الكتاب الأول: تاريخ النقد عند الإفرنج

سنقتصر في تاريخ النقد الأوروبي على العصور الوسطى والعصور الحديثة لأنها أكثر اتصالًا بأدبنا وأمس بحياتنا.

عوامل انحلال الكلاسيكية الحديثة١

يتناول هذا المجلد تاريخ النقد في مئة من السنين هي القرن التاسع عشر، إلا أننا كثيرًا ما سنرجع إلى القرن الثامن عشر وإلى ما قبله أحيانًا لكي نتتبع العوامل المختلفة التي أثرت في تطور النقد الأوروبي، ونعرف أصولها الأولى، وخطوات تدرجها، حتى اصطبغ النقد في القرن التاسع عشر بهذه الصبغة التي سنتعرف عليها.

وخير تسمية للنقد في خلال هذا القرن أن نسميه بالنقد الحديث، ولن نجد تسمية أخرى توازيها في صدق الدلالة. قد يميل البعض إلى أن يسموه بالنقد الرومانتيكي، ولكن لهذا الاسم عيبان. أحدهما الإبهام. والثاني ما قد يستثيره من اعتراض بعض المدارس النقدية، وليس لأية تسمية أخرى، كالنقد الجمالي أو النقد العلمي، أو النقد التقريري حق المقارنة بهذه التسمية الصادقة الصحيحة: النقد الحديث.

ثم إن هذه التسمية تضعه في كفة مقابلة تمامًا للنقد القديم، دون أن تدل على ضرورة المعاداة بين الاثنين:

بم يختلف النقد الحديث عن النقد القديم؟

كان أهم ميزات النقد القديم أنه لا يرى أعمالًا أدبية جديرة بأن تتخذ موضوعًا للنقد سوى أعمال القدماء. فظل القوم طول القرون الماضية لا يتخذون إلا مؤلفات اليونان والرومان القدماء موضوعًا للدراسات النقدية ومصدرًا لاستنباط مختلف نظريات النقد، فلم يكونوا ينظرون إلى الأدب الحديث باعتبار أنه يستحق أن يكون مادة للنقد ولا لاستخراج القوانين النقدية منه، بل كانوا دائمًا يضعون الأدب الحديث في مرتبة دون الأدب الكلاسيكي، وينظرون إليه نظرة مشبعة بالبغض والمقت والاحتقار والازدراء.

فإذا كان للنقد الحديث ميزة يختلف بها عن النقد القديم فهو أنه طرح هذه الفكرة ونبذها نبذًا تامًّا. فالنقد في طول السنين المئة التي تكون القرن التاسع عشر كان ينظر إلى الأدب الجديد نظرة الاعتبار، وليس معنى ذلك أنه يهمل الأدب القديم أو ينتقص منه، بل هو يضع الأدبين الكلاسيكي والحديث في مرتبة واحدة من حيث الأحقية بالدراسة.

فمبدأ النقد الحديث هو أنه يجب أن ينظر في نقد أحدث الأعمال الأدبية إلى قيمة هذه الأعمال وحدها لا إلى أي اعتبار آخر، وأن الناقد حينما يقدم على نقد عمل أدبي حديث يجب عليه أن يكون مستعدًّا للحكم بأن هذا العمل قد يكون معجزة أدبية أخرى.

قد يكون الناقد في صميمه مقتنعًا بأن هذا أمر بعيد، ولكنه يجب عليه أن يكون متأهبًا لأن يصدر هذا الحكم، وألا يترك لهذا الاقتناع تأثيرًا في حكمه على العمل الأدبي.

والخلاصة: أنه سيان أمام الناقد الحديث أن ينقد أدبًا كلاسيكيًّا قديمًا وأن ينقد أدبًا رومانتيكيًّا حديثًا، لا يؤثر الحديث لمجرد أنه حديث، ويرفض القديم لمجرد أنه قديم إن كان من أنصار الرومانتيكية، ولا يفعل العكس إن كان من محبي الكلاسيكية. وقد جهر بهذا الرأي ابن قتيبة في أول كتابه طبقات الشعر منذ أكثر من ألف سنة.

فالنقد الحديث هو الذي يحكم على العمل الأدبي بقيمته وبقيمته وحدها. ونحاول الآن أن نستعرض الخطوات الأولى التي اتبعها النقد، وأن نتتبع هذه الخطى لنرى كيف أخذت في الاتساع التدريجي في أواخر القرن الثامن عشر وحتى بلغت أوج ازدهارها في طول القرن التاسع عشر.

كان المذهب الأدبي المسيطر على أوروبا خلال القرون السابقة للقرن التاسع عشر هو مذهب الكلاسيكية الحديثة.

وكانت إيطاليا هي التي ابتكرته في القرن السادس عشر، ومنها عم جميع الأقطار الأوربية، فظلت له السيادة في خلال القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكان متحكمًا التحكم التام في الإنتاج الأدبي كل هذه القرون.

ولكن هذا المذهب كان في أواخر القرن الثامن عشر قد أخذ يستعد ليسلم صولجان السلطة لمذهب آخر جديد. أو أخذ هذا المذهب الجديد يستعد لانتزاع هذا الصولجان من يد الكلاسيكية الحديثة. فقد أخذ الاتجاه الأدبي الجديد يبدو خافتًا متقطعًا في فترات تختلف قوة وضعفًا، ثم أخذ يقوى شيئًا فشيئًا وينتشر انتشارًا تدريجيًا يختلف في مداه باختلاف الأمم وكان الطابع الأول الذي يتسم به هذا المذهب هو بالطبع معارضته للمذهب الكلاسيكي صاحب الرواج والسيطرة إذ ذاك، ظهرت هذه المعارضة في إنجلترا في زمن مبكر، ولكن نموها كان بطيئًا ضئيل الحظ من الانتشار السريع. وظهرت في ألمانيا في زمن متأخر عن ظهورها في إنجلترا، ولكنها سرعان ما اكتملت ونضجت وقويت روحها، بينما تراها في الممالك الأوروبية الشرقية تكاد تكون منعدمة. وفي فرنسا لقيت من السلطة الحاكمة السائدة مهاجمة عنيفة قاسية كبحثها، وإن لم تكن أبادتها إبادة تامة.

فهذه هي إذن خلاصة موقف المعارضة الناشئة في بلدان أوروبا المختلفة: في إنجلترا بكرت أنوارها بالظهور، ولكنها ظلت باهتة خافتة، وفي ألمانيا تأخر ظهورها عن إنجلترا، ولكنها سرعان ما سطعت وتوهجت، وفي فرنسا أخمدت هذه الأنوار.

ولا نظننا في حاجة إلى أن نلفت النظر إلى أنه من الخطأ أن يعد ناقد معين باعتبار أنه السائر الأول في طريق معارضة الكلاسيكية الحديثة، فإن حركة المعارضة هي تطور طبيعي لازم لا ينشأ من فعل فرد معين، وإنما هو نتيجة اضطرارية لظروف اجتماعية واقتصادية كثيرة تعمل كلها من وراء ستار على حفر المجرى الذي سيجري فيه تيار المعارضة، وهذا المجرى يكون أول أمره مختلفًا عمقًا وسطحيًّا، ضيقًا واتساعًا، تقدمًا وتقهقرًا حتى يتم تدفقه فيندفع في تقدم مستمر وتتدفق قوي مستديم.

فتطور النقد هو ظاهرة عامة اشترك في إبرازها نقاد كثيرون منهم من هو في معارضته للمذهب القديم قوي صارم، ومنهم من هو فيها هين مترفق، ومنهم من هو بين بين، ثم انتهت هذه الحركة بفضلهم جميعًا إلى التجسم في شخصية لسنج.

وهكذا ظهر في ألمانيا في النصف الأول من القرن الثامن عشر بذور هذه المدرسة الجديدة، بدأت تتشكك في المذهب الكلاسيكي وتعارضه، ثم تدرجت من المعارضة إلى الخصومة الشديدة، ولعل خير من يمثل لنا هذه المعارضة وهذه الخصومة الناقدان السويسريان بودمير وبرتنجر وخصمهما الكلاسيكي جوتشد.

بودمر وبريتنجر

هما خير مرآة تتجلى فيه النزعة النقدية الحديثة في مبدأ نشوئها، وكانا في صميمهما الخلاصة لكل المحاولات الخافتة التي سبقتهما لتأسيس المذهب النقدي الجديد، فكانا العلامة الأولى لبدء انتصار هذا المذهب.

فدراسة بودمر وبريتنجر تؤرخ لنا طلائع النقد الحديث من جهة وتؤرخ لنا الدور النهائي للكلاسيكية الحديثة ممثلًا في خصمهما الناقد جوتشد من جهة أخرى.

واسما بودمر وبريتنجر من الأسماء المتلازمة التي إذا ذكر أحدهما تبادر الآخر إلى الذهن مباشرة، حتى إنهما ليكادان يكونان علمًا واحدًا لشدة الرابطة الوثيقة بينهما:

وقد نشأ هذا التلازم بين اسمي بودمر وبريتنجر من المشابهة الغريبة في ظروف كل من هذين الأستاذين السويسريين، فكلاهما قد ولد في زيورخ أو بالقرب منها، وكلاهما عاش حياة طويلة وإن كانت حياة بريتنجر أقصر بقليل.

وقد تطابقت هاتان الحياتان في معظم الأمور وبودمر وبريتنجر: كان كلاهما خصمًا عنيدًا محبًّا للمنازعة والمجادلة والعراك، وقد اتخذا موقفًا واحدًا في خصوماتهما وكان كل يكتب المقدمات لكتب الآخر بالتبادل وكانا أحيانًا لا يكتفيان بذلك بل يمضيان معًا: J. J. J. J! وكان كلاهما قد بدأ من سن مبكرة واستمر مدة طويلة يدعي لنفسه أنه بطل لمدرسة جديدة.

أدى كل هذا التشابه العجيب إلى اختلاط شخصيتي الناقدين. فنحن لا ندري لعل في الكتابات المنسوبة لأحدهما جزءًا كبيرًا من كتابات الآخر، ولكننا يمكننا أن نقول على العموم إن بودمر كان أقرب إلى الابتكار ومحاولة التجديد، بينما كان بريتنجر أصدق حكمًا وأوسع علمًا وأقرب إلى المزاج الفلسفي.

وليس من شك في أن بودمر وبريتنجر يرجع إليهما أكثر من غيرهما أكبر التأثير في بدء نهضة ألمانيا، أو أنهما علامة وضعتها الطبيعة عند بدء الالتواء الجديد الذي انتقل به مجرى النقد وجهة إلى وجهة، فقد كانا أكبر معول في هدم الكلاسيكية الحديثة وأنشط يدًا في بناء المذهب النقدي الحديث، بمؤلفاتهما الكثيرة وكتاباتهما النقدية وخصوماتهما التي لا تحصى، وهذه الكتابات النقدية هي التي يرجع إليها أكبر الأثر في التبشير بالمذهب الجديد، وأهمها دراسة بودمر لملحمة ملتن «الفردوس المفقود»، فهذه الدراسة هي أهم عمل نقدي قام به بودمر.

وكانت ثقافتهما تؤهلهما لهذا المركز الممتاز في تاريخ النقد، فقد أتقنا دراسة أغلب النقاد القدماء واستغلا هذه الدراسة، وهما وإن لم يكونا قد درسا كل الشعراء الفحول الأقدمين فقد انتفعا بما درساه انتفاعًا جيدًا، وكانا يحسنان معرفة الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي. وكانا يعرفان بعض الإنجليزية علاوة على إتقانهما لملتن، كما أنه كانت دراستهما الجدية المتحمسة للأدب الألماني من أنصع الصفحات في ثقافتهما.

ولم يكن بودمر على حظ كبير من المملكة الشعرية، ولم يكن لبريتنجر أقل نصيب، ولكن الحق أنهما بهذه الثقافة الواسعة التي أقيمت لهما فعلًا أكثر ما يمكنهما أن يفعلا، وصادف أن كان لهذا الذي فعلاه تأثير عظيم.

ولا نترك بودمر وبريتنجر قبل أن نذكر هذه العداوة التي كانت بينهما وبين الناقد جوتشد وكان جوتشد يمثل موقف الدفاع عن المذهب الكلاسيكي الذي كان يهاجمه الناقدان الرومانتيكيان، وتاريخ الخصومة بين بودمر وبريتنجر من ناحية وجوتشد من ناحية أخرى هو تاريخ الموقعة الفاصلة في ألمانيا بين مذهب القرون الماضية وبين المذهب الجديد الذي سيسود أوربا كلها في القرن التاسع عشر، والذي سيكون لسنج أول أبطاله.

وكانت خصومة الفريقين عداوة حادة عنيفة تتجلى في كتاباتهما ومجادلاتهما، فما ألف جوتشد كتاب «الشعر النقدي» يؤيد به الكلاسيكية حتى كان له أثر عكسي في أن شحذ من عزيمة أعداء هذا المذهب في مهاجمته والانتصار لمذهبهم الجديد، فألف بيرتنجر كتابه: «فن الشعر النقدي» وهو أهم كتبه وأكبرها وأكثرها طموحًا.

وقد كان هذا الكتاب هو الذي استثار أكبر غيظ جوتشد إذ كان أقصى مهاجمة ضده، فازدادت العداوة بين الفريقين حدة وازدادت الهوة عمقًا بين المذهب الكلاسيكي يمثله جوتشد وبين المذهب الرومانتيكي الجدالي يدعو إليه بودمر وبريتنجر، فعمد جوتشد إلى إعادة طبع كتابه في لهجة أعنف وعداوة أحد، وأعلن بودمر وبريتنجر من الجانب الآخر حربهما على جوتشد وعلى الكلاسيكية، وكان كل ذلك إرهاصًا للناقد الكبير: لسنج.

وهذا يشبه من بعض النواحي العداء «في الأدب العربي بين أبي نواس وابن الأعرابي فقد دعا أبو نواس إلى التجديد وهجر بكاء الأطلال وكسب تقدير المجددين وكان ابن الأعرابي لا يؤمن إلا بالقديم، ولكنه لم يكن لأبي نواس من الحماسة والقوة ما ينتصر به مذهبه ويكون منه مدرسة».

لسنج Lessing

هناك خطآن يرتكبهما الناقد حينما يقدم على دراسة كاتب أو ناقد كبير حاز الشهرة، أحدهما: أن يدع للفكرة السابقة مجالًا للتدخل في حكمه فيسلم بعظمة هذا الأديب أو الناقد وقوته الأدبية أو النقدية متأثرًا بشهرته قبل أن يدرسه بنفسه. الخطأ الثاني: وهو لا يقل خطرًا أن يتعمد الناقد مهاجمة الأديب الكبير أو الناقد الذي اشتهر يهاجمه لا شيء إلا لأنه يريد أن يقول شيئًا جديدًا. أي جريًا على مذهب (خالف تعرف)، فيدفعه ذلك إلى الشذوذ والإغراب وإلى التجني والظلم، وفي كلا الخطأين جناية على الحقيقة يجب أن يجتهد الناقد في تجنبها، فلندرس لسنج دراسة نزيهة لا تتأثر بشيء ولا تقيم وزنًا لفكر سابق أو لتجديد مصطنع.

أما أن لسنج من أكبر النقاد فما في ذلك شك، إلا أنه يجب أن نحتاط قليلًا حين نقول ذلك وأن نعرف حقيقة لا بد من معرفتها قبل أن نقرأ لسنج وإلا فقد يخيب أملنا فيه، وهي أن ميوله ليست أدبية، وليست أدبية في أصولها. فلسنج ينفر من الأدب ومن نقده، وهو دائمًا يفضل أن ينقد شيئًا آخر غير الأدب. قد يكون هذا الشيء هو المسرح، وقد يكون الفن، وعلى الأخص الفن القديم الذي يرجع إلى عصور سحيقة في التاريخ. وقد يكون الدراسة الكلاسيكية العميقة، وقد يكون الفلسفة أو اللاهوت، وقد يكون الأخلاق، وقد يكون هذه كلها مجتمعة. ولكنه لن يكون الأدب إلا في القليل النادر.

وقد كان لسنج أول من انتشل النقد الحديث من المصير الذي كان وشيكًا أن يهوى إليه على يد دعاته في المعارك الأدبية التي ألمحنا إليها، فقد كان أول من بين أن النقد الحديث لا ينجذب لحديث على قديم، وأن الناقد يجب عليه أن يعنى بالقديم ودراسته عنايته بالحديث ونقده، فإنه إن كان القديم بغير الحديث كتلة صماء لا نعرف حيويتها ولا يفهم جمالها، فإن الحديث بدون القديم هباء طائر وهراء يتشدق به.

وقد كان لسنج أول من ضرب للنقاد المثل بنفسه، فقد أجمع الإخصائيون على أنه كان أول من بدأ دراسة القديم — وأول من عاد إلى دراسة القديم — دراسة مباشرة حقة مليئة بالعمق والفطنة، فقد كان لسنج يجيد اللاتينية واليونانية ويجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ويحسن الإيطالية وحتى الإسبانية. وقد قرأ المؤلفات اليونانية واللاتينية في لغتيهما الأصليتين، ودرسهما دراسة قوية متغلغلة، وكان بعيدًا عن التشدق الكاذب والادعاء الفارغ الذي كان يمتاز به الناقد الفرنسي والناقد الإنجليزي في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. كما كان بعيدًا عن التزمت والتحجر اللذين كان يمتاز بهما الناقد الهولندي والناقد الألماني في نفس الوقت. فإليه يرجع الفضل في بناء النقد الحديث بناء متين الأساس قوي الدعائم، وإنعامه بالأبحاث الجيدة الرائعة التي لا يمكن إلا أن تستمد من القديم.

وبالطبع لم يكن لسنج مبتكرًا تمام الابتكار، فذلك مستحيل، إنما هو قد تأثر بمن عداه من النقاد، وقد كان أكبر تأثره بشخصين: أولهما أرسطو، وثانيهما: ديدرو ذلك الناقد الكثير الخطأ والسخف. أما أرسطو فهو الأستاذ الأول للسنج في النقد، وبه تأثر إلى حد عظيم، وكان يحمل له إكبارًا قد يبلغ حد التقديس. وأما ديدرو فإن لسنج حقًّا لا ينزله في منزلة أرسطو، وهو ينفر من بعض آرائه، ويفند بعض نظرياته، ولكنه يعترف بفضل ديدرو عليه في تعويده أن ينظر إلى قواعد النقد نظرة حرة، وأن يقدرها تقديرًا استقلاليًّا نزيهًا.

ومن أشهر أعمال لسنج النقدية مجلداته العشرون المسماة Lessing’s works وهو في اثنى عشر مجلدًا منها يعرض للنقد بأن يضع قواعده أو أن ينقد بنفسه فيطبق القواعد. والمجلد الأول يحتوي على مقالاته الشهيرة الرائعة عن الـ fable. وسواء أوافقت على آراء لسنج في مقالاته هذه أم لم توافق فإنك مرغم على الاعتراف بما فيها من العمق والذوق والإتقان التي هي ميزة لسنج في طريقته النقدية، فهو يثبت تاريخ التفكير في هذه المسألة منذ أرسطو و افتنيوس Aphthonius حتى بريتنجر و باتو Batteux، مفندًا الآراء التي لا يوافق عليها تفنيدًا علميًّا، وذاكرًا رأيه هو. ويعطينا بذلك في ستين صفحة مثلًا عاليًا للنقد الموضوعي العام، فيجمع بين وضوح القديم وتناسقه، وبين حيوية الحديث وتعدد صوره في نظام علمي متين.

وفي المجلدات الأربعة التالية نرى عددًا وفيرًا من التعليقات والملاحظات والرسائل الأدبية والمناقشات البلاغية على مختلف أنواعها. وهي نمط جديد من التأليف النقدي طالما انتظره عالم النقد.

ومن المجلد الأول منها الذي كتبه لسنج وهو لا يجاوز الثانية والعشرين يظهر علمه وإطلاعه ومقدرته التفكيرية العميقة ظهورًا لا خفاء فيه.

ومن يقرأ لسنج قراءة دقيقة يلاحظ ظاهرة عجيبة هي أنه لم يول إلا أقل الاهتمام لاثنين من فحول الكتاب في ميدانه الذي امتاز فيه، ميدان الدراما، اثنين قد يعدهما البعض أعظم أبطال الدراما من اليونان، ولا يعارض أحد في أنهما من أعظم أبطاله. وهما أخيلوس Aeschius أعظم شعراء اليونان الدراميين و أرستوفانس Aristophanes أعظم شعراء العالم الهزليين بعد شكسبير، والتعليق الصادق لإهمال لسنج هذين الشاعرين ما ذكرناه من نفور من الأدب بوجه عام ومن الشعر بنوع خاص، ولسنا بهذا نغض من شأن لسنج ومن مقدرته النقدية إنما هي الحقيقة الواقعة التي لا مفر من ملاحظاتها.

وملاحظة ثانية، أن لسنج جاهل بثقافة القرون الوسطى وآدابها، أو معرض عنها، مع أنه مهتم كل الاهتمام بالأدب القديم وبالأدب الحديث المتأخر، ويرجع ذلك أيضًا إلى بغضه للشعر الغنائي العاطفي.

ومهما يكن من أمر، فإنه لا جدال في أن لسنج قد حاز الملكة النقدية وكان منها على حظ عظيم، ونلاحظ أنه كان دائمًا يفضل الكلام في العموميات ويؤثر النقد الموضوعي المجرد Abstract على النقد الذاتي. فقد كان يميل إلى البحث في المسائل العامة والقواعد الشاملة لا في الجزئيات، ولكنه رغم ذلك لم يكن أسلوبه مبهمًا أو مختلطًا أو معقدًا، وكانت لغته صحيحة مضبوطة، وكانت في نفس الوقت خالية من الغرابة والتعقيد.

وينقص لسنج ما ينقص الألمانيين من اللطف واللباقة، ولكنه كثيرًا ما يسود تعبيره سهولة ورقة هي فرنسية أكثر منها ألمانية، في عمق وفكاهة هما ألمانيان أكثر منهما فرنسيين. وعودته في أواخر أيامه إلى المنازعات الجدلية حول الدينيات واللادينيات قد حرمتنا كثيرًا من فكاهته، ولكنها لا تخلو منها خلوًّا تامًّا.

والخلاصة أن لسنج مفكر قبل كل شيء، وأنه كانت لديه خصوبة تفكيرية عظيمة سنلاحظها أيضًا في أستاذه ديدرو.

السابقون الأولون من النقاد الإنجليز

جراي Gray

في إنجلترا، وفي منتصف القرن الثامن عشر، كان النقد قد أخذت تدب فيه حياة جديدة، وكانت قد تكونت جماعة من النقاد لم تكن بالجماعة الكبيرة، ولم يكن أفرادها على وجه العموم من كبار النقاد، قد أخذت تحس إحساسًا مبهمًا فيه غموض وتخبط بالحاجة إلى نظرية جديدة حرة في الأدب، وفي الشعر على الأخص، لم يكن أحد من رجال هذه الجماعة ليعد من كبار أعلام النقد إذا استثنينا جراي، وحتى هذا قد نكون متساهلين بعض الشيء في عده من كبار النقاد. ولم يتح لأحد من رجالها أن يعيش حتى يرى الأبطال الذين حملوا عنهم لواء الدعوة وبلغوا بالنقد أعلى ذورته، ولكن رجال هذه الجماعة كانوا على أية حال المبشرين بميلاد الصبح الجديد، أو هم كانوا فجر هذا النهار الساطع الذي سيفعم عالم النقد بالحيوية والضياء في القرن التاسع عشر.

رجال هذه الجماعة هم Percy, Hurd, Gray,Thomas Warton Shenstone Joseph Warton.

ظل النقد أكثر من مئتي سنة وهو يغفل أدب عصره، ويهمل دراسته ونقده، ولا ينظر إلا الوراء، يستوحي الكلاسيكية نظرياته وأبحاثه ودراساته معرضًا عن أدب القرون الوسطى والأدب الحديث إعراضًا، مجاهرًا بأنه لا يستحق إلا الإهمال، أو جاهلًا إياه، غافلًا عنه غير شاعر بوجوده.

ولكن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. فما وصلت الكلاسيكية أقصى آمادها، حتى بدأت حركة جديدة في الاتجاه المضاد، فوجدنا عديدين من النقاد يلتفتون إلى آداب عصرهم ووجدنا دريدن Dryden — من كبار الكتاب والنقاد الإنجليز — يترجم لشوسر Chaucer — من أقدم الشعراء في الشعر الإنجليزي في القرون الوسطى — ويعلن إعجابه به إعجابًا خالصًا، ووجدنا أمثلة كثيرة غير دريدن لهذا التيار الجديد الذي يُولي آداب العصر شيئًا كثيرًا من العناية والبحث والدراسة، ثم وجدنا كل هذه البدايات قد تجمعت وتركت في شخصية جراي Gray الشاعر الإنجليزي الكبير والناقد الجيد.

جراي هو أكبر أفراد هذه الجماعة الجديدة من النقاد الإنجليز، ولكن لم تكن صبغة النقد هي الصبغة الغالبة عليه، فإن مجموعة أعماله النقدية قليلة، وهي أقل إذا قورنت بأعماله الشعرية، وتلك ظاهرة غريبة، فقد كنا ننتظر العكس، أن يكون نقده أكثر من شعره مادام الشعر لن يتاح للشاعر إلا في ظروف خاصة لا يد له هو في إيجادها، ومادام النقد على الضد من ذلك متيسرًا للناقد في أي وقت أحب إن كان حائزًا للمقدرة النقدية وما توفرت له خلتان: الفرصة، والرغبة، أما الفرصة فلعلها لم تتوفر لناقد في تاريخ النقد كله بقدر ما توفرت لجراي، فإنه لم يكن له عمل آخر يعمله. ولم يكن مشغوفًا مولعًا بعمل آخر، فقد كان على حظ كاف من الثروة أغناه عن امتهان مهنة أو القيام بأعباء وظيفة، أضف إلى ذلك ما حازه من العلم، ومن المواهب، ومن الذوق، ومن الميل، ومن كل شيء إلا الرغبة، والرغبة الصادقة الفعالة المنتجة.

وكم نأسف كثيرًا أن لم يتم جراي كتابه عن تاريخ الشعر الإنجليزي، وأن لم يحاول عشرات الأعمال من هذا الفن النقدي، وأن لم يبذل للنقد إلا أقل اهتمامه، وهو هو أكفأ رجال عصره لهذا العمل، ومن أكفأ رجال التاريخ النقدي كله له.

ولكن برغم ذلك كله، فقد كان لجراي في النقد أكبر التأثير، وكان لأعماله النقدية على قلتها الآثار الجسيمة في بناء النقد الحديث، وإن نقده الخالص الذي إن جمع فلن يبلغ خمسين صفحة، ليفوق في خطره ألوف الصفحات من نقد غيره من النقاد.

ولجراي موقف فريد في تاريخ النقد، فلقد كان مبتكرًا بكل ما تحمل الكلمة من معان، وعلى الرغم من اطلاعه الواسع فإنه لم يكن مدينًا لغيره بأقل نصيب في توجيهه نحو الغاية التي سعى إليها في نقده، فاطلاعه الواسع في الإيطالية، وثقافته العميقة في الفرنسية، لم يكونا ليجعلا لسواه فضلًا في تجديده. وكان يعرف الألمانية معرفة للأسف قليلة، إن لم تكن معدومة ولو أنه أتقنها لكان للحركة الألمانية التي وصفناها تأثير فيه، ولكن ذلك لم يحدث، فجراي إذن مجدد وخالق إلى أقصى حد يستطاع تصوره.

وإن مؤلفه: The Letters ليفيض بآيات النقد التي تشهد له بحظه الكبير من الجدة والابتكار، ومن العمق والطرافة. وهو في رسالته Novel في هذا المؤلف، تلك الرسالة التي كتبها وهو في السادسة والعشرين، يقول هذه العبارة المليئة بالصدق والإخلاص والاستقلال: «إن لغة العصر ليس لها نصيب من الملاءمة للشعر إلا اللغة الفرنسية التي لا يقل نثرها عن شعرها في ملاءمة الروح الشاعرية». ثم يسرد الأمثلة الكثيرة مبرهنًا على صحة رأيه في أن لغة عصره ليست بالتي تلائم نظم الشعر، ويبين عيوب الأسلوب الشعري في عصره، وهو إذ يفعل ذلك إنما يمهد للتجديد الشعري الذي سيجيء به وردسورث.
وفي نفس الرسالة يدافع جراي عن الرواية lyric دفاعًا هو من روائع النقد الأدبي، وإلى هذا الدفاع يرجع أكبر الفضل في هذه المنزلة الأولى التي تحتلها الرواية الآن في عالم الأدب.
ثم نجد لجراي مقالة ذات أهمية عظيمة عن الأسلوب في الشعر القصصي Epic وفي الشعر الغنائي lyric في إحدى رسائله في ديسمبر ١٧٥٦. وهذه المقالة تظهرنا على مقدار الاستقلال والابتكار الذي كان عليه نقد جراي، وعلى حظه من الثقة بالنفس واللهجة الجازمة والإيمان الذي لا يشوبه تردد.

وهو يفتتح هذه الرسالة بهذا الرأي الصادق والذي لم يكن ليؤمن به أي رجل من مدرسة الكلاسيكية الحديثة: «إن الأسلوب الشعري في الشعر الغنائي بما تحويه من آيات العاطفة، وبما يفيض به من فنون الإبداع، وبما يغمره من حرارة الشعور، وبما يشيع فيه من موسيقية اللفظ، هو في طبيعته أسمى من أي أسلوب شعري آخر». ثم يقول: إن هذا هو عين السبب الذي يجعل تحقق هذا الأسلوب مستحيلًا في أي عمل شعري طويل، وإن أسلوب الشعر القصصي وأسلوب الملاحم أسلوب بارد العاطفة، باهت اللون، خال من الروعة الشعرية. وإننا إذ نترك الغناء إلى القصص إنما نترك الشعر إلى النثر.

ويقول: «إن صفاء الأسلوب وبساطته وموسيقيته مع إيجازه هي أحد مواطن الجمال في الشعر الغنائي».

ويوجه هذه الفتيلة إلى الكلاسيكية الحديثة: «إني أصر على أن المعنى ليس له أتفه أثر في الشعر، وإنما كل جمال الشعر في ثوبه الذي يرتديه ومظهره الذي يبدو فيه».

ولجراي مؤلف هو The Observation نأسف أن خصص معظمه لنقد أرستوفان وأفلاطون، فإن النقد لم يكن بحاجة كبيرة إلى معلومات زيد عن هذين الشهيرين، وكان بإمكان أي ناقد عادي أن يكتب عنهما ما كتبه جراي، وكنا نفضل لو أن جراي وجه جهوده التي بذلها في نقدهما إلى ميادين أخرى كانت في أشد الحاجة إلى عبقريته الممتازة، فإنه لم يكن في أوروبا في عصر جراي من امتلك من المواهب وسعة الاطلاع حظًّا مثل الذي حازه جراي يؤهله لأن يؤلف في النقد الأدبي الخالص، وفي النقد المقارن، وفي دراسة تاريخ الأدب الإنجليزي وتطوراته، وفي أمثال هذه الضروب مما كان النقد في افتقار إليه عظيم؛ ولذلك لا يسع الإنسان إلا أن يأسف أشد الأسف إذ يجد جراي لم يؤلف في هذا الميدان في خلال حياته غير القصيرة والتي كان فيها غير ذي عمل إلا ثمانين صفحة صغيرة عن الأوزان الإنجليزية وعن أشعار الشاعر Lydgate. ولكن لنحمد الله على هذا القدر ولندرسه.
فأما مؤلفه Netrum فهو يدرس فيه البحور والأوزان الشعرية والقوافي في الإنجليزية دراسة رائعة قوية، هي الأولى من نوعها في تاريخ النقد الإنجليزي وهو يعرض لهذه الأوزان باحثًا محللًا منتقدًا، متفقدًا حظها من الإتقان أو النقصان، عائبًا ما فيها من القصور وقلة التنوع والتجدد، داعيًا إلى التجديد والابتكار فيها، وإن هذه الأبحاث في نظام دراستها وصدق ملاحظتها وهمّة أحكامها لتمثل مكانة فريدة في النقد الإنجليزي.
ودراسته النقدية John Dydgate ترينا إلى أي حد كان جراي يستطيع أن يصل بالتأريخ الأدبي، فهي تفوق في إتقانها وأسلوبها في البحث أي تاريخ أدبي ظهر قبلها في أوروبا كلها. وهي خليط ممتع من تأريخ سيرة الشاعر، ونقد خصائصه الشعرية، ودراسة شخصيته المتميزة، ومن التأريخ، ونقد الكتب، والتعرض لمختلف المسائل التي تتصل بالموضوع، والتحليل المطول لموضوعات عامة شاملة.

ونضيف إلى هذا أعمالًا لجراي قد لا تتصل بالنقد اتصالًا ظاهرًا، ولكنها في صميمها كانت نقدًا صامتًا للذوق الأدبي والتقاليد الأدبية في ذلك العصر في إنجلترا، وفي أوروبا على وجه العموم.

ونعني بها شعره الإنجليزي التجديدي، ومختاراته من الشعر الإسكنديناوي — السويد والنرويج — التي ترجمها وحاكاها، فإن هذه المختارات كانت من لغات وآداب لم يكن أحد قد اهتم بها من قبل، فأصبحت بعد ترجمة جراي لها — لا معروفة فقط في عالم الأدب — بل محدثة أيضًا آثارها الفعالة في أوضاع الآداب الأخرى.

•••

والخلاصة أنه مهما تكن أعمال جراي النقدية قليلة فإنها قد أكسبت النقد جدة وحيوية، إن لم نقل إنها خلقت النقد الحق خلقًا، وتمتاز هذه الأعمال بميزتين جليلتين: إحداهما الاستشهاد الدائم بحقائق التأريخ. والثانية الاستعداد المستمر لتلقف الجديد، سواء أكان جديدًا في ماهيته وذاته، أم كان جديدًا لأنه كان حتى حينئذ مهملًا منبوذًا.

وتلك عناية بالجديد لم تصرف جراي عن القديم بحال، فإن جراي كان متغلغلًا في دراسة الشعر الكلاسيكي إلى أقصى حد مستطاع، وكان متقنًا لهومير وفرجيل إتقانه لدانتي وملتن ودريدن، وكان مع ذلك يرى أن لكل زمان أدبه وأذواقه. فإذا أضفنا إلى ذلك كله شعره التجديدي أدركنا ما لجراي من فضل في بناء صرح النقد الأدبي الحديث.

ديدرو والتطور الفرنسي Diderot

من الأقوال الشائعة: إن أعظم الفضل وأكبر الأثر في هدم الكلاسيكية في فرنسا، وهي معقلها الحصين، يرجعان إلى ديدرو.

فمن هو ديدرو؟

هو ذلك الناقد الفرنسي العجيب الذي ترك لنا من تأليفه عشرين مجلدًا في منتهى الضخامة، والذي كان يمتلك قدرة عجيبة على أن يتكلم في أي موضوع وأن يتحدث عن أي نوع من أنواع الفن، في الأدب وفي التصوير وفي النحت وفي الرسم، وهو في كل مجال من هذه فياض في حديثه في غزارة.

وهو أول ناقد شهير عرفه تاريخ النقد على استعداد لأن يتكلم في أي ضرب من ضروب الفن، وفي كل ضرب من ضروب الفن يجتذب انتباه القارئ ويستدعي اهتمامه، فينكب عليه يدرسه في حرارة وشوق وإخلاص سائرًا في دراسته يهدي عاطفته وانفعاله ويهديها وحدهما.

فلعل أبرز ميزة في ديدرو أنه انفعالي impressionst تخضع أحكامه النقدية لعاطفته وتأثره لا لمبادئ لديه مقررة أو لنظريات عنده معممة، فديدرو أبعد ما يكون عن النظريات والتمسك بها، فإن كان له نظريات فهي أبدًا تتبع انفعاله وتأثره، وليست كالمعتاد في النظريات من أنها تضبط الانفعال وتنظمه.
وناقد كهذا لا يمكنه أن يخلو مطلقًا من الخطأ ومن الهراء ومن شذوذ الآراء ومن المبالغة في الأحكام إلى درجة غير معقولة تبلغ حد السخف، ولعل خير مثال لهذا وأشهر مثال لهذا هو نقده لرتشاردسن Richardson (من روائي الإنجليز) Richardsonéloge فانظر إلى ما ينصبه ديدرو من آيات المدح والثناء على ذلك الشويعر والقصصي الذي لا يجاوز الطبقة العاشرة من كتاب القصص: «رتشاردسن؟ وما أدراك ما رتشاردسن؟ إنه ليغرس في النفس كل الفضائل غرسًا يكسيها الفضيلة عاجلًا أو أجلًا! إنه ليعرف كل نوع من أنواع الحياة وكل ضرب من ضروب المعيشة، وينفذ إلى أعماق أسرارها نفاذًا غير قابل للخطأ، إنه لينشر في الكون العطف والعدل والتسامح.

أهنالك في هذا العالم من يبلغ به الحمق والطيش وانعدام الإحساس إلى حد أن ينتقص من عظمة رتشاردسن؟ إن رتشاردسن يجب أن يقرأ في لغته الأصلية ويجب أن يدرس في كل مجتمع. رتشاردسن إنجيل جديد يقرؤه الجميع ولا يفهمه إلا خاصة الخاصة، إنه لأصدق من التاريخ، إن صديقًا لديدرو برغم أنه لم يقرأ إلا الترجمة الفرنسية بكى وصاح وهطلت سحائب دمعه وأخذ يذهب ويجيء دون أن يعرف ماذا يصنع. إيه أيها الزمان! أسرع في دورانك وعجل لرتشادرسن بأكاليل المجد وتيجان الفخار!»

لم كل هذا التحمس وكل هذا الانفعال.

نلاحظ إذن هذا الاندفاع التأثري في ديدرو، وهو اندفاع يبلغ كما نرى حد السخف في كثير من الأحيان، وليس معنى ذلك أن كل أحكام ديدرو خاطئة من أساسها. كلا، فإن العدل يحتم علينا أن نعترف له بصدق نظرته في كثير من الأحيان، ولكن هذه المبالغة غير المعقولة هي التي تؤخذ على ديدرو، ففي هذه الحالة مثلًا نرى أن رتشاردسن ليس عاريًا من كل ميزة تجعله على استحقاق لبعض ما يغمره به ديدرو من مدح، فلقد كان أول قصصي في التاريخ الأدبي جمع بين طرافة الموضوع وتشويقه وبين طرافة الشخصيات وتشويقهم، وأول من حقق وحدة الفكر في الـ novel، وجعل القصة تقوم على أساس مشترك من العواطف والأخلاق. فديدرو وإن يكن مبالغًا فهو على حظ من الصواب، وإنما هي نقطة الضعف في طبيعته المنفعلة السريعة التأثر، أو هي عبقريته المتميزة الذاتية دفعت به إلى ما رأينا.

والآن نتعرف منزلة ديدرو في عالم النقد:

لا ترجع منزلة ديدرو الممتازة في علم النقد وعلم الجمال إلى كثرة مؤلفاته وتنوع تصانيفه، بقدر ما ترجع إلى حقيقة أنه لم يكن له مبدأ مقرر أو حد لا يتجاوزه أو دائرة لا يخرج عن محيطها، فهو كما قلنا يكتب في كل نوع من أنواع الفن، ومن أعظم أسباب ما يحتويه نقده من التشويق والطرافة والإبداع تلك الكيفية التي بها يستمد أقواله من كل الفنون ويصب آراءه في كل الفنون دون أن يدع فنًّا يختلط بفن أو ضربًا يتعارض مع ضرب وسواء أكان ما يتكلم فيه أدبًا أم تمثيلًا أم رسمًا أم نحتًا فإن شغف ديدرو هو هو وتحمسه هو هو، والموضوع دائمًا في نظر ديدرو متصل بالعاطفة الإنسانية فهو لذلك يستحق التقدير والفحص، ويستحق هذه الدراسة العميقة التي يكاد يعطينا ديدرو خلالها دائرة معارف عامة، وكثيرًا ما يكون ديدرو مبتكرًا ومجددًا، كما في كتابه الشهير Paradox aure Com édien. وهو وإن تغلغل في الجزئيات والتفاصيل فإنه لا يخرج أبدًا عن أصل الموضوع بل يظل دائمًا على اتصال بوحدته العامة، كما نجد في مقالته De La Poésie Dramatique. ثم هو أخيرًا على مقدار عظيم من الخصوبة التفكيرية، وعلى درجة منها لم يحزها قبله ناقد ولم يحزها بعده إلا الأقلون.

فمهما يكن من عيوب نقد ديدرو، ومهما يكن من انفعاله وتأثره فهو نقد حي ممتع مليء بالحيوية والتشويق. أما ذلك النقد الآلي الجامد القائم على الاستنتاجات الميكانيكية والأحكام المنطقية الذي نجده لدى من قبله من النقاد فهو نقد ميت لن ينتج إلا نسخًا مكررة لا شخصية فيها ولا حياة.

ولعل هذه الميزة في ديدرو هي التي جعلت أمثال لسنج وجوته يجدون فيه أستاذًا وملهمًا ينفق روحًا وحيوية.

جان جاك روسو

لم يكن روسو ناقدًا أدبيًّا بل كان رجل اجتماع وأخلاق فقط، فليس له إذن محل هنا. قد يعترض البعض بأن تأثيره العظيم في تطور كل الميادين الفكرية ومنها ميدان النقد يجعله يستأهل الدراسة في تاريخنا النقدي هذا، ولكن كونه ذا تأثير عظيم في نقاد الأدب ليس معناه أنه ناقد أدبي، وإلا فقد كان واجبًا علينا ما دام سقوط القسطنطينية كان له هذا التأثير العظيم في النهضة الأوروبية التي شملت النقد فيما شملته، كان واجبًا علينا إذن أن نتعرض لهذا الفتح بالدراسة والتحليل والقصص، ولا نظن أن هناك من يطالبنا بمثل هذا العمل.

والخلاصة أنه كان لتأثير ديدرو المباشر، وتأثير جان جاك روسو غير المباشر فضلهما الكبير في تغيير آراء الناس في فرنسا في النصف الأخير من القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ أي في اضمحلال الكلاسيكية الحديثة، وبناء الحركة الرومانتيكية.

مدرسة الجماليين وتأثيرها

نحن نتعمد في هذا المؤلف تجنب الفلسفة والمناقشة الفلسفية والتحليل الفلسفي. ذلك لأننا نرى أن الفلسفة شيء وأن النقد الأدبي شيء آخر، وما دخلت الفلسفة النقد إلا وأفسدته وجنت عليه وأضاعت من ميزته الخاصة، ولعل أكبر النقاد المتفلسفين أفلاطون وكولردج، أما أفلاطون فلم يترك لنا في النقد الخالص شيئًا يذكر إلا نظرية خاطئة في أكثر الأحيان، وأما كولردج فإنه كلما ازداد تعمقًا في فلسفته ازداد عمقًا في النقد الحق.

وسبب ذلك أن الفلسفة تعنى بمسائل التفكير المجرد الخالص، أما النقد الأدبي فمسائله التي يهتم بها تقوم على الذوق في أكثرها. والذوق لا يعلل، فلن تستطيع أن تفهم العلة في أن كلامًا ما في صورة ما ينير في الإنسان عواطفه ويؤجج شعوره بينما هو في صورة أخرى لا يحرك في الإنسان ساكنًا، حقًّا قد تستطيع أن تستكشف بعض التجانس الموسيقي بين ألفاظ هذا الكلام أو بعض التنغم الجميل فيه أو بعض المهارة في إرضاء العين والأذن، ولكنك مع هذا كله لن تستطيع أن تعلل لم يرضى هذا التجانس ولم يعجب هذا التنغيم ولم تسر هذه المهارة.

نحن لا نسخر من نظريات علم الجمال ولا نحتقرها، إلا أننا لا نعتبرها أكثر من تسلية عقلية.

ولكن برغم هذا فإننا نتتبع التغيرات التي طرأت على نقد القرن الثامن عشر فإحالته إلى هذه الصورة التي ظهر فيها في القرن التاسع عشر ولا نستطيع أن نغفل ما كان لمدرسة علم الجمال من تأثير كبير إن حسنًا وإن سيئًا في إحداث هذا التغيير. ونعني بعلم الجمال هذا الفرع الفلسفي من علم النفس الذي يبحث في قوانين الجمال، والذوق الجمالي، والدراسة النفسية للفن بوجه عام.

وقد درسنا قبل بعضًا من رجال هذه المدرسة الجمالية مثل لسنج وديدرو. والآن ندرس رجالًا من أشهر رجالها في فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وإنجلترا.

ترجع بدايات الدراسة الجمالية إلى ديكارت (في النصف الأول من القرن السابع عشر) فإن هذا الفيلسوف كان حقًّا أبا الفلسفة الحديثة بكل علم من علومها وفرع من فروعها. ومنها فرع دراسة الجمال: ذلك أن المبدأ العام لفلسفته من إخضاع كل شيء للتفكير المجرد، مضافًا إلى إلحاحه في وجوب كون الطريقة محددة واضحة، كان لا بد له من أن يقود إلى استكشافات جديدة في فكرة الجمال والأدبيات، فشهد الجيل الثاني أو الأجيال التالية لديكارت دخول التقليد المجرد في نظريات الأدب.

ففي إنجلترا كان لوك Locke، وهو العدو للأدب وللشعر بنوع خاص ذا تأثير قوي على أديسون وعلى كل إنجلترا في القرن الثامن عشر، وفي فرنسا كان نفس التأثير للأب أندريه الذي هو ابن الفلسفة الديكارتية، وفي إيطاليا كان لـ فيكو Vico تأثير عظيم في مثل هذا النوع. وفي ألمانيا خلق ديكارت ليبنز Lebniz وخلق لبينز ولف Wolff. وإلى طريقتهما الفلسفية فيرجع الفضل في بدايات الدراسة الجمالية التي ظهرت في بريتنجر وفي بومجارتن Baumgarten وغيرهما.

فديكارت إذن صاحب الأثر الأول في نشوء الدراسة الجمالية في هذه الدول جميعًا إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا.

كيف نشأت الدراسة الجمالية في ألمانيا

ترجع نشأة هذه الدراسة في ألمانيا إلى سبب سلبي عاونه سبب إيجابي. أما السبب السلبي فهو ندرة الكتاب العظام في الأدب الألماني، فلما جاء النقاد من مثل: بودمر وبريتنجر وجوتشد وأرادوا أن يستغلوا موهبتهم النقدية لم يجدوا أمامهم كتابًا كبارًا ينقدون أعمالهم الأدبية. فدفعهم هذا النقص إلى التفكير المجرد، فلجئوا إلى النقد الموضوعي، ما داموا لم يجدوا موضوعات للنقد الذاتي التطبيقي. أما في إنجلترا مثلًا فقد كان شوسر وسبنسر وشكسبير وملتن ودريدن موضوعات غنية للنقد الذاتي.

عاون هذا العامل السلبي عامل إيجابي هو ذلك الميل العظيم الذي عرف به الألمان نحو التعلم والتزيد من الثقافة، فلما وجدوا أدبهم فقيرًا لجئوا إلى مقارنة غيره من الآداب ودراستها دراسة مجردة، وأمدتهم الفلسفة الولفية بطريقتها القوية المفيدة.

وقد يرجع غلي بريتنجر Breitinger الفضل في أنه أول من حاول محاولة قوية بارزة أن يشتغل بنظرية الفن والأدب أي يبحثهما بحثًا نظريًّا مجردًا كما يرجع إلى بومجارتن Baumgarten الفضل في ذيوع كلمة Aesthetics وفي صياغة الدراسة الجمالية في قالب ذاتي خاص بها. وقد استعمل هذا الاسم في رسالة جامعية في سنة ١٧٣٥ وهي سنة مبكرة، ولكنه بدأ في نشر مؤلفه Aethetica بعد خمسة عشر عامًا جمعه من محاضراته في خلالها.
والرسالة الجامعية واسمها De Nonnullis Ad Poema Pertinentilws هي بداية التبدل الجديد في النقد، إذ ينقد هو فيها القصيدة نقدًا مجردًا، بطريقة متأثرة بهذا الاتجاه الجمالي الجديد.

فرنسا Père André

كان لكتابه المشهور: دراسة عن الجميل Essai sur le Beau آثاره في العصر كما أثر في الأدب، وبرغم ذلك فإنك إذا قرأت الكتاب لم تجده يولي الأدب اهتمامًا يذكر، حتى إن كلمة «أدب» لم تذكر في الفهرست في ختامه وهو يضع قواعد عامة يحاول أن يخضع الشعر لها، وهي قواعد مبهمة وعقيمة ومسرفة في التعميم والبحث النظري المجرد، وهو يضع هذا الجدول للجميل فيقول: إن الجميل هو:
المطلق arbitrary، الخلقي moral، القومي national، الروحي spiritual، الضروري essential، الموسيقي musical، المعقولي sensible، المرئي visible

إيطاليا Vico

كان فيكو موجهًا أعظم ميله نحو التاريخ والدراسات التاريخية، وهو منشئ الطريقة التاريخية في النقد وأول مطبق لها على الأدب، فهو لا ينظر إلى الشعر إلا من حيث أنه اللغة الأولى للإنسان، فهو الديوان الذي يسجل أحداث التاريخ الأول، والشاعر على ذلك هو أصدق مؤرخ للعصر، فدراسة شعره هي استنباط أحوال عصره في هذا الشعر.

وقد حاول فيكو أن يجعل من النقد علمًا صرفًا ذا قوانين عامة شاملة وقواعد تفكيرية مجردة. فليس نقده بالنقد الأدبي الخالص، إنما هو بحث علمي في الأدب له كل مميزات الدراسات العلمية المجردة، فهو في ميدان العلم قد أدى خدمات جليلة من غير شك، ولكنه في عالم الأدب كان ذا تأثير ضار سيئ لغلوه في النزعة العلمية التي تنفر منها طبيعة الأدب.

إنجلترا David Hume

من الصعب أن نعد هيوم ناقدًا، بل هو أقرب إلى أن يكون عالمًا نفسانيًّا وفيلسوفًا، فأغلب دراساته هي أبحاث نفسانية وطبيعية وفلسفية وقل أن تكون أبحاثًا في النقد الأدبي. فهو لم يكن له ميل قوي نحو الأدب ولم يكن قد وهب الذوق الأدبي الصافي، فلو أنه نظر إليه من ناحية آرائه الأدبية فحسب لما عد كاتبًا ذا شأن فهي قليلة وضئيلة الأهمية، ولكن قيمته في دراساته النفسانية والإنسانية التي تجعل منه كاتبًا ممتازًا.

•••

والخلاصة أن هؤلاء العلماء قد حاولوا تغليب الفلسفة على النقد الأدبي، وحاولوا أن يبحثوا الأدب ومسائله بحثًا نظريًّا مجردًا. وكانوا في محاولتهم هذه مخطئين، فللفلسفة طبيعة وللأدب طبيعة أخرى مغايرة، ومن ضياع الوقت أن تحاول تعليل الجميل والبحث في السر في أنه يستدعي الإعجاب، فذلك أمر يقوم على الذوق المحض والذوق لا يعلل، فالجميل هو ما يعده الإنسان جميلًا، أما أن تحاول إيجاد نظريات وقواعد لا بد من توافرها في الشيء لكي يكون جميلًا فهو عبث لا فائدة فيه، ومهما علمنا عن النفس وطبيعتها وعن الإحساسات والانفعالات وماهيتها فلن يفيدنا ذلك شيئًا في فهم الجمال أو تعليل الجميل، ولنضرب لذلك مثالًا: هذا الرجل الذي مهته أن يتذوق الخمر أو أن يتذوق الشاي، فلن يفيده قلامة ظفر أن يعرف تركيب اللسان ومسامه ولا نظرية حدوث حاسة الذوق ولا المعلومات النباتية عن العنب أو الشاي ولا المعلومات البيولوجية عن التربة التي ينمو فيها هذان النباتان.

ولقد كان إغراق العلماء في البحث النظري المجرد عن طبيعة الجمال وماهية الجميل عاملًا على ابتعادهم عن فهم الجمال وتقدير الجميل وتذوقهما، إذ اندفعوا في بحث فلسفي تفكيري هو أبعد الأشياء عن روح الجميل.

ولكن برغم ذلك كله كان لمدرسة علم الجمال تأثيرها في بناء النقد الحديث وفي إطلاق النقد من القيود والأوضاع التي كان يلازمها خلال القرون الماضية. فالحركة الجمالية حركة جديدة قبل كل شيء، فهي نوع جديد من البحث وطراز مبتكر في الدراسة لم يكونا معهودين من قبل، فمجرد ممارستها تحرر من الطراز القديم في البحث والدراسة.

ومن ناحية أخرى نجد أن انكباب النقاد على البحث الجمالي النظري أتاح لهم الفرصة لكشف أضرار المذهب الكلاسيكي وتعرف أخطائه النقدية، فعرفوا مثلًا أن ملتن لم يكن مجرد خيالي يتعلق بالأوهام، وأن شكسبير ليس مجرد دجال كما كانوا يظنون.

بين الكلاسيكية والرومانتيكية

المعنى اللغوي للكلاسيكية Classicism

أما ism فهي الأداة المعروفة التي تلحق لتكون اسم المذهب أو العقيدة أو الحركة وهي التي نجدها في روما نتيسزم وهيومانزم وناشورالزم وغيرها. وأما classic فإنها من اللفظة اللاتينية classicus في المفرد classici في الجمع، وتطلق على الطبقة العليا في المجتمع، فقد كانوا يقسمون المجتمع في روما إلى طبقات ست أعلاها طبقة الكلاسيكي Classici. ومن هنا سمي كتاب الإغريق والرومان classics أي كتاب الطبقة الأولى أو النموذج الذي يحتذى، ثم استعملت الصفة classical في وصف الأدب القديم اليوناني والروماني وفي سائر أنواع الفن القديم. واستعملت على الأخص في مقابلة romantic ثم اشتقت لفظة classicm وعني بها المذهب الذي يدرس أدب القدماء اليونان والرومان والذي يتشبع ويتعصب لهم، ثم استعملت لفظة classicism في مقابلة Romanticism ويعنون بالأخيرة الحركة التي ظهرت تعارض الكلاسيكية التي سنتفهمها بعد.
ونريد أن ندرس الحركة الكلاسيكية classicism فيجب أولًا أن ندرس تاريخها ونتتبع نشوءها وتطورها في أوروبا.
بدأت الحركة الكلاسيكية مع النهضة الأوروبية العظمى المعروفة بالـ Renaissance. فنحن مضطرون إلى أن نستعرض هذه النهضة ونتبين فيها بدايات المذهب الكلاسيكي.

حدثت النهضة الأوروبية قبل بداية العصور الحديثة، ونحن نعلم أن العصور الحديثة تبدأ بالقرن السادس عشر، وأن العصور الوسطى تنتهي بالقرن الثاني عشر، وأما ما بينهما وهي القرن الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهي الفترة التي توسطت بين العصرين الأوسط والحديث والتي سارت فيها أوروبا سيرًا تدريجيًّا نحو التخلص من نظم القرون الوسطى وتقاليدها والسعي في سبيل المدنية الحديثة، فما جاء القرن السادس عشر حتى كان التطور قد تم فبدأت العصور الحديثة الحقة. تلك الفترة المتوسطة تسمى عصر النهضة، ويعني به العصر الذي وقعت فيه كل التغيرات التي نقلت أوروبا من حياتها في القرون الوسطى — تلك الحياة المحدودة سواء في التفكير أو الأدب أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها من مظاهر الاجتماع — إلى حياة أوسع وهي الحياة الحديثة.

فما هي النهضة؟ إذا قلنا النهضة Renaissance عنينا مدلولًا واسعًا هو ذلك الانتعاش الذهني الشامل الذي تناول نشاط الإنسان في كافة نواحي حياته ومرافق معيشته، ولكن للنهضة مدلول أخص وأضيق من هذا هو حركة إحياء العلوم والفنون Rovival of Learning. فحركة إحياء العلوم والفنون كانت أبرز مميزات النهضة وكانت أخطر العوامل التي عاونت على تبديل حالة المجتمع وتطور نظم الحياة، فدراسة النهضة هي في الحقيقة دراسة حركة إحياء العلوم والفنون وإذا قلنا النهضة فنحن في الحقيقة نعني هذه الحركة العظيمة التي ارتدت نحو آداب اليونان والرومان وفنونهم تبعثها وتحييها.

ما كانت النهضة الأوروبية لتحدث لولا عوامل سبقتها فمهدت لها ولظهورها وعاونت في زعزعة نظم العصور الوسطى واضمحلال تقاليدها. ونجمل الإشارة إلى هذه العوامل.

فمن أهمها ذلك الانحلال الذي دب دبيبه في كيان البابوية وفي كيان الإمبراطورية من طول تطاحنهما، فبدأت الشعوب تتخلص من هذين الكابوسين الثقيلين وبدأت تفوز بقسط من حقوقها السياسية، وأخذت تسعى سعيًا تدريجيًّا نحو النهوض والحرية، وأخذت الأمم الحديثة في التكون، وأخذت تنشأ فيها حكومات قوية مستقلة عن نفوذ البابوية والإمبراطورية، وكل هذه العوامل كانت معاول في هدم هيكل العصور الوسطى. فما هي العوامل التي كانت الأدوات في بناء صرح العصور الحديثة؟ أو بعبارة أخرى ما هي أسباب النهضة؟

من أشهر أسباب النهضة مسألة سقوط القسطنطينية، فإنه لما سقطت هذه المدينة في منتصف القرن الخامس عشر ١٤٥٣ في أيدي الأتراك فر منها علماء اليونان حاملين كتبهم ومخطوطاتهم الإغريقية فلجئوا إلى إيطاليا حيث أخذوا يعلمون في جامعاتها وينشرون ما معهم من نفائس العلم وذخائر المعرفة.

ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد للنهضة، فقد سبقته أسباب مهدت له، هي أن أوربا نفسها كانت متيقظة وذات رغبة عظيمة وظمأ شديد إلى التزيد من المعرفة والتوسع في المعلومات، فما حدثت الهجرة حتى لاقت جوًّا صالحًا وظروفًا جد ملائمة لإحداث آثارها.

ومن أهم تلك الأسباب استكشاف الطباعة، فإن اهتداء يوحنا جوتنبرج في منتصف القرن الخامس عشر إلى هذا الاختراع الجليل كان عظيم الأثر في ذيوع المعرفة وشمولها طبقات الشعب المختلفة بعد أن كانت لغلاء الكتب ونفاسة المخطوطات مقصورة على طبقة ضئيلة جدًّا.

وسبب ثالث هو أنه وجد لحسن الحظ أمراء جدوا في نشر المعارف وتعضيد الفنون والآداب رغبة منهم في ارتفاع ذكرهم، ومثال ذلك ما فعله أمراء المدن الإيطالية فلورنسا والبندقية وغيرهما.

كل تلك الظروف والأسباب أدت إلى نشوء النهضة وظهورها، ولكي نتفهمها حق التفهم ندرسها في دولة من الدول الأوروبية العديدة التي شملتها هذه النهضة. ولتكن هذه الدولة إيطاليا، لأنها كانت أسبق الأمم إلى النهوض، ولأن حركة إحياء العلوم والفنون مدينة لها بالفضل الأعظم والأثر الأكبر. كانت إيطاليا أول دولة نهضت لعوامل أتاحت لها ذلك منها: أنها كانت في حالة هدوء وسلم نسبيين إذا قيست بالاضطراب الذي كانت سائر الدول الأوروبية غارقة فيه. ومنها مركزها التجاري الهام المتوسط بين الشرق والغرب والذي عاد عليها بالغنى والأموال والثروة فانتشر الرخاء ووفرت الأقوات فاستطاع الناس أن يقوموا بالبحث والدراسة. ومنها انقسامها إلى مدن عديدة يتنافس أمراؤها في النباهة والصيت فتسابقوا إلى تشجيع العلوم ونشر الفنون وتعضيد الحركة الإحيائية. فهم في ذلك يشبهون تنافس أمراء الدويلات العباسية العديدة في اجتلاب الشعراء والعلماء والأدباء.

وهنا تجيء هذه الأسماء الطنانة دانتي وبترارك وبوكاشيو.

فأما دانتي فيمثل لنا مفترق الطرق، فهو الصلة بين عهد ماض منصرم وعصر قادم جديد. ومؤلفه الشهير «الكوميديا الإلهية» خير ما يمثل هذه الحقيقة، فهو من ناحية مكتوب بالإيطالية الحية، وهو من ناحية أخرى يتناول أفكار القرون الوسطى وآراءها ونظراتها.

وأما بترارك، فهو حقًّا أول رجال النهضة The first modern man وبه تبدأ النهضة الحقيقية. النهضة بمعنى الرجوع إلى القديم بالإحياء والبعث والنشر وبالدراسة والتنقيب، ونعني بالقديم أدب اليونان وفنهم وأدب الرومان وفنهم، فقد كان بترارك مغرمًا باللاتينية وأشعارها وأدبها وبروما ودراسة تاريخها حتى إنه انكب على جمع مختلف الأنواع من النقود والمداليات الرومانية والآثار الرومانية القديمة. شغف بترارك بالأدب الروماني والفن الروماني فكان شغفه الكهرباء التي انبعثت في إيطاليا فأنتجت هذه الحركة العظيمة نحو البحث عن القديم واستكشاف آثاره وكنوزه، وكان بترارك أول عامل في هذه الحركة، فقد كان يكره العصور الوسطى ويرى أنها كانت عصورًا متبربرة، وأن النموذج الوحيد والمثال الحق للثقافة والمعرفة إنما هو الأدب القديم والفن القديم، فاتجه إلى دراسة هذا الأدب، وتعلم اللغة اللاتينية وأتقنها وأخذ يكتب فيها مؤلفاته، فكان بذلك أول من عمل عملًا جديًّا في حركة إحياء العلوم والفنون.

ثم يجيء بوكاشيو، الذي لا يقل أثره عن أثر بترارك، وكان معاصرًا له، وقد اتجه بوكاشيو نحو اللغة اليونانية فدرسها وأتقنها وتفهم الأدب اليوناني.

فكان بترارك وبوكاشيو أول من حفر للنهضة هذا المجرى الذي اتخذته واستمرت فيه، وهو العودة إلى الكلاسيكيات أو الآداب والفنون القديمة بالدراسة والتفهم والتقليد.

وبذلك اصطبغت النهضة الأدبية في إيطاليا منذ البدء بصبغة التقليد القديم. فميكافلي في كتابه الأمير، وآريوستو في قصيدته المشهورة Roland، و تاسو Tasso في قصيدته عن استرجاع بيت المقدس، وغيرهم من الأدباء الإيطاليين إنما كانوا يستوحون القديم في موضوعاتهم وأسلوبهم وأبطالهم وأحداث قصصهم.

ولم تكن النهضة الفنية بأقل من النهضة الأدبية في ميدان التقليد للقديم، وخصوصًا لأن البلاد كانت ملأى بالآثار الرومانية، فانتقل فن البناء المعماري من الأقواس المحدبة القوطية إلى القوس المدور الروماني أو السطح المفلطح الإغريقي، وفي النحت والحفر والتصوير وسائر الفنون اتجه الفنانون نحو القديم يقلدونه ويحذون حذوه.

تلك هي بداية الحركة الكلاسيكية، بدأت بالظهور مع النهضة جنبًا إلى جنب، ونلاحظ قبل كل شيء أن هذه الحركة كانت في أولها نافعة جلية الفائدة للإنسانية وللعلم والمعرفة، فإذا قارنا جهل القرون الوسطى وظلماتها بما عم القرون الحديثة من النشاط التفكيري والتقدم الذهني والنهوض الأدبي والفني لم نبخس هذه الحركة حقها.

وإنما نشأ العيب فيها حين بالغت في روح التقليد فاستحالت كما سنرى إلى قوالب جامدة وقيود ثقيلة ميتة.

بدأ هذا الخطر، خطر المبالغة في تقليد القدماء، في اللحظة الأولى التي بدأت فيها حركة إحياء العلوم والفنون في إيطاليا. ثم أخذ يشتد ويتفاقم نظرًا للعوامل الأربعة الآتية:
  • الأول: أن إيطاليا كان لها ماض مجيد في ميدان العلوم والمعارف، وكانت ثقافتها القديمة أقوى الثقافات وأنضجها، فكان ذلك داعيًا إلى أن عثرت إيطاليا بهذا القديم وأعجبت به وانساقت من الإعجاب إلى الإجلال ومن الإجلال إلى التقديس ثم إلى ما يشبه العبادة.
  • الثاني: أن الأدب الإيطالي القديم كان أدبًا منضبطًا محددًا بالرسوم والتقاليد. فلما لجأت إيطاليا إلى بعثه تأثرت بهذا الروح بل بالغت في ذلك حتى استحال الطليان إلى مجرد متنافسين حول المسائل اللغوية البحتة وحول الشكل والوضع والتقاليد أكثر مما عنوا ببحث الجوهر.
  • الثالث: أن إيطاليا لم يكن لها في العصور الوسطى أدب قيم، فانحصرت كل جهود الطليان في دراسة الأدب القديم ففقدوا بذلك هذا العامل الذي كان سيكون وسيلة مهمة في حفظ التوازن لو أنهم كان لهم أدب متوسط ناضج يحملهم على توجيه بعض عنايتهم له.
  • الرابع: أن الإيطاليين كانوا شديدي الشغف بالمسائل اللغوية والمناقشات النحوية والدراسات الاشتقاقية والصرفية. وبذلك كله اتجهوا منذ البدء نحو اللفظ دون المعنى، نحو القالب والشكل دون الجوهر واللباب، نحو الأوضاع والرسوم والتحديدات.
من كل هذه الأمور نستنبط أن الكلاسيسزم اقترنت منذ البداية بهذين العيبين الجسيمين.
  • أولهما: تقديس القدماء إلى حد اعتبارهم فوق الخطأ، واعتبارهم كاملين في كل شيء، واعتبارهم قد بلغوا أقصى ما يمكن أن يبلغه البشر، فليس لمن جاء بعدهم إلا أن يقلدهم ويسير في الطريق التي رسموها.
  • ثانيهما: أن الكلاسيسزم أخذت تعنى بوضع التحديدات وعمل القوالب التي ينبغي أن يصب فيها الأدب، فضيقت على الأدباء وأرهقتهم بالقيود الثقيلة وحصرتهم في مجرى ضيق لا يملكون أن يخرجوا منه.

بدأ هذا الخطر، خطأ التضييق والتحديد، منذ القرن السادس عشر، ثم جاء القرن السابع عشر فلم يفعل شيئًا إلا أن جسّمه وزاد فيه، فاشتدت القيود، وازدادت التحديدات وكملت القوالب والأوضاع، وتم تحديد الأنواع التي يجب أن تكون الآداب إحداها وإلا تخرج عنها، وستزداد فهمًا لهذا بعد قليل.

•••

قدست الكلاسيكية أدب اليونان والرومان، ونزهته عن النقص أو الخطأ، وبعبارة أخرى جعلت مقياس كل أدب مقدار مطابقته لهذا الأدب القديم، فكلما كان أكبر تقليدًا له وحذوًا لمثاله وانتهاجًا لسنته كان أكمل وأجود وكان أجدر بالتقدير والعناية، ومن خير النصوص التي تبين لنا هذا رسالة الكاتب الإنجليزي Walsh في سنة ١٧٠٦ إلى بوب إذ يقول فيها: «إن أكبر الشعراء المحدثين في كل اللغات هم أولئك الذين قلدوا القدماء إلى أكبر حد من التقليد ممكن».

فمقياس الشاعر أو الأديب هو مقدار قربه من هومير وفرجيل وهوراس وسائر كتاب اليونان والرومان.

ولكن كيف يتم هذا التقليد؟

لا بد أن يضع نقاد الكلاسيكية القوانين والقواعد التي يجب أن يلتزمها الكتاب حتى يكونوا تامي التقليد للقدماء، وهذه القوانين والقواعد يستقونها من أعمال القدماء أنفسهم، فدرس نقاد الكلاسيكية هذه الأعمال واستنبطوا منها ما استنبطوه من قواعد وقوانين، وحتموا على كل شاعر وأديب أن يتبعها فجاء الشعراء والكتاب فوجدوا أمامهم نهجًا مرسومًا عليهم أن يسلكوه، وقوالب ليس عليهم إلا أن يملئوها، وتحديدات لا يملكون أن يخرجوا عنها، وهكذا استحال الشعر والأدب إلى صنعة لا أكثر فكان الشاعر إذ ينشئ قصيدة والأديب إذ يكتب نثرًا كأي صانع آخر يشتغل بالنحت أو الحدادة أو النجارة أو أية صنعة أخرى يزاولها مزاولة صناعية بحتة.

يأتي الشاعر يريد أن ينظم قصيدة في الفن الفلاني، فهذا الفن يجب أن يكون في هذا النوع من الوزن لا في غيره، ويجب أن يبدأ هذه البداية وينتهي هذه النهاية، ويجب أن يقال عنه كذا وكذا وأن يعالج فيه كيت وكيت، وهكذا يجد الشاعر أمامه حدودًا وأوضاعًا مرسومة ليس عليه إلا أن يملأها بالألفاظ. وحتى هذه الألفاظ نفسها هو مقيد في اختيارها والربط بينها بقيود لا تدع له أبسط نصيب من حرية التصرف والتأليف، فنحن بإمكاننا أن نجمل الكلاسيسزم في هذه الأمور الخمسة.
  • الأول: أن أدبها أدب صنعة، أدب تقليد واحتذاء لا أدب وحي وإلهام، أدب صورة وقالب لا أدب جوهر ولب، أدب لباقة وكياسة وبراعة لا أدب عبقرية وروح.
  • الثاني: أن أدبها منصب على الحياة الواقعة والأمور المادية الفعلية التي يجدها الناس في أعمالهم اليومية ومرافقهم العملية، فهو لا يعني بعالم فوق هذا العالم المادي الحرفي، ولا يفهم الأمور الروحية والتصورات المعنوية والأجواء الخيالية.
  • الثالث: أن أدبها أدب المدينة، يقصر عنايته على المدينة فلا يهتم بالقرية والريف والطبيعة، وزاد هذا في صبغة الصنعة فيه. فنحن نعلم أن حياة المدن مقيدة بهذه الرسوم والتكاليف والحدود، ولو أن الأدب الكلاسيكي عني بالريف حيث الطبيعة الحرة والفطرة الخالية من الصنعة والتقليد ربما كان هذا عاملًا على تخفيف القيود والتحديدات فيه.
  • الرابع: أن أدب الكلاسيكية أدب معني بالقالب لا بما يحتويه هذا القالب ومشغوف بالشكل والزخرف والمحسنات البديعية والصنعة البلاغية لا بالعاطفة والإحساسات والأخيلة؛ ولهذا أغرق أدب الكلاسيكية في العناية بالمحسنات البديعية والبلاغية إلى حد أن ابتذلت هذه الزخارف وفقدت ما كان لها من جمال بكثرة الاستعمال، ثم هو أدب يقوم على تصنع الطرف والكياسة والتطلف لأنه أدب الصالونات حيث التصنع.
  • الخامس: والأخير والخلاصة: أن الأدب الكلاسيكي بعد عن البساطة وعن الطبيعة وعن الصدق فاستحال أدبًا كاذبًا متكلفًا صناعيًّا.
ولعل خير ما يوضح لنا هذه الحقائق أن ندرس أدب شاعر كلاسيكي، وليكن هذا الشاعر زعيم الكلاسيكية الإنجليزية بوب Pope.

بوب يوضح لنا الكلاسيكية بكل محاسنها وعيوبها، فهو قد درس اليونانية واللاتينية وترجم الإلياذة والأودسا وأكب على تقليد القدماء في صوره وأسلوبه فدراسته توضح لنا ما ذكرناه من مميزات الكلاسيكية.

فهو فاقد لملكة الخيال، ومقفر من أي إحساس عميق أو عاطفة متغلغلة، ونظرته إلى الحياة ضيقة ومحدودة، ولكن كل ما يميزه لباقة وبراعة وصنعة، فأسلوبه أسلوب تحسين بديعي وتجميل بلاغي وتلطف وتعمل وتكلف وتمويه. وخير ما يوصف به بوب هو ما وصف به الأستاذ العقاد شوقي في كتاب شعراء الجيل، بحيث لو وضعت اسم بوب بدل اسم شوقي في هذه المقالة النقدية الممتعة لم تكد تخطئ وجه الصواب.

ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن بوب يتغنى في شعره بالقدماء وبضرورة اتباع قوانينهم واحتذاء حذوهم.

«إن قوانين القديم وقد استكشفت ولم تنشأ إنشاء لهي الطبيعة نفسها، ولكنها الطبيعة يحدها النظام ويضبطها المنهج والقيد، فإن الطبيعة — شأنها شأن الحرية — يحدها ويضبطها قوانين قد رسمتها هي بنفسها لنفسها، وإذن فيجب أن تقدر قوانين القدماء حق قدرها، فإن تقليد الطبيعة ليس إلا أن تقلدهم».

ومن هذه الأبيات تستنبط:

  • (١)

    أن الكلاسيكيين يرون الشعر تقليد الطبيعة. (وسنعرف كيف يرد الرومانتيكيون عليهم هذا الخطأ).

  • (٢)

    أنهم يقدسون القوانين والحدود والنظام والقيود.

  • (٣)

    أنهم يقدسون القديم ويرون منتهى الإجادة في تقليده.

•••

تبينا أثر الكلاسيكية في الأدب، فلنعرف الآن أثرها في النقد.

كما كان الأديب مرهقًا في أدبه بقيود وتحديدات لا يستطيع عنها خروجًا، كذلك كان الناقد محصورًا في قوانين نقدية ضيقة مفروضة مرسومة ليس له إلا أن يطبقها على ما ينقده. ولم يكن يترك الناقد ينقد القطعة الأدبية بقيمتها الذاتية أو بتأثيرها على نفسه أو بطبيعتها الخاصة وما تمليه هي نفسها من قوانين لنقدها، بل كان أمامه قوانين محددة لا عمل له إلا فرضها فرضًا على تلك القطعة، فكان ذلك يلغي من شخصية الناقد ويعطل من مقدرته النقدية الخاصة ويمحو ذوقه الخاص محوًا تامًّا.

هب الناقد يريد أن ينقد قطعة شعري، فالطريقة الطبيعية لذلك أن يقرأها فيدرسها فيفهمها فيتبين مواطن الحسن فيها ونقط الضعف منها، غير خاضع في ذلك إلا إلى ذوقه الخاص أولًا، وإلى طبيعة القصيدة نفسها وقيمتها الذاتية، وإلى بعض القوانين النقدية العامة الشديدة العموم والمرونة بحيث تتسع لإدخال طبيعة القصيدة وروح الشاعر ومناسبة الموقف وذوق الناقد، تدخل كل ذلك في حيثياتها ما يأتي:

فهل كان الناقد الكلاسيكي يفعل ذلك؟ كلا، كان عمله:
  • أولًا: إذا كان الشاعر قد صرح بالنوع الشعري الذي منه قصيدته، فعلى الناقد أن يرى أحقًّا هذه القصيدة من هذا النوع أو من غيره، فإن لم يكن قد صرح الشاعر فعلى الناقد أن يتعرف بنفسه النوع الذي منه هذه القصيدة.
  • ثانيًا: بعد أن يعرف الناقد النوع الذي منه القصيدة يتذكر أشهر النماذج القديمة في هذا الفن، والنماذج الحديثة التي اكتسبت جدارتها بأن تكون مقياسًا للنقد من شدة انطباقها وتقليدها للأعمال القديمة. يستحضر الناقد هذه النماذج فيرى إلى أي حد هذه القصيدة تقلدها وتنطبق عليها، فكلما كان التقليد أتم كان الشاعر أقدر وأعظم.
  • ثالثًا: أن يتطرق الناقد في التفاصيل فيرى إلى أي حد قلد الشاعر القدماء في هذه التفصيلات، وكلما كان التقليد أعظم كان الشاعر أيضًا أقدر وأعظم.

وبعد هذا كله يستطيع الناقد أن يقول إن القصيدة جيدة ما اجتازت بسلام هذه المراحل الثلاث، أما ذوقه أو موقع القصيدة من نفسه، أما حظ القصيدة من إثارة العاطفة وتنبيه الوجدان، أما غير هذا من العوامل التي لا تتصور النقد بدونها فهو ما لم يكن يفكر فيه الناقد الكلاسيكي.

ولزيادة الإيضاح أفرض أني ناقد كلاسيكي في العربية أنقد قصيدة لشاعر محدث بهذه المقاييس الكلاسيكية، فأقول أولًا: إن الشعر فنون خمسة: مدح وغزل وفخر ووصف وهجاء، فلا بد أن تكون القصيدة واحدة من هذه الفنون، ويستحيل أن تكون غيرها لسبب بسيط هو أنه لا وجود لغيرها، لأن القدماء لم يعرفوا سواها، والقدماء قد عرفوا كل شيء، أما أن يكون الشاعر قد ابتكر فنًّا جديدًا فهذا احتمال لا يخطر لي ببال.

فانظر إذن هل صرح الشاعر بالفن الذي منه قصيدته، هل قال إنها من الغزل أو الوصف، فإن كان قد قال ذلك فهل هي حقًّا من الفن الذي ادعى أم لا، فإن لم يكن قد صرح بشيء فإن عملي الأول أن أبحث أي الفنون هي.

فإن انتهيت إلى أنها من المدح مثلًا، فلأتذكر أشهر نماذج المدح القديمة فأجدها كلها مبدوءة بالغزل. فهل ابتدأ الشاعر المحدث قصيدته بالغزل؟ إن كان قد ابتدأ فيها، وإلا فلأطرح القصيدة أو لأستمر في قراءتها وقد أخذت عنها فكرة سيئة.

ثم إن الشاعر القديم يتخلص من الغزل إلى وصف الناقة بأن يتساءل: هل تبلغني هذه الناقة الركب؟ فهل تخلص الشاعر المحدث هذا التخلص؟ لأنظر ذلك فإن كان قد فعل فلأبحث في وصفه للناقة إلى أي حد ينطبق على وصف القدماء لها. وهل ناقته هي بعينها ناقة طرفة وعلقمة أم هي مختلفة عنهما؟ وإلى أي حد هذا الاختلاف؟ فكلما كبر كان الشاعر أضعف، وكلما كانت أوصاف الناقة شبيهة لأوصاف القدماء كان الشاعر أكبر حظًّا في الإجادة.

ثم إن الشاعر الممدوح يوجه ناقته إلى الممدوح، فهل فعل المحدث كذلك؟ ثم يسترسل الشاعر القديم في مدح الممدوح فيصفه بأوصاف معينة محدودة معروفة وتشبيهات موضوعة، فهل وصف الشاعر ممدوحه كذلك؟

وهكذا أمضي في نقدي إلى انتهاء القصيدة، فإن وجدتها قد سلمت بعد هذا كله فهي جيدة، وإن كانت مختلفة عن النموذج الموضوع فهي رديئة رداءة تكبر أو تصغر بمقدار كبر اختلافها وصغره.

فأين إذن ذوقي الخاص؟ وأين إذن تأثير القصيدة في نفسي؟ وأين إذن تقدير الشاعر وشخصيته؟ وأين حظ الشاعر من الابتكار؟ وأين وأين … لا وجود لكل هذه الاعتبارات في النقد الكلاسيكي.

•••

حصلنا على صورة كافية عن الكلاسيسزم والأدب الكلاسيكي والنقد الكلاسيكي، فلنطو هذه الصفحة إذن ولننظر في هذا الفجر الجديد المشرق: فجر الرومانتيكية.

•••

«ولكن لكل شيء إذا ما تم نقصان».

فما بلغت الكلاسيكية أوجها، وتسنمت ذروة السيطرة والذيوع في أوروبا، وانتهت إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه من الآماد، حتى أخذت في التقهقر بعد التقدم، وفي الهوى بعد الصعود، وفي الذبول والانحلال بعد الازدهار والفتوة.

فتن الناس بالكلاسيكية، فتنوا بصنعتها المحبوكة وبقوالبها المتقنة وبصورها الأنيقة، وفتنوا على الأخص بأسلوبها المنمق المزخرف وبما فيه من لباقة وكياسة ومن تظرف ولطف، فتنوا بهذا كله، وظلوا مفتونين به زمنًا، ولكنهم بعد مدة أخذ الملل يدب دبيبه في نفوسهم، وجعل السأم ينفذ إلى تذوقهم، شبعوا من الكلاسيكية فملوها وسئموها، وأخذت نفوسهم تتطلع إلى شيء جديد، إلى صورة جديدة وإلى أسلوب من القول مبتكر ونمط من التعبير مستحدث، ملوا وسئموا، ثم تحول مللهم وسأمهم إلى كره شديد للكلاسيكية ونفور منها، نفروا من صبغة الصنعة والقول والتكلف التي تسودها وكرهوا هذه المحسنات التي طالما كررت وطالما سمعوها حتى ابتذلت على الأسماع وحتى فقدت جمالها ورنينها بكثرة الاستعمال فأصبحت ممتهنة باهتة.

كره الناس في أوروبا هذه الكلاسيكية وأخذوا يتنبهون إلى عيوبها ويفطنون إلى مساوئها، وزاد في كرههم لها هذا الحد من الحرية الذي تأخذهم به، بما فيها من القيود والتحديدات ومن القوالب والأوضاع المفروضة، فانبعثت فيهم رغبة قوية نحو الحرية ونحو إطلاق النفس على سجيتها ونحو التخلص من كل هذه التكاليف والتصنعات. وانبجست هذه الرغبة وتدفقت وأخذت هذا المجرى الجديد الذي لم نعهده في الكلاسيكية من قبل، وهو: حب الطبيعة.

كان الأدب الكلاسيكي كما قدمنا أدب المدينة، لا يعني إلا بها وبمجتمعاتها وشخصياتها وأمورها، والمدينة تكاليف وقيود ليس لها آخر، فضجر الناس من هذه الحياة المتكلفة وأحبوا التخلص منها فلم يجدوا أمامهم موئلًا إلا العودة إلى حضن الطبيعة، الطبيعة الواسعة غير المحددة، الحرة غير المقيدة، البسيطة الساذجة البريئة التي لا تكلف فيها ولا تصنع، وأين تتمثل هذه الطبيعة إلا في الريف الجميل؟ فليعودوا إذن إلى الريف وإلى الغابات وإلى المزارع المترامية، وليهجروا منتديات المدينة ومقاهيها وشوارعها وصالوناتها، وليمرحوا في هذه الآفاق الرحبة الواسعة الفسيحة يلتمسون ما فقدوه من الحرية وينشدون تخليصًا لذوقهم من الأصباغ والدهون والتكلفات.

وهكذا أخذت تنشأ هذه الحركة الخطيرة في تاريخ أوروبا، حركة العودة إلى الطبيعة Return to Nature.

وصاحبتها ظاهرة أخرى، هي أن أخذ الناس يعنون بآداب العصور الوسطى بعد هذا الإهمال الطويل الذي أعاروها إياه في عصور الكلاسيكية، كانوا في ذلك العصر الكلاسيكي قد جنوا بآداب القدماء اليونان والرومان فاستولت هذه الآداب على كل جزء في نفوسهم فلم تترك لغيرها متسعًا، أما الآن فقد أخذوا يتطلعون إلى أنواع أخرى في الأدب، فانتبهوا إلى الآداب المتوسطة وما فيها من جمال ومن صدق ومن بساطة، وهي الأمور التي كانوا في ظمأ إليها، فأخذوا يدرسونها ويقرأونها بلذة وشغف، فانتشرت أغاني القرون الوسطى وترانيمها وذاعت ذيوعًا عظيمًا، كما أخذ الناس يقرءون الآداب السابقة لعصر الكلاسيكية من أمثال شكسبير وملتن، وأمدتهم كل هذه الآداب ببعض ما كانوا يطمحون إليه، ولكن لم تطفئ ظمأهم حتى تدفقت عليهم الرومانتيكية بسيلها العذب السائغ فانكفئوا عليها ينهلون منها ويرتوون من نميرها الصافي السلسبيل.

كانت تلك العوامل من سأم الكلاسيكية، وملل من سقامتها واستبدالها ورغبة في التخلص من قيودها وتصنعاتها، وعودة إلى الطبيعة وإلى الريف وإلى حياة البساطة والحرية، ودراسة آداب العصور الوسطى وللآداب السابقة على العصر الكلاسيكي. كانت كل هذه العوامل هي الأدواء التي أخذت تنخر في هيكل الكلاسيكية حتى نقضته نقضًا وأقامت بدله هذا الصرح الرائع الجميل: الرومانتسزم.

جاءت الرومانتيكية فكان أول ما عنيت به أن تحطم هذه القيود التي فرضتها الكلاسيكية على الأدب والأدباء، وأن تهدم هذه التحديدات التي حصر فيها الأدب وتمزق هذه القوالب التي حدد فيها الشعر، فرفضت كل هذه القوانين رفضًا باتًّا، ونادت بألا يتبع الأديب والشاعر إلا وحي نفسه وإلهام ذوقه وصدى عاطفته لا يستجيب لغيرها، فليقل الأديب كما يشاء، ولينظم الشاعر كما يحب وليجدد ما حلا له التجديد وليبتكر ما وسعه الابتكار، وليضرب بكل هذه القواعد المقررة والرسوم المفروضة عرض الحائط، وليستمع إلى ذوقه أولًا وأخيرًا.

وهكذا أخذت هذه القوالب المحفوظة المبتذلة تهجر، وأخذت تظهر فنون جديدة من التعبير فيها الروعة والجدة والطرافة.

ثم هجر الشعراء المدينة وعادوا أدراجهم إلى الريف الجميل يستوحونه جمال الطبيعة، وأخذوا يصفون مناظر الطبيعة الأخاذة ومشاهدها الرائعة، وما فيها من جلال وجمال، وما يضطرب فيها من طير وحيوان وما ينمو بها من أشجار وأزهار وما يتدفق فيها من جداول وأنهار وما يهب عليها من ريح ونسائم وعواصف. أخذوا يعنون بكل هذه الموضوعات التي لم يكن شيء منها معروفًا لدى الكلاسيكية. فأبدعوا فيها القول وحلقوا في آفاقها الخصبة الممتدة الفسيحة وأخذوا يضربون في مجاهلها اللانهائية.

ثم أخذوا يعتنون بالعواطف الإنسانية والأهواء الفردية الغريبة المتشعبة المتدافعة فجعلوا يعبرون عنها ويفسحون لها متنفسًا في شعرهم الجديد، فاحتوى هذا الشعر الرومانتيكي إلى جانب جمال الطبيعة الإلهية على جلال العاطفة الإنسانية.

وهكذا كانت الرومانتسزم نموًّا مدهشًا فائقًا في الحساسية الخيالية، فدخل عالم الحس والفكر تقدير جديد للإنسان ولذاتيته وشخصيته Individualism وقدرة أعظم على التغلغل في أعماق حياته ونفسيته الباطنة، فاستمد الشعراء منها روائع الوجدان.
سما الرومانتيكيون فوق هذا العالم المادي الحرفي البغيض، فطاروا في سماوات جديدة من خلقهم وتخيلهم، فانطلقوا فيها ينعمون بلذة الحرية والانطلاق وعدم التقيد. وسر عظمة الرومانتيكية أنها بينما هي تبتعد عن الحياة الواقعة الحرفية وعن العالم المادي المحسوس إذا بها تعود إلى هذه الحياة نفسها وإلى هذا العالم نفسه فتحلله أصدق تحليل بما تضفيه عليهما من حلل الخيال وألوان التصورات. فهي تحررنا من قيود الزمن ومن قيود المادة ومن قيود التقاليد، وتجعل العادي يبدو غير عادي أو تأتي بغير العادي فتجعله يبدو كالعادي، وإن العالم الرومانتيكي رغم كونه خياليًّا متصورًا لهو أصدق من عالم المادة وعالم الواقع الحرفي، فليست المادة كل شيء في هذا الوجود، فهناك العواطف والإحساسات المبهمة الغامضة، وهناك الروح المجهولة التي هي من أمر ربي، وهناك كل هذه الألوان اللانهائية من الشعور الإنساني، والسبيل الوحيد إلى معرفتها إنما هو التخيل والتصور٢
وRomanticism, Romantic, Romance كلها مشتقة من العجب والدهشة والجدة والطرافة والتشويق، فهي تحمل معنى الممتاز غير العادي وغير المألوف، فالروح الرومانتيكية تتميز باستعدادها الدائم لتلقف الجديد وللتحليق في أعلى آفاق العالم والغوص في أبعد أعماقه.
فالرومانتيكية تتلخص إذن في هذه الأمور:
  • أولًا: تحطيم القواعد والقوانين والتحديدات التي وضعتها الكلاسيكية وضيقت بها على الأدب وكتمت أنفاس الأدباء، وعدم الاحتكام إلا إلى الذوق الشاعري وإلى العاطفة والوحي والإلهام الذاتي.
  • ثانيًا: ترك المدينة إلى الريف والطبيعة، والترنم بجمالها الحر البسيط والذي لا تحدده ولا تشوبه الغلاءات والتزاويق.
  • ثالثًا: العناية بالنفس الإنسانية وما فيها من العواطف وألوان الشعور.
  • رابعًا: التحرر من العالم المادي الواقع والتسامي إلى العوالم المثالية المتخيلة.
  • خامسًا: نشدان البساطة في كل شيء، البساطة في التعبير، والبساطة في التفكير، والبساطة في التذوق والشعور، وطرح التكلف والتلطف الممقوت المتصنع، وترك النفس على سجيتها واتباع الفطرة والطبع الخالص الصادق Spontaniety.

وليس هناك ما يبين لنا هذه الحقائق ويوضح لنا عظمة الرومانتيكية كدراسة سير شعرائها وتذوق شعرهم، ولنذكر منهم في الأدب الإنجليزي هذه الأسماء الموسيقية الرائعة، وردسورث، كولردج، بيرون، شلي، كيتس. فكل صفحة من تواريخ هؤلاء وكل بيت من أشعارهم شاهد ناطق بهذه الحقائق التي ذكرنا.

وإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي في ضوء هذا، وجدنا أنه في العصر العباسي وجدت مدرستان تمثلان الكلاسيكية والرومانتيكية، فبعض العلماء كانوا كلاسيكيين، لا يؤمنون إلا بشعر الجاهلية وصدر الإسلام، وإذا قرئ عليهم شعر أبي تمام مثلًا استهجنوه وهزئوا به. وبجانب هذه المدرسة مدرسة أخرى كانت تعيب القديم وتطمح إلى الجديد، كأبي نواس إذا عاب على القدماء بكاء الأطلال والدمن، ودعا إلى بكاء القصور والتشبه بالخمر ونحو ذلك. ولكن مع الأسف لم يكن قويًّا في دعوته، بل هو نفسه عاد فسار في موكب القديم.

وقد أبدع ابن قتيبة في مقدمته في كتابه طبقات الشعراء، فدعا إلى الحياد التام، وأن ليس كل قديم يقبل لقدمه، ولا كل محدث يرفض لحداثته، بل يقبل من القديم والجديد ما قبله الذوق، ويرفض منهما ما رفضه الذوق. ومن الأسف أن موت المعتزلة كان موتًا أيضًا للحركة التجديدية، إذ كان المعتزلة يقدسون العقل والذوق ولا يقدسون التقاليد، وظلت التقاليد تعمل عملها في تقليد الكلاسيكية حتى العصر الحديث، إذ بدأنا نقلد الأوروبيين في رومانتيكيتهم.

فصل تحليلي

لكل ما سبق ذكره عن عوامل انحلال الكلاسيكية الحديثة

نعرض الآن لكل الحقائق الماضية بالدراسة والتحليل، محاولين أن نربطها جميعًا في سلسلة واحدة متصلة الحلقات، وأن نتعرف ما فيها من وحدة عامة وإن اختلفت مظاهرها وأشكالها، فنحاول أن نتفهم كنه الحركة النقدية الجديدة وبم تمتاز عن النقد الكلاسيكي، وما هي العوامل التي أدت إلى نشوئها ثم إلى سيادتها وذيوعها.

ولقد يبدو توحيد كل ما مضى على اختلافه وتباينه أمرًا مستحيلًا: إذ هو للنظرة الأولى مختلط متفاوت متضارب، فلقد مر علينا رجال متعددون شذوا عن أزمانهم وعن معاصريهم بل عمن جاء بعدهم أحيانًا. رجال لا نستطيع أن نجد بينهم جميعًا رابطة ظاهرة أو وحدة يمكن أن تلاحظ في سهولة ويسر. ولكن الحق أن أولئك الرجال بالغًا ما بلغ تفاوتهم واختلافهم كانت تجمعهم وحدة عامة هي أقوى الوحدات جميعًا: هي وحدة الغاية والمقصد.

فكل هؤلاء الذين شهدناهم في ألمانيا، وإنجلترا، وفرنسا، وإيطاليا، كانوا يسعون لغرض واحد، وكان سعيهم هذا مقصورًا متعمدًا أحيانًا، وغريزيًّا لا شعوريًّا أحيانًا أخرى. وكان هذا الغرض الواحد هو ذلك الأفق الصافي المضيء يلوح لهم عن بعد: أفق الرومانتيكية. كانوا يعملون على بناء المذهب الرومانتيكي وكان المذهب الرومانتيكي هو ما يعملون على بنائه.

ولا تنتظر مني أن أضع لك تعريفًا دقيقًا أو حدًّا مضبوطًا لهذا المذهب الرومانتيكي فلن أقول لك المذهب الرومانتيكي هو كذا وكذا، فليس أسخف في مثل هذه الأمور من محاولة التعريف أو التحديد، وحتى هذا التعريف المشهور للرومانتسزم بأنها Renaissance of Wonder ينطبق عليه ما نقول عن سخف التعريفات وخطتها. وإنما سأدرس معك المذهب القديم وأتعرف عيوبه التي شكا منها هؤلاء المجددون ومواضع النقص التي حاولوا أن يصلحوها، ثم أعرض لهذا المذهب الرومانتيكي الجديد فأتبين بماذا يفترق عن المذهب الكلاسيكي، وبذلك نكون قد حصلنا على صورة عن المذهب الجديد هي أفضل وأوضح من كل تعريف أو تحديد.

بل إن أكبر عيوب المذهب الكلاسيكي كان هذا التعريف وهذا التحديد يضع التعريفات الضيقة والتحديدات الجامدة ويطبقها على الأدب ويفرضها عليه فرضًا ويوجب أن يكون الأدب طبقها لا يشذ عنها. فيحدد الشعر بأنه كذا وكذا من التقسيمات الضيقة المحدودة، وأن صوره وأوضاعه ووسائله هي كيت وكيت، ثم يفرض هذه التحديدات على الشعر وعلى أنواعه وعلى أوضاعه ووسائله وصوره فرضًا لا تسامح فيه ولا مرونة، فإن طابق هذه القوالب الجامدة فهو الشعر وإلا فلينبذ نبدة النواة.

وعلى الضد من ذلك كان أبرز المواطن التي يختلف فيها المذهب الرومانتيكي عن المذهب الكلاسيكي هو التحرر المطلق من أمثال هذه القيود، وتحطيم هذه الأغلال التي تحد من حرية الأدب وتكتم من أنفاس الأديب وتضيق عليه مجال القول والإنشاء، فقام المذهب الجديد ينادي بأن تطرح كل هذه القواعد والحدود وأن يترك للأديب الحرية الكاملة في أن يكتب كما يشاء ويؤلف كما يريد ويبتكر من الصور والأوضاع ما يحب، ثم ينظر إلى ما كتبه وألفه وابتكره فيعرف حظها من الجودة ونصيبها من الحسن. كان المذهب البائد يسائل الأديب دائمًا: ماذا أردت أن تعمل؟ وكيف حاولت أن تعمله؟ أما المذهب الرومانتيكي فقد طرح هذا السؤال وأحل محله: ماذا عملت؟ وهل ما عملته جيد؟

وأوضح الشواهد على ذلك الناقد الفرنسي الكبير ديدرو، فإن هذا الناقد لم يكن يبالي مطلقًا بالنظريات أو القواعد، وإنما كان يمارس النقد ممارسة عملية لا تراعي تحديدًا ولا تهتم بقاعدة موضوعة أو نظرية محتم التزامها.

ولقد كان من أكبر العوامل التي عاونت على التحرر من هذه التحديدات والتقاسيم الدراسة الجمالية الجديدة. فإنها جاءت تتساءل: لماذا؟ ولم لا؟ فكان لا بد أن يؤدي هذا التساؤل إلى معارضة للنظريات القديمة في بعض الأحيان، وإلى هدم وتحطيم لهذه النظريات في أحيان أخرى، فكان هذا البحث الاستيتيكي في الجليل sublime و الجميل Beautiful معولًا في تدمير القواعد الموضوعة والمفروضة ومحاولة إنشاء نظرية جديدة أقرب إلى الصحة في نظر الجماليين من آراء القدماء.

إلا أن علم الجمال وإن كان من هذه الناحية قد أفاد النقد وساعده، كانت مساعدته مساعدة خطرة مليئة بالأضرار، فإنه إن يكن قد هدم نظريات الكلاسيكية وقواعدها، فقد وضع بدلها نظريات أخرى وقواعد جديدة تشاركها في ضرر التحديد والتقسيم والتعريف. فإن هذا العلم الجمالي ببحثه في حاسة الجمال وفي الجميل هذا البحث التفكيري الصرف، وبإمعانه في دراسته التجريدية، كان عاملًا سيئًا في توجيه النقد، فهو يحاول أن يضع للأدب والفن عمومًا التعاريف والمصطلحات، وأن يقسم الأدب إلى أنواع معينة، وأن يضع نظريات عامة وشاملة إلى أقصى حد يصل إليه العمل والشمول، وهو بهذه المحاولة ينافي طبيعة الفن وطبيعة العواطف الإنسانية التي تتميز بأنها مبهمة وغامضة ولا يستطاع تحديدها ولا يمكن أن تقيد وتخضع. فالعواطف الإنسانية في تنوع مستمر وتباين عظيم وإطلاق لا يمكن حده وحرية يستحيل أن تقيد بأوضاع معينة أو قواعد ثابتة.

وخطر أعظم، وضرر أبلغ أدى إليهما دخول الدراسة الجمالية في النقد، أن الدارس الجمالي يتعمق في البحث التفكيري المجرد تعمقًا يؤدي به إلى أن يبتعد تمامًا عن الموضوع الأدبي الذي يبحث فيه، فيغرق في لجج من التفكيرات الفلسفية والخلقية والنفسانية تجعله في منأى عن الأدب والذوق الأدبي، بل تنتزع منه الحاسة الجمالية نفسها فيصبح الدارس الجمالي لا جماليًّا لأنه قد فقد حواسه الفنية واستحال إلى آلة مفكرة لا ذوق لها ولا إحساس فيها بالحسن. وقد لمسنا هذا في كل الكتاب الجماليين بل في لسنج نفسه، لمسناه في كل هؤلاء الكتاب من الألمان ومن متبعي مذهبهم من الإنجليز.

فالدراسة الجمالية كانت فوائدها مصحوبة بأضرار وأخطار، ولقد كان لها على أية حال تأثيرها البليغ في تطور النقد، وصاحبها في إحداث هذا التأثير ما ذكرناه من الحركات المتعددة في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا نحو دراسة الأدب أي دراسة الأدباء ومؤلفاتهم الأدبية، تعاونت كل هذه العوامل على إنشاء المذهب النقدي الجديد ووضع رسومه وبناء هيكله. فلندرس الآن الصفات المتميزة التي يتصف بها هذا المذهب النقدي الرومانتيكي.

أول هذه المميزات: هي أن العمل الأدبي يجب ألا ينقد طبقًا لقواعد مجردة منتزعة من آراء النقاد الأقدمين، ويجب ألا ينظر في تقدير قيمته الأدبية إلى مقدار مطابقته أو عدم مطابقته لأعمال الأقدمين من اليونان والرومان. فلقد كان من أكبر أخطاء المذهب النقدي الكلاسيكي أنه لا يرى روعة وجودة إلا في أعمال القدماء، فإن لم تكن أعمالهم بنفسها ففي أعمال تحتذى حذوها وتقلدها في كل شيء، فالمؤلف الأدبي إنما يكون جيدًا أو رديئًا بمقدار مشابهته لهومير وفرجيل. فجاء المذهب الجديد فهدم هذا تمامًا، وبين أن العمل الأدبي يجب ألا ينظر في نقده إلا إليه وحده، ونادى بهذه النظرية الصائبة الحقة، أن الأدب يجيء أولًا ثم يجيء النقد تاليًا له، وأن النقد يجب أن يتبع الأدب لا أن الأدب يتبع النقد، حقًّا أن من ذكرنا من النقاد لم يكونوا ينادون بهذا صراحة ولم يكونوا يفهمون هذه الحقيقة فهمًا تامًّا، ولكنهم على أية حال كانت هذه الحقيقة كامنة في نقدهم وآرائهم وأعمالهم.

الميزة الثانية: هي أن النقد بدأ يتبع مضطرًّا للعواطف الإنسانية في ترتيب نشوئها وتسلسلها، فأنت ترى الشيء فيعجبك أو لا يعجبك، فإن أعجبك فهو يستدعي إعجابك في صورة معينة، ثم هناك صفات خاصة فيه هي التي استدعت منك هذا الإعجاب، وكذلك نشأت في النقد هذه الأسئلة الثلاثة: هل أنا معجب بهذا العمل؟ وفي أية صورة يبدو مني هذا الإعجاب؟ وما هي الصفات التي احتواها هذا العمل فاستدعت إعجابي؟ حقًّا إن من ذكرنا من النقاد لم يتساءلوا هذه الأسئلة في صراحة ولم يتبعوا هذه الخطوات مرتبة في كل الأحوال، ولكنها على أية حال موجودة لديهم وحاموا حولها في نقدهم وآرائهم وأعمالهم.

الظاهرة الثالثة التي يتميز بها المذهب النقدي الرومانتيكي هي ظهور فنيين نقديين جديدين، فن التأريخ الأدبي أو تاريخ الأدب، وفن التأريخ الأدبي المقارن أو تاريخ الأدب المقارن. فقد قلنا إن النقاد المحدثين قد عنوا لأول مرة بأدب القرون الوسطى بعد أن لم يكن يدرس إلا أدب اليونان والرومان، فلما درسوا هذا الأدب وجدوا فيه صورًا جديدة وأنواعًا لا وجود لها في الأدب الكلاسيكي القديم. وجدوا في الدراما وفي الشعر وفي النثر أوضاعًا وصنوفًا لم يعهدها القدماء، ووجدوا على الأخص هذين الفنين الجديدين: فن القصة الغرامية romance وفن المقطوعة الغنائية ballad. فاضطروا في دراستهم لهذه الأوضاع والأنواع والفنون أن يتتبعوا أصلها ويتعرفوا نشأتها وتاريخ ظهورها وتطورها، فقادهم ذلك إلى التوسع في التأريخ الأدبي لمختلف الآداب. فنما تاريخ الأدب الإنجليزي وتاريخ الأدب الفرنسي وتاريخ الأدب الألماني وهكذا. والأهم من ذلك أنه قادهم إلى ابتكار هذا الفن الجديد، فن التأريخ الأدبي المقارن، الذي لا يقتصر على أدب أمة واحدة، بل يحاول دراسة الآداب الأوروبية عامة كأنها أدب واحد متنوع الألوان.
وكانت النتائج النقدية التي وصل إليها هؤلاء النقاد من وراء أبحاثهم هذه نتائج بينة الخطورة والأهمية، فلقد أقدموا في جرأة على هدم أو معارضة الكثير من الآراء الشائعة عن مختلف الأدباء، فوجدنا الناقد الإنجليزي جوزف وارتن يتشكك في مكانة بوب Pope الشعرية. ويتساءل أكان هذا الشخص — وهو معبود الأدب الإنجليزي في أوائل القرن الثامن عشر — أكان شاعرًا على الإطلاق؟ أو أكان على أقل تقدير شاعرًا كبيرًا حقًّا؟ ووجدنا لسنج يصف كورني فيقول: كورني المخيف Cornielle the mostrous. وهكذا تقدم النقاد في شجاعة في سبيل النقد الحر الذي لا يخشى شيئًا والذي يهاجم في قوة ما يعارضه من الآراء.
ولقد أدى ذلك إلى أن اهتدى النقاد الرومانتيكيون إلى حقائق نقدية غاية في الأهمية والفائدة والسمو، فنادى الناقد الإنجليزي Hurd بتحرير العمل الأدبي الرومانتيكي من قواعد الوحدة الكلاسيكية وهو استكشاف على أعظم حد من الخطورة في تاريخ النقد كله أدى إلى انفصال عميق بين النقد الكلاسيكي والنقد الرومانتيكي، وكان شغف الناقد الإنجليزي Percy بالنثر ونقده منتجًا لآثار نقدية جميلة عن هذا الفن الأدبي، وكان لتوماس وارتن، وديدرو، ولسنج وغيرهم ممن ذكرنا ثمرات نقدية ناضجة ولذيذة، وعاون هذا كله على نمو تاريخ الأدب.

انتهينا الآن من تعرف مميزات النقد الرومانتيكي المستحدث، وسنستوفي هذه المميزات في حديثنا عنه في القرن التاسع عشر. والآن نعرض للمدارس النقدية المختلفة التي أرّخناها في مختلف بلدان أوروبا فنتبين أهم ميزاتها النقدية، فلننظر الآن في حركات النقد في ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا.

أما في ألمانيا، فقد كان الألمان آخر الأمم الكبيرة التي عنيت بالنقد، في وقت كان الإنجليز فيه قد أخذوا يجنون ثمار النقد الحديث، وكان الفرنسيون فيه في المرحلة الكلاسيكية الأخيرة، ولكن الألمان سرعان ما عوضوا هذا التأخر الزمني بتقدم حماسي عظيم في الدراسة الرومانتيكية، وعاونهم ما يتميز به جنسهم من حب العلم وشغف دائم بطلبه، وسعي متواصل في تحصيله، وعقل فلسفي دائب البحث والتفكير، وقلق مستمر يوجههم دائمًا إلى محاولة البحث والدرس والتعلم، وقد استعرضنا هذه الحركات الألمانية نحو إنشاء المذهب النقدي الجديد، ودرسنا بودمر ورفاقه ومعاصريه، ثم رأينا كيف جاء لسنج أخيرًا.

وترجع المكانة الممتازة التي يحتلها هذا النقد الأكبر في الناقد الألماني إلى أنه كان أعظم مرآة تتجلى فيها الصفتان اللتان يتميز بهما الألمان: وهما الاجتهاد الذي لا يكل في طلب العلم، والعقلية الفلسفية المفكرة، وترجع هذه المكانة أكثر من هذا إلى هذه الصفات التي انفرد بها لسنج، وهي ملكة الذوق والتقدير، والخصوبة التفكيرية، وأهم من ذلك الأسلوب الجيد الممتع.

فالرأي الذي يرجع إلى لسنج أكبر الفضل في هذه الحركة النقدية التي قامت في منتصف القرن الثامن عشر تهدم الكلاسيكية وتبني المذهب الرومانتيكي الجديد هو رأي صائب صحيح، ولم يقدر للسنج أن يعيش حتى يرى ألمانيا ترد إلى أوروبا أياديها عليها في العلم والنقد والدراسة، ولكنه على أية حال قد لمح بداية هذه الحركة التي ساهم هو في خلقها بأكبر نصيب.

فإذا انتقلنا إلى فرنسا، وجدنا المذهب الكلاسيكي فيها في هذه الفترة يحتل مكانة أقوى مما يحتل في غيرها من أمم أوروبا، ففي ألمانيا مثلًا لم تكن جذور هذا المذهب قد تعمقت ورسخت فسهل اقتلاعها وإبادتها، وفي إنجلترا كان هدمه مستمرًا دائبًا وإن كان في بطء، فما مات جراي حتى ولد كولردج في السنة التالية والاثنان يكونان تيارًا واحدًا قويًّا متدفقًا نحو التجديد الرومانتيكي، أما في فرنسا فيرجع احتفاظ هذا المذهب الكلاسيكي بقوته إلى اللحظة الأخيرة التي أضحى فيها إلى تعمقه ورسوخه في الأوساط الأدبية الفرنسية، وإلى أن المكانات الممتازة في تلك الأوساط كان يحتلها رجال محافظون لم يكونوا يسمحون لأي شخص يلمحون فيه نزعة حرة تجديدية بأن يثبت قدمه في البيئة الأدبية، وأيضًا يرجع إلى هذه النزعة الكلاسيكية التي تسيطر على الأدب الفرنسي كله والتي يصطبغ هذا الأدب بصبغتها في معظم عصوره وأطواره.

وقد درسنا النقاد الأربعة الذين هم أعظم النقاد الفرنسيين الذين سعوا نحو الرومانتيكية، ونخص الآن منهم بالذكر جوبير Joubert وشاتو بريان وديدرو. وأعظمهم جميعًا هو ديدرو ولاريب، فلقد كان ديدرو في خاصيته الانفعالية أقربهم إلى الصبغة الرومانتيكية؛ ذلك أن النقد الكلاسيكي كان دائمًا يحاول أن يفصل في تقديره للعمل النقدي بين هذا العمل وبين صاحبه، وأن يفصل أيضًا بينه وبين سامعه وقارئه، فلا يراعي في نقده له تأثيره على سامعه وقارئه أو تعبيره عن خالقه ومنشئه، فجاء ديدرو وجعل المقياس الأكبر للعمل الأدبي هو التأثير الذي يحدثه هذا العمل في نفسه هو، كان ذلك حدثًا جديدًا في تاريخ النقد إذا استثنينا بعض محاولات ضئيلة سابقة لا تماثل فضل ديدرو في صدقه وتحمسه وإخلاصه.
فإذا غادرنا فرنسا إلى إنجلترا وجدنا ثمرات الحركة النقدية الرومانتيكية فيها أقل نضوجًا منها في القطرين السابقين، إذ كان أكبر النقاد الإنجليز في ذلك الوقت وهو جونسون Johnson في صف الكلاسيكية، ولكن ناحية أخرى من نواحي النقد الأدبي برزت فيه إنجلترا وفاقت سائر الأمم، تلك هي دراسة الآثار الأدبية الماضية، فلقد كان الفرنسيون مهملين كنوزهم الأدبية التي ورثوها، ولم يكن للألمان الكثير من هذه الكنوز كما كانوا مهملين لما لديهم منها على ندرته، أما في إنجلترا فإن جراي وبرسي وهيرد وتوماس وارتن وجوج وارتن قد انكبوا على هذه الذخائر الأدبية انكبابًا شديدًا، يتقنونها دراسة وبحثًا وتفهمًا وتحليلًا.
ذلك ما كان لألمانيا وفرنسا وإنجلترا في بناء النقد الرومانتيكي الحديث، أما ما سواها من الأمم فإنها وإن لم تكن — إذا استثنينا Vico في إيطاليا — قد عملت في هذا البناء شيئًا يذكر أو شيئًا على الإطلاق، إلا أنها كانت بعنايتها بدراسة آدابها القومية، ثم بتعلمها للأدب الإنجليزي أو الفرنسي وأخيرًا الألماني، كانت بذلك تساهم بنصيب في إنشاء التأريخ الأدبي المقارن الذي هو من أفضل ثمار النقد الرومانتيكي الحديث وأينعها إزهارًا.
١  مقتبس من كتاب تاريخ النقد لسانتسبري ودائرة المعارف البريطانية وغيرهما.
٢  يلاحظ القارئ الصيغة العاطفية التي تأثر بها هذا القسم من البحث. ويلاحظ أن هذا الانفعال طبيعي وضروري لفهم حقيقة الرومانتسزم والتغلغل إلى سرها وأعماقها وكتب الإنجليز أنفسهم — على هدوئهم وبرودهم المشهور — حين تتكلم عن الروماتسزم تكون كالشر المنثور وإلا لم يستطع القارئ فهم حقيقة هذا المذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤