الفصل الأول

جزيرة موريس

هي إحدى الجزر الإفريقية الواقعة في المحيط الهندي على مقربة من جزيرة «مدغشقر»، وعلى مدًى غير بعيدٍ من جزائر «سيشيل»، وهي جزيرةٌ قفراء بَلْقَع إلا قليلًا من السكان السود متفرقين في جبالها وغاباتها، يستعبدهم بضعة أفرادٍ من المهاجرين الأوروبيين النازلين بينهم، ويسخرونهم في حراثة الأرض واستنباتها واستخراج معادنها واستنباط أمواهها وتقليم أشجارها، كما هو شأن المستعمرين الأوروبيين في جميع الأصقاع التي يعيشون فيها.

•••

يرى المقبل على هذه الجزيرة شرقي الجبل القائم خلف عاصمتها «بورلويس» واديًا مستطيلًا، مسورًا بسورٍ طبيعي من الآكام والصخور، قد تراءت في وسطه أطلال كُوخَيْن دَارِسين لم يبقَ منهما إلا أنصاف جدرانهما، وبضعة جذوعٍ ناخرةٍ سوداء متناثرة حولهما، ويرى الأرض المحيطة بهما مختلفة الألوان، ما بين سوداء وخضراء وصفراء، مختلفة السطوح ما بين أنجاد وأغوار، وأحافير وأخاديد، ومتعرجات ومستَدَقَّاتٍ، إلى كثير من الجداول والغدران القائمة والمتداعية، كأنما يعيش فيها قبل اليوم قومٌ يتولون حرثها وزرعها وتقسيمها وتخطيطها، ثم ضربها الدهر بضرباته فرحل عنها ساكنوها أو رحلوا عن العالم بأجمعه.

ولم يكن لذلك الوادي — على اتساعه وانفراجه — إلا فجوةٌ واحدةٌ من ناحيته الشمالية، وعلى يساره ذلك الجبل العظيم الذي يسمونه جبل الاستكشاف؛ لأنهم كانوا يرقبون من قمته السفن القادمة إلى الجزيرة، وبسفحه تقع مدينة «بورلويس» قصبة الجزيرة ومقر حاكمها الفرنسي، وهي مدينةٌ صغيرةٌ نصف متحضرة، يتفرع من يمينها طريقٌ لاحبٌ عريضٌ ينتهي بضاحية «بَمبلْوس»، وهناك الكنيسة المسماة بهذا الاسم قائمة بمماشيها المتدرجة المتصاعدة المحفوفة بأشجار الخيزران وسط أفيح فسيحٍ، ثم الحَرَجَات والآجام بعد ذلك منبسطة ممتدة إلى ساحل البحر، حيث يُرى هنا خليج «تومبو»؛ أي: خليج القبر، وعلى يمينه رأس يسمى «كاب ماليرو»؛ أي: الرأس البائس، ثم الخضم الفسيح بعد ذلك تنتشر على صفحته عدة جزرٍ صغيرة مقفرة كأنها السفن السابحة على سطح الماء، وأكبر ما فيها جزيرة «كوان دمير» تتهادى بينها كأنها البرج العظيم.

•••

ولا يزال يسمع المُقبل على ذلك الوادي حين يدنو منه عصف الرياح الضاربة في بطون الجبال وأحشاء الغابات وذوائب الأشجار، ودمدمة الأمواج المتوثبة على صخور الشاطئ وهضابه، حتى إذا وصل إلى مكان الكوخين انقطع عن سمعه كل شيءٍ، فلا يحس إلا صدًى ضعيفًا لحفيف سعف النخل، ولا يسمع إلا وسوسة الأمطار المتساقطة برفقٍ ولينٍ على رءوس الصخور الملساء، فترسم على جوانبها المكسوة بالطحلب ألوان الطيف ثم تنحدر عنها متسلسلة إلى حيث تسقي أحواض الأزهار المهملة التي لا تمتد إليها يد، ولا يقتطفها مقتطف، ثم تفضي بعد ذلك إلى الغدران والأقنية فتمدها بالجم الكثير من أمواهها، وإلى خمائل الأشجار ولفائف الأعشاب، فتنسرب من أحشائها انسراب الأفاعي الرقطاء في بطون الرمال، ولا يرى بين يديه إلا هضابًا شماء قد نبتت في سفوحها وعلى قممها وبين فروجها مجاميع الأشجار الباسقة التي تعابث أشعة الشمس أوراقها الخضراء المترعرعة، وتكسوها بما شاءت من ضروب الألون ذهبيها وفضيها، وأرجوانيها وناريها، ولا تنحدر إلى قاع الوادي وتتبسط في أرجائه إلا وقت الظهيرة، فإذا أدبر النهار وطفلت الشمس للإياب كان منظر الأصيل أبدع منظرٍ رآه الرائي في جمال ألوانه، وانسجام ظلاله، ورقة أضوائه، وتلهب أفقه، وذهاب العين بين أرضه وسمائه في أبهى من الحلة السِّيَراء والروضة الغناء، فإذا انحدرت الشمس إلى مغربها خيم السكون على كل شيءٍ من ماءٍ وهواءٍ، وكوكبٍ ونجم، واستحال المنظر إلى وحشةٍ مخيفة كوحشة القبور، لا نأمة فيها ولا حركة، ولا بارق ولا خافق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤