عصر الرمزية وما قبل الحرب العالمية الأولى

(١) الشعر

انتهى الأمر بعد عام ١٨٨٩ بأن أصبح المذهب الطبيعي Naturalisme تافهًا وهزيلًا، وأخذ الأدباء يتجهون من تلقاء أنفسهم إلى الموضوعات النفسية، فاكتسبوا حاسة الغموض وغريزة التعاطف العامة، ولا جدال في أن الآداب الأجنبية كانت ذات أثر بالغ في هذا الاتجاه، وبخاصة الآداب الروسية (دستوفسكي وتلوستوي) والآداب الإنجليزية (كبيلنج) والآداب الألمانية (نيتشه) والاسكدينانية (إبسن) والإيطالية (دانينزيو). ويمكن أن يطلق على هذه الحقبة الجديدة اسم (عصر الرمزية)، وإن كان هذا الإطلاق يصدق على الشعر بوجه خاص، وكان في طليعة رواد الشعر الرمزي في هذه الحقبة فرلين Verline (١٨٤٤ / ١٨٩٦، مالارميه Maliarmé (١٨٤٢ / ٩٨). ولقد ترجم فرلين في أشعاره الموسيقية عن مشاعره وأحاسيسه الصادقة، أما مالارميه فقد دأب على التعبير بصدق عن المشاعر المثالية في قصائده التي جمعت بين الموسيقى العذبة والمعاني العميقة.
وجاء في أعقاب هذين الشاعرين الرافدين شعراء رمزيون كثيرون من أشهرهم موريا Moreas (١٨٥٦ / ١٩١٠) و هنري دي رينيه Henri de Régnier (ولد عام ١٨٦٤) وقد عرف أولهما بأشعاره الرمزية التي تنحو المنحة الكلاسيكي، في حين عرف هنري دي رينيه بجرسه الضخم وتأملاته الحزينة.
ثم مرت فترة الرمزية، ولم تقم مدرسة أخرى مقامها على نحو واضح في غضون العشرين سنة التي تلت منذ اضمحلال الرمزية حتى اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، ولم يظهر سوى شعراء يميزون بقوة الروح الفردية المستقلة، التي تنطوي على مزيج من الاتجاهات والمذاهب الأدبية المختلفة؛ وأهم هؤلاء الشعراء فرانسيس جيمس Francis Jammes (مولود ١٨٦٨) الذي اشتهر بقدرته الخارقة على تصوير الطبيعة والعواطف البشرية وخصوصًا في دائرة الأسرة، وقد كان أميل إلى العودة للطراز القديم من الشعر، واشتهر كذلك من شعراء هذه الحقبة بول كلوديل Paul Claudel الذي رأى في الرمزية تعبيرًا نموذجيًّا للدلالة على عقيدته الكاثوليكية الصادقة.

(٢) القصة

وفي عالم القصة ظهر، إبان وجود المذهب الطبيعي، قصاصون ممتازون، واستمر وجودهم وبروزهم كذلك عقب تلاشي المذهب الطبيعي، وحدث — تحت ضغط الحوادث — أن تحول نفر منهم إلى كتاب للتراجم.

ومع ذلك فقد بقي بيرلوتي P. Loti وحده (١٨٥٠ / ١٩٢٣) — وهو الشاعر الكاتب الكبير — صامدًا حتى النهاية، يعبر عن أحاسيسه تعبيرًا صادقًا بما حبّره من رسائل ممتازة وممتعة عن البلاد التي زارها.
أما بول بورجيه P. Bourget (المولود عام ١٨٥٢) فقد مثل على وجه الدقة تطور الأدب والقصة في هذه الحقبة، فقد بدأ بمؤلفاته التي يطغى عليها طابع التحليل النفسي، وأبدع في ذلك المجال، ولكنه سرعان ما تطور فأصبح رجلًا أخلاقيًّا، يدعو إلى عودة الملكية إلى فرنسا وإلى سيادة الكثلكة، ويرى في ذلك الأمل الوحيد في الخلاص والنجاة.
ونرى من ناحية أخرى أن أناتول فراسن A. France (١٨٤٣ / ١٩٢٤) قد بدأ فنانًا صافيًا صادقًا، تكونت حاسته الفنية وصقلت ثقافته الواسعة وتطلعاته الواسعة في اليونانية، وبانكبابه على دراسة أساليب الكتابة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وبامتيازه بروحه الساخرة وفنه الأصيل الرائع وأسلوبه المنسجم، ومن ثم عمد إلى التحرر في أفكاره وتعابيره الديمقراطية؛ وهو في هذا لا يختلف كثيرًا عن رصيفه بورجيه.

(٣) المسرح

هذا وقد تطور المسرح كما تطورت عناصر الأدب الأخرى، فعالج مشاكل القدر والحظوظ الإنسانية، في ثوب رمزي في بعض الأحيان (كما كان يفعل ميترلك Maeterlinck وكلوديل Cludel) أو بطريق مباشر صريح (كما كان يصنع دي كوريل de Curel وهيرفيو Hervieu وبورنوريتش Porto-Riche.

ولقد امتازت مسرحيات ميترلنك — بشخصياتها المحلقة التي تختال في مجالات الأوهام والأحلام، محاولة التعبير عن الغموض الرهيب الذي يكتنف الحياة، والضيق الذي يرهق الروح.

أما مسرحيات كلوديل الأولى Claudel فقد اتسمت بالرمزية، ثم تطور الكاتب رويدًا رويدًا حتى أصبحت مسرحياته خير معبر عن الروح الكاثوليكية وكانت موضوعاته في الأغلب مثيرة وعميقة الشاعرية.

هذا في حين أن مسرح (الفكرة) الذي كان يمثله فرانسوادي كوريل (١٨٥٤ / ١٩٢٨) وهرفيو (١٨٥٧ / ١٩١٠) يعد تعبيرًا عن الخوالج والأحاسيس المتعارضة مع المسرح الرمزي.

وكان ج دي بورتوريش G. de poro-Riche (١٨٤٩ / ١٩٣٠) خير ممثل لمسرح التحليل النفسي فقد عرف بمسرحياته التي درس فيها العاطفة الغرامية بتغلغل وعمق نادرين.

والملاحظ أن جميع هؤلاء الكتاب من ميترلنك حتى بورتوريش — قد أدخلوا العنصر الغنائي في المسرحية الحديثة.

(٤) النقد

يصعب اليوم الاهتداء إلى ناقد أدبي يستند إلى قاعدة فلسفية سبق إقرارها، كما كان يفعل تين Taine فقد انتهى الأمر بالنقاد إلى تحرير آرائهم من المبادئ السياسية ومن آراء ما وراء الطبيعة.
وكان بعض النقاد ذوي نظرة جامعية مثل: فاجيه Faguet وليمتر lemaitre، في حين كان البعض الآخر متحررين في آرائهم من كل صلة بالآراء الجامعية: مثل برونتيتر Brunetiere (١٨٤٩ / ١٩٠٦) الذي كان يعشق الآراء العامة التي تعرض بمنطق سديد وقوة ووضوح، ولقد ساهم كذلك في خلق طرق أصيلة لتأريخ الآداب، وكان عظيم الاحتفال والإشادة بآداب القرن السابع عشر، كما كان يهاجم في عنف الروح الهابطة في الاتجاه الطبيعي للآداب.
أما فاجيه Faguet (١٨٤٧ / ١٩١٦) فقد كان يختلف عن برونتيتير في احتفاله بالموضوع والمسائل المتباينة، وكان فيما يتصل بالآداب، يوجه جل اهتمامه إلى أشخاص الأدباء، فقد كان يخلق لهم صورًا نفاذة الصدق.
في حين كان ليمتر Lemaitre (١٨٥٣ / ١٩١٤) متهكمًا رقيق الأسلوب وكانت نقداته متأثرة بالمذهب الانطباعي، وقد عرف كذلك بآرائه الوطنية والملكية.
وكان ر. دي جورمونت R. de Gourmont (١٨٥٨ / ١٩١٥) الناقد العظيم للحركة الرمزية، وكان لها روح أصيلة عظيمة التشوف والتطلع، عميقة النفوذ والتغلغل في الأعماق، وكان — إلى ذلك — قادرًا على الكتابة بأسلوب بذيء في بعض الأوقات، كما كان يجد لذة في تحليل الحقائق — عناصرها البسيطة الأولية — ويؤثر مذهب الاستمتاع
وتجد من الناحية الأخرى أن الناقد شارل مورا Ch. Maurras (مولود عام ١٨٦٨) كان عدوًّا لدودًا لآداب القرن الثامن عشر وللرومانتسيم التي كانت طابع آداب ذلك القرن، ولقد كان يرى النجاة والخلاص في التخلي عن الروح الفردية والعودة إلى النظام الملكي والعقيدة الكاثوليكية، وكتب في هذا الاتجاه فصولًا طوالًا امتازت بالوحي القديم والأسلوب الشائق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤