ترجمة المؤلف

بقلم  محمود خيرت

١

في سنة ١٨٥٢ احتفلت حكومة الجمهورية الفرنسية بإقامة تمثالٍ من البرنز صنعه «دافيد الشهير» في أحد ميادين ثغر الهافر لرجل جليل عظيم الهيبة، تتألق ملامحه بالبشر والنور، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف، وهو ممسكٌ بإحدى يديه قرطاسًا وبالأخرى قلمًا، وعند قَدَميْه صبيٌّ وصبية عاريان يتصافحان تحت ظل شجرةٍ من أشجار المناطق الحارة.

من هما ذانك الصبيان المتصافحان؟ وما معنى تلك الشجرة التي ليست من نبات هذه البلاد؟ وما عسى أن يكون ذلك الرجل الذي كتب له الحظ أن يكون محلًّا لعناية «دافيد» واهتمام الجمهورية؟

أرادت فرنسا بأسرها أن تخلِّد ذكرى رجلٍ من أبنائها قضى حياته محبًّا للحرية واستقلال الرأي، وإن ناله بسببهما الأذى، منقبًا عن الحكمة وهو يتفانى في تمجيدها، عاشقًا للطبيعة وهو يتغنى بمحاسنها، ينسق قلمه القدير كل يومٍ للأدب إكليلًا يانعًا من أزاهير الجمال، وتسمو به نفسه الطاهرة الأبية إلى سماء الإنسانية للعمل على تخفيف ويلات البشر وآلامهم، فكان رجلًا ذكيًّا عالي الهمة، حكيمًا، كبير النفس، يعرف للطبيعة حقها وفضلها، كاتبًا فذًّا جمَّ الشعور، ملأت فراغ قلبه فيوض الرحمة بالبشر إلى حدٍّ يجعله في صف القديسين.

وما كان هذا الرجل بحاجة إلى أثر يخلده؛ وفي رأسه وقلمه ونفسه مثل تلك الآثار الخالدة يحيا بها على تعاقب السنين.

٢

ولد برناردين دي سان بيير في التاسع عشر من شهر يناير سنة ١٧٢٧ بالهافر، من أبوين كانا يدعيان اتصالهما بالنبيل أوستاش دي سان بيير، حتى إنه ولع من صغره بهذه النسبة فانتحل لنفسه لقب «شفالييه»، وأخذ يحلِّي صدره بأوسمةٍ يصنعها بنفسه تتفق مع شرف هذا اللقب.

ولقد كان في صباه رقيق المشاعر، عصبيَّ المزاج، كثير الجري وراء الخيال، حتى طمحت نفسه إلى تأسيس جمهورية واسعة من طائفة العاثرين البائسين؛ يكون هو واضع شريعتهم ومنظم حياتهم؛ ليضمن لهم سعادة العيش، فكان في هذا الخاطر مثل جان جاك، إلا أن هذا كان يرى أن يعود الناس إلى فطرتهم الأولى طاهرين من الأرجاس، خالصين من الأدران، فيعيشون عيشةً صافية هنية في ظل شريعة الكون العامة التي سنها الخالق، أما برناردين فكان يرى أن يضع لهم نظامًا جديدًا يحارب به قسوة الحياة الحالية وويلاتها.

ولكنه كان لا يزال طفلًا قليل الحَوْل والحِيلة، حتى إن أحد أعمامه — وكان قبطانًا لسفينة تجارية — أخذه معه إلى جزر المارتينيك، ولكنه عاد منها مثقلًا بالهموم وكراهية العيش، فسلَّمه أبوه لجزويت كاين.

وعند ذلك عادت تلك الفكرة السامية إلى رأسه الصغير لما كان يسمعه من أحاديث المبشرين عن رحلاتهم في البلاد المتوحشة، حتى تمنى لو أنه يقفو أثرهم فيهدي إلى سبيل السعادة فريقًا من عباد الله الأشقياء الجاهلين.

على أن أباه عجَّل بنقله إلى مدرسة رووين، ثم إلى مدرسة الهندسة، ثم التحق بعد ذلك بالجيش، ولكنه كما ذكرنا كان عنيدًا لا يسمع غير صوت نفسه وإن خرج في ذلك عن حدود الواجب، حتى إن رئيسه عقد مجلسًا لتأديبه ثم أوقفه.

ولقد أراد بعد ذلك أن يقصد مالطة لتلمُّس الرزق فيها، ولكنها كانت مهددةً بإغارةٍ من جانب الأتراك، فعاد أدراجه وأخذ يعيش من بعض دروس في الحساب يعطيها لمريديه.

وهكذا أحدق به الهمُّ وعضه الفقر، والتوى عليه سبيل الهناء، ولم يجد عند أحدٍ صدرًا يسعه في محنته، ولا قلبًا يحنو عليه في كربته، فاحتقر الحياة، وكره الناس، وآثر العزلة على البقاء في هذا العالم القاسي قائلًا: «إن العزلة جبلٌ عالٍ تريني قمته الناس صغارًا.»

على أنه لم يعدم صدرًا آخر يفيض عليه من حنوه الأبدي الخالد، هو صدر الطبيعة، فاستنام إليها وأحبها وفني في عشقها.

ولقد حببها إليه أيضا أنه رأى ذات يومٍ عودًا هزيلًا من «الفراولة» نبت على حافة نافذته، فلما أخذ يتأمله قام في نفسه أن يصفه بكل دقائقه ويصف ما حوله من حشرات صغيرة وذباب، ولكن ذلك استعصى عليه وقد رأى تلك الحشرات تصغر شيئًا فشيئًا إلى حدٍّ أعجزه عن متابعتها، وعند ذلك أدرك مقام الطبيعة وعظمتها فهام بها.

وإن نفسًا مثل نفس برناردين لا تعرف اليأس، فعزم على الهجرة من وطنه إلى غيره من بلاد الله، وهو مع ذلك لا يكرهه ولا يحقد عليه «لأن من أحب وطنه تغرب في سبيله» كما قال في ترجمة حياته.

وكانت فكرة إصلاح المجتمع قد اختمرت في رأسه، فسافر إلى روسيا لعله يجد عند ملكتها كاترين ما يساعده على إخراجها إلى نور الوجود على شواطئ بحر قزوين، ولكن سهمه طاش، فارتحل إلى فنلندا ثم إلى بولونيا فألمانيا فصحارى أمريكا العليا فمدغشقر، حتى انتهى به المطاف عند جزيرة «موريس» التي كتب عنها روايته، ولكنه في كل هذه الأدوار كان سوء الحظ حليفه، فاضطر إلى العودة لوطنه ثانيًا وهو ينوء تحت حمل الأحزان والديون، ذاهبًا إلى أن العيب لم يكن على النُّظم التي تُشرِّع للناس، ولكن على نفس القائمين بها.

وكان في أسفاره لا يكاد يرفع طرفه عن الطبيعة التي طالما أحبها وشغف باكتناه أسرار جمالها، ولكنه كان يغلب عليه في تَفَهُّمها مزاجه الشعري، وهو يعتقد أن خواطره ليست هي التي تتجه إلى الطبيعة ولكنها هي التي توجه إليها آلاف الأشكال المختلفة الرائعة، وهكذا كان يغرس على طول طريقه بذور خيالاته فيحظى من الطبيعة بكل ثمرةٍ شهيةٍ وهو يرى في كل ذرةٍ من ذراتها نفسًا حية ناطقة، حتى صهره البحث وأنضجته التجربة، ولكن شقاء الحظ جرَّعه آخر ما في كأسه، فعاد — كما ذكرنا — وهو يقول في نفسه: لقد أصبح الناس لا يعرفون قدر الإحسان فكيف رفعتهم الأقدار؟ ولكن حسبي أن التجربة صَيَّرَتني هرِمًا فأصبحت لا أطمع في غير الراحة.

نعم إنه أحسَّ بعزمه قد وهن، وكأن الشاب الطامح إلى لقاء الحوادث ومجالدتها قد ذاب فيه وفني وهو مع ذلك لا يتجاوز الثلاثين من عمره، أضف إلى ذلك ما آلت إليه حاله من الفاقة والبؤس، ففكر في وضع كتابٍ عن تلك الجزر التي زارها وما شاهد فيها ودوَّن في مذكراته عنها.

ولكن كتابه الذي كان يظن أنه وضع به أساس مجده لم يصادف إلا نجاحًا قليلًا؛ لأنه أفسد عليه قلوب الحكام؛ بما ذكره فيه من خلل إدارة المستعمرات وفساد نظامها، إلا أن هذا السفر قد أكسبه الاتصال بكتَّاب عصره وفلاسفته، فعرفوه وعرفهم، ولكنه لم يلبث أن أنكرهم؛ لأنه أدرك أنهم كغيرهم قومٌ لا يعرفون معنى العدل والحق اللذين كانا دعامة خلقه، حتى إنه قاطعهم وهجرهم؛ لأن ألم شوكةٍ واحدة — كما كان يقول — تنسي المرء لذة مائة وردةٍ يشمها؛ ولذلك عمد إلى ما دونه من أبحاثه في الطبيعة فجمعها في كتابٍ نشره على الناس على ما بها من التفكك وعدم الارتباط، ولكن هذا الكتاب الناقص، أو تلك الأطلال الدوارس — كما كان يسميها — كانت وحدةً معنوية حية خيرًا مائة مرة من أية وحدة علمية؛ لأنها تمثل جلال القدرة حاضرة دائمًا في الذهن، ماثلة للعين، حتى إن نجاحه كان فوق ما أمَّله فعرف الناس قدره وأحبوه.

وهكذا أمكنه أن يزحزح عن نفسه شيئًا من أحمال شقائه، فابتاع منزلًا صغيرًا اختاره في طريقٍ ضيقٍ يسكنه الفقراء، حتى يشعر أنه بين أفراد عائلته الطبيعية، وعلى مقربةٍ من حديقة الحيوانات، كي لا يُحرَم من متابعة أبحاثه.

٣

وقد كان من نتائج تلك التجاريب الطويلة الشاقة أن برناردين اعتقد أن سعادة الإنسان قائمةٌ على سلوك سبيل الحياة تتطلبه الطبيعة والفضيلة، وأن الفضيلة العامة مهما بلغ من اتساعها فإن مكانها المكان الأول في نفس كل فردٍ؛ ولذلك عدل عن فكرة الجمهورية التي حاول إنشاءها، واقتصر على وصف حياة بعض الأسر المنزوية في ظلال الوحدة تتذوق طعم النعيم في حجر الطبيعة وعند بساطة الفضيلة.

وهكذا ظهر سفره الخالد «بول وفرجيني»، فهز أوتار المشاعر، وملك أزمَّة القلوب، وكان فجرًا لليل الأدب، وتاجًا على رءوس الأقلام، وشعلةً صافية باردةً فاض بها فؤاده الذي غمرته الفضيلة والصبر والرحمة، وكان لظهوره تأثيرٌ عظيمٌ في جميع أنحاء فرنسا، فأبكى كل عينٍ، وصعَّد كل زفرة، ولم تبق أسرةٌ ولد لها ولدٌ إلا سمَّته بول، أو ابنةٌ إلا سمتها فرجيني.

وكان أكبر ما أثره في نفوس الناس من هذه الرواية أن حوادثها صحيحةٌ ليس فيها من الخيال إلا النسق والترتيب، فقد قال مؤلفها في مقدمتها: «إني لم أتخيل قصةً روائية أصور فيها حياةً سعيدة تمتعت بها أسرةٌ أوروبية في وسط ذلك الفقر، بل يمكنني أن أقول إن أشخاص هذه الرواية قد عاشوا حقيقة في تلك الأصقاع وتمتعوا بالسعادة التي وَصَفْتُها، وإن تاريخهم في مجمله صحيحٌ شهد به كثيرٌ من سكان تلك الجزيرة، ولم أُضِف عليه إلا بعض جزئياتٍ ليست بذات بال.»

وقد تنبأ بمبلغ تأثير روايته في النفوس قبل ظهورها فقال: «أردت عندما وضعت هذه الرواية أن أعرف مقدار تأثيرها في القراء على اختلاف درجاتهم ومراتبهم ومشاربهم وميولهم، فتلوتها على بعض السيدات الجميلات المتأنقات فبَكَيْن، ثم تلوتها على بعض الشيوخ المحافظين الرَّزِينِين فبكوا، فعلمت أني قد كتبتها للناس جميعًا، وأرضاني هذا الحكم الصامت كل الرضى، على أن هذا السفر إذا كان قد هز عالم البيان إلى هذا الحد فإنه لم يكن ابن يومه، وإنما كان ثمرة مجهودٍ بطيءٍ حتى خرج للناس من ظلمات الفكر إلى قضاء الحقيقة وعليه ثوب ذلك الشاب القشيب، فهو كأنه ليس من عمله بل من عمل الطبيعة التي تضع بذورها في السكون وتنضجها في الظل، فإذا وافى اليوم الذي تظهر ثمرتها فيه أخذت بالألباب والأبصار.»

وكثيرًا ما كان يسأله الناس كيف وضعه؟ وكيف انتهى منه؟ فيقول لهم: حسبكم أنه أعجبكم، فلا تضعوا بهذه الأسئلة غشاوةً على أعينكم تحجب عنها لذة السرور الذي شعرت به، وإلا كان مثلكم كمثل الطفل يقع نظره على وردةٍ فيذهب خاطره إلى محاولة الاهتداء لكيفية صنعها، وعند ذلك ينثرها ورقة ورقة حتى إذا بلغ غايته لا يرى أمامه شيئًا.

على أن جمال الكتاب يجعل الحيارى من السائلين في حلٍّ من موقفهم هذا، فهم معذورون إذا تساءلوا عن زهرة هذا السفر القيم كيف نشأت، وعلى أية طريقة نبتت، وبماء أي خاطرٍ متقدٍ سقيت، وتحت أي مؤثرٍ من مؤثرات النفس أيعنت ففاضت على الأجيال بالأريج والألوان والجمال.

ولكن عناصر مثل هذا العمل الكبير دفينةٌ في نفس حياة الكاتب إذا صح أن كل مؤلفٍ يتمثل في سطوره.

على أن برناردين إذا كان لم يخلَق كاتبًا فإن المشاهدة والتجربة والدرس هذبت قلمه وأنضجته، حتى إذا انقضت هزيلةً بائسةً طائرةً في مهاب الحوادث وقد أحاطتها الأيام بإطارٍ من الشيخوخة لم يرَ له بديلًا منها إلا نفثات قلمه بين سطور هذا السفر الفياض؛ ولذلك قال عنه بعض قارئيه: «ليست هذه الرواية أثرًا للكاتب، وإنما هي أثرٌ خالدٌ للغة الفرنسية.»

على أن الرواية وإن كانت لم تقم إلا على وصف الطبيعة الجافة الخشنة فإن القارئ لا يكاد ينتهي منها حتى يشعر بدبيب النشوة في مفاصله، لا لترتيب أشخاصها أو غرابة حوادثها، ولكن لقدرة برناردين على وصف أخلاق أهل القرى السهلة بعبارته الساحرة الجذابة، فهي التي أنطقت الطبيعة الجامدة، وجعلت من الكمال تمثالًا حيًّا قدسيًّا خالدًا، حتى إن بعض قرائه صاح وقد هزه الطرب: «إنني لا أرى هنا غير أكواخٍ بسيطةٍ وأعواد خشنة، ولكنني أرى حولها وجوهًا ضاحكةً مستبشرةً، وقلوبًا تسيل سعادةً وهناء.» وحتى قال شاتوبريان: «إن السحر الذي يتشعع من سطور هذا الكتاب ليس غير عظمةٍ تتلألأ في ثناياه تحكي تألق القمر فوق عزلةٍ مزدانةٍ بالزهور.»

ولقد كان ختام كفاح برناردين بعد ما حاربته الليالي وخاصمه الحظ أن عرف قدره أولئك الذين جهلوه حتى توجهت إليه عناية لويز السادس عشر، فقلده إدارة حديقة النباتات، ومتحف التاريخ الطبيعي، وإذا كانت الثورة قد أفقدته هذا المركز وسلبته تلك النعمة التي أصبح فيها، فإن «نابوليون بونابرت» شمله برعايته، وغمره بإحسانه، فأنساه مرارة الأيام الماضية، كما أنه قلده وسام الشرف، فلم يعد في حاجةٍ إلى تلك الأوسمة الخيالية التي كان يحلم بها في صباه، وكان إذا قابله قال له: «متى تؤلف لنا يا برناردين روايةً ثانية؟»

هذه هي رواية بول وفرجيني، وهذا هو كاتبها الذي كان يقول في أول أمره: «إن إنكار الناس لجميلي، والأحزان التي لا تفارقني، وضآلة مرتزقي وآمالي الضائعة، كل هذه المصائب تجمعت لتحاربني فأفسدت علي صحتي، وأزاغت صوابي، حتى إن كل ما يقع تحت بصري أصبحت أراه متحركًا مضاعفًا، كأنني أوديب الملك أرى شمسين»، فأصبح يقول: «هكذا بعد ما قاست سفينة حياتي من زعازع الحوادث أخذت تتقدم آمنةً مطمئنةً إلى بر السعادة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤