنوعة تدور حول فكرة واحدة يكون تكرار العامل سببًا في تحقيق الترابط الحقيقي بين الأقسام المختلفة في المسرحية، وهكذا يتحقق نوع من الوحدة الأخلاقية.

وأحيانًا تستخدم المشابهة لغرض الإضحاك والسخرية، وقد كان هذا من ميزات الدراما الإسبانية في القرن الثامن عشر.

المعارضة contrast

المعارضة أكثر أهمية من المشابهة في التخطيط الدرامي، وعنصر المعارضة ينتمي إلى الحاجة الضرورية لنفس مادة القصة الدرامية، إذ القصة الدرامية يجب أن تقوم على نوع من الصراع، أي أن تحتوي على أشخاص متعارضين أو عواطف متباينة، أو أغراض متضادة، ولكن المعارضة تتخذ أشكالًا مختلفة كثيرة جدًّا وتستعمل بطرق كثيرة جدًّا، فهناك عنصر المعارضة في التصميم وهذا واضح، فالتصميم يدور حول معارضة بين الخير والشر، بين الجوانب المحبوبة والجوانب غير المحبوبة من الحركة، وبنوع خاص بين الأشخاص ومجموعات الأشخاص الذين تتجلى فيهم هذه الجوانب المختلفة، ومن أهم أشكال المعارضة في التصميم المعارضة بين حركة الصعود للحوادث، وبين المراحل الأخيرة لحركة الهبوط والحل.

فالدراما قد تبدأ سعيدة وتنتهي حزينة، أو تبدأ بالصراع وتنتهي بالنجاح، وفي كل حال يبرز الاختلاف في النغمة والروح بين الجزء الأول والجزء الأخير. وهذا يتجلى بأوضح صورة في المأساة، فلكي يزيد كاتب المأساة قوة تأثيرها يفتتحها أولًا بسعادة وسرور وهناء، فإذا تلا ذلك المصائب والكوارث والشقاء كانت أشد تأثيرًا في النفس بسبب مجيئها عقب ما سبقها من حالة معارضة.

ومن أنواع المعارضة أيضًا ما يوجد في الدراما التي نصفها مأساة ونصفها مهزلة، إذ تتكون هذه الدراما من تصميم رئيسي محزن، ومن تصميم ثانوي مضحك فتتراوح الدراما بين النوعين، وتتعاقب مناظرها المحزنة والمضحكة في معارضة عظيمة التأثير، ثم تنتهي بانتصار الجانب المضحك عادة.

إلا أننا يجب أن نحترس في استخدام عنصر المعارضة، إذ يجب ألا نكثر من استخدامه إلى حد زائد فنكون بذلك قد أسأنا استعماله وأفقدناه ميزانه، ويمكن وضع قاعدة عامة هي: إذا شعرنا بأن المعارضة متكلفة وآلية ومتصنعة، والجهد فيها بارز، فإنها يجب أن ترفض.

كل ما سبق هو أنواع المعارضة في التصميم، ولكن أهم منها المعارضة في التشخيص وهذه تشمل الصراع الداخلي بين العواطف المتباينة والأغراض المتضادة في فرد واحد متعقد الشخصية، ومتعارض الطبيعة، أو بين أفراد متعددين متضادي الشخصية في الدراما الواحدة. فنجد الدرامي قد جمع بين شخصيات شديدة التفاوت والاختلاف في أمزجتها وطبائعها وميولها ونفسياتها وأغراضها. وقد كان شكسبير يكثر من استعمال المعارضة بين الأشخاص إكثارًا عظيمًا، بل هو قلّ أن يجمع بين شخصين إلا ويعقد بينهما نوعًا من التفاوت والاختلاف والتضاد. وهو لم يكن ليجمع بين أشخاص مسرحية واحدة عبثًا، بل كان يراعي دائمًا أن يوجد بين أفرادهم وبين مجموعاتهم هذه المعارضة، وقد كان بارعًا جدًّا في عقد الصلة بين شخصين شديدي التعارض، كما عقدها بين روميو وجولييت، وبيتريس وبينديك، وبين البرنس هال وهوبستر، وبين ماكبث وزوجته، وبين عطيل وباجو.

وهنا أيضًا نحذر من إساءة استخدام عنصر المعارضة، فلكي يكون توازن الأشخاص فنيًّا مقبولًا يجب ألا يدعنا نشعر بأنه غير طبيعي، وهكذا كان شكسبير مخطئًا في عقد هذه المعارضة الآلية المتكلفة بين هرميٍا وهيلينا في (حلم منتصف ليلة صيف).

السخرية الدرامية Dramatic Irony

من عناصر التخطيط الدرامي أيضًا عنصر السخرية والتهكم والاستهزاء، وهو قائم على المعارضة، المعارضة بين جانبين للشيء الواحد، سواء أظهرت هذه المعارضة في الحال أم لم تظهر إلا فيما بعد، وفي النقد تستعمل كلمة السخرية للتعبير عن التأثير الذي يتركه الاختلاف البارز الهام حول ما يعمل وما يقال على المسرح بين الأشخاص أنفسهم من جانب، وبين النظارة من جانب آخر، وينشأ هذا الاختلاف حينما يعمل الأشخاص، أو يتكلمون وهم يجهلون حقائق هامة يعرفها النظارة، والسخرية إما أن تنشأ عن تعارض المواقف والأعمال، أو عن تعارض الكلام والأقوال، فمثال سخرية المواقف نجده في (هنري الخامس) لشكسبير في الفصل الذي تنكشف فيه المؤامرة ضد الملك، فبينما المتآمرون يعتقدون تمامًا أن مؤامرتهم سرية نعرف نحن أن الملك نفسه يراقب مؤامرتهم، ومعرفتنا لهذه الحقيقة هي التي تعتلي متعة عظيمة لكل التفاصيل التي بها يفضح هؤلاء المذنبون أنفسهم ويتحركون عميًا نحو المصير الذي توقعناه لهم منذ البدء. ومثال هذا النوع من السخرية أيضًا حين نعلم أن الشخص على هوة كارثة عاجلة ستحطمه، ولكنه هو نفسه جاهل بها، ولذلك يظل يتكلم بعظمة وكبرياء وغطرسة وثقة، وفي كل هذه الحالات ينشأ عنصر السخرية من معرفتنا لحقيقة الموقف وجهل الشخص لها. والنوع الآخر من السخرية هو سخرية الأقوال، وينشأ لا من معارضة المواقف والأعمال، بل عن معارضة في الكلام الذي يقال، وذلك حين يقول شخص ما كلامًا يؤدي معنى أوليًّا هو الذي يقصده هذا الشخص، ولكن له أيضًا معنى آخر وراء الأول قد يجهله الشخص المتكلم نفسه ونفهمه نحن، وذلك حين يقصد الأشخاص إلى معان ولكنهم دون أن يشعروا يعبرون أيضًا عن حقائق أخرى نعرفها نحن النظارة، ولكنهم لم يعرفوها بعد.

في كل الحالات السابقة تنشأ السخرية من تعارض وجهة نظر الأشخاص على المسرح ووجهة نظر النظارة الذين يشهدون التمثيل، والنظارة يفهمون هذه السخرية في نفس وقت حدوثها، ولكن قد يؤجل كشف المعارضة فيكون لدى النظارة مجرد شك في أن للكلمة معنى مزدوجًا فلا تعرف المعنى الحقيقي الأهم إلا فيما بعد.

الإخفاء والإدهاش Conceaiment and Surprise

العبارة الأخيرة تذكرنا بمشكلة عظيمة الأهمية، وهي القيمة الفنية للإخفاء والإدهاش كعنصرين في الاحتفاظ بالتشويق، فالدرامي في بناء تصميمه مخير بين طريقتين اثنتين، فهو: إما أن يخفي عن النظارة الحقائق الضرورية المتعلقة بالأشخاص أو الدوافع أو الحوادث فتظل رغم دخولها في الحركة عوامل مختفية مجهولة لا تعرف وجودها إلا بنتائجها. فإذا انضمت لنا هذه الحقائق المجهولة فهمنا أسباب ما حدث وكان لذلك تأثير عظيم علينا، أو أن الدرامي على ضد ذلك يخبر النظارة منذ البدء بطبيعة القوة الرئيسية التي يحتويها تصميمه، وحينئذ يعتمد على المتعة التي سوف يتتبعون بها الفعل ورد الفعل الذي تحدثه هذه القوى للوصول إلى نتيجة معينة، ولكل من هاتين الطريقتين مزاياها ومنافعها وأحوالها الخاصة، ولكن نقول بلا تردد: إن الطريقة الثانية أبرع وأسمى من الطريقة الأولى، وذلك لأن خلق الاستثارة والاحتفاظ بالتشويق بواسطة الغموض والسر والغرابة وعدم التوقع هو عمل وإن يكن مشروعًا فهو ينتمي إلى الأكثر إلى النوع البدائي من الرواية والدراما، ولذلك فهو غالبًا ينتمي إلى المراحل البدائية الساذجة من الفن، والتشويق الذي يقدمه هو تشويق طفولي صبياني بسيط، أما التشويق الذي تقدمه الطريقة الأخرى فهو تشويق لا يقل حدة عن الأول ويزيد عنه في أنه أرقى وأكثر صلة بالعقل والذكاء، وذلك حين يخبر الدرامي السامعين منذ البدء بالحقيقة ولا يخفيها عنهم، فيجعلهم يتتبعون العالم الباطني للعواطف والانفعالات وتدرج الحوادث في القصة ولا يجعل همهم محصورًا في استكشاف السر المختفي، وكل دارس لصنعة شكسبير يدرك للفور أن شكسبير وإن كان يعمد أحيانًا إلى طريقة الإخفاء والإدهاش إلا أنه لا يلجأ إليها إلا نادرًا جدًّا، ولكنه في الأغلبية الساحقة من الحالات يخبرنا منذ البدء بحقيقة الشخص.

أهو ذكر أم أنثى متنكرة في زي ذكر، أهو كما يعتقد الناس فيه وكما يعتقد هو في نفسه أم هو على العكس، ويخبرنا بحقيقة الدوافع والمواقف ويطلعنا على كل الأسرار منذ البداية، ثم يعتمد في إثارة تشويقنا على ذكائنا في تتبع تدرج الظروف التي تؤدي أخيرًا إلى كشف هذه الحقائق للأشخاص أنفسهم، وبذلك نتفرغ إلى دراسة النفس الباطنة للأشخاص، وتتبع تصرفاتهم وتعليلها بنفسياتهم التي عرفناها.

أنواع الدراما

اتخذت الدراما أنواعًا مختلفة في العصور المختلفة، والأمم المختلفة تحت تأثير اختلاف ظروف الصنعة وأغراض الفن والمثل العليا، والنقاد والمؤرخون يقسمون الدراما إلى نوعين: الدراما الكلاسيكية، والدراما الرومانتيكية، ولكن هذا التقسيم غير كاف، فالنوع الكلاسيكي من الدراما يجب أن يقسم بدوره إلى الكلاسيكي القديم، أو الكلاسيكي الحقيقي، وإلى النيوكلاسيكي، ثم يجب أن نفسح مكانًا جديدًا لدراما عصرنا الحاضر.

الدراما الإغريقية

يجب أن تبدأ كل دراسة منظمة للدراما بدراسة الدراما اليونانية. وقد كان المعتقد أنها نشأت من الاحتفالات القروية التي كانت تقام في أثينا القديمة تعظيمًا لديونسيوس إله الطبيعة، ولكن أحد الباحثين في العصر الحديث قد عارض أخيرًا هذه الفكرة، وأثبت أن سبب نشوئها ليس عبادة ديونسيوس Dionysus بل تقديس الأجداد وتعظيم الموتى. وكانت الدراما الإغريقية نوعين: مأساة ومهزلة، فالمهزلة الإغريقية في أثينا اجتازت ثلاث مراحل: المهزلة القديمة وهي مهزلة الهجاء السياسي والشخصي، والمهزلة الوسطى وفيها أخذت المهزلة تنتقل إلى الحياة والعادات الاجتماعية، والمهزلة الحديثة، وفيها تم هذا الانتقال. وقد فقدنا جميع المهازل الأثينية ما عدا إحدى عشرة دراما لكاتب واحد هو أرسطوفانيس أعظم كتاب المهزلة القديمة.
أما المهزلة الوسطى والمهزلة الحديثة فقد ضاعت جميع نماذجها، ونحن لا نعرفهما إلا من المسرحيات التي كتبها الرومان تقليدًا للنماذج اليونانية. أما من حيث المأساة فإننا لحسن الحظ قد وصلنا مجموعة أكبر وأعظم مكونة من اثنتين وثلاثين دراما للكتاب الثلاثة العظام: أشيلوس Aeschylus وسوفوكلس Sophocies و يوربيدس Ewripides.
وقد قلنا شيئًا عن الميزات البارزة للمأساة الإغريقية فيما سبق، والآن نقول شيئًا أكثر عن مسألة عظيمة الأهمية، وهي الكورس the Chorus وقد قلنا: إنه ليس أغرب على القارئ الحديث من ظاهرة الكورس في الدراما الأثينية، فهو إذا درس المأساة الإغريقية، أدهشه أن كل دراما تحتوي على كورس، أو مجموعة من الرجال يتحدثون ويغنون ويرقصون معًا كأنهم جميعًا فرد واحد، ويعترضون سير المحاورة وتقدم الحركة بأغانيهم وتدخلهم. وهذه الظاهرة تبدو لنا غريبة جدًّا وبعيدة عن الطبيعة الدرامية، حتى إننا نتساءل عن سبب وجودها في المأساة الإغريقية. والجواب هو أن سبب وجودها في المأساة اليونانية هو أنها كانت الأصل الذي تطورت منه هذه المأساة. إذ أصل المأساة الإغريقية هو الأغاني والرقصات التي كان الأثينيون يقومون بها في احتفالاتهم لعبادة ديونسيوس Dionysus أو لتقديس أجدادهم وموتاهم، ثم بعد ذلك تطورت هذه الأغاني والرقصات ونشأ عنها بالتدريج المأساة وظلت في مراحلها الأولى تحتوي على جزء عظيم من هذه الأغاني والرقصات ممثلة في ما تحتوي عليه كل دراما من الكورس، ولكنها أخذت منذ البداية تميل إلى التخلص من هذا العنصر والتحرر منه. فبينما الكورس يشغل في درامات أشيلوس — وهو البادئ الحقيقي للمأساة — نحو نصف المأساة إذا به في يوريبيدس لا يشغل إلا من ربعها إلى تسعها. وليس هذا هو كل شيء، بل إن الكورس أيضًا بعد أن كان متصلًا بنفس الحركة في المأساة اتصالًا شديدًا منظمًا في أشيلوس ثم في سوفوكلس أخذ يفقد اتصاله بالمأساة ولا يصبح إلا مجرد وقفات موسيقية في خلال الدراما بها إشارة هامة إلى محتويات الدراما.

وقد كان للكورس في الدراما الإغريقية عمل فني رائع، إذ كان عبارة عن وقفات غنائية موسيقية تعبر عن العواطف التي تثيرها الحركة وعن التأملات الخلقية التي تستثيرها حوادث المأساة في نفس السامع. قال ماتيو أرنولد: «كانت وظيفة الكورس في كل مرحلة من مراحل الحركة جمع وتركيز الانفعالات التي تثيرها الحركة في هذه المرحلة في ذهن السامع والمفكر، وكانت وظيفته في ختام المأساة تركيز مغزى القصة بعد أن عرف مصيرها. فكأن الكورس يضاعف عاطفة السامع ويزيدها عمقًا بتذكيره بما حدث سابقًا وبتعريفه بما سيحدث فيما بعد، وعلى ذلك كان التأثير العظيم للكورس في المأساة الإغريقية هو أن يجمع العواطف التي تستثار في السامع برؤيته ما يحدث على المسرح، وأن يجعل هذه العواطف منسجمة، وأن يزيدها عمقًا».

الدراما اللاتينية

في تتبع الدراسة المنظمة لسير التاريخ الدرامي تنتقل من اليونان إلى الرومان الذين حين بدءوا نهضتهم الأدبية بتأثير الدوافع الهيلينية، بدءوا يصوغون المهازل والمآسي على نفس القوالب التي صنعها اليونان. وقد فني معظم الأدب الدرامي اللاتيني، ولكن بقي منه من المهازل عشرون دراما لبلوتس Plautus، وست لتيرنس Terence، وبقي لدينا من المآسي عشر منسوبة إلى سينيكا Seneca.

ولكل من المهازل والمآسي أهمية تاريخية عظيمة: فالمهازل عظيمة الأهمية التاريخية لأنها بتقليدها للمهزلة الأثينية الحديثة أمدتنا بمعلوماتنا عنها بعد أن ضاعت هذه الأولى، وأيضًا لأن لها تأثيرًا على الدراما الحديثة والمآسي عظيمة القيمة التاريخية لأنها كانت هي النماذج التي قلدها الدراميون النيوكلاسيكيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر إذ لم يقلد هؤلاء النيوكلاسيكيون المآسي الإغريقية الأصلية نفسها، بل قلدوا تقليدها اللاتيني.

البداية المبكرة للدراما الحديثة

نشأت الدراما الحديثة من أصل ديني كالدراما الإغريقية، فنشأت في الاحتفالات الدينية التي كان يقيمها أهالي العصور الوسطى لخدمة العبادة في الكنيسة. ثم أخذت تتطور هذه الدراما الكنسية إلى دراما دينية تامة النمو وعظيمة الانتشار وهي المسماة the mystery أو the Plymorality miracle وكان موضوعها مستمدًّا مباشرة من الإنجيل، ولكنه ممتزج بسير القديسين والأقاصيص عنهم، وبعد ذلك نشأ نوع آخر من الدراما وازدهر، ويسمى the morality أو allegorical. وقد كان تعبيرًا عن الفلسفة التعليمية للقرون الوسطى وعن الآراء العلمية والنظرية الجديدة لعصر من عصور التناقض الشديد، وكل هذه كانت مجرد بدايات. أما الابتداء الحقيقي للمهزلة والمأساة الحديثتين فإنه مرتبط ارتباطًا شديدًا في عصر النهضة Renaisseance بالظاهرة التي نسميها الإحياء الكلاسيكي، إذ اندفع الناس في حماسة وتشوق إلى كل شيء يتعلق بالعالم الذي كشفوه حديثًا عن الحضارة القديمة فالتمسوا في هذا العالم وحيهم وأمثلتهم في الدراما وكل الصور الأدبية الأخرى، فكان منشأ المهزلة في إنجلترا متأثرًا أشد التأثر بدراسة بلوتوس وتيرينس، ولكنها في إنجلترا امتزجت أيضًا بالعناصر الوطنية والمحلية الإنجليزية، أما المأساة فعلى العكس كانت في البداية تقليدًا للمأساة الكلاسيكية.
وقد كان تأثر المأساة الجديدة بدرامات سينيكا وليس بالمآسي الإغريقية نفسها، فقلدوا الدراما السينيكية في خطبها الطويلة المنمقة المزينة بفنون البلاغة والتي تحل محل المحاورة الدرامية، فكانت الدراما الإيطالية والفرنسية والإنجليزية على هذا المنوال. ولكن الطليان والفرنسيين قلدوا الدراما الكلاسيكية تقليدًا شديدًا وظلوا على تقليدهم دهرًا طويلًا. أما الإنجليز فإنهم بعد عدة محاولات في تقليد الدراما الكلاسيكية أهملوا سينيكا وأهملوا النيوكلاسيسزم وبدءوا نوعًا جديدًا مستقلًّا من الدراما وهو الدراما الرومانتيكية. وفي نفس الوقت نشأت هذه الدراما الرومانتيكية في بلاد أخرى هي إسبانيا القرن الرابع عشر، وتتمثل نماذجها في الكاتبين العظيمين لوب دي فيجا Lops de Vegs و كالديرون Calderon، وقد كان لهذه الدراما الإسبانية تأثير على الدراما الإيطالية والفرنسية من جانب والإنجليزية من جانب آخر، ولكنها كانت ضئيلة القيمة الأدبية لأنها تعني بالتصميم فقط فتفيض بالمواقف والمشاكل المعقدة والغرائب والمفاجآت والدسائس ولا تعني بالتشخيص أو التحليل النفساني.

مقارنة بين الدرامتين النيوكلاسيكية والرومانتيكية

الآن قارن بين النوعين العظيمين من الدراما الحديثة وهما: الدراما النيوكلاسيكية والدراما الرومانتيكية. والدراما الرومانتيكية تتمثل في درامات الكتاب الإليزابثيين والاستيوارتيين وعلى رأسهم شكسبير، ثم في الدرامات الألمانية المتأخرة لسنج وجوت وشيلر، والدراما الفرنسية لدومامن وفكتور هوجر ومعاصريهما. وأما الدراما النيوكلاسيكية فأجود نماذجها في كتابات الكتاب الفرنسيين الكبار في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهما كروني وراسين وفولتير.

كانت المأساة النيوكلاسيكية منطبقة أشد انطباق على نموذجها الذي تقلده من مأساة سينيكا، ولم يكن بينهما إلا اختلافان: الأول أن المأساة النيوكلاسيكية جعلت المحل الأول فيها لعاطفة الحب الرومانتيكي وهو شيء كانت المأساة القديمة خالية منه تمامًا. والثاني اختفاء الكورس من المأساة النيوكلاسيكية. وفيما عدا ذلك كانت المأساة النيوكلاسيكية منطبقة كل الانطباق على الكلاسيكية، أما بين الدراما النيوكلاسيكية والدراما الرومانتيكية فقد وجد أشد التعارض والاختلاف الأساسي:
  • (١)

    في الموضوعات والأسلوب: الدراما النيوكلاسيكية كانت تتبع الدراما الكلاسيكية في الطبيعة العامة لموضوعاتها وفي طريقة تناولها لهذه الموضوعات، فقد كانت الدراما الكلاسيكية تتناول الأساطير العظيمة للعصور الخرافية البعيدة، وكانت أشخاصها الرئيسية الأبطال العظام الذين ينتمون إلى عالم يختلف عن هذا العالم الإنساني ويسمو عليه، وكانت تؤدي هذه الموضوعات في أسلوب شعري فخم مليء بالتسامي والتعاظم والإتقان، خال من العبارات اليومية العادية ومن الحديث العامي المألوف. وهكذا كان الفن الدرامي الإغريقي يتميز بالمثالية وباتحاد نغمة الأسلوب اتحادًا مستمرًّا، وكانت الدراما اللاتينية أيضًا ذات أسلوب عال متعاظم فيه سمو وفنون بلاغية. وكذلك الحال في الدرامات النيوكلاسيكية، فالموضوعات وإن كثر تنوعها موضوعات أرستقراطية دائمًا، كما قال فولتير: «المأساة تتطلب دائمًا أشخاصًا متسامين عن المستوى العادي سواء أكانوا ملوكًا أو أباطرة أو قواد جيوش أو رؤساء جمهوريات».

    وكانت هذه حال المآسي الإيطالية والفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. والخلاصة أن المأساة كانت تتناول الموضوعات (العظيمة) والأشخاص المشهورين ولم تحاول قط أن تعرض الحياة العادية أو أن تمكن الطبيعة الإنسانية المألوفة، بل كل شيء يجب أن يكون عظيمًا فخمًا بطوليًّا، والأسلوب ذو نغمة واحدة لخلوه من كل شيء يشابه المألوف والعادي من الأحاديث. هذه حال الدراما الكلاسيكية والنيوكلاسيكية، أما الدراما الرومانتيكية فتختلف عن ذلك أشد اختلاف. حقًّا إنها كثيرًا ما تتناول الأشخاص المشهورين والموضوعات العظيمة، ولكنها في تناولها لهؤلاء تختلف تمامًا عن النيوكلاسيكية. فالأبطال المشهورون تعرض حياتهم الواقعية العادية، وتحكي معيشتهم الإنسانية المألوفة، والمحاورة وإن كانت شعرية إلا أنها مليئة باللهجة المألوفة والأحاديث العادية.

  • (٢)

    الفرق الثاني: أن الدراما النيوكلاسيكية إذا كانت مأساة كانت تخلو تمامًا عن أي عنصر فكاهي، فكان الفصل بين المأساة والمهزلة في الدراما الواحدة شرطًا واجبًا، أما الدراما الرومانتيكية فلها الحرية الكاملة في المزج بين الفكاهة والحزن في الدراما الواحدة.

  • (٣)
    الوحدات الثلاث: فرق أساسي ثالث هو الوحدات الثلاث. كانت النيوكلاسيكية تتشدد في اتباع وحدة الزمن ووحدة المكان ووحدة الحادث. فوحدة الزمن unity of time أن كل حوادث الدراما تحدث جميعها في أربع وعشرين ساعة أي يوم واحد. ووحدة المكان unity of place تحدث كلها في مكان واحد لا تغيره إلى مدينة أخرى أو إقليم آخر. ووحدة الحادث unity of action تدور كل حوادثها حول موضوع واحد وتجمعها وحدة واحدة. أما الدراما الرومانتيكية فقد احتفظت بشرط وحدة الحادث لأنه يتصل بالطبيعة الألمانية للدراما، ولكنها أهملت وحدتي الزمن والمكان إهمالًا تامًّا مطلقًا، فهي تنقل مكان حوادثها من مدينة إلى مدينة ومن قطر إلى آخر بكل حرية، وحوادثها قد تمتد فتشمل الأيام والشهور والسنين، ثم هي في فهم وحدة الحادث قد فهمتها فهمًا جديدًا، إذ كانت النيوكلاسيكية تعنى بوحدة الحادث أي أن يكون للمسرحية موضوع واحد فقط لا تسمح بتوزع الانتباه إلى غيره. أما الدراما الرومانتيكية فأباحت لنفسها أن تتكون الدراما من موضوعين بشرط واحد بالطبع هو أن يكون بينهما اتصال حيوي منطقي.
  • (٤)

    ومن أعظم الاختلافات بين الدرامتين النيوكلاسيكية والرومانتيكية أن الأولى كانت خالية تمامًا من تمثيل الحوادث على المسرح، فإذا كان يحدث في الدراما حروب أو مبارزات أو جرائم قتل أو غير ذلك فإنها كانت تحدث خارج المسرح ثم يعلم النظارة بها من حديث الأشخاص وقصصهم عنها. أما الدراما الرومانتيكية فكانت تستخدم الحركة استخدامًا عظيمًا، وكانت مثل هذه الحوادث مسموحًا بأن تحدث على خشبة المسرح أي أن تدخل في تكوين الدراما وتكون مناظر فيها، وهكذا كانت الدراما النيوكلاسيكية دراما قصص وإخبار. أما الدراما الرومانتيكية فهي دراما حركة وفعل وأداء فعلي، فكل شيء يحدث فيها تقريبًا على المسرح ويشاهده النظارة.

الدراما المعاصرة

الدراما المعاصرة تختلف اختلافات كثيرة عن النماذج السابقة كلها بسبب أنها وجدت في عصر النظرية السائدة فيه هي حرية الاختيار واستمداد المفيد من كل المنابع دون انحصار مذهب معين، ولكننا نستطيع أن نقول بوجه عام: إن الدراما المعاصرة بتحررها المطلق من كل القيود والقوانين التقليدية هي امتداد للدراما الرومانتيكية، فهي في العادة مطلقة الحرية في الزمان والمكان، وهي مطلقة الحرية في استخدام ما تراه لازمًا لها من تعدد الموضوعات والتصميمات الثانوية. وهي لا تتردد في استخدام الجد مع الفكاهة، وهي قد تلجأ إلى القصص والإخبار أو إلى الحركة والأداء الفعلي، كما ترى أن هذا وذاك موافق لها. ثم هي قل أن تعنى بالموضوعات الأرستقراطية كما كان يعنى بها الدرامات القديمة، إذ تأثرت بالروح الديمقراطية وتأثرت بالنظرية الواقعية فنشأ من ذلك الدراما العائلية المنزلية التي تتناول الحياة العادية المألوفة، وهذه الدراما المنزلية أجود نتاج للدراما المعاصرة.

ولكن لما كانت الدراما المعاصرة لا تتبع إلا وحي إرادتها وما تراه أوفق لها دون أن تتقيد بنظريات محدودة لمدرسة واحدة فإنها كثيرًا ما تعتنق مبادئ من النيوكلاسيكية إذ تراها أوفق لها، فهي مثلًا أقرب إلى اعتناق وحدة المكان من الدراما الرومانتيكية؛ وذلك لأن كثرة المناظر تكلف المخرجين كثيرًا من الجهد بل يكون عملًا مستحيلًا أحيانًا، ولذلك يلجأ الكتاب إلى اختصار مناظرهم وتركيزهم كما شرحنا في أول هذا الفصل.

الدراما كنقد للحياة

درسنا جميع نواحي الصنعة في الدراما تقريبًا. ولكن لما كانت الدراما ككل الأدب يحكم عليها أيضًا من ناحية قوتها وقيمتها الخلقيتين، وجب أن نقول شيئًا عن الدراما كأداة لنقد الحياة أو فلسفة عن الحياة.

ولليس من الضروري أن نعيد هنا ما قلناه عن أهمية العنصر الأخلاقي في الرواية، فكل ما قلناه هناك ينطبق على الدراما أيضًا، فيكفي أن نشير على القارئ بالرجوع إليه، وإنما نتناول هنا الطريقة التي بها يعبر الدرامي عن فهمه للحياة وفلسفته عنها.

وهنا نعود إلى الفرق الأساسي بين الرواية والدراما. فالدراما من الوجهة النظرية موضوعية خالصة يجب أن تخلو من شخصية كاتبها. فهي لا تفسر الحياة إلا بمجرد عرضها، وأما الروائي فيستطيع أن يفسر الحياة بكلتا الطريقتين: بعرضها وبتعليقاته الشخصية عليها، ولذلك يكون من الصعب علينا في دراسة دراما ما أن نستنبط منها آراء صاحبها وفلسفته عن الحياة. وأما الروائي فهو يخبرنا صراحة بهذه الآراء، ولا يخفي علينا أنها آراؤه، بينما يجب على الدرامي إذا حاول ذلك أن يضع آراءه على لسان أحد أشخاصه، وإذن فكيف نعرف أن ما يقوله الشخص هو تعبير عن آراء المؤلف نفسه؟

أما في الدرامات التي يظهر فيها الكورس فإن الكورس نفسه هو الذي يتخذه المؤلف أداة للتعبير عن آرائه وفلسفته للحياة، إذ هو تلخيص للعواطف التي تثيرها حوادث الدراما وتحليل لمعناها وقيمتها وحكم عليها. وكذلك الحال في الدرامات التي لا يوجد فيها الكورس، ولكن يوجد شخص هو في الحقيقة بديل منه ويقوم مقامه، ويكون في الحقيقة امتدادًا له، وهو ذلك الذي قد يكون أو لا يكون له دور حيوي في الدراما، وهو في كل مرحلة من مراحلها يتوقف لكي يشرح ويعلل وينتقد، ويستخلص العبرة.

أما في الدرامات الأخرى فالأمر صعب جدًّا، وهنا يجب أن نحترس أشد الاحتراس من خطأ كثيرًا ما يقع فيه النقاد. وهو أن نسرع بالتقاط حكمة ما أو خطرة فلسفية ما يقولها أحد أشخاص الدراما فتفهمها على أنها رأي المؤلف نفسه. بل يجب أن نعرف لكل حكمة يقولها الشخص قيمتها التمثيلية أولًا؛ أي تحكم عليها أولًا بمقدار ما تعبر عن شخصية هذا الشخص فقط، فهي إنما وضحت أولًا لتعبر عن رأيه هو في الحياة والأشياء من وجهة نظر شخصيته الخاصة التي يصورها المؤلف، وهي لذلك قد تتفق أو لا تتفق مع رأي المؤلف نفسه، فالمؤلف في تصويره لشخصية قد ينطقها بآراء لا توافق، بل قد تتناقض أشد مناقضة رأيه هو عن الحياة والأشياء، ولكنه يفعل ذلك بدافع الإخلاص النزيه في تصوير وجهات النظر المختلفة، وإذن فخطأ أن تلتقط كل كلمة ورأي يقولهما أحد أشخاص درامات شكسبير وتقول هذا رأي شكسبير نفسه. وإنما نحتاج لكي نجزم بأن هذا الرأي هو رأي المؤلف نفسه إلى أن نقيس هذا الرأي بالجو العام للدراما كلها وبسير حوادثها ووحدة معناها العام، وإذن فيجب أن نختبر كل قول يقوله أحد أشخاص الدراما بالروح العامة للدراما وباتجاه حركتها والميل الذي تتخذه حوادثها.

وهذا يقودنا إلى نقطتنا الختامية. إن نقد المؤلف الدرامي للحياة لا يتجسم إلا في الروح العامة والاتجاه الكلي لحركة درامته. وإذن فلكي نستكشف هذا النقد يجب أن نفحص درامته كلها، وأن نفهم رجالها ونساءها وحوادثها وعواطفها ودوافعها وصراعاتها ونجاحها وإخفاقها، أي أن نفهم عالمها الكلي الذي خلقه المؤلف، فكل مسرحية كما رأينا من قبل عالم مصغر يخلقه المؤلف، وإذن فيجب أن يكون هذا العالم الذي يخلقه مرآة لشخصيته، ومعرضًا لمزاجه وذوقه وعقله، ووجهة نظره إلى الأشياء، واتجاه أفكاره وميوله، والمعنى العام الذي يفهم به الحياة، حقًّا أن من الصعب جدًّا بل من المستحيل أحيانًا أن نصف روح عمله واتجاهه في أي عبارة محددة مجردة تقنعنا بأنها نهائية ومضبوطة، ولكن التحليل الدقيق للتأثير العام الكلي الفكري والخلقي الذي يتركه العمل علينا يعطينا فهمًا عامًّا لفلسفة المؤلف الدرامي عن الحياة.

١  المترجم: الدراما drama أو القصة التمثيلية هي ما كتبت لا للقراءة ولكن للتمثيل على المسرح بواسطة الممثلين فقط، والدراما كل قصة تمثيلية سواء أكانت مأساة أم مهزلة. و الرواية novel التي تكتب لتقرأ لا لتمثل.
٢  الكورس جماعة من المغنيين والراقصين يمثلون الشهود للرواية التمثيلية، ويعقبون كل منظر ومرحلة بتعليقهم وشرحهم ونقدهم بواسطة الغناء والرقص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤