الكتاب الثاني: نهضة النقد

وردسورث وكولردج: أصحابهما وخصومهما أو النقد الإنجليزي من ١٨٠٠ إلى ١٨٣٠ Wordsworth Coleridge.

بين الشعر في العصور القديمة وفي العصور الوسطى وفي العصور الحديثة اختلافات كثيرة متعددة، منها المتخيل ومنها الحقيقي، منها الجزئي ومنها العام، منها السطحي ومنها العميق، ولكن هناك اختلافًا جسيمًا بارزًا يفصل بنوع خاص بين الشعر في العصور القديمة والوسطى وبينه في القرون الحديثة، ذلك التباين هو أنه لم يحاول شاعر قديم أو متوسط أن يدافع عن أسلوبه الشعري ونظرياته الشعرية وطريقته النظمية في كتابة نثرية يكتبها، باستثناء واحد هو دانتي الذي استخدم النثر في تأييد آرائه ومعتقداته عن الشعر وفي الدفاع عن شعره هو، أما سائر شعراء العصور القديمة والوسطى فقد ظلوا صامتين لا يحاولون أن يكتبوا نثرًا يشرحون فيه وجهة نظرهم في الشعر وكيف يكون.

ثم جاء وردسورث في العصور الحديثة، فكان أول من قام بهذا العمل في صورة قوية ناضجة، وذلك في مقدمته للطبعة الثانية من ديوانه «مقطوعات غنائية» Lyrical Baiads في سنة ١٨٠٠ — ثم قام كولردج بمحاولته التي هي الأخرى الأولى من نوعها بلا استثناء، حين عمد إلى هذه المقدمة التي كتبها وردسورث فنقدها وفحصها وأيدها تأييدًا قويًّا وصحح أخطاءها وذلك في كتابه المشهور Biographia Literaria فكان هذان العملان من وردسورث وكولردج اتجاهًا جديدًا اتخذه الشعراء حيال شعرهم، وهو الدفاع والتأييد النثريان.
ولقد دفع وردسورث إلى كتابة هذه المقدمة حنقه من ذلك الاستقبال الذي استقبلت به الطبعة الأولى من كتابه، إذ لم يعن بالـ Lyrical Ballads أحد، ولم تول ما كانت تستحقه من الدراسة والاهتمام، كما ساءه سوء تقدير الرأي الأدبي لقصائده التي نظمها في أسلوب سهل عادي، فأراد أن يدافع عن نظريته في الشعر وما يجب أن تكون عليه لغته، وأراد أن يؤيد اعتقاده في أن أسلوب الشعر يجب أن يكون الأسلوب العادي البسيط المألوف. وفي خطأ القول بأسلوب شعري خاص بالشعر دون النثر. أراد أن يؤيد هذا الرأي الذي كان يؤمن بصحته ويعتقد صوابه، فكتب هذه المقدمة، ثم تابع الدفاع عنه في كتاباته النثرية التالية دفاعًا حارًّا عنيدًا جازمًا، ولكن سنرى خطأ وردسورث في معتقده هذا، وسنرى أن وردسورث نفسه لا يبلغ ذروة روعته الشعرية إلا حين ينسى أو يتناسى ذلك المبدأ فيتأنق في أسلوب شعره ويحتفل له فلا يكون أسلوبًا عاديًّا أو مألوفًا أو بسيطًا.
وهو يبدأ هذه المقدمة بقوله: إنه سره الاستقبال الذي لقيته الطبعة الأولى من كتابه Lyrical Ballads، وأنه إنما يكتب هذا الدفاع إجابة لرغبة بعض الأصدقاء، وكل خبير بالنفس الإنسانية لن يستغرب من وردسورث هذا القول، بل يشتم منه رائحة الغيظ والحنق اللذين يدفعانه إلى كتابة ما سيكتب، والحق أنه ليس في تاريخ الأدب كله مثل هذا النموذج الهجومي الدفاعي الذي كتبه وردسورث في مقدمته هذه.

يبدأ وردسورث هذه المقدمة بأن يسلم بأن الأديب حينما يخرج كلامه شعرًا، إنما ينتظر منه أنه سيتبع تقاليد وأنظمة معينة في ربط كلماته وجمله بعضها ببعض، ثم يدلل على أن هذه الأنظمة قد تعاورها اختلافات وتغيرات شتى كبيرة.

ثم يخبرنا بأن غرضه من هذا الكتاب أن ينتخب صورًا وأوضاعًا من الحياة العادية وأن يجمع بينها ويصفها بنفس اللغة التي يستعملها الناس من صيغها بألوان من الخيال بحيث تبدو كأنها صور غير معتادة.

ثم يعطي هذا التعريف المشهور: إن كل الشعر الجيد إن هو إلا فيض تلقائي نفساني من العواطف القوية.

ثم يبدأ يُري كيف أن الأسلوب الذي استعمله ملائم كل الملاءمة لأن يكون قالبًا يصب فيه مثل هذا الفيض — ويقول: إنه قد جاهد جهادًا عنيفًا حتى استطاع أن يتجنب ما يسمى الأسلوب الشعري Poetic Diction وأنه قد حاول دائمًا أن ينظر إلى الموضوع نظرة طبيعية ليس فيها تكلف في القول أو تزوير في الوصف، وأن ينبذ كل أسلوب شعري كاذب، وأن يهمل استعمال تدابير هي في ذاتها صائبة وجميلة، ولكن كثر استعمالها على يد شعراء رديئين حتى استحالت قبيحة دميمة، ثم يختار أغنية من أغاني جراي Gray ويحاول أن يبرهن على أن الجزء الوحيد فيها الذي يستحق التقدير هو ذلك الذي لا تختلف لغته بحال عن لغة النثر، ثم يندفع في حدته فيؤكد أنه ليس ثمة أي اختلاف بين لغة النثر ولغة الشعر، ويعارض هذه المقابلة بين الشعر والنثر، ويعارض اعتبار الشعر مرادفًا للإنشاء المنظوم، ثم ينتظر مثل هذا السؤال يوجه إليه: لم إذن لا تكتب في النثر؟ فيجيبه بهذا الدفع الضعيف: ولم لا أضيف جمال اللغة المنظومة إلى ما أقوله؟ ثم يعطي هذا التعريف المشهور الثاني عن الشعر بأنه الانفعال العاطفي يضبطه الهدوء.

ثم تنتهي المقدمة بأن يسلم بوجود لذة يحدثها الإنشاء المنظوم الذي يغاير إنشاءه هو، وأنه لا بد لتذوق لذة الشعر الذي يعمله من أن يطرح الإنسان ما اعتاد أن يلتذ منه.

وفي فصل ملحق بالكتاب يخصص وردسورث الأسلوب الشعري بالحديث، فيستمر في مهاجمته ورفضه، فيقول: إن الشعراء الأوائل كتبوا بعاطفة صادقة طبيعية فاستعملوا لغة استعارية رمزية، فلما جاء الشعراء المتأخرون قلدوهم في استعمال الاستعارات والتصويرات دون أن يكون لديهم عاطفة طبيعية صادقة. وكذلك شأن الوزن الشعري، استعمله الأولون متبعين شعورهم الطبيعي الصادق وقلدهم الآخرون في استعماله حتى اعتبر خاصة من خصائص الأسلوب الشعري.

وبالطبع ليس وردسورث محقًّا في هذا الرأي، وإنما دفعه إلى هذا دفاعه العنيد عن اعتقاده بوجوب كون لغة الشعر هي اللغة المعتادة المألوفة لا لغة أخرى تخصص له وتسمى لغة الشعر أو الأسلوب الشعري.

ومهما يكن من طرافة هذه المقدمة في ذاتها فإنه يزيد من قيمتها أنها كانت موضوعًا اتخذه كولردج مجالًا للنقد والبحث والدراسة فأتاحت لنا أن نحصل على هذا النموذج الجيد الرائع من النقد الذي يعطينا إياه كولردج في كتابه Biographia Literaria.

•••

ولا شك في أن هذا النقد من كولردج لوردسورث لم يقع منه موقع الرضا، فما كانت طبيعة ودرسورث المتغطرسة المعتدة بذاتها لترضى عن هذا النقد مهما كان مصوغًا في لهجة مؤدبة وأسلوب تقريظي، ولكن كولردج كان محقًّا في نقده.

فأما أنه كان ذا كفاية لهذا العمل فهو ما لا يختلف فيه اثنان، ووردسورث نفسه رغمًا من أنه ترك لنا بعض الآثار النقدية النفيسة لم يكن قد امتلك كل ولا معظم المواهب التي يجب أن يمتلكها الناقد، فملكته العقلية الذهنية كانت قوية حقًّا، ولكنها لم تكن دقيقة ولا حساسة إلا في المواطن النادرة التي تسمو فيها عبقريته الشعرية إلى ذروتها، وحتى في هذا الموطن لم تكن قوته الذهنية واسعة المحيط أو مرنة الدائرة، بل كانت ضيقة محدودة، ولقد كان في عالم الأدب بتحزّبه العنيف وإصراره العنيد كرجل الدين المتزمت الضيق الفكر المتعصب لمذهبه الذي لا يصدر عنه أقل تسامح أو سعة صدر، والأدهى من ذلك أنه لم تكن لديه سعة اطلاع أو وفرة قراءة، بينما أدى به غروره وتكبره إلى ألا يحاول التزيد في المعلومات أو التوسع في العلم، ثم يضاف إلى ذلك كله أنه كان يقيس كل شيء بمقياس نفسه وشعره.

أما كولردج فكان في كل هذه الاعتبارات على عكس وردسورث — إذا استثنينا المقدرة الشعرية — فكولردج برغم تردده في نقده وقلة ثقته بآرائه وعدم قدرته على الاستمرار عليها، برغم ذلك كله كان حقًّا من أعظم عظماء النقاد في العالم، فلقد كان اطلاعه واسعًا وقراءته غزيرة المحصول، في الفلسفة الجمالية وفي الأدب الخالص نفسه. وكان ذهنه حادًّا ثاقبًا وفكره دقيقًا حساسًا إلا في الأوقات التي كان يشوش عليه الأفيون والميل الطبيعي إلى الاستطراد، وكان مستعدًّا لأن يتقبل ما يغاير آراءه ويخالف معتقداته، وكان منطقيًّا مرتب التفكير، وكان ماهرًا في فن التأريخ الأدبي، ولم يكن دفاعه عن رأيه ليدفعه في تيار التعصب والتحزب الذي اندفع فيه وردسورث، وكان كولردج بالإجمال ناقدًا كاملًا.

ولن نكون ظالمين إذا قلنا إن كراهية وردسورث للأسلوب الشعري واحتقاره للوزن ناشئان من أنه لم يكن لديه مهارة نظمية ممتازة فكان مضطرًّا أن يعوض هذا النقص بإتقان المعنى وكماله وإلا سقط أسلوبه إما بسبب جموده وبرودته أو بسبب تفاهته وركاكته. أما كولردج فكان من أمهر من شهدهم الشعر الإنجليزي في المقدرة النظمية وتنغيم الأوزان، وكان يستطيع أن يلون لغته وينمقها في كمال لا يفوقه فيه أحد ولا شكسبير نفسه، ولا يدانيه فيه آخر، وإلى جانب هذه المقدرة النظمية لم يكن فقيرًا في المعنى، وكان هو الآخر يستطيع أن يكتب في أسلوب بسيط سهل مألوف إذا أراد.

فلا شك في أن إقلال وردسورث من شأن الأسلوب الشعري والوزن كان يعود عليه بالمصلحة والفائدة، لما كان ضعيف الملكة فيهما، أما كولردج فبرغم أنه كان فيهما على مهارة ممتازة فإنه لم يلجأ إلى الدفاع عنهما أو التمسك بضرورتهما، بل كان في قدرته أن يكتب بدونهما كتابة ليست بأقل جودة ولا إتقانًا.

ومهما يكن من الأمر فلا ريب في أهمية الفصول التي يناقش فيها كولردج في الـ Biographia نظريات وردسورث الشعرية وفي الـ Ballads ولا ريب في إتقانها وكمالها، فلندرس إذن هذا النقد من كولردج لآراء وردسورث النقدية.
يبدأ كولردج هذه الدراسة بأن يشرح لنا الغرض الأول الحقيقي الذي قصده صديقه وردسورث من نظم الـ Ballads. فيقص علينا أنه هو وصديقه كانا في خلال زمالتهما في Somerest كثيرًا ما يتكلمان عن المحورين اللذين يقوم الشعر عليهما، أما أحدهما: فهو المقدرة على استثارة عاطفة القارئ بالتصوير الصادق لحقائق الطبيعة. وأما الثاني: فهو المقدرة على إعطاء لذة الجدة والطرافة بألوان الخيال المتنوعة. ثم يوضح ذلك بأن يشرح كيف أن الضوء والظل من القمر أو الشمس يكسبان الأشياء المألوفة روعة ممتازة وجمالًا فائقًا، ثم يقول: إنه هو وصديقه تقسما هذين الغرضين اللذين يقوم الشعر على أحدهما.

فأما وردسورث فأخذ على عاتقه أن يجعل البسيط المألوف يبدو في شعره ممتازًا فائقًا، وأما كولردج فكانت رسالته الشعرية أن يجعل الغريب غير العادي يبدو معقولًا مألوفًا، ثم يقول: إن المقدمة التي كتبها صديقه وردسورث كانت من ضمن مهمته في جعل المألوف البسيط يبدو كأنه غير عادي، وأنه إنما دفع وردسورث إلى كتابتها محاولته القيام بهذا العمل، الأمر الذي لا تؤيده المقدمة نفسها، ثم يبدأ كولردج في تأييد وجهة نظره الخاصة وفي خلال ذلك يعرض لآراء وردسورث بالدراسة والنقد.

أما موقفة حيال الوزن والأسلوب الشعري فغامض ومضطرب متناقض، فهو طورًا يرى أن كل ما كان موزونًا يمكن اعتباره قصيدة من الشعر مهما كان موضوعه، وتارة أخرى يقول: إن القصيدة هي ذلك النوع من الإنشاء الذي يخالف العلم في أن الغرض الأول منه هو اللذة لا الحقيقة، مهملًا بذلك التعريف ضرورة الوزن في كيان القصيدة. ثم يعود ثالثة فيقول إنه إن زعم شخص أن كل ما توفر فيه الوزن أو القافية فهو شعر فإنه لا يتعب نفسه في مجادلة مثل هذا الشخص.

والحق أن كل هذه المجادلة الطويلة التي يقوم بها وردسورث وكولردج و شلي Shelley حول الوزن والأسلوب الشعريين كانت ثورة بغير سبب ومخاصمة لغير مخالف، فإنه لم يقل أحد قبلهم من رجال القرن الثامن عشر بضد نظريتهم حتى يأتوا هم فيثيروا كل هذه اللجاجات والجدل. ولم يزعم أحد من قبل أن الوزن والقافية كافيان لاعتبار الكلام شعرًا، ولم يناد أحد من قبل بأن القالب لا الجوهر هو الذي يوجد الشعر ويقيم القصيدة. فهم إنما يثورون على خصم متخيل ويعادون رأيًا لم يقل به أحد.

ثم يختتم كولردج الفصل الأول بهذه الجمل التي وإن تكن جميلة حقًّا من الوجهة البيانية فهي تافهة من الوجهة المنطقية: إن الشاعر يستثير الروح الإنسانية بأكملها ويشيع فيها حيوية ونشاطًا، وإنه يمزج الملكات العقلية المتعددة بعضها بالبعض الآخر بتلك المقدرة السحرية المركبة التي تسمى الخيال، وإن العبقرية الشعرية هيكلها وجسدها المعنى الجيد، وحللها وملابسها التصوير، وحياتها العاطفة، وروحها الخيال.

ثم يقارن كولردج بين الشعر في القرنين السادس عشر والسابع عشر وبين الشعر في عصره، ثم يعود ثانيًا إلى وردسورث نفسه فيقول:

حقًّا إن كثيرًا من الأساليب الشعرية في عصرنا هذا كاذبة ومتكلفة، وما تعطيه من اللذة كاذب ومتكلف هو الآخر، وحقًّا إن وردسورث قد عمل خيرًا بجهاده في سبيل البساطة، ولكنه لا يستطيع أن يتابعه في قوله إن الأسلوب الذي يجب أن يكون عليه الشعر لا بد أن ينشأ من اللغة التي تلوكها أفواه الناس في الحياة الواقعة. ثم يقدم كولردج لهذا أدلة وحججًا غاية في القوة والصدق، ويقول: إن قصائد وردسورث نفسه لا تؤيد رأيه هذا، بل يقول أكثر من ذلك إن الشعر يجب أن يبتعد عن مشابهة الحياة الواقعة بقدر الإمكان، ثم يحلل قصيدتين لوردسورث هما The Lorist boy و The Idiot Boy تحليلًا قويًّا واضحًا مبينًا مواطن الضعف والركاكة فيهما في لهجة إن تكن مؤدبة متحفظة فهي جازمة حاسمة، ثم يعمد إلى تفنيذ حجج وردسورث تفنيدًا يتركها هباء.

وفي الفصل التالي وهو الثامن عشر يتقدم في تفنيد أقوال وردسورث خطوة أوسع، فبعد أن يقول: إنه وإن كانت كلمات وردسورث عادية فإن نظامها وتأليفها غير عادي، يقول: إنه يخالف كل المخالفة هذا الرأي الشاذ الذي يقول به وردسورث من أنه ليس من الضروري أن يوجد أي فرق بين اللغة المنثورة واللغة المنظومة. فيقول: إنه لا شك في أن هنالك جملًا جميلة في النظم الشعري تفقد جمالها إذا نثرت، فإذا كان هذا صحيحًا مسلمًا به فلا شك أيضًا في أن هنالك جملًا منثورة تضيع بهجتها ورونقها إذا دخلها النظم والوزن، ثم يتطرق إلى بيان أصالة الوزن الشعري وآثاره في الإتقان واللذة، ويقول أخيرًا: إن الوزن هو القالب الشعري الأصيل، وإن الشعر بدون الوزن ناقص ومعيب.

ثم يختتم بهذه الخلاصة لكل ما سبق: إني لن أؤمن بنظرية وردسورث حتى يقدم لي قطعة أو قصيدة هي في ذاتها فاسدة الصور معيبة التركيب، ولكن لا يطعن فيها إلا من وجهة كونها في لغة تختلف عن الأسلوب الذي يتكلم به الناس في واقع الحياة، ثم يعطي خلاصة أخرى لكل الموضوع: إنه إذن لو حذف من شعر وردسورث ما يعارض نظريته لضاع ثلثا جماله وروعته.

بعد ذلك يعرض كولردج لشعر وردسورث بالدراسة والنقد، فيتعرف عيوبه ومحاسنه؛ أما عيوبه فهي هبوطه من السامي الرائع إلى التافه المبتذل، والتزامه الحرفي للواقع في متعدد الأوضاع، وتفضيله الذي لا داعي له للأسلوب التمثيلي أو الحواري، وإسهابه الممل، وعرضه لصور وأفكار لا تلائم الموضوع، إما لأنها أتفه منه، أو أعظم مما يحتاج إليه، وأما محاسنه فهي اللغة السامية الصافية المنضبطة، وقوة الأفكار والعواطف وصحتها، والابتكار والتجديد، والقوة، وصدق الطبيعة في التخيل، والمهارة في استثارة الشفقة والأسى والرحمة، وأخيرًا: الخيال في أسمى ذروته وأروع معانيه.

والحق أن هذا الفصل هو نموذج كمالي للدراسة النقدية للشعر في الإنجليزية، فهو يعرض علينا صورة من النقد الجديد لا نجد في إتقانها وكمالها سابقًا فيما تقدمها، وقل أن نجد لها نظيرًا فيما تلاها من الأعمال النقدية. وإن كان ينقص من جودتها أنها مقصورة على نص واحد، وما فيها من تحفظ اضطر إليه كولردج نظرًا لصداقته للشاعر، وما يخالطها من الاستطرادات والتطويل، ولكني لا أعرف عملًا نقديًّا غير هذا يعرض لهذه المسائل الأساسية الهامة في الشعر وهي اللغة الشعرية والأوزان الشعرية بمثل هذه الدراسة الوافية المرضية، فإن أحوال القدماء ورجال النهضة في هذه الموضوعات لا تتجاوز الإشارة الخاطفة واللمحة البعيدة.

ونحب أن نقارن الآن بين وردسورث في مقدمته وبين دانتي في De Vulgari لنرى هذا التباين العظيم بين آراء الناقدين: يقول وردسورث: استعمل اللغة العادية، وخاصة لغة القرويين الريفيين. ويقول دانتي: تجنب لغة الريفيين تمامًا، بل لا تستعمل من كلمات المدنيين سوى أنبلها. يقول وردسورث: إذا امتلكت القدرة على الابتكار والتمييز وغيرها من المواهب فإن المهارة النظمية سوف تأتي لك طوعًا، ويقول دانتي: يجب عليك بعد بذل الجهد في تخير أنبل الكلمات وترتيبها في أنبل التراكيب أن ترتب البيت في أحسن الصور التي توحيها إليك الخبرة والعبقرية مجتمعتين، ثم أن تنسق هذه الأبيات في أكمل وضع يرسمه الفن. يقول وردسورث: الشعر فيض تلقائي، ويقول دانتي: الشعر ولغته الملائمة له عمل مجهد وممارسة شاقة.
وليس الخلاف بين شعر دانتي وشعر وردسورث بأقل جسامة منه بين آرائهما النظرية، فإنك لن تجد بيتًا واحدًا في الكوميديا أو في الـ Vita إلا ويبرز فيه احتفال دانتي له وتعمله وجهده وصناعته في الكلمة والعبارة وتركيب البيت وتأليف المقطوعة. أما وردسورث فهو حقًّا يتبع نظريته هو الآخر، فنجده يستعمل اللغة السوقية لغة الريفيين والعامة، ولكنه إذ ذاك بعيد كل البعد عن السمو الشعري أو الشاعرية الحقة، وهو لا يبلغ روعته الشعرية إلا حين ينسى هذه النظرية فيتأنق في لغته وتعبيراته ويحتفل لتخير الأوزان والتنغيمات.

وخلاصة كلامنا عن وردسورث، أن وردسورث الشاعر عبقري حقًّا، يمثل المكانة الأولى في الشاعرية والسمو الفني، وذلك حين ينسى نظريته الخاطئة كما قلنا، فهو يستثير فينا عواطفنا إلى أقصى أعماق النفس، ويخلب ألبابنا بروعته وجماله وإبداعه. أما وردسورث الناقد فشيء آخر: له حقًّا بعض الأقوال النقدية الجيدة، ولكنه على وجه العموم لا يعد ناقدًا كبيرًا، ولو أنه تمالك طبعه وحدّ من تعنته لكان من الممكن أن يكتب روائع نقدية لا عن الأسلوب الشعري الكاذب المتصنع فحسب، بل أيضًا عن ذلك الأسلوب الشعري الشديد المراعاة للوزن الشديد التزمت في القوانين العروضية، وأن يعدد أخطاء القرن الثامن عشر في الأسلوب الشعري، وأن يضع لنا نظرية جديدة أصدق عن الشاعر تماثل في صدقها تلك التي وضعها ديدرو عن الممثل، وأن يعمل غير هذا من الأعمال النقدية القوية النافعة، ولكنه لم يعمل شيئًا من ذلك.

نعود إلى كولردج، هذا الناقد العظيم الذي استعرضنا له نقده الذي احتواه كتابه Biographia Literaria. هذا الكتاب الذي يعد بحق من الأناجيل النقدية، فنجد محاضراته عن شكسبير Lectirres on Shakespeare وهو أجود أعماله النقدية بعد الـ Biographia ونجد الـ Anima Poetae. ونجد الـ Letters. ونجد غيرها من الكتب القيمة.

وبعد هذا كله نتساءل: ما هي منزلة كولردج في عالم النقد؟

كولردج من أعاظم النقاد، وهو يمتاز بميزة لا يشاركه فيها ناقد قديم أو متوسط أو حديث، إلا ناقدين قديمين هما أرسطو ولونجينوس Longinus: تلك الميزة هي النظرة الشاملة وسعة الأفق النقدي ومرونة الدائرة التي تحد ما يتناوله من فنون الأدب بالنقد والدراسة، ذلك أنك لن تجد ناقدًا قديمًا — عدا من استثنيناهما — ولا متوسطًا ولا حديثًا إلا وجدت فيه هذا العيب: وهو أن وجهة نظره محدودة وأن مجال نقده ضيق، وحتى أرسطو ولونجينوس لم يسلما تمامًا من هذا النقص، وتجد هذا النقص في أكابر نقاد الطليان في القرن السادس عشر، كما تجده فيمن جاء بعدهم من نقاد الطليان في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ودانتي وهو أعظمهم يوجد فيه أيضًا هذا الضيق الأفقي، فهو لا يحس الموضوع ولا يمسه إلا ناقد من ناحية واحدة معينة وبإيجاز شديد. ودرايدن Dryden كبير، ولكنه غير واسع الإطلاع فهو يتخلص إلى بيان وجهة نظره قبل أن يسرد المعلومات الكافية، وفونتنيل Fontenelle يكاد يكون ناقدًا كبيرًا، ولكنه أيضًا به نفس العيب مضافًا إليه الشذوذ في الرأي والتقلب بين الآراء بلا ثبات. ولسنج ناقد كبير، ولكنه قد حصر عنايته في أقل فنون الأدب اتصالًا بالروح الأدبية. وجوته Goethe ناقد كبير، ولكنه أيضًا مدع كبير ومتعالم متشدق. وهازلت Hazlitt ناقد كبير، ولكنه مدين بالفضل لأستاذه كولردج، وهو علاوة على ذلك ضيق الدائرة محدود الاطلاع. وسنت بيف نفسه تنقصه الحاجة إلى نظرية أوسع وإلى تحمس أكبر وإلى اختيار لموضوعات أسمى وأكثر إلهامًا. وفي أرنولد نجد عيوب فونتنل دون أن تجد فيه خبرة فونتنل بالتاريخ.

فلم يثبت أمامنا من كل هؤلاء إذن إلا هؤلاء الثلاثة: أرسطو ولونجينوس وكولردج، ونحن وإن لم نستطع أن نقول إن كولردج كان أعظم الثلاثة إلا أنه كان بالضرورة أوسعهم دائرة فهو يتناول كل أنواع الأدب بصورة لم يكن زمن الناقدين القديمين ليمكنهما منها، وبصورة لم تتح له إلا بعد مرور هذه القرون الطويلة، ومن العجيب أنك حين تجد في ناقد في أي عصر من العصور حقيقة نقدية، أو حين تستكشف هذه الحقيقة بنفسك، فإنك لا بد أن تجد كولردج في استطراداته الكثيرة قد استكشف هذه الحقيقة من قبل واستخرجها وتركها لمن يستغلها ممن يجيء بعده. ولا ريب في أن من جاء بعده من النقاد — وعلى الأخص من كانت الإنجليزية لغتهم الأولى — كانوا يقرأون كولردج ويترددون عليه بكرة وأصيلًا. لا تجعل كولردج محل ثقتك فإن من المخالفة لروح النقد أن تجعل أي ناقد محل ثقتك، اختلف مع كما تحب، ولا توافق على آرائه ما شئت، ولكن اقرأه، واستمر على قراءته، وعد إليه بعد الانقطاع، وأنت واثق كل الثقة بأنك ستجد فيه اللمحات البعيدة، والمعونة المشجعة، والتصحيح المقيد، والتهذيب المنتج.

فإذا ظل أحد على مضاضته من بعض آراء كولردج النقدية، أو من الاستطرادات التي تعترض هذه الآراء وتتخللها فليذكر جيدًا أنه إلى كولردج لا إلى أي فرد آخر يرجع الفضل الحقيقي في إدخال هذا المبدأ والمقياس في نقد الشعر، وهو التصوير الذي يرد الحقيقة خيالًا، والتصوير الذي يجعل من الخيال حقيقة، لذلك أزال الخطأ الذي كان شائعًا من وظيفة الشعر إنما هي محاكاة الطبيعة، وبين أن وظيفة الشعر ليست تقليد الطبيعة، وإنما إما أن يعرض الطبيعة في صورة جديدة مبتكرة لا وجود لها في الواقع. (وهذا هو التصوير الذي يحيل الحقيقة خيالًا) أو أن يضيف إليها من خلقه وإنشائه، (وهذا هو التصوير الذي يجعل من الخيال حقيقة). وبذلك أدخل كولردج في نقد الشعر مبدأ صحيحًا سديدًا أزال به ما كان يسيطر على عالم النقد الشعري من خطأ الحكم وفساد التقدير.

•••

عنوان هذا الفصل هو: وردسورث وكولردج: أصحابهما وخصومهما. ونحن نستعمل كلمة الأصحاب Companions هنا في معنى مزدوج. أولئك الرفاق الذين كانوا لهم كالصحابة للنبي، كأولئك الذين بكروا بمعاونة محمد في جهاده ضد قريش، هؤلاء هم: سوني Southey ولامب  Lamb ولف هنت Leigh Hunt وهازلت Hazlitt. ثم نعني أيضًا المعنى الأوسع لكلمة أصحاب: أولئك الذين شاركوا في الحركة التي تزعمها هذان الناقدان مشاركة تختلف قربًا وبعدًا، فمنهم من كان حظه من تلك المشاركة عظيمًا كاملًا مثل: سكوت Scott ومنهم من كانت مشاركته ضئيلة وبعيدة مثل: كامبل Campbell.

لامب Charies Lamb

إن شهرة لامب وحب الإنجليز له راجع إلى براعته في الفكاهة، وهو راجع أيضًا إلى سبب آخر هو مقدرته العجيبة على الجمع بين الفكاهة والنكتة وبين المقدرة على استثارة الأسى والحزن والشفقة في نفوس قرائه، وهو يمزج بين هاتين المقدرتين مزجًا غريبًا، فبينما تراه يجعلك تهتز ضحكًا لفكاهته إذا بك تراه يبكيك باستثارته لعاطفة الرحمة والأسى من أعماق قلبك.

وأشهر كتب لامب وأكثرها ذيوعًا Essays of Ei، وفيه تتجلى تلك الميزات التي ذكرناها عن أدب لامب.

وكان لامب من أكبر الكتاب فضلًا في إذاعته المذهب الرومانتيكي بما اكتسب من حب الشعب وكثرة القراء، فذيوع المذهب الرومانتيكي في إنجلترا مدين له بقدر عظيم.

ولد لامب سنة ١٧٧٥ وتوفي سنة ١٨٣٤. فترك ثروة قيمة في الأدب الإنجليزي مليئة بالطرافة والتشويق واللذة الفنية.

ولامب أحد الكتاب الإنجليز الذين حظوا من قرائهم بأعظم الحب وأكبر الإعجاب، وهو حقًّا من أكثر النقاد والكتاب تشويقًا وطرافة، ولكننا لا نعده من أعاظم النقاد في مقدرته النقدية.

ويمتاز لامب بفكاهته الحلوة الساخرة، ويتميز أيضًا بقلة ثباته على اعتقاد وكثرة تقلبه بين الآراء، ولا ينقصه شيء سوى قدر من ثبات الرأي وسوى صحة المنهج النقدي حتى يعد في صف واحد مع كولردج وهازلت، ثم يظل له عليهما ميزة الدعابة المرحة والطرافة المحببة، وفي أولى أعماله النقدية وخاصة في رسائله إلى كولردج وسوني يبدو حظه الكبير من هذا التشويق الذي يعتمد على أمرين: على جدته الخالصة في الفكرة والعاطفة، وعلى أسلوبه المنمق الطريف الأنيق، ثم تظهر هذه المزية أيضًا في كتابه الشهير Elia الذي يبدو أن الغرض الأول منه هو الهجاء التهكمي، والذي يفيض بهذه الفكاهة الحلوة.
أما تردده في الرأي فيبدو من موازناته النقدية بين كولردج وسوني، وبين سوني وملتن، وبين سوني و كوبر Cowper ثم في نقده لهؤلاء كل على انفراد.

ومهما يكن من الأمر فإن أكبر ما للامب من مهارة نقدية يرجع إلى ميزته الأسلوبية، إلى تسيطره الفائق على اللغة والجملة، ولن تجد لأي ناقد آخر أسلوبًا في إتقان أسلوب لامب وبراعته. وأسلوبه خاص به لا يستطاع تقليده أو مباراته، بل هو قد يستعير من غيره ويقلد غيره، ولكنه دائمًا يصهر ما يستعيره في مزاجه الخاص وطريقته المتميزة فيغدو كأنه أصيل عنده.

ليس معنى ذلك أن الأسلوب في لامب يطغى على الفكرة، بل إن لامب لا يجاري أيضًا في نصاعة أفكاره وابتكار لمحاته وجدة حقائقه.

فهناك إذن أمور ثلاثة هي دعائم لامب في عالم النقد: حسه المرهف نحو الفكاهة والدعابة، وبراعته الأسلوبية، مضافًا إليهما حبه العظيم للكتب وشغفه الذي لا يحد بقراءتها والانكباب عليها.

هازلت Hazlitt

ولد هازلت سنة ١٧٧٨ وتوفي سنة ١٨٣٠. وهو من أعظم الكتاب والنقاد الإنجليز، ويعده الكثيرون أعظم النقاد الإنجليز، بينما يخصص البعض كولردج بهذه الزعامة والمناظرات بين الفريقين مشهورة.

كان هازلت يكتب في المجلات الدورية والصحف فضره ذلك ضررًا بليغًا إذ شغل بالكتابة عن أن يوسع اطلاعه، فكان أكبر ما يؤخذ عليه في نقده ضيق الأفق وانحصار الدائرة في حيز محدود جدًّا، فهو حين ينقد يحصر نقده في العمل الأدبي الذي ينقده، فلا يقارن ولا يوسع من وجهة نظره ولا ينظر نظرة شاملة ولا يرجع إلى تاريخ الأدب، وإنما يقتصر على تقييد ما استثاره فيه هذا العمل وحده من عواطف وخواطر.

ولكن نقد هازلت رغم هذا الضيق وقلة الاطلاع يمتاز بميزة عظيمة جدًّا قل أن يدانيه فيها ناقد، وهي وحدها سبب ما لهازلت من مكانة كبيرة في عالم النقد، هذه الميزة هي هذا الشغف العظيم إلى الأدب وهذا الظمأ إلى قراءته وإلى تذوقه وحبه، فهو يستثير في قارئه عاطفة قوية تتلهف لأن تقرأ الأدب الجيد وأن تستكشف الروائع وتستجلي المحاسن وتتبين مواطن الفن الخالص. وكان هازلت صافي الذوق الأدبي مرهف الحس الفني شديد اليقظة والفطانة لأسرار الحسن، كان ذوقه كالمرآة الصافية المجلوة التامة الصفاء، وبهذه الميزة الوحيدة يعد هازلت من كبار نقاد الأدب الإنجليزي، ومن كبار نقاد العالم.

ومن الأسئلة الطريفة التي يعنى بها: أيهما أعظم ناقد إنجليزي: هازلت أم كولردج؟ ونحن لا نقطع بأحد طرفي هذه الموازنة، فقد يكون هازلت أكبر النقاد الإنجليز، وقد يكون كولردج باختلاف وجهة الاعتبار وحيثيات الحكم.

وأعماله النقدية غاية في الوفرة والتنوع، فليست مكانة هازلت النقدية ترجع إلى استكشافه وإذاعته لمبدأ نقدي خطير كما هو الحال في كولردج، وليست ترجع إلى مؤلف واحد ممتاز ألفه، وإنما هي تقوم قبل كل شيء على هذه الخصوبة النقدية العظيمة التي امتلكها هازلت فتركت لنا هذا المقدار الغزير من النقديات الأدبية لشخصيات الأدباء وللكتب وللقطع الأدبية، بحيث تدعنا هذه الخصوبة وقد بهرنا الإعجاب والإكبار، وأعظمنا شأن هازلت ومقدرته الفنية، رغم ما فيه من عيوب جسيمة ليست بالهينة.

فأما أشهر هذه العيوب، وإن لم يكن أخطرها، فهو قلة اطلاع هازلت إلى حد محزن، وضيق دائرة معارفه وأفكاره ومعلوماته، وجهله للكثير من المعارف الأدبية الضرورية، والعجيب في هازلت أنه يعترف بهذا العيب بل يعلنه ويفخر به كأنه ليس عيبًا بالمرة أو كأنه فضيلة يحمد عليها.

فجهله الشبيه بالتام بكل الآداب العالمية ما عدا الأدب الإنجليزي لا يُكْرِبُه ولا يهمه في شيء، فهو في دراسته للكتاب الهزليين لا في الإنجليزية فحسب بل عمومًا، يقول: إن أرستوفان وLucian اسمان من الأعلام الأربعة الرئيسية في الدعابة الهزلية، ولكنه سيقول عنهما قليلًا؛ لأنه يعرف عنهما قليلًا. يقول هذا في بساطة وصراحة تحملنا على أن نقول: ليت كل النقاد في هذه الصراحة! ولكن لا تحملنا على أن نقول: ليت كل النقاد في هذا الجهل!

وفي محاضراته عن (الشعراء الإنجليز) هو أيضًا جاهل ومعترف بجهله بمعظم الشخصيات الصغيرة المتقدمة وبشخصيات أخرى ليست بصغيرة.

وهازلت يكاد يفخر بأنه لم يقرأ شيئًا في خلال المدة التي قضاها من حياته يمارس الكتابة، وهو مخلص لهذا المبدأ لدرجة أنه إذا عرضت له في خلال المحاضرة مسألة لا يعرفها لم يبذل قط أقل جهد في معرفتها.

وعيب ثان يضاف إلى هذا الجهل وقلة المعرفة، هو أن منهجه النقدي معيب ناقص ليس بالمتقن المنضبط الكامل.

ولكن أشنع عيوبه هو بلا شك تأثره في نقده بالفكرة السابقة التي كونها قبل في كثير من الأحيان، فكثيرًا ما لا يكون نقده نزيهًا ولا بريئًا، وكثيرًا ما يدخل في حيثيات حكمه على الكاتب مبدؤه السياسي وما يحمله لهذا الكاتب من بغض وكراهية. وهذا العيب يدفعه إلى كثير من الظلم وقلة الإنصاف، وإلى كثير من الطيش والرعونة والتعصب في أحكامه النقدية بحيث تكون أحكامًا غير بريئة ولا عادلة ولا صحيحة، ويظهر هذا في مهاجماته المغرضة لمعاصريه أمثال Lamb, Scott, Sidney

ولكن يخفف من خطورة هذا العيب ومن خطره أنه ليس ملازمًا لهازلت في كل أعماله النقدية، وأنه حين يتطرق إلى نقده يكون واضحًا بينًا بحيث يسهل على القارئ إدراكه فيحتاط، أما حين يتنزه هازلت عن التأثر بهذه العوامل فإنه يبدو الناقد العظيم الذي لا يماثله إلا القليل.

فتتجلى مهارته النقدية في أروع صورها، وينتج الأحكام النقدية المتقنة الصادرة عن حس رقيق مرهف كامل لم نجده في ناقد منذ Dryden. ولم نجده في ناقد قبل درايدن. ولست أدري أن لغة أخرى تحتوي هذه الثروة النفيسة من الخطرات النقدية التي يحبو بها هازلت اللغة الإنجليزية.

ويمكننا أن نقسم نقد هازلت إلى نوعين اثنين:

أما أولهما فهو ذلك النقد العام الذي يعرض فيه هازلت لمسألة ما من نواح واسعة عمومية فيحاول أن يضم الأحكام وأن ينظر نظرة شاملة وخير مثال لهذا النوع من النقد وأشهره هو افتتاحه لمحاضراته عن «الشعراء الإنجليز» الذي يتوسع فيه في هذا البحث العام وهو: ما هو على وجه العموم شعر وما ليس بشعر.

ولكن هذا النوع من النقد وإن كان كثير الطرافة والتشويق والفائدة إلا أنه في ظننا ليس أكثر النوعين إتقانًا، أما خيرهما فهو كما نرى هذا الذي يعمد فيه إلى نقد شاعر معين أو مؤلف خاص أو قطعة أدبية بالذات. وفي رأينا أنه في هذا الميدان لا يشق له غبار ولا يتفوق عليه أحد من وجهة وفرة أحكامه النقدية الجيدة وغزارتها. أما من وجهة نصيب هذه الأحكام من الجودة والإتقان فلا يتفوق عليه فيها إلا أعظم الأعمال النقدية لأعظم رجال النقد.

النقد الفرنسي ١٨٣٠ إلى ١٨٦٠

سنت بيف Sainte-Beuve

الآن ندرس هذه الشخصية العظيمة التي تحتل في تاريخ النقد ذروة من أرفع ذراه.

ولعل أول ما يروعنا تلك المقدرة النقدية الهائلة التي أتيحت لسنت بيف فمكنته من إنتاج هذا العدد الكبير من المجلدات الخمسين أو الستين الجامعة لمقالاته النقدية. وهذه الكمية الضخمة هي أكبر مقدار أتيح لناقد إنتاجه، وسنعرف سر هذا الإنتاج الغزير.

وسندرس هذه المجلدات بترتيبها التاريخي:

فنبدأ بالمقالات الأولى والأعمال النقدية المبكرة التي قام بها سنت بيف والتي تستمر حتى سنة ١٨٢٧.

ثم نثني بمؤلفه في سنتي ١٨٢٨، ١٨٢٩ (لوحة تصويرية للقرن السادس عشر: Tableau du Seizieme Siacie)

ثم تأتي الكتب الآتية:

  • (صور أدبية Portraits Litteraires)
  • (صور نسائية Portraits de Femmes)
  • (صور معاصرة Portraits Contenporalus)
  • ثم كتابه (بور روايال Port-Royal)
  • ثم كتابه الرائع (شاتو بريان وجماعته الأدبية Chateaubriand et son groupe litteraire)
  • وأخيرًا تأتي مجلداته الضخمة (حديث الاثنين Causeries du Lundi)
  • ثم نختتم أعماله بكتاب (حديث الاثنين الجديد Nouveaux Lundis)

وبذلك نكون قد استعرضنا كل أعماله النقدية الهامة تقريبًا.

فأما مقالاته الأولى المبكرة فإن سنت بيف نفسه كان يذكرها باحتقار قائلًا: إنها لم تكن سوى موضوعات لا أهمية لها، وهذه المقالات تستأهل هذا الحكم الذي أصدره عليها صاحبها من وجهة نظره القاسية، فإنها حقًّا ليس لها من أهمية في ذاتها، فلقد كان سنت بيف صغيرًا (في العشرين تقريبًا)، حين بدأ يكتبها ومن المستحيل على ناقد صغير السن جدًّا أن يكون ناقدًا عظيمًا جدًّا. وإن لم يكن مستحيلًا أن يكون الناقد الكبير السن ناقدًا رديئًا، فنحن نجد أن بعض هذه المقالات قصير إلى حد لا يسمح بظهور موهبة شخصية لكاتبها، وهي أيضًا تتناول أشياء تافهة قد رحلت الآن إلى عالم والفناء، ويتناولها بطريقة صحفية لا أكثر، كما أنها يفسدها أحيانًا الحزازات والفكرة السابقة، ويستطيع القارئ لها أن يقول بجرأة إنها كثيرًا ما تتسم بالبلادة وقصر التفكير إذا قورنت بأحاديث الاثنين في الفترة التي بلغت فيها أوج ازدهارها.

كل هذا صحيح، ولكن الدارس الخبير سيلمح فيها صفة حقة تميزها، فإن فيها تلك الرغبة الظامئة إلى التقدير والفهم، تلك الرغبة التي كانت نادرة الوجود لدى النقاد السابقين، ولا تكاد تخلو مقالة منها من حكم صحيح ومهارة دقيقة، وفوق كل هذا فيها أمارات ودلائل على ما تهيأ لكاتبها من سعة الاطلاع وغزارة في القراءة في الآداب الكلاسيكية والحديثة والأجنبية إلى حد يستدعي الدهشة والعجب من مثل هذا الشاب الصغير وفي مثل ذلك الزمن، ولا يخالطه الادعاء وزيف التصنع.

وأما مؤلفه (لوحة تصويرية للقرن السادس عشر Tableau de Seizieme Siecle). فهو بداية عصر جديد في تاريخ الأدب الفرنسي، فقد بذل وجهة النظر إلى أدب القرن السادس عشر، وحاز الإعجاب والشغف الكبير من شباب تلك الأيام، وشجع الحركات النثرية الجديدة، وعمل كثيرًا غير هذا، ولكن قوة مؤلفها لا تزال فجة لم تنضج، وليس من أهمية نقدية كبرى في أحكامه وآرائه الخاصة. ولعل أجدر تلك الآراء بالملاحظة هذه الجملة: إن الفن يقدس ويطهر كل ما يمسه، جملة كان مستحيلًا أن يفهمها حق الفهم أي ناقد أو شاعر في تلك الأيام، وإن فهمها كثيرون ممن جاء بعدهم.
ثم تأتي المجلدات الأربعة المحتوية على (صور أدبية Portrratis Litteraires) و (صور نسائية Portraits de Eemmes). وهي تحتوي على طائفة من أحسن أعمال سنت بيف النقدية، وتوافق ذوق القارئ كل الموافقة، وتستثير شغفه الشديد، ولكن إنما كان ذلك كذلك لأن القارئ العادي لا يريد نقدًا. وهكذا تقرأ الصور فلا تكاد تعثر فيها على نقد، بل معظمها قصص وروايات وتاريخ، هذا يكسبها تشويقًا كبيرًا ولذة وافرة، ولكنه يحرمها من النقد الحق.

في هذه الصور يعني سنت بيف في المحل الأول بالدراسة الشخصية للشاعر أو الأديب، فيدرس حياته ويستقصي أحداث عيشته في أسلوب قصصي جميل شائق، ولكنه لا يعنى كثيرًا بإنتاجه الأدبي، فسنت بيف في هذه الصور كان كما يقول هو فيلسوفًا أكثر منه رجل أدب. قد تجد فلتات تطل فيها عظمته النقدية التي سيبرزها المستقبل، ولكن حتى في هذه الاستثناءات يشعر الإنسان أن الناقد ليس مستعدًّا تمام الاستعداد، وأن الساعة لم تحن بعد.

وأنا أشعر بالخجل حين أتكلم عن هذا الكتاب بهذه اللهجة التي تبدو مشوبة بالازدراء والانتقاص، فإنه إذا قورن بأي مؤلف آخر سوى مؤلفات صاحبه المستقبلة كان كتابًا عظيمًا جدًّا، ولكن الذي يصغر من شأنه مقارنته بإخوته التي سينتجها مؤلفه العظيم.

أما مؤلفه (صور معاصرة Portraits Contemporains) فإن مجرد قراءة عنوان الكتاب تشعر بأنه محاولة فاشلة، والانتهاء من قراءته يؤكد هذا الشعور فإنه عبث أن يحاول ناقد أن ينقد معاصريه الذين يراهم ويلقاهم ويعيش معهم ويظن أنه سيكون محاولًا في نقده أن يعطي عنهم الصورة الصادقة الحقة، بل لا بد أن تؤثر فيه هذه العوامل النفسية التي تهوى بالنقد إلى الحضيض إما من تحزب للمنقود أو من تحزب عليه، فلن يستطيع ناقد كائنًا من كان أن يخلي نفسه من هذه التأثيرات التي تبعثها الصداقات والعداوات والزمالات والخصومات تجاه معاصريه، وهكذا نجد الصور المعاصرة لسنت بيف، قد امتلأت بآلاف الأمثلة لهذه الحزازات أو لتلك العصبيات، وكل هذا يهوي بالأحكام النقدية إلى درك الخطأ والفساد والمبالغة والظلم.
وهكذا نجد الصور التي كتبها سنت بيف عن هوجو وفيني Vinyy ولامارتين وموسيه Musset وبلزاك صورًا ظالمة قاسية، ونجد من ناحية أخرى صورًا خدمها المؤلف بأكثر مما تستحق من التقريظ والتقدير، ولكننا نكرر ما قلناه من أنه لا ينتقص من الكتاب إلا مقارنته بهذه الأعمال الخالدة التي سينتجها سنت بيف في المستقبل، كما أنه يجدر بنا أن نلاحظ أن سنت بيف لما يزل هلالًا لم يتكامل بعد فيصير بدرًا، ولنلاحظ أخيرًا أن الكتاب لا يخلو من صور وافية جيدة أتقن سنت بيف رسمها وتصويرها.
في هذه الأثناء كان سنت بيف قد أخذت قواه تتكامل ومواهبه تنضج وعبقريته تتم، فبدأ ينتج هذا النوع الرائع الذي تبدو فيه عظمته النقدية في أسطع آياتها. وهو نوع الأحاديث Causeries ذلك المزيج من الدراسة الشخصية للسيرة ومن النقد وما يدور حول هذا. لم يبتكر سنت بيف هذا الفن ابتكارًا، فلقد كان درايدن أول من حام حوله، وكان جونسون قد بعث فيه قوة وإن كان قد بعث فيه أيضًا جمودًا، ثم إن سنت بيف انتفع بمحاولات الكثيرين من النقاد الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وأضاف إلى ذلك معرفته بالتأريخ الأدبي وبنظرية البيئة والزمن التي اكتسبها من الألمان، ثم إلى جانب هذا كله موهبته الخاصة وقوته الفطرية التي هي سر من أسرار العبقرية. بكل هذه العناصر استطاع سنت بيف أن يمزجها في أحلى مزاج وأنضجه وأكمله، وكانت مقدرته على هذا المزج قد تم نموها الآن، فبدأ يكتب أحاديثه في هذا النوع الجديد الذي بلغ به حد الكمال والذي وضع له هذا الاسم الجديد: Causerie.
ولكن لننظر أولًا في مؤلفه بور رويال Port-Royal. وهو أكثر كتبه استحقاقًا لكلمة (كتاب)، وفيه يتجلى لنا جهوده في إنضاج هذا النوع الأدبي المكون من خليط من الدراسة الأدبية والتاريخية والاجتماعية، وفي إقامته فنًّا أدبيًّا ذا كيان قائم بذاته.
ثم تأتي إلى هذا المؤلف الذي عنوانه: (شانوبريان وجماعته الأدبية Chateaubriand et son Groupe litterire). وهو مجموعة المحاضرات التي كان يلقيها سنت بيف في لييج حين هاجر من فرنسا، وهي من أجود مؤلفات هذا الناقد العظيم، ويجب أن نلحظ أنه قد مارس النقد عشرين عامًا نضجت فيها مقدرته النقدية واكتملت إذ ازدادت معارفه واطلاعه وقويت مهارته النقدية من معظم وجوهها، ولكن هذا لا يكفي لأن نتصور مبلغ هذا المؤلف من الإتقان والجودة، وببدئه بدأت مرحلة جديدة في إنتاج سنت بيف النقدي فصار أجود وأعمق وأوضح.

ولكن هذا الكتاب لا يخلو — وأي كتاب يخلو — من مواضع للمؤاخذة والانتقاد، حقًّا إن ما يُتّهم به سنت بيف من الحقد والحسد والضغن على العظماء تُهمٌ مبالغ فيها، ولكن الحق أن سنت بيف في هذا الكتاب تنازعته شتى العواطف الشخصية من خصومات وصداقات، ويندر أن يظهر رجل كسنت بيف يمارس خلال سنوات طويلة نقد معاصريه دون أن ينتقص من صدقه مثل تلك العوامل النفسية. فإذا أضفنا إلى ذلك هذا النوع الفذ الغريب من النقد الذي عالجه سنت بيف ازداد هذا الخطر عمقًا. فإن سنت بيف كان مغرمًا أشد الغرام بأن يذهب ليتقصى أخبار معاصريه، ليس فقط في حياتهم الأدبية، بل في حياتهم الخاصة وفي شئونهم الدخيلة. فكان دائمًا يتجسس عليهم، ويتلقط الأخبار عن أحداث عيشتهم وخفايا أمورهم ومكنونات أسرارهم مما يفيض كثيرًا بالفضائح والعيوب، وكان سنت بيف مليئًا برغبة جامحة تدفعه دائمًا إلى تعرف المعلومات الثانوية عمن ينقده، مدعيًا أن ذلك كله فيه ما يلقي الأضواء على حقيقته الشخصية المنقودة.

كل هذا حق، ولكن المزايا النقدية لهذا الكتاب مزايا ممتازة فوق العادية، فإن لم يكن سنت بيف لا يقدر شاتو بريان الرجل أو شاتو بريان السياسي، فهو لم يظلم شاتو بريان الكاتب ولم ينتقص مما يستحق من تقدير فقد بين قواه ومواهبه أحسن بيان، وبين أثره وفضله على معاصريه، ولاحظ بحق أن بيرون ليس إلا شاتو بريال في الإنجليزية وفي الشعر مع اختلافات قليلة.

ثم هذه التفصيلات والمعلومات الموفاة قد بلغت أقصى مقدار من الجودة والتشويق بحيث تستدعي من القارئ الإعجاب تلو الإعجاب.

ثم نجد في هذا الكتاب لمحات نقدية في منتهى الروعة والعبقرية، لفئات لن تجد لها نظيرًا في أي ناقد آخر حتى في كولردج، فاقرأ مثلا قوله: أن تعرف كيف تقرأ كتابًا قراءة جيدة دون أن تتوقف عن مواصلة تذوقه، ذلك هو كل فن النقد تقريبًا … وهذا الفن يقوم أيضًا على المقارنة، فافعل ذلك تكن قد فعلت كل شيء.

وأستطيع أن أمضي في صب عبارات الثناء والإعجاب على هذا الكتاب، ولكن يكفيني أن أقول إنه لو كان هو المؤلف الوحيد الذي كتبه سنت بيف لكان كافيًا لأن يضعه في المرتبة الأولى بين عظماء النقد في العالم.

وأخيرًا نأتي إلى مجلداته الضخمة العظيمة: (حديث الإثنين Causeries Lundis)، ثم حديث الاثنين الجديد (Nouveaux Lundis).

ولعل أول ما يروعنا فيها غزاوتها الفائقة ووفرة مادتها إلى حد عجيب، وإذا حاولنا أن نعلل ذلك فلا ننسى عاملًا هامًّا عاون سنت بيف على إنتاج كل هذه الكمية، وهو حسن الحظ، فلقد كان سنت بيف في ما بقي من حياته موفقًا إلى أعظم حد يكون عليه التوفيق وقد أدرت عليه كتاباته مالًا وخيرًا مكّناه من الانصراف بكليته إلى ما هو فيه من النقد، فانكب عليه انكبابًا أتاح لنا هذه المجلدات الثمانية والعشرين فترك في الأدب الفرنسي بذلك ثروة في النقد لا أدرى أين نجد نظيرًا لها في لغة أخرى. ولكن من المؤكد أننا مهما نلتمس فلن نجد لها نظيرًا لا في كمها ولا في كيفها معًا؛ ثم لنضف إلى هذا الحظ الموفق والجد السعيد ما كان عليه الرجل نفسه من استعداد تام وموهبة كاملة للقيام بهذا العمل العظيم.

وكل حديث من هذه الأحاديث يشمل عشرين صفحة، وقل أن يزيد عليها أو أن ينقص، فإن زاد أو نقص كان ذلك بمقدار قليل، ولست أدري هل هذا الحجم كان الدافع إليه والمحدد له مجرد ملاءمته للجريدة التي كان ينشر فيها، أو أن سنت بيف قد قصد هذا الحجم قصدًا، وعلى كل حال فهو حجم لائق مناسب للموضوعات التي يقول فيها سنت بيف. ويتكون كل حديث من ٣٥٠٠ كلمة تقريبًا، وقد لاحظ من جاء بعد سنت بيف أن مجموع هذه الأحاديث، وهو على وجه التقريب، من ستة آلاف إلى ثمانية آلاف كلمة ملائم لمعالجة موضوع متوسط في أوسع فرع من فروع الأدب.

وكان سنت بيف كثيرًا ما يزاوج الأحاديث أو يثلثها حين يقتضي الموضوع ذلك، ولكنه قلما كان يفعل ذلك في البدء، كما أنه لم يتخذها عادة دائمة متبعة قط. وفي اختيار موضوعاته كان بالطبع يفضل كتابًا جديدًا إن أمكن أن يحصل عليه، ولكنه كان أحيانًا يهمل نقد كتب كانت جديرة بأن ينقدها، كتركه كتاب تاريخ النقد اليوناني لإجر Egger، مع أنه وعده بنقده، وكان أحيانًا ينقد ما سبق له الكتابة في نقده، وكان في قليل من الأحيان يعيد نشر أجزاء من أعماله القديمة.

أما معالجته للموضوع الذي يختاره فقد قلنا عنها شيئًا فيما مضى، وسنقول عنها أكثر، فهو يعالج الموضوع بطريقة فذة لا نظير لها فيما سبق، وقد ظلت حتى اليوم لا تفوقها طريقة، فإذا كان الموضوع موضوعًا عامًّا كان معرضًا لملاحظات قليلة عامة عن النقد المجرد، وإن كان أحيانًا يتطرق إلى الاستطرادات القيمة، فإن كان سيرة قص هذه السيرة موجهًا اهتمامًا خاصًّا إلى تعرف المؤثرات الأدبية، ثم ملحوظات عن الكتب والقطع، وأحيانًا يعرض لبيان مكانة المنقود الأدبية، ولكن ليس عرضًا صريحًا قاطعًا، بل أميل إلى أن يكون ملاحظة وإشارة، ولكنه في خلال نقده يكون قد بين بمهارة ولباقة منزلة هذا المنقود. وطريقته في النقد لا تتبع قالبًا واحدًا متكررًا يكون رتيبًا مملًّا، وإنما تتطرق إليها تغايرات تلائم ماهية الموضوع كل الملاءمة.

وقد استمر سنت بيف سنوات خمسًا يكتب كل أسبوع منها حديثًا بدون انقطاع، ثم أخذ بعد ذلك ينقطع عن هذه المواظبة، ثم انقطع كلية بضع سنوات حين أصبح محاضرًا في مدرسة النورمال Ecole Normale بين سنتي ١٨٥٧، ١٨٦١.
ثم استأنف سنة ١٨٦١ مشروعه النقدي، فبدأ ينشر أحاديث الاثنين الجديدة Nouveaux Lundis، منذرًا بأنه سيكون في نقده أصدق وأصرح وأقل رعاية للمعارضة من معاصريه.

نستطيع بعد كل ما عرفنا أن نتبين منزلة سنت بيف في عالم النقد: يمتاز نقد سنت بيف بميزة التشويق والاجتذاب، فهو يستثير من القارئ أكبر الغرام به والشغف الظامئ إلى قراءته، فهو كالنقد الفرنسي عمومًا مليء بالمغريات التي تحببه إلى النفوس وتستهوي إليه الأفئدة، ولكنه من ناحية أخرى ينقصه ما ينقص النقد الفرنسي من ميزات يضعف فقدانها من قيمة هذا النقد، ثم هذا التنويع العظيم الذي نجده في موضوعات سنت بيف النقدية يعمل هو أيضًا على زيادة تشويقه وجاذبيته إلى كل من امتلك نصيبًا من الذوق الأدبي أو التاريخي أو الفكري، ويمنع الملل والسآمة والاكتفاء من أن نتطرق إلى القارئ.

وأسلوب سنت بيف وإن لم يكن متألقًا لامعًا ولا حلوًا معسولًا ولا بيانيًّا رمزيًّا هو حين يكون كاملًا وخالصًا من بعض عيوبه الأولى النموذج للأسلوب الأنسب في النقد؛ إذ يلائم الموضوع وطريقة الكاتب في معالجته، فيمكن الكاتب أن يعبر به عن أي شيء يريد أن يعبر عنه، ولا يحاول أن يعبر به عما لا يستطيع التعبير عنه.

ولا أستطيع أن أجد في نقد سنت بيف أكثر من هذين العيبين: أما أولهما فهو ما سبق أن ذكرناه من أنه يجب ألا يؤتمن حين ينقد عظيمًا أو مشهورًا، فإن الخصومات والصداقات تفقد نقده الصدق والنزاهة، وأما العيب الثاني فهو ما قد يعده البعض عيبًا ويعده الآخرون ميزة حسنة، وهو أنه لا ينتهي في نقده للشخص إلى حكم نهائي عنه وعن قيمته الأدبية، وعن منزلته بالمقارنة إلى غيره. والحق أن هذا الإعراض من سنت بيف عن التصريح برأيه القاطع هو في حد ذاته حسن وخير، فقد شبع النقد من هذه الأحكام الجازمة والتحديدات التي ملأه بها عصر الكلاسيكية الحديثة، إلا أن القارئ كثيرًا ما يحس أن سنت بيف قد تركه مترددًا مضطربًا غير مستقر على رأى معين في مكانة هذا المنقود، وإذا أنت أردت من مصور أن يرسم لك صورة للوجه فأنت لا تطلب منه أن يتقن رسم كل من العين والأنف والفم والخد على انفراد إتقانًا مفصلًا وافيًا، ولكنك تريد منه شيئًا فوق هذا، تريد منه المجموعة المنسجمة من كل هذه الجزئيات، تريد منه الفكرة العامة والوحدة الرابطة لماهية الوجه.

أما الميزة الكبرى التي يمتاز بها سنت بيف، فقد ذكرها هو نفسه أكثر من مرة شارحًا موضحًا، وهي أن المهمة الأولى والأخيرة للناقد هي أن يقرأ، فيفهم، فيحب ويقدر، ثم يسهل للآخرين ما قرأه وما فهمه وما أحبه، وقل أن تجد ناقدًا اتبع هذه القواعد كما اتبعها سنت بيف، قد يغالي أحيانًا في التسهيل، فنحن لا نتطلب دائمًا كل هذه التفصيلات المسهبة التي يعطيها عن السيرة والتاريخ والقصص، ولكن هذه التفصيلات شائقة في حد ذاتها، وهي أحيانًا لا تخلو من الفائدة، ثم إن المادة النقدية وفيرة كافية.

ثم لنلاحظ هذه الميزة التي لا يدركها حق الإدراك إلا الخبير المتخصص، ولكن يجب ألا يغفل عنها القارئ العادي: وهي سعة دائرة اطلاعه ووفرة قراءته ومعارفه إلى حد عظيم، وتلك هي الميزة التي لا يقوم النقد بدونها.

ثم لنلاحظ أخيرًا ما يميز سنت بيف عن جميع النقاد الآخرين تقريبًا، من صحة العقل وسلامته، ومن الصبر والإتقان، ومن عدم التأثر بالآراء الوهمية والتقريرات التي لا تقوم على أساس من البرهان والواقع.

كان سنت بيف كما قلنا سعيدًا موفقًا كل التوفيق، فقل أن يوهب غيره مثل ما اجتمع له من المواهب، وقل أن يتاح لغيره الفرص التي أتيحت له لاستغلال هذه المواهب، ولكن هذه الفرص إنما صادفت رجلًا مستعدًّا كل الاستعداد لالتقاطها واستغلالها.

عاصر سنت بيف نقاد كثيرون، منهم فكتور هوجو، ثم خمسة يمثلون النواحي والنزعات النقدية المختلفة.

فجوتيه Gautier يمثل الرومانتيكية في أبعد ما وصلت إليه ويمثل دعاة مذهب الفن للفن.
ونيزار Nisard يمثل رد الفعل الكلاسيكي.
و سانت مارك جيراردان Saint-Marc Girardinيمثل النقد الأكاديمي الذي كان دائمًا مهمًّا جدًّا في فرنسا.
وبلانش Planche كان أكبر من يستحق الملاحظة من مدرسة النقاد الذين هم الرجال الأفذاذ للأدب الخالص والصحافة.
وماجنان Magnin للعلماء الأفذاذ.
ثم ميريميه Mirmie.

فكتور هوجو Victor Hugo

كان طبع فكتور هوجو أبعد ما كان وما يمكن أن يكون عليه طبع من البعد عن الروح النقدية، ولكن عبقريته كانت عظيمة قوية غلابة: فكان طبعه في تعارك مع عبقريته، فحيث تغلبت عبقريته وجدنا منه النقد الجميل القوي الحق، وذلك في المرحلة الأولى من حياته، وهذا النقد الجيد ممثل في مقدمته لكتاب Cromwell وفي مقدمته لكتاب (الشرقيات Orientales). وفي كتابLitterature et Philosophic Melees
أما إذا تغلب طبعه وهزمت عبقريته في المعركة فإننا نجد منه النقد الفاسد الذي لا يزيد عن كونه شذوذًا، وهذا في المرحلة الأخيرة من حياته، ومن أمثلته كتاب «وليم شكسبير» William Shakespeare.

ولنبدأ بنقده الرديء، ولننظر إذن في كتابه وليم شكسبير. حقًّا إن هذا الكتاب يحتوي على أشياء طريفة، وحقًّا إنه لا يخلو من روح رومانتيكية تنفخ فيه بعض الجمال، ولكنه ليس فيه شيء من النقد الحق، بل تقاريظ خطابية لمختلف الأشياء، ثم إنه قد أفسده ما كان يحمله هو من البغض لإنجلترا والكره لها — إنجلترا التي أظلت فكتور هوجو فلم يرع لها هذه اليد — وقد أخذ هذا الحقد عليه كل مشاعره، فاندفع في وصف خيالي لا أساس له من الحقيقة، وفي فورات عصبية مليئة بالسخف أقرب إلى الحمى.

إلا أن هذا لا ينطبق على أعماله النقدية الأخرى، فمقدماته للكتب من أجود النقد وهي خليقة بالدراسة والقراءة وكذلك كتابه Litterature Philosophie Melees يجب أن يقرأه كله الطالب الذي يريد أن يتعلم، وهذا الكتاب هو مجموعة أعمال الشاعر النقدية وغير النقدية من سن السابعة عشرة إلى سن الثانية والثلاثين وسن السابعة عشرة لا يمكن أن يكون فيه أحد ناقدًا جيدًا، ولكن هوجو كان فيه كاتبًا لا بأس به، فإذا ما تقدمت به السن وجدنا منه في مقالاته عن سكوت وفولتير، وعن Lamernais وبيرون، وعن ميرابو و Dovalle، قدرًا كبيرًا من النقد الجيد.
ولو كان هوجو لم يكتب إلا كتابه «وليم شكسبير» لما عددناه ناقدًا ولما حفلنا به في كتابنا هذا عن تاريخ النقد إلا في بضعة سطور في الهامش، ولكن مقدماته للكتب فيها من النقد الحق ما يستحق به أن يعد ناقدًا وأن يشغل بضع صفحات من هذا الكتاب، ونختار من هذه المقدمات اثنتين: مقدمة لكتاب (كرومويل Cromwell) ومقدمته لكتاب Orientales.

أما المقدمة الأولى فهي أطولهما وأوفاهما وأشهرهما، ولكني لا أظنها في أهمية مقدمته للكتاب الآخر. في هذه المقدمة لكرومويل، برغم أن هوجو متظاهر بأنه لا يدافع عن نفسه، ويدعي أن الصراع بين الكلاسيكية والرومانتيكية قد انتهى، إلا أنه في الحقيقة يجدد هذا الصراع مرة أخرى وكلمة (فن) هي تقريبًا موضوع هذا الصراع، وإن لم تكن كذلك تمامًا، وفي هذه المقدمة يبسط هوجو نظريته في الشعر، ويكرر التنبيه إليها بضع مرات، وهي أن الشعر والإنسان كانا يمشيان في العصور الأولى البدائية جنبًا لجنب، وأن الإنسان حين يغني يقترب من الله؛ وما إلى هذا من الأقوال التي لا جديد فيها والتي كانت تردد في القرنين السابع عشر والثامن عشر والتي لا تخرج عن دائرة الكلاسيكية في حقيقتها، وإن قالها هوجو بلهجته الشخصية الخاصة به، وينتهي هوجو إلى أن الشعر القصصي زائدًا الشعر الغنائي يساوي الدراما (الشعر التمثيلي). ويتكلم قدرًا كبيرًا عن شكسبير، ويتكلم عن وحدة الزمن ووحدة المكان ويوضح سخافتهما، مع أن سخافتهما أوضح من أن توضح، وأجود هذه المقدمة قطعة عن القواعد والنماذج والتقليدات، وملاحظات جيدة عن الذوق الخاطئ قديمًا وحديثًا، ومعارضة على أساس من الصحة للنقد القائم على القاعدة والنوع وعلى الأخطاء والمحاسن.

هذه المقدمة كانت ولا تزال على قدر كبير من الأهمية، ويمكننا أن نتصور ما كان لها من تأثير عظيم كخطاب موجه إلى الجمهور والشعب، ولكنها يعيبها طولها، وحاجتها إلى المنهج الصحيح، ويعيبها أيضًا ما ذكرنا من ادعاء هوجو أنه لا يدافع عن نفسه وأنه لا يدافع عن الرومانتيكية، فإن دفاع الإنسان عن نفسه طبيعي ومرغوب فيه ومستحب، فلم يتصنع موقف عدم المبالاة؟ وأيضًا الدفاع عن الرومانتيكية طبيعي ومرغوب فيه ومستحب، ولكن لم هذا التظاهر بأنه لا يحاول شيئًا من هذا وأن معركة الكلاسيكية والرومانتيكية قد انتهت؟

أما مقدمته للـ orientales فهي تخلو من هذه العيوب، وهي حقًّا على قصرها أجود عمل نقدي تركه هوجو، بينما هي أيضًا أجرأ نقدياته وأوضحها وأقلها تحايلًا وتظاهرًا وأكثرها جدًّا وبالاختصار أعظمها. وفيما يقصد هوجو إلى هدفه توًّا بلا لف أو دوران، فهو يتساءل عن حق الناقد في أن يسأل الشاعر عن اختياره للموضوع الذي اختاره، أو عن علاجه لهذا الموضوع بالكيفية التي ارتضاها وينكر هذا الحق إنكارًا باتًّا قاطعًا.
ويقول جملته المشهورة: هل العمل جيد أو رديء، هذا هو المهمة الوحيدة للنقد. L’ouvrage est-il bon ou est-il mauvais: volla tout le domaine de la critique
وهذه الجملة هي من تلك الجمل التي تفتح كل منها عصرًا جديدًا، وهي واحدة من أخطر اللمحات النقدية في تاريخ النقد، لم يجرؤ قديم على أن يقولها قط، قالها Patrizzi ولكن دون أن يعي ما يقول. حام حولها الرومانتيكيون من الألمان والإنجليز، وحققوها في أنفسهم، ولكنهم لم يجهروا بها قط بهذه اللهجة القاطعة المباغتة التي نادى بها هوجو، وهوجو لا يقولها مرة واحدة ثم يتركها كأنه خائف منها أو نصف واع لما تعنيه؛ بل هو يكررها ويكررها، حتى يوجه في كل مرة قنبلة نحو الكلاسيكية، لا تهتم قط بالمنهج الذي استخدم، بل اسأل فقط كيف استخدم هذا المنهج، ليس هنالك من موضوعات جيدة، وموضوعات رديئة في الشعر؛ بل هناك شاعر جيد وشاعر رديء، كل شيء يصلح أن يكون موضوعًا. افحص (كيف) عمل الفنان، لا (لماذا) عمل، الفن لا يعترف بالقيود والأغلال وسدادات الفم والعلامات المرشدة إلى الطريق، بل أن يذهب كما يحب، وأن يعتقد كما يحب، وأن يفعل كما يحب، والنوع، والقصة، والزمن، والمنهج، كلها حسب ما يختاره هو.

ثم يعطي هوجو قطعة من أروع نثره وأكبره تفردًا بميزته الأسلوبية الخاصة، معبرًا عن رغبته في أن يكون شعره كالمدينة الإسبانية نصفها شرقي ونصفها من القرون الوسطى، ثم يختتم المقدمة اختتامًا سريعًا بكلمات عن الكتاب نفسه.

ذلك هو المفتاح للنقد الذي كتبه هوجو، بل للنقد الرومانتيكي أجمعه، فإن ما عارض به النقد الحديث النقد القديم، أو النقد الرومانتيكي النقد الكلاسيكي هو نداؤه: لا تهتم مطلقًا بالموضوع، أو النوع أو أي شيء من هذا القبيل، بل اهتم فقط بهذه المسألة: هل أجاد الفنان علاج الموضوع؟

هذا المبدأ من غير شك ليس صحيحًا على إطلاقه، فهو لا يخلو من غلو وخطأ، فشأنه في ذلك شأن كل المبادئ العامة التي تطلق إطلاقًا دون تحوط أو استثناء، فإنه إذا كان يعني أن كل الموضوعات جميعًا متساوية في الجودة والصلاحية فهو يقود بلا شك إلى الخطأ، وإن كان يعني أن هذه السنين الألفين والخمس مئة التي مرت على الأدب لم تُظهر أن بعض الموضوعات يبلغ من الصعوبة وعدم الملاءمة حدًّا يكون فيه مستحيلًا فإنه يكون مبدأ يجر الشاعر إلى تجارب فاشلة وضارة، ولكن العقلاء لا يفهمون من هذا المبدأ هذه المعاني المتطرفة الخاطئة، والحق أن هذا المبدأ دفاعي أكثر منه هجوميًّا، فهو صد لما كانت الكلاسيكية تقوم به من تحديد وما كانت تعتقده من نظرية الأنواع وما كانت تفعله من قصر الاهتمام على تعرف النوع وعدم العناية بتعرف العمل الأدبي ذاته وحظه من الجودة والحسن.

درسنا فكتور هوجو، فلندرس أكبر خصم له، وهو زعيم الرجعية الكلاسيكية نيزار.

نيزار Nisard

لعل أهم ظاهرة في نيزار تحوله من الرومانتيكية إلى الكلاسيكية فلقد بدأ رومانتيكيًّا يدافع عن المذهب الجديد المنتصر، ثم انقلب إلى الجانب الآخر فكان أكبر دعاة الردة الكلاسيكية في ذلك العصر، وكان هذا الانقلاب منه في سنة ١٨٣٨، ولذلك وصف نيزار بأنه قد أحرق ما كان يعبده، وقد جاهد نيزار لأن يزيل عن نفسه هذه التهمة، ولكننا لا نظنه مظلومًا حين يوصف بأنه قد أحرق ما كان يعبده.

وهكذا نجد كتابه (مقالات من الرومانتزم Essais sur le Romantism) قسمين، أما القسم الأول منه فرومانتيكي، وهو يجمع المقالات التي كتبها نيزار من سنة ١٨٢٩ إلى سنة ١٨٣١، وهي مقالات عن هوجو، وفيجني، وسنت بيف، ولامرتين، وموسيه، وهو يتخذ صف هؤلاء المجددين ويدافع عنهم.
أما في مقدمته للقسم الثاني المكتوبة في سنة ١٨٣٨ فهو يعلن ارتداده في عبارات لا تسمح بالمناقشة، فيتكلم عن عودته إلى العقائد الكلاسيكية retour aux doctrines classiques ويقول إنه يرجع ثانية في خطوة ثقيلة مترددة عن الطريق الذي اندفع فيه وهو ثمل سكران.

ومهاجمته للأدب الخفيف مهاجمة حقة، وكثير من مقالاته على أساس من الصدق، ولكن مقالاته عن هوجو لا نجد فيها نيزار الذي كنا نعرفه، نيزار المخلص الشديد الإخلاص للعدل والصدق والحق وللجد وحسن الذوق، العظيم التمسك بهذه الأمور إلى حد التزمت والتعصب، بل نجد نيزارًا آخر قد أفسد عليه أحكامه الحزازاتُ والبغض والخصومة، فراح يطعن في هوجو وينتقص من شعره ويحقر من مقدرته النظمية، ويقول إن نثره ربما كان أكثر من شعره نجاحًا، ويتنبأ بقرب موته أدبيًّا.

حقًّا إن نيزار كان يحرق ما كان يعبده، ولكن الحق أنه يعبد الآن ما لم يحرق قط: وأشهر كتبه وهو كتاب تاريخ الأدب الفرنسي Histoire de la Litterature Francaise مكتوب بحيث يؤيد صف الكلاسيكية، فدراساته للشعراء الرومان وللأدب الكلاسيكي هي ما يقوله رجل قد جذب نفسه حتى صعد إلى سطح هوة كان قد هوى إليها، وصمم على أن يواصل في طول حياته الباقية المسير في الناحية الأخرى. وليس من مقالات سنت بيف ما هو أقرب إلى الصدق والدقة في الحكم من تلك المقالة التي كتبها سنت بيف عن هذا الكتاب الذي ألفه نيزار، وبين فيها كيف كوّن نيزار لنفسه فكرة العبقرية الفرنسية الأدبية، فتكلم عن الكتّاب الذين يصورون هذه الفكرة ومدحهم وقرظهم، وأهمل الآخرين الذين يعارضونها أو أخمل من شأنهم. وهذه الفكرة هي التحزب للكلاسيسزم، ويخبرنا نيزار أن ارتداده إلى الكلاسيكية قد سببه زيارة له لإنجلترا، وتحت تأثير هومير ولافونتين. وما أحدثت إنجلترا في زائر لها قط مثل هذا التأثير البالغ الذي أحدثته في نيزار فقلبت موقفه الأدبي رأسًا على عقب.

ومهما يكن السبب فقد أصبح نيزار عدوًّا للرومانتيكية، وظل على هذا العداء حتى النهاية، وهو من أحسن أنصار الكلاسيكية: متعلم مثقف، شجاع جريء في أدب وذوق، ككل ناقد يرغب في أن يعد ناقدًا جليلًا، ولكنه في إخلاصه للكلاسيكية كان لا يتناول العمل الأدبي كما يقدم هذا العمل الأدبي نفسه ثم يحكم أهو حسن أم رديء، فكانت النتيجة لا مفر منها.

والخلاصة التي ذيل بها الطبعة التالية من كتابه «مقالات عن الروماتسزم» توضح نقطة الضعف في نزار الناقد. وهو ضعف من يتبع طريقة الأخطاء والمحاسن، مضافًا إليها الثرثرة الأخلاقية. يقول نيزار: إن فكتور هوجو كان رجلًا ذا عيوب خلقية خطيرة، وقد كان هوجو كذلك حقًّا، وأعماله الأدبية مليئة بها وبعيوب أخرى لا تقل خطورة، هذا حق، ولكن نيزار قد نسي أنه كما أن عامل المنجم لا يهمه أخيرًا إلا كمية الذهب ونوعه الذي استخرجه من منجمه، فكذلك الناقد لا يهمه أخيرًا إلا كمية ونوع الذهب الشعري والأدبي الذي استخرجه من أعمال الشاعر والأديب. لا يهم مطلقًا كون هذا الذهب في تربة رديئة فاسدة وبائية، ولا كونه كان مختلطًا بالرغام وبأشياء أخرى أردأ وأقبح من الرغام.

والآن: كان في هوجو ذهب، لا بالدراهم، ولا بالأوقيات، ولا بالأرطال، بل بالأطنان.

وهذا هو الذي أخطأه نيزار، فليست مهمة الناقد إلا أن يعرف: أهنا ذهب أم ليس من ذهب؟ أذهب كثير أم قليل؟ ومهما يكن من الأمر فقد كان نيزار من أحسن النقاد في الصف.

جوتييه Gautier

نسيت فرنسا أديبها وناقدها وشاعرها تيوفيل جوتييه، بل أعلن البعض أنها على حق في نسيانه، ولكن الحق أن جوتييه لم يكن واحدًا من آحاد كتاب النقد الفرنسي وأقدرهم فحسب، بل هو واحد من أعاظم رجاله في الأدب سواء في الشعر أو في النثر، في القصة أو في أدب الرحلات، في الشذرات المتفرقة أو في النقد، لم يكن من أعاظم النقاد، ولكنه كان ناقدًا كبيرًا.

وجوتييه يتهم بأنه كان طيب القلب أكثر من الحد اللازم، وإنما يتهمه بذلك من لا يظنون وظيفة الناقد إلا كوظيفة ناظر المدرسة: مهمته ألا يقول شيئًا إلا: غبي! اجلس! تعال لي بعد الدرس! ولكن سوء الحظ الذي لازم جوتييه وأجبره دائمًا على أن يكتب ليأكل الخبز أبعده من جهة عن النقد الأدبي الخالص فانصرف إلى الموضوعات المسرحية والفنية، وجعله من جهة أخرى يكتب كتابة خفيفة ليسلّي ويمتِّع فقط، ولكن لم يكن ليجعله يسلي ويمتع على حساب الصداقة أو المبدأ قط.

وأكثر ما كتب جوتييه لم يعد طبعه، ولكن مجلدات ما طبع من أعماله مثل الـ Grotesques والـ Historie du romantism والـPortraits Contemporains مضافًا إليها بعض المقالات المقررة والمقدمات تعطينا مادة للكلام عنه.

ومؤرخو النقد غالبًا لا يولون جوتييه اهتمامًا كبيرًا ولكنهم يجب أن يعجبوا بثباته على فكرته، وبإخلاصه طول حياته لمبدئه الذي نادى به، وهو مبدأ الفن للفن، إخلاصًا ثابتًا قويًّا عتيدًا، ومبدؤه الفن للفن لا ينفصل عن نظريته في أن الفن الأدبي معظمه إن لم يكن كله يتمثل في الكلمة الجميلة، يُفيض عليها جمالها الضوء واللون، والجرس والموسيقى والقالب اللفظي، واستعمالها بمهارة ولباقة، ووضعها في موضعها اللائق بها، واختيارها وتصفيتها.

وفي كتابه Les Grotesques نجد خفة روحه وقوته في النكتة والدعابة، فلقد كان جوتيه من الأفراد القلائل الذين تستطيع أن تفخر بهم فرنسا في عالم الفكاهة، وحقًّا إن النقد في هذا الكتاب من النوع الخفيف الذي روعي فيه ألا يثقل على من ليسوا ذوي اهتمام جدي بالأدب، ولكنه قد روعي فيه أيضًا أن يمنع من هم ذوو اهتمام جدي بالأدب، وهو حقًّا يمتعهم.
وكتابًا Histoire du Romantisme وPortraits Contemporains يشتملان على مقالات تجمعها وحدة الفكر والموضوع أكثر مما تجمعها وحدة الزمن، وهي تمكننا من ملاحظة استواء روحه النقدية وتعادلها واستمرارها.

وفي كل هذه الكتب نجد ما ذكرناه سابقًا من نظريتي جوتييه نظرية الفن للفن، ونظرية الكلمة، وإن كان قادرًا على تنويع موضوعاته تنويعًا كبيرًا ونجد فيها مقدرة على التذوق والإعجاب، وعلمًا لا يبارى بالشعر والنثر الوصفي والإنشائي وتشويقًا ولذة لا تنضب، وفوق هذا كله نلمس روحًا رقيقة نبيلة حلوة قل أن نجدها في ناقد قدير، ويكفي لمن يريد أمثلة لهذا أن يقرأ مقالته عن الشعر الفرنسي في منتصف ذلك القرن، ومقالته عن بلزاك في سنة ١٨٥٨، ومقدمته لطبعة بودلير في ١٨٦٧.

ولست أعرف ناقدًا جمع بين الصدق والتشويق كما جمع بينهما جوتييه، فإن ما فيه من تشويق وطرافة وإمتاع لا تقوم على حساب الحق والعدل والصواب.

ميريميه Mérimée

كان طبع ميريميه ملائمًا كل الملائمة لروح النقد، بحيث يخالف في كل الوجوه طبع فكتور هوجو، وإلى جانب ذلك كان أسلوبه بارعًا فاخرًا، بل هو أفخر أسلوب في القرن التاسع عشر من بعض الوجوه، فكان بذلك صالحًا كل الصلاحية لأن يخلف لنا النقد الأدبي الجيد، ولكن ميرميه ككثير ممن درسنا لم يوجه اهتمامه الأكبر إلى الأدب الخالص، بل اهتم بالتاريخ ودراسة العادات والآثار، فهو كما قال عنه بعض النقاد محدث Causeur، علّامة، عالم بالآثار، سياسي، كل شيء إلا أن يكون أديبًا!

جوته ومعاصروه

الكلام على النقد الألماني في عصر جوته صعب عسير، ويرجع ذلك إلى كثرة المؤلفات النقدية كثرة فائقة لا نستطيع أن نحصيها كلها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية كانت كل أعمال الأدباء تقريبًا نوعًا من النقد غير المباشر، من النقد التطبيقي، فقد شمل ألمانيا من ١٧٥٠ إلى ١٨٣٠ حركة ذهنية عظيمة بحيث استحالت إلى أكاديمية بالنشاط والغليان الفكريين، يقود هذه الحركة أناس على قدر كبير من العبقرية، إلا أن ما انتهى إليه الألمان نتيجة جدهم العظيم كان كثير منه معروفًا لدى الشعوب الأخرى ورثته من ماضيها الأدبي، ولكن الألمان قد استكشفوا إلى جانب ذلك ما لم تستكشفه الأمم الأخرى.

جوته Goethe

إن المجلدات الستة والثلاثين التي تجمع أعمال جوته يمكن أن يقال عنها: إنها معرض لنقده، فنقده يتغلغل فيها كلها ويتجلى في كل منها تقريبًا، ويكفينا هنا أن نخص بالذكر ما قاله عن شكسبير في الـ Wilheim Neister وفي Shakespeare und Keine Ende وأن ندرس الـ Sprüche in Prosa ومجموعة أقواله في الأدب الألماني والآداب الأخرى، ومخاطباته مع Eckermann.
نقد جوته لشكسبير: إن القارئ الفاحص لما كتبه جوته نقدًا لـهملت Humlet في الـ Meister لا بد أن سيلاحظ شيئًا غريبًا، هو أن هذا النقد جائز أن يكتبه رجل لم يقرأ إلا ترجمة نثرية للقصة في لغة غير لغتها الأصلية. وتفسير ذلك أن جوته وإن كان يعالج ببصيرة فائقة لا يتطرق إليها الخطأ الشخصيات والمواقف وسير القصة إلا أنه لا يزيد عن ذلك، فهو لا يقول شيئًا مطلقًا عن أسلوبها الشعري الرائع الفاخر الكامل، ولا عن تلك العبارات وتلك المقطوعات التي يكررها المرء مئات المرات خلال عشرات من السنين فلا يفقدها تكرار سحرها الأول بل يزيدها سحرًا وإعجازًا.
وكذلك الحال في Shakespeare und Reine Ende. فمنذ الملحوظات الأولى التي تتبعها جوته في سنة ١٧٧١ حين كان شابًّا إلى سنين سنة بعد ذلك لا يقول جوته شيئًا عن جمال أسلوب شكسبير. كأن كاتب قصصه لم يكن إلا كويتبًا صغيرًا لاحظ له من إبداع التعبير.
والقارئ للملحوظات المتفرقة العامة التي يحتويها كتاب Sprüche in Pross الذي يعبر عن آراء جوته الفكرية في كل مراحل حياته المختلفة لا بد أن يلحظ هذه النزعة العلمية والقلمية التي تسيطر على هذه الأفكار، حتى فيما يتعلق فيها بالأدب الخالص أشد التعلق، فكل الأفكار الهامة معممة إلى أقصى حد يصل إليه التعميم، وفي هذه العموميات يوجد كثير مما يعجب كقوله المشهور: إن الوهم هو شعر الحياة superstition is the poetry of life وكقوله الذي هو أقل شهرة ولكنه أيضًا معجب فائق: إن حركة الوزن تحتوي شيئًا سحريًّا فيها فهي تجعلنا نعتقد أننا قد أصبح الجليل ملكًا لنا، وكقوله البليغ: إن من المتظاهرين بالعلم من يجمعون إلى التشدق الكاذب الخبث والشر وأولئك هم أسوأ المتشدقين.

ولكن هذا التعميم لا يخلو في كثير من الأحيان من أخطار التعميم، كقوله الذي لا يفتأ الناس يقتبسونه ويكررونه في تشبيه الكلاسيكية بالصحة والرومانتيكية بالمرض، وكان أفضل لو أن قال إن الكلاسيكية هي الحيطة ضد المرض والرومانتيكية هي الاستغلال لكل ما لا محيص من مجيئه.

فإذا غادرنا هذه العموميات التي لا نوافق عليها أحيانًا، والتي نوافق عليها كثيرًا، والتي لا تخلو قط من إبداع وجمال وفكرة سديدة، إذا غادرناها إلى الآراء الخاصة الثنائية، فإن الحال يتغير، إذ نجد جوته يندفع في كثير منها في تيار إعجابه وتحمسه فيأتي بمبالغات لا تتقبل، فقد نستطيع أن نسلم بأن كل شيء في قصة هنري الرابع جيد حسن. أما أن يقول جوته: إن كل ما هو جيد حسن فهو موجود في هذه القصة فهذا ما لا يقابل إلا بابتسامة، وأمثال هذا كثير من المبالغات التي يدفع جوته إليها فرط انفعاله في إعجابه وتقديره، وهي مبالغات تحمسية لا نستطيع أن نسلم بها مهما كان تقديرنا وإعجابنا بالمنقود كثيرًا.

مخاطبات جوته مع Eckermann: هذه الـ Conversations with Eckermann تكون أغنى أعمال جوته النقدية، وهي أكثر أعماله ملاءمة لأن يقرأها القارئ العادي، وهي خطرات نقدية تفيض بالصدق والصحة وسداد الفكر ويمكن الإنسان أن يستاء منها ويسلم بها، وليس فيها أي شيء مما يخدع أو يسخط وهي فياضة بالخطرات العامة التي تشمل النوع الإنساني والتي أكسبت قائلها شهرته العظيمة، وأكسبته إياها بحق وجدارة. ولن تجد مطلقًا أديبًا قد امتلك ما حازه جوته من الانتباه وقوة الوعي ودقة الملاحظة، وهذا هو أهم ما يؤهل جوته لأن يعد ناقدًا، وقد تجد خطرته النقدية شاذة للقراءة الأولى، ولكن إن تمعنت فيها ألفيتها صائبة محقة، كقوله عن أرسطو إنه مندفع متهور rash في أفكاره، فالحق أن أرسطو على ما هو عليه من العظمة والعبقرية كان مندفعًا متهورًا، وعلى الأخص في نقده الأدبي، وهذا ناشيء من اعتقاد اليونان أن حقائق اليونان هي حقائق العالم كله.
ولكي نكون أكثر فهمًا لحقيقة جوته النقدية نقارن بين نقده ل سكوت Scott ونقده لـ بيرون Byron. فهو يعجب بكليهما ولكنه في سكوت يدلل على أن إعجابه صحيح، فيعطي الأسباب والحيثيات التي يولي بها سكوت ما يوليه من التقدير، فيحلل أعماله تحليلًا نقديًّا حقًّا، ويبين مواطن الحسن فيها، والمهارة في تأليفها وقوة التصوير فيها، ولكن مديحه لبيرون من نوع آخر، فكله كلام عام لا يعطي في خلاله برهانًا ولا يحاول تمثيلًا، فلا يستشهد بأي عبارة ولا بأي كتاب لبيرون، بل يطلق إعجابه إطلاقًا لا دليل فيه.

وهناك ملاحظات هامة أخرى تقربنا من فهم جوته الناقد، وتدهش أولئك الذين يعتقدون أن جوته كان نبي الثقافة العالمية، وتجعلهم يحدون من إعجابهم به بعض الشيء، هي معارضته للدراسة التاريخية للأدب المقارن، وإذا كان للقرن التاسع عشر ما يميزه عن كل القرون فهو نضوج هذا التاريخ الأدبي المقارن فيه، ولكن جوته لا يشجع هذا العلم بل يحتقره وينتقص منه، ويحذر الألمان قائلًا: إنهم سيسخرون كثيرًا بدراستهم للأدب العالمي، وينادي بأن يظل الأدب اليوناني والروماني أساس الثقافة العالمية. وهذا إن قبلناه فلن نقبل غضه من شأن الآداب الصينية والهندية والمصرية وانتقاصه منها وزعمه أنها لا تفيد في الثقافة الخلقية والاستيتيكية، والأدهى من ذلك والأدعى إلى العجب أنه يقف نفس هذا الموقف من الآداب الأوربية في القرون الوسطى.

نود الآن بعد ما قدمنا من استعراض لأعمال جوته النقدية أن نتبين حقيقة منزلة جوته في عالم النقد، هذه المنزلة التي بولغ فيها أشد المبالغة حتى رفعت إلى السماء، وكان ذلك على يد كتاب كبار من كاريل فمن جاء بعده، واستمرت هذه المنزلة في عصرنا هذا مسلمًا بها دون أن تهاجم مهاجمة جدية، ونود نحن أن نقوم بهذا العمل وأن نهدم كل ما أضيف إلى جوته من تقدير لا يستحقه، وألا نبقي إلا على منزلته التي هو جدير بها في تاريخ النقد، وسينتهي بنا ذلك إلى أن نرفض هذه المبالغة في مكانة جوته النقدية بل سينتهي إلى أن جوته لا يمكن أن يعد من أكبر عظماء النقد.

ولكن لنتبين أولًا مزايا جوته التي دفعت الأكثرين إلى المبالغة في منزلته النقدية.

امتلك جوته إلى حد فائق غير عادي الحكمة Wisdom، ولم يظهر بعده حتى اليوم من يساميه في هذه الميزة العظيمة، فقد حاز جوته من الحكمة أعظم قدر، وظل معظم حياته ينفث خطرات الحكمية الرائعة، وكان دائمًا على اتصال بالحياة الواقعة، وكانت خطراته عملية ومنصبة على الواقع لا تعلق فيها بالخيال، ولا انطلاق منها إلى عوامل غير هذا العالم الفعلي المحسوس، فجوته لا يتخيل ولا يحلق في سماء الوهم والمعتقدات الظنية، بل هو دائمًا واقعي عملي، هو لا يعرف الأحلام، ولكن يعرف الحياة الحرفية، وحتى في المواطن التي يحلق فيها في عالم الأحلام، كالقسم الثاني من فاوست لا تكون أحلامه سوى الانعكاس الصادق الحر للحقائق الواقعة التي يمارسها الناس في الحياة أو يستطيعون أن يمارسوها.
ولكنه من ناحية أخرى قد امتلك قدرة مدهشة عبقرية على الجمع بين العلم وبين الـ romance ، وإن كان يبدو أن الاثنين هما الظاهرتان الأساسيتان المتعارضتان للقرن التاسع عشر. فقد ضم ما كان يميز القرن الثامن عشر من عقل ولباقة ذهنية إلى ما ميز القرن التاسع عشر من عاطفة وحساسية، وإلى جانب ذلك لم يكن فيه ما شوه القرن الثامن عشر من عيوب الكلاسيكية ومساوئها، بل كان مزاجه العقلي مصفى من هذا السخف والتكليف والإغراق في الذهنيات، ولم يوجد من خدم مثله تحت العلمين، راية العقل ولواء العاطفة، بل يمكن أن يقال: إنه وفق بينهما وعقد هدنة في عراكهما.

يضاف إلى ذلك قدرته العجيبة على النظر إلى المستقبل وتقبل ما يكون للشباب والجيل الناشئ من آراء وأذواق وميول، وهذا ما جعل هذا الشباب يحبه ويخلص في حبه، فإذا أضفنا إلى ذلك كله مواهبه الأدبية الممتازة، وخلقه الفاضل المتين، وطبيعته الملائكية الطيبة، فقد يبدو أن ما أنزل جوته من منزلة عليا شيء هو به جدير وحقيق وأنه من الخطأ ومن السخف ومن الظلم أن نحاول الحد من هذه المنزلة.

إلا أن الأسباب التي تدعونا إلى هذه المحاولة نستخرجها من عين هذه المزايا التي قدمنا، فهو ماهر حقًّا في ملاءمة عصره وفي تقبل نظرات الجيل الشاب وميوله، ولكنه لا يزيد عن هذا العصر لا إلى الوراء فيحسن فهم القديم ولا إلى المستقبل الأبعد فيكون صالحًا لأن يظل ملائمًا لكل الأزمان، فهو لا يستطيع أن يتذوق أدب القرون الوسطى ولا أن يقدره حق قدره، وهو يبالغ أشد المبالغة فيما يظنه مقتضيات الأدب الواقعي في القرن التاسع عشر، أن يكون أدبًا رومانتيكيًّا معدلًا تعديلًا يفسح للعلم صدره ولا يرفضه، فهو يعبر حقًّا عن عصره، ولكنه لا يعبر عن الميول الإنسانية الخالدة على وجه الزمان أزلية وأبدية، ولذلك هو لا يستطيع أن يرضينا بعد. هو ليس متهورًا في آرائه كما وصف هو أرسطو، ولكنه ليس كافيًا ولا مغنيًا، وأرسطو على اندفاعه نستطيع أن نجد فيه من الغذاء الخالد ما لا نجده في جوته، بل نحن حين ننقد أرسطو نراعي زمنه فنقول: إن هذا رجل من القرن الرابع قبل الميلاد، أما حين ننقد جوته فنحن نزيد انتقادًا له حين نعرف أنه كان أمهر رجل من سنة ١٧٧٠ إلى سنة ١٨٣٠ فإذا قارناه بلونجينوس وجدنا أن لونجينوس لا تنتقص منه هذه الاعتبارات التي تنتقص من جوته، بل إن كولردج برغم أنه لا يخلو منها فهي لديه أندر وأقل مما هي في جوته.

موطن نقص ثان في جوته: أنه أسرف في استغلال الثقافة، فقد كانت الثقافة لديه إلهًا معبودًا وهو يهاجم الخياليات والتصورات العاطفية الوهمية، ويحمل على من يعيشون في عوالم متخيلة غير هذا العالم الواقع، ويقول: إن مثل هؤلاء الناس ومثل هذه الأزمنة ومثل هذه الكتب ليس فيها أي خير لنا، وهذا ادعاء خاطئ فلقد يكون عيشة الفرد في مثل هذه الدنى الوهمية عائدة عليه بالفائدة، ودعوى أن الخيال والتصور لا يفيداننا مطلقًا دعوى كاذبة غير حقة، ثم ما هي الثقافة؟ ولم نقصر مدلول الثقافة على المعلومات الواقعة والمعارف الحسية الحرفية؟ سؤال لا نجد له من جوته جوابًا.

موطن النقص الثالث والأخير: أن جوته لا يعنى بالأدب من وجهة كونه أدبًا، فهو لا يهتم بالنواحي الأدبية الخالصة ويهتم بالشعر من الوجهة العامة أكثر مما يعنى بصنعته وفنه؛ ويميل إلى أن يتكلم عن الشعراء أكثر مما يتكلم عن الشعر نفسه. وهو في كلامه عن الشعراء لا يتحدث عن الجوانب الشعرية المحضة فيهم، فهو مثلًا في حديثه عن بيرون يشيد بخلقه، وسلوكه؛ وشخصيته، ولست أدري ما أهمية الخلق والسلوك في شاعرية شاعر، وأنا أشك في المبالغة في أثر شخصيته في شاعريته، قد أسلم بأن الخلق والسلوك ضروريان له، ولكن ضرورتهما له هي عين ضرورتهما لمصارع الثيران ولمالك البيت تهب فيه النار في الثانية صباحًا، أما بالنسبة للشاعر فلست أعرف للخلق والسلوك أهمية لازمة.

وجوته دائب البحث عن الخلق character و السلوك conduct و الشخصية personality. وها هي عشرة أجيال قد مرت على شكسبير ولم يكد يستكشف شيئًا مطلقًا عن خلقه ولا عن سلوكه ولا عن شخصيته، ولكن معظم الناس يقولون: إن شكسبير هو أحد أعاظم الشعراء في العالم، وخلق شلي كان ضعيفًا وسلوكه كان أحيانًا مُسحطًا، وشخصيته وإن تكن محببة على وجه العموم فهي مبهمة غامضة، وبرغم ذلك فإن بعضنا يعده الشاعر الثاني — ليس فقط الشاعر الإنجليزي الثاني — بعد شكسبير.

لذلك كله أجرؤ على أن أتساءل: — وإن ربما يبدو تساؤلًا سخيفًا — ألنقد جوته قيمة كبرى؟

قد يكون به بعض ميزات الطبع النقدي، ولكنه بلا شك عار عن أغلبها. أنا مستعد للاعتراف بأنه ناقد تمثيلي كبير، ولكن أكان حقًّا ناقدًا أدبيًّا كبيرًا؟ إنني معجب أشد الإعجاب بجوته مؤلف فاوست، وبجوته الشاعر الغنائي، وبجوته مواطن أخرى متعددة وأنا أستطيع أن أعتقد أنه كان ذا نفع عظيم للإنجليز في السبعين أو الثمانين أو المائة سنة الماضية، وأنا أعرف أنه قد نفع عصره بأن نشر مذهبًا نقديًّا مفيدًا كملجأ يلجأ إليه حين تهجر الكلاسيكية الحديثة، ولكنني لست متأكدًا أفيه فائدة ونفع لنا الآن؟

إن أرسطو ولونجينوس وكولردج مناجم لا تزال تستغل ويستنفع بها، وإن كان الأولون موجزين مختصرين وكان الثالث كثير الاستطراد والعيوب، وحتى Scalizer و بوالو Boileau أستطيع أن أسلم بأنهما سيظل ينتفع بهما في المستقبل أما جوته — جوته الناقد — فإنه يكاد يصبح شيئًا عتيقًا تافهًا.

شيلر Schiller

منزلة شيلر النقدية تقوم على بعض الدراسات الجمالية التي قام بها، وعلى قليل من المطالعات تتضمنها أعماله النثرية، ثم على مشاركته في كتاب Xenien الذي قام هو وجوته معًا بتأليفه، ثم على خطراته النقدية في رسائله Letters وعلى الأخص في تلك التي يخاطب فيها جوته.
أما دراساته الجمالية: فإن البعض يعطيها أهمية ممتازة، والحق أنها لا تستأهل هذه الأهمية، ليس فقط إذا تذكرنا ملاحظات أ. و. شليجل عليها، وهو عدو صريح لشيلر، بل حتى إذا تذكرنا ملاحظات جوته، وهو صديق شيلر الحميم. يضاف إلى هذا الشك في قيمة الدراسة الجمالية نفسها في النقد، والاحتياط في مقدار ما أدته الاستيتيكيات إلى النقد الأدبي من الخدمات. ففي الـ Aesthetic Discowrses التي ألفها شيلر نجد هذا البحث التجريدي والمناقشة الفلسفية التي نجدها من الجماليين، ومثال ذلك بحثه عن العلاقة بين الطبيعة الحيوانية في الإنسان وبين طبيعته الروحانية، ودفاعه عن أن أعمال أدباء مثل دريدن وكورني، وأبحاثه عن التراجيدي وعن الجليل، وغيرها من أبحاث الجماليات.
أما الـ Xenien وهو ذلك المؤلف الذي قام جوته وشيلر بالاشتراك في وضعه منتقدين مختلف الكتاب والأدباء والشعراء، فهو كتاب فاسد، مليء بالغرور والتشدق والتطاول على الأدباء، فيفيض بالأحكام الظالمة والنقد المغرض الصادر عن طبيعة سيئة، فهو نقد هدام لم يقصد منه إصلاح أو عدل في حكمه.

ثم تأتي مخاطبات جوته وشيلر فتخفف بعض الشيء من هذه الفكرة عن شيلر الناقد، أما خطابات جوته فإن جوته لم يستثر حب قرائه بعمل آخر بقدر ما استثاره في خطاباته إلى شيلر، وأما شيلر فإنه لم يكتب كلامًا مفهومًا معقولًا وبالتالي محبوبًا مثلما كتب في رسائله إلى شيلر، وحقًّا إن شيلر يظل على كثير من غروره وتشدقه وتطاوله، ولكن جوته يصب عليه من التهكم الذي إن يكن مؤلمًا فهو يجعله بعد رسائل قليلة يثوب إلى رشده ويبدأ يتكلم كإنسان في هذه الدنيا كملك في السماء.

فإذا ما رجعنا إلى الـ Xenien أحزننا أن نجد رجلين عبقريين كجوته وشيلر يجتمعان على المؤامرة وتدبير أحسن الأوضاع لصب ما تحتوي عليه قلوبهما من الحقد والكره والحسد للأشخاص الذين لا يحبانهما، ولن يخفف من ذلك بأية حال قائل يقول: إن النقد القاسي هو ضروري أحيانًا، فإن الناقد قد يكون شرطيًّا يضطر أحيانًا إلى استعمال هراوته، أما كاتبا الـ Xenien فليس أحدهما إلا (جنديًّا) يستخدم خنجره.

وأخيرًا: ما هي منزلة شيلر النقدية؟

وهذا رجل آخر قد بولغ في منزلته النقدية حتى عد من عظماء النقاد، وها نحن مضطرون للمرة الثانية أن نهاجم هذه المنزلة الوهمية، فشيلر ليس ناقدًا كبيرًا، بل هو ليس ناقدًا جيدًا، شيلر ليس إلا أديبًا قد امتلك عبقرية أدبية، وفيلسوفًا قد حاز موهبة كبيرة في الفلسفة، ولكنه ليس ناقدًا إلا بالقدر الناتج من امتلاكه لهاتين المقدرتين.

فقد كان ينقص شيلر الصفة الأولى التي لا بد من وجودها حتى يتهيأ للناقد كيانه النقدي، ألا وهي صفة الحب: فلم يكن شيلر لينسى لحظة أحقاده وضغائنه ليقبل على مورد الأدب الصافي ينهل من نميره العذب السائغ، والمسئول عن ذلك هو طبيعته أولًا، وظروفه التعسة ثانيًا، إذ كانت حياته قصيرة ولم يكن في أغلبها سعيد الحظ، ولو أن شيلر تجرد من طبيعته السوداء وأخلص الحب للأدب، ولو أن الظروف ساعدته وعاونته لكان لنا منه ناقد كبير ممتاز، ولكن الآلهة لم ترد ذلك.

خلاصة الثورة الرومانتيكية

ونستطيع أن نلخص المبادئ الرومانتيكية الجديدة في النقد في العبارات الآتية، وهي تنقسم قسمين: المبادئ التي نادى بها المعتدلون من الثوار، والمبادئ التي نادى بها الرومانتيكيون المتطرفون، فأما مبادئ المعتدلين من نقاد الرومانتسزم فتجري في العبارات الآتية: ولنلاحظ أن معظمها سلبي دفاعي يعترض على الكلاسيكية:

  • (١)

    كل عصور الأدب يجب أن تدرس، وكلها تفيد الناقد، وإنه لجهل سخيف أن تجهل العصور الوسطى.

  • (٢)

    لا يمكن أن يتخذ من عصر من عصور الأدب قواعد ومبادئ تفرض فرضًا على عصر آخر فلكل عصر قوانينه الخاصة، فإذا كانت هناك قوانين عامة للتطبيق على مختلف العصور فلتكن مرنة بحيث تتسع دائرتها لقوانين كل عصر.

  • (٣)

    القواعد يجب ألا تكثر وتزاد دون ما حاجة ماسة إلى تكثيرها، ويجب أن يجتهد في أن يكون أكبر عدد ممكن منها مستمدًّا من أعمال القديرين من الشعراء والكتاب لا أن يكون مفروضًا على تلك الأعمال.

  • (٤)

    ليست الوحدة في حد ذاتها قالبًا جامدًا لا يتبدل، بل إنها تتغير بتغير النوع نفسه، وأحيانًا يتغير بتغير أوضاع النوع.

  • (٥)

    النوع نفسه يجب ألا يكون جامدًا لا يتطور، إنما يجب أن يسمح بتطرق ضروب التغيرات الثانوية في خلاله.

  • (٦)

    الأدب يجب أن يحكم عليه بالنظر إلى ذاته وملابساته، فلا يراعى في نقده إلا هو نفسه، فإذا وجد فيه ثمار فإن وجود هذه الثمار يلغي ما قد يوجد به من أشواك. (أي أن المحاسن تزيل مواطن الضعف).

  • (٧)

    غاية الأدب التي يرمي إليها هي اللذة العاطفية، وروحه هي الخيال، وجسمه هو الأسلوب.

  • (٨)

    لكل إنسان أن يحب ما تميل إليه نفسه، وميوله هي حقائق يجب أن تراعى في نقده.

ثم يزيد المتطرفون على هذه المبادئ الآتية:

  • (١)

    ليس شيء مطلقًا يتوقف على الموضوع الذي يختاره، الأديب، إنما يتوقف كل شيء على معالجة الأديب لهذا الموضوع، أجاد في معالجته أم لم يجد؟

  • (٢)

    ليس ضروريًّا أن يكون الشاعر الجيد أو الكاتب الجيد رجلًا جيد الخلق، وإن كان مما يؤسف له ألا يكون كذلك، وليس الأدب عبدًا خاضعًا لقوانين الأخلاق. وإن كان خاضعًا لقوانين معاملة الناس ومجانسة عادات المجتمع (والبعض يحذفون هذا الاحتياط الأخير).

  • (٣)

    العقل الجيد صفة جيدة حقًّا، ولكن ينبغي ألا يبالغ في قيمته، وما لا يتفق مع العقل ليس ضروريًّا أن يكون شيئًا رديئًا.

    وهذه حملة ضد مبالغة الكلاسيكية في اللياقة الذهنية وفي المهارة العقلية كما رأينا في بوب.

  • (٤)

    غايات الفنون مشتركة متبادلة، فالشعر قد يستخدم الصوت كما تستخدمه الموسيقى، واللون كما يستخدمه الرسم، بل قد يستخدمها أكثر مما يستخدمهما الرسم والموسيقى.

  • (٥)

    الشرط الأول الواجب تحققه في الناقد أن يكون قادرًا على تلقي الإحساسات، والشرط الثاني أن يكون قادرًا على التعبير عن هذه الانفعالات ونقلها إلى الغير.

  • (٦)

    ليس يمكن أن يوجد جمال قبيح، فالجمال نفسه يبرر ويجمل، ولكن يجب ألا يفهم من هذا أن هذه المبادئ كانت الغايات التي وضعها الرومانتيكيون نصب أعينهم ولم يعملوا إلا بمقتضاها وعلى هديها، وإنما هي في أغلبها نتائج وصلوا إليها في صراعهم الطويل مع الكلاسيكية وخطرات كانت تعرض لهم صدفة لم يتعمدوها ولم يقصدوا إليها قصدًا، فإذا كان شيء قد وضعوه نصب أعينهم وتعمدوه تعمدًا فذلك هو مللهم من قيود النيوكلاسيكية وسأمهم من قواعدها وأغلالها وثورتهم ضد تحديداتها وتزمتاتها.

والآن بعد أن عرفنا المبادئ الجديدة التي اهتدى إليها ثوار الرومانتيكية نتفهم ميزات كل مدرسة من المدارس الثلاث الأساسية الإنجليزية والفرنسية والألمانية فنعرف ما يمتاز به نقد كل منها، ونعرف المحاسن والمساوئ التي وجدت في كل مدرسة.

فأما المدرسة الإنجليزية، وهي تلك الجماعة التي سميناها أصحاب كولردج فإن أفرادها وأستاذهم يوضحون الصفة التي تميز بها النقد في ذلك العصر والتي كانت معدومة لدى النيوكلاسيكية: ألا وهي محاولة التذوق والتمتع ونقل هذا التذوق وهذا الاستمتاع العاطفي إلى الآخرين، وإنه لمن الخطأ أن نعدهم مجرد آلات يسيرها التيار الجديد المتدفق ويحملها على خصمه دون أن يكون لهم أنفسهم أثر أو جهد أو فضل في الحركة الجديدة، حقًّا إن فيهم شيئًا من تأثير الموجة الجديدة التي بدأت تمتد على عالم النقد، وأهمه احتقارهم لعظماء الأدب الكلاسيكي المنقرض أو الأخذ في الانقراض، وانتقاصهم من هؤلاء انتقاصًا لا يقوم على أساس نقدي صحيح، فوجدنا كولردج مثلًا يظلم Gbbon وجونسون، ووجدنا كثيرين يظلمون بوب، ووجدنا هازلت يظلم دريدن، ولكنهم فيما عدا ذلك لم يدفعهم التيار دفعًا ولم يحملهم دون وعي منهم، وإنما كانوا أنفسهم يسبحون، كانوا يسبحون بجد وثبات ومهارة نحو البر الجديد، وحين كانوا يتوقون إلى التقدير والتذوق لم يكونوا مجرد مدفوعين إلى ذلك بالتطور الجديد، وإنما كانوا هم أنفسهم ظامئين إلى الارتواء من نهل الأدب الصافي ونميره العذب وشرابه السائغ وراغبين في أن يوردوا غيرهم معهم هذا السلسبيل الشهي.

ولكن يجب ألا نغفل عيوب هؤلاء النقاد الإنجليز ومواطن النقص فيهم، تلك العيوب والنقائص التي أدت إلى ضعف النقد الإنجليزي في الثلث الثاني من هذا القرن، فأما النقص الأول والأكبر فكان — أو كان نتيجة — أنهم لم يكن يضبطهم في نهضتهم قوانين أو قواعد، فهم قد هدموا قوانين الكلاسيكية وقواعدها، ولكنهم لم يضعوا بدلها رسومًا يهتدي بها الرومانتيكيون حقًّا، إن كثيرًا مما هدموه كان قواعد فاسدة رديئة وأكثرها كان غير كاف وغير ملائم ويحتاج في تطبيقه إلى كل أنواع التحوطات والاستثناءات، ولكن هذه القواعد الكلاسيكية على أية حال كانت تنظم النقد وتجعله حتميًّا في نتائجه، أما هؤلاء الإنجليز الثائرون فلم يكونوا يصدرون أحكامهم إلا عن مجرد هواهم وذوقهم الخاص، فهي أحكام ذاتية لا تستند إلى أساس عام في النقد.

العيب الثاني، وهو في حد ذاته عيب خطر، ولكن يزيد في خطره اجتماعه مع النقص الأول السابق الذكر هو أن أكثر هؤلاء النقاد لم يكونوا يتقنون الأدب الكلاسيكي كما كان يتقن نقاد الكلاسيكية، وكانوا مع ذلك وفي نفس الوقت فقراء في الاطلاع الواسع على الأدب الحديث، هذا الاطلاع الواسع الذي يحتمه ويجعله أمرًا ضروريًّا لا بد منه نقدهم غير المستند إلى قوانين وقواعد، بل كانوا جميعًا — ومن ضمنهم كولردج ودي كريني وهما أغزرهم علمًا وثقافة — لا يحسنون الأدب الفرنسي، والأدب الفرنسي هو أفضل الآداب التي تصحح من الدراسة الإنجليزية وتخفف من مبالغتها وتسد مواطن النقص فيها، فهنت Leigh Hunt لم يكن يعرف شيئًا سوى الإيطالية، ولم يكن يعرف من الإيطالية إلا أقل الأشياء أهمية بالنسبة للدراسة الإنجليزية، ولامب كان حقًّا يحسن اللغة اللاتينية، ولكن يبدو أنه لم يكن يعرف من اليونانية إلا مقدارًا ضئيلًا جدًّا، وأنه لم يتوفر له قراءة واسعة في الآداب الكلاسيكية لا اليونانية ولا اللاتينية، بينما لم يكن له إلا أقل المعرفة بأي أدب حديث. وأما هازلت فهو أسوأ وأسوأ، إذ لم تكن معلوماته إلا قليلة جدًّا، سواء في الأدب الكلاسيكي أو عن الأدب الحديث الأجنبي، إلا بعض كتاب من الفلاسفة لا تكاد تجدي معرفتهم شيئًا؛ والحق أن الإنسان حيث يتأمل معرفته الضئيلة التافهة يتعجب كيف استطاع أن ينقد هذا النقد الجيد، وإن كان يزول العجب حين يتصور الإنسان كيف كان يزداد نقده جودة وإتقانًا لو كانت معرفته أكبر وأكثر.

وحتى بالنسبة للإنجليزية نفسها، لم تكن معرفة جميع هؤلاء النقاد إلا مهوشة مضطربة، فإنهم جميعًا لم يعرفوا شيئًا كثيرًا عن الأدب الإنجليزي القديم، بل لم يعرفوا من هذا الأدب القديم برغم توفر وسائل هذه المعرفة في عصرهم ما عرفه جراي قبلهم بمئة سنة تقريبًا.

وهكذا بينما هدم هؤلاء النقاد الإنجليز القواعد التي كانت مقررة لضبط الأدب جميعه لم يهيئوا لأنفسهم الاطلاع الواسع المقارن على مختلف الآداب، أو على الأقل على كل العصور المختلفة في أدب واحد، مما كان يقوم مقام القواعد القديمة، ويعين على استنباط الحقائق الأدبية. لم يكن هؤلاء الإنجليز يصدرون في حكمهم إلا عن النور الباطن المتألق في أعماق نفوسهم، ولحسن الحظ كان هذا النور قويًّا وضّاءً متأججًا، فمكنهم من أن يكون حكمهم جيدًا قويًّا، ولكن حين يخمد هذا الضوء كان نقدهم غير المؤسس على قوانين يصبح نقدًا خطرًا خاطئًا.

ولكن برغم كل هذه العيوب فقد أسدى النقاد الإنجليز إلى النقد الرومانتيكي الجديد ما لم تسده أية جماعة نقدية أخرى، إذ إن الألمان وإن كانوا قد سبقوهم إلى ميدان الرومانتيكية فهم لم يفيدوا المذهب الحديث كما أفاده الإنجليز. والفرنسيون وإن كانوا قد أفادوه بما يقرب من إفادة الإنجليز فإن إفادتهم كانت متأخرة، فبظهورهم ظهر للمرة الأولى تلك الجماعة التي تقوم بالتقدير الأدبي الخالص للأعمال الأدبية الحقة والتي طال انتظارنا لها، والتي أخطأتنا في العصور القديمة، والتي أخطأتنا في العصور الحديثة المبكرة بما كان فيها من تحديدات جامدة وقوالب متزمتة، ففي كولردج، وفي هازلت، وفي لامب، وفي لف هنت، وفي غيرهم نجد للمرة الأولى النقد الحق للأدباء لا المناقشة المملولة عن الأنواع والمحاولة لوضع القواعد. فالتقدير والمتعة، وما يتولد عن اجتماع التقدير والمتعة، وذانك هما ميزتاهم الأساسيتان، وذانك هما الميزتان اللتان لم يقصروا قط عن إعطائهما.

تلك هي المدرسة الإنجليزية بمحاسنها ومساويها، فإذا جئنا إلى المدرسة الفرنسية وجدنا نفس المساوئ والمحاسن، لكن بشرط أن نجعل مساوئ الإنجليز محاسن الفرنسيين، ومحاسن الإنجليز مساوئ الفرنسيين: أو بعبارة أخرى أن ما تميز به النقد الإنجليزي من أسباب الحسن لم يتوفر في النقد الفرنسي. وما عاب النقد الإنجليزي من مواطن الضعف خلا منه النقد الفرنسي، فالتذوق والاستمتاع لم يحنُ عليها النقد الفرنسي بالجودة التي توفرت في النقد الإنجليزي. وضآلة اطلاع النقاد الإنجليز وندرة القوانين التي تضبط نقدهم لم تشوه النقد الفرنسي.

فمن الناحية الأولى لن تجد في أي ناقد فرنسي — حتى ولا في سنت بيف — ما تجده في روائع هازلت ولامب، من جودة التقدير وكماله، وتمامه وإتقانه وليس في أي ناقد منهم — لا في سنت بيف ولا في غيره — ما يقرب من جودة هذه الخطرات النقدية العامة التي تجدها رائعة معجزة في كولردج، وقد اندفع النقاد الفرنسيون من جراء الصراع الطويل الشديد بين الكلاسيكية والرومانتيكية في فرنسا إلى حد من التطرف والمغالاة غير معقول، ولكن هذا الصراع من ناحية أخرى قد أنتج لنا هذا المبدأ الذي نادى به فكتور هوجو من أنه (لا شيء يعتمد على الموضوع) والذي درسناه في كلامنا عن هوجو، وأنتج أمثال هذا من رجال آخرين.

وفوق هذا فإن هذا الصراع قد خفف من الروح الفرنسية الميالة إلى النظام والترتيب والتقيد بالقوانين والأوضاع، وبذلك وصل النقد الفرنسي إلى ما بلغه من المستوى العالي العام الذي أعجب به آرنولد وغيره، والذي يتفوق حقًّا على النقد الإنجليزي في الفترة بين ١٨٣٠ و١٨٦٠. ويكفي أن نتذكر ما ذكرنا من المزايا التي توفرت في نقد سنت بيف وأن نعرف أن هذه المزايا نجدها في كل النقاد الآخرين تقريبًا نظرًا لما يغلب على الروح الفرنسية دائمًا من الصبغة المدرسية التقليدية.

وليس من شك في أن هذه المزايا قد ورثها النقاد الفرنسيون عن أسلافهم في عصر الإمبراطورية وخاصة عن شاتوبريان وعن Vitlemain بدرجة أقل، بينما كان سر الطريقة النقدية التي مارسوها قد ألمع إليها دريدرو في خطراته البارقة، ولكن استغلالها بهذه السرعة وهذا الإتقان هو شيء عجيب معجب حقًّا، ولا يمكن أن يرجع الفضل في ذلك إلى سنت بيف وحده وإن كان سنت بيف هو خير مرآة تتجلى فيه، إذ إنه هو نفسه كما رأينا، لم يصل إلى كماله دفعة واحدة، كما أنه قد وصل قبله آخرون إلى مثل ثمراته النقدية أو إلى ما يفوق ثمراته النقدية نضوجًا ولذة، وهكذا توفر للنقد الفرنسي محصول غزير عظيم من ثمار النقد، محصول يدهشنا حتى اليوم بوفرته وتنوعه وجودته، لكن هذه الثمار في أجودها لا تصل إلى المرتبة العليا من النضوج، تلك المرتبة التي وصل إليها النقد الإنجليزي.

إلا أن النقد الفرنسي امتاز بالسهولة وعوامل الاجتذاب والتشويق، فالنقاد الفرنسيون جميعًا قد بذلوا أقصى وسعهم في أن ينقلوا إلى قارئهم انفعالهم في تقديرهم بأسهل وسيلة لا تكلف القارئ عناء ولا جهدًا.

أما المدرسة الألمانية، فلا شك في أن الدور الذي لعبته هذه المدرسة في هذا الميدان هام وكبير التأثير، فقد كان الألمان إذا ضممنا إليهم إخوانهم السويسريين من أوائل من سبق إلى المذهب الجديد، وقد كانوا أنشط العاملين في مواصلة تأييد هذا المذهب وإزالة عوائق المذهب المنصرم، وإنه لأثر عظيم ذلك الذي بذله الألمان في الحركة الرومانتيكية الجديدة؛ فلسنج بثقافته الضخمة قد ساعد على وضع سنة جديدة لتقدير القديم ودراسته، وجوته بملكته الأدبية الواسعة العالية معًا قد ساعد على نشر الوسائل الجديدة وتعميمها، ولكن في النقد الأدبي الخالص نجد الألمان بما فيهم عظماء نقادهم قاصرين، فالحق أن الألماني دائمًا عالم أكثر من الحد اللازم في نقده. حقًّا إن فيه رغبة للحكم والتقدير، ولكن ليس له ظمأ شديد إلى الاستمتاع، وحقًّا إن فيه مهارة، ولكن ليست له حماسة، وفيه نشاط وجد، ولكن ليست له بديهة أو فطرة سريعة الذكاء.

ونعرض الآن لما قاله كارليل عن النقد الألماني في مقالته: حالة الأدب الألماني State of German Literature في كتابه Miscellanirs المجلد الأول، فقد صب كارليل على النقد الألماني كئوسًا من المديح والإطراء، فقال: إن الألمان في مقدمة كل الشعوب الأخرى في ميدان النقد، وإنهم قد رفعوا النقد إلى قوة أسمى، وهم لا يمارسون المناقشة القديمة حول الأسلوب والأوضاع والقيمة المنطقية وغيرها، ولا يحاولون استكشاف طبيعة الشاعر وحقيقته من شعره كما يفعل النقاد الإنجليز المعاصرون (في سنة ١٨٢٧)، ولكنهم يعالجون الحياة الذاتية للشعر نفسه ويبحثون في ماهيته، فهم يتساءلون: كيف نظم شكسبير قصصه التمثيلية؟ وأي حقيقة واقعة تحتويها هذه القصص؟ وهكذا، وهم لا يستخدمون في نقدهم العبارات المنسقة الطنانة المتأنقة، ولكنهم يبحثون بحثًا علميًّا قويًّا مجهدًا.

والحق أنه لا شك في أن الألمان منذ عهد لسنج فما تلاه قد جاءوا بنهضة نقدية كاملة وإن النهضة النقدية مدينة لهم بالكثير من الفضل في تكونها وظهورها وذيوعها. ولكن المسألة هي: أكان بحث الألمان العلمي حول ماهية الشعر وطبيعته، ونظرياتهم عنه هي سبب تحسين النقد في ألمانيا وفي غيرها من البلدان؟

والقارئ لكل ما قدمنا جودة النقد الألماني لا يتردد في الإجابة بالنفي، ولنذكر القارئ هنا بما قلنا من أن ما كتبه جوته نقدًا لهملت — وهو ما يشير إليه كارليل في قطعته السابقة — كان يمكن أن يكتبه رجل لم يقرأ إلا الترجمة النثرية للقصة في لغة غير لغتها الأولى، فإنه لم يتعرض مطلقًا لبيان جمال أسلوب شكسبير وروعة تعبيره وإعجاز لفظه الفني.

وقد اجتهدنا في أن نظهر للقارئ عقم المذهب الأستيتيكي في النقد، وأنه لم يؤد إلى ثمار نقدية ناضجة أو حارة، ولم ينتج شعرًا رائعًا أو أدبًا ممتازًا. فمنذ هين Hiene لم تخرج ألمانيا شاعرًا كبيرًا، ولم تخرج إلا عددًا قليلًا جدًّا من الأدباء الخلص، بينما وجدنا أممًا أخرى لم تتبع المذهب الأستيتيكي العلمي الذي تبعته ألمانيا قد استطاعت أن تثمر نقدًا لا يقل قيمة بل يزيد قيمة على النقد الألماني، وأن تستمر في إنتاج أدب خالص في معظم القرن التاسع عشر.

حقًّا إن النقد الألماني يرمي إلى أسمى الغايات، ويكد أعظم الكد والجهد في الوصول إلى هذه الغايات، ويستغل أثمن المواد لكي يصل إلى التقدير والتذوق. ولكنه بكل أسف برغم هذا كله لا ينجح في الوصول إلى التقدير والتذوق إلا في القليل النادر، وسبب ذلك راجع إلى الطبع الألماني نفسه.

ولكن النقد، فرنسيًّا كان أو إنجليزيًّا أو ألمانيًّا، مهما اختلف في غاياته المباشرة، أو في نقط ابتدائه، أو في سهولة طريقته ومرونتها، أو في إتقان نتائجه ونضوج ثماره، فإنه جميعه يجري في تيار واحد يرمي إلى هذه المبادئ العامة التي ذكرناها في أول هذا الفصل، والتي أرخنا بها تاريخ الثورة التي نادت بها في هذا الكتاب: كراهة القواعد، والرجوع إلى آداب القرون الوسطى كمرجع للأدب الكلاسيكي والأدب الحديث المعاصر، والمزج بين الفنون، وإنماء التنوع الصوتي أو اللوني في الشعر، وما نفخ في النثر من الموسيقية والتنميق بكل هذه الوسائل بنى النقد الأدبي بناءً جديدًا، وبنى الأدب نفسه بناء جديدًا، وتمت الثورة الرومانتيكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤