بعد الحرب العالمية الأولى

لم تحدث الحرب العظمى الأولى أية تأثيرات هامة في الآداب الفرنسية، اللهم إلا بعض التأثيرات الدقيقة العارضة، نتيجة لبعض النزعات التي كانت قائمة قبل تلك الحرب مثل الرومانتيكية الموضوعية Subjectivisme Romantique و المثالية الرمزية Idealisme Symboliste. ولكن الواقع أن هذه الحركات لم تعد كونها حركات تمهيدية استطلاعية، ولقد ساد العقد الأول لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى ثلاثة كتاب ممتازون هم بروست Proust و جيد Gide و فاليري Valéry.
أما مارسيل بروست marcel proust (١٨٧١/١٩٢٢) فقد أنفق الشطر الأول من حياته في الأوساط الاجتماعية والصالونات الراقية، واعتكف في الشطر الثاني نتيجة لمرضه، فاستعاد في عزلته ذكرى أيامه الخوالي العذاب، وعمل على تصوير روائعها ومفاتنها الفذة في كتابه العظيم «البحث عن الزمن المفقود» A la recherche du Temps perdu. وهو مزاج من القصة والشعر، وتصوير صادق للذكريات العاطفية الحلوة، وأسلوبه جد متباين: فهو تارة مثقل بالألفاظ الضخمة وطورًا عذب سهل رقيق، ولكنه على الدوام آسر نفاذ.
أما أندريه جيد (١٨٦٩/١٩٥١) فقد أولع مبدأ الأمر بالرمزية ثم تحول فيما بعد للمنهج الفردي كما يتضح ذلك في مؤلفيه (الأغذية الأرضية Nourritures Terrestres) و (الباب الضيق La Porte etroite) وفيهما يقول: إن التقدم لا يتم إلا بالتضحية. ولقد اهتم في الأعوام الأخيرة بمشاكل العقل الباطن، وكل أعماله تدور حول مشاكل الشخصية الإنسانية، سواء أكانت تلك المشاكل أدبية أم نفسانية. ولقد دخل أسلوبه في المدة الأخيرة تعديل واضح، فصار يكتب بطريقة رزينة دقيقة، يتمثل فيها الأسلوب الكلاسيكي تمثيلًا دقيقًا.
أما ثالث هؤلاء الأعلام فهو بول فاليري Paul Valery (١٨٧١ / ١٩٤٥) الذي احتفظ من الرمزية بفن   مالارميه Maliarmé، ولكنه بدلًا من استخدامه على النحو الذي جرى عليه أستاذه فقد اهتم بالجمال البحت، واتجه إلى التعبير عن العلاقات الروحية الصرفة، وبذلك خلق طرازًا من الشعر طريفًا كل الطرافة، هو شعر الذكاء والألمعية.

النقد

تطور النقد وازدهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى وذلك نتيجة لقيام مذاهب أدبية جديدة وسعت الآفاق أمام الأدباء والنقاد جميعًا وخلقت مجالات للقول والإبداع والنقد، وأشهر نقاد تلك الحقبة Thibaudet وآلين Alain.

مذاهب أدبية جديدة

هذا وقد اشتهر النصف الأول من القرن العشرين بمحاولة خلق نظريات أدبية جديدة (السيريالزم Surrealisme في الشعر، والوجودية L’existentialisme في الفلسفة، و المادية Materialismeidialictiqui في التاريخ)، مع محاولة إدخال عناصر التطور على نظريات أخرى.

الخلاصة

استطاعت ثورة الرمزية، حوالي عام ١٨٨٠، أن تزلزل (باستيل) التقاليد والقواعد الأدبية المرعية.

ولقد رفض شعراء الرمزية باحتقار وازدراء الخضوع للقاعدة الذهبية للفن الكلاسيكي (قاعدة الوضوح) كذلك ثار الكتاب المثاليون على العبودية الفكرية، فانطلقوا متحررين من ربقة تقاليد الفن الكلاسيكي.

وكانت الحرب العظمى الأولى فرصة ثمينة لهذا التحرر العظيم الذي حققه الأدب الفرنسي فقلب أوضاعه ونظرياته رأسًا على عقب، وساعد على تحقيق ذلك الغزو الأدبي الأجنبي، الأمر الذي جعل بعض المتشائمين يتعجلون فينادون بقرب الدمار والانهيار النهائيين للعبقرية الفرنسية، وقال هؤلاء إن اللغة الفرنسية قد داخلها الاضطراب وطغت عليها الفوضى.

ومع ذلك فقد تقدمت الآداب الفرنسية وداخلها عدد من المذاهب الفكرية الجديدة وجاءت الحرب العظمى الثانية وصاح المتشائمون نفس الصيحة، دون سبق حقيقي، ولا يغرب عن بال هؤلاء أن طاقة اللغة الفرنسية على هضم الآداب والأفكار الأجنبية هائلة.

والتاريخ شاهد صدق على ذلك، فقد كونت اللغة الفرنسية آدابها أول الأمر في العصور الوسطى من مزيج من الآداب اللاتينية والجرمانية و الكلتية Celtisme وبعد عدة قرون خرجت الآداب الفرنسية إلى عصر النور، عصر النهضة Renaissance اعتمادًا على الآداب اليونانية والإيطالية. وفي القرن السابع عشر الذي كان أهم وأزهر عصور الأدب الكلاسيكي اعتمد الأدب الفرنسي على الإيطالية المتطورة في ذلك الحين، أما في القرن الثامن عشر فقد تم للأدب الفرنسي تصفية هذا الخليط من رواسبه، وظهر النثر والشعر في صور مثقفة مرنة رائعة، ولكن بدأ في الوقت نفسه يظهر في الأدب الفرنسي آثار الإنتاجيين الإنجليزي والألماني. واليوم نلاحظ تأثر الأدب الفرنسي بالأدب الإنجليزي والأمريكي وغيرهما. والخلاصة أنه لا بد أن يقوم اتصال مستمر بين الأدب الفرنسي والآداب العالمية، ولكن ذلك لن يمنع أن يكون الأدب الفرنسي الأصيل معبرًا بأصالة عن الروح والعواطف الفرنسية الصادقة.

ولقد عرف الأدب الفرنسي في هذه الحقبة مذاهب أدبية كثيرة مثل: الكلاسيكية والرومانتيسية والمذهبين الطبيعي والبارناسي والمدارس الرمزية والسيريالية والوجودية والمادية إلخ. ولقد تجلت في كل مدرسة من هذه المدارس حالة من حالات الحساسية والرقة الفرنسية، وكانت مظهرًا للفن والجمال.

وتمتاز روح الأدب الفرنسي اليوم بالروح الفردية لا العبودية المقدسة الجامدة لمذهب معين من مذاهب الأدب، والواقع أن بروست أو فاليري أو جيد — على الرغم من تأثيرهم العظيم في قرائهم — زعماء لحركات أدبية معينة، إذ الحرية الفكرية والاستقلال الأدبي هما الأساس والأصل، ولكل كاتب أن يتجه وجهته المستقلة في الإنتاج على النحو الذي يشاء، وللقراء اختيار المؤلفات التي يؤثرون الاطلاع عليها بملء الحرية، فإذا كانت هذه الحرية تشتبه بالفوضى فهذا جائز ومع ذلك فالفوضى في الآداب إنما هي الدليل أصدق الدليل على أن العقول المفكرة تنشط مستقلة غير خاضعة لتوجيه أو قيادة مفتعلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤