الفصل الخامس عشر

الخفقة الأولى

ما لفرجيني حزينة مكتئبة لا تضيء الابتسامات ثغرها كما كانت تضيئه من قبل؟!

ما لها واجمةٌ صفراء تمشي مطرِقةً وتجلس واهنةً، وكأن همًّا من هموم الحياة الثقال يملأ ما بين جانحتيها ولا هم هناك ولا حزن؟! ما لها تلجأ إلى الخلوات والمعتزلات وتتجنب جهدها أن تخالط الناس حتى أسرتها وقومها، وحتى صديقها الوحيد الذي هو أعز عليها من نفسها التي بين جنبيها؟!

ما لهذه الخضرة الزاهية البديعة، ولتلك السماء الصافية المتلألئة، ولذلك المنظر البديع الجذاب، منظر الشمس في طلوعها وغروبها، والطير في غدوِّها ورواحها لا يروقها ولا يستثير سرورها وبهجتها، ولا يسرِّي عنها همومها وآلامها كما كان شأنها قبل اليوم؟!

ذلك لأن قلبها خفق الخفقة الأولى، والحب إذا خالط قلب الفتاة لأول عهدها به نقلها من حياة السرور والبهجة إلى حياة الهموم والأكدار.

نعم قد تحولت الصداقة في قلب فرجيني إلى حبٍّ، وللحب شأنٌ غير شأن الصداقة، وحالٌ غير حالها، وشعورٌ وإحساسٌ غير شعورها وإحساسها، وكما أن المرأة الفارغة تشعر بتغيرٍ في جميع حالاتها الجسمية إذا بدأت بذرة الجنين تنمو في أحشائها، كذلك الفتاة الخالية تشعر بتغيرٍ في جميع حالاتها النفسية إذا أحست بدبيب الحب في قلبها، وربما كان هذا الشعور هو دليلها الوحيد على أنها قد أحبت قبل أن تعرف ما الحب وما الغرام؟

لقد كانت فرجيني تجهل في مبدأ أمرها حقيقة الحال التي طرأت عليها ولا تفهم منها شيئًا سوى أنها قلقةٌ مستوحشة، لا تأنس بالناس أنسها الأول، ولا تجد في الجلوس إلى أسرتها ولا في الذهاب إلى «مخدعها» الراحة التي كانت تجدها من قبل، فكانت تهيم على وجهها في القفار والغابات وضفاف الأنهار وقمم الجبال، ما تكاد تستقر في مكانٍ واحد، فإذا وقع نظرها على بول في بعض غدواتها أو روحاتها طارت إليه فرحًا وسرورًا، وبسطت إليه يدها لتعانقه، فإذا دانته انقلبت فجأةً من سرورٍ إلى حزنٍ ووقفت في مكانها جامدة جمود الدمية في محرابها يَتَلَهَّب وجهها حمرةً، ويَرْفَضُّ جبينها عرقًا، فيعجب بول لشأنها، ويظل يقول لها: إن الخضرة اليوم زاهيةٌ جدًّا، وإن الشمس ساطعةٌ متلألئة تضيء كل شيءٍ حتى الأنفاق والأغوار، وكل ما في الوجود ضاحكٌ مستبشرٌ ما عداكِ يا فرجيني، فهل لك أن تحدثيني ما الذي ألمَّ بك؟ وما هذه الغبرة القاتمة التي تلبس أديم وجهِكِ؟ ثم ينقض عليها ليضمها إلى صدره كعادته فتَمَلَّسُ من يديه إملاسًا، وتركض هاربةً إلى أمها لتضع رأسها في حجرها، فيظل بول واقفًا مكانه يعجب لأمرها عجبًا شديدًا، لا لأن الذي يضمر لها من الحب أقل من الذي تضمر له، ولا لأن نفسه خاليةٌ من الهم الذي يخالط نفسها، ولكن المرأة ضعيفة خائرةٌ لا تملك من الصبر والجلد بين أيدي النكبات النفسية التي تنزل بها ما يملك الرجل، فإذا أحبَّت لأول عهدها بالحب وكانت شريفةً فاضلةً خرج بها الحب إلى حالةٍ أشبه بالجنون والخبل، وما هي بجنونٍ ولا خبل، ولكنها حيرة النفس وضلالها.

ولم يزل هذا شأنها حتى جاء شهر ديسمبر، وهو الشهر الذي تشتد فيه حرارة الشمس في تلك المنطقة اشتدادًا عظيمًا، وتظل تصب عليها أشعتها عموديةً كأنها السهام المنبعثة من أقواسها، وتنقطع عنها ريح الجنوب التي تعتادها طول العام، وتهب عليها بدلا منها أعاصير شديدة تزلزل أرضها زلزالًا، وتطير بما شاءت من معالمها ومجاهلها، وتشقق ما أرادت من أطرافها وأنحائها، فيثور الغبار ملتفًّا في جو السماء ثم يجمد في مكانه ما يتزحزح ولا يتحلحل كأنه العمد المنتصبة، وتصبح سفوح الجبال وجوانب الهضاب كأنها أُتُنٌ مشتعلة تنفث أَوَارَها من حولها، فتلتهب الأجواء حتى ما يستطيع متنفسٌ أن يتنفس إلا زفيرًا، ولا مستنشق أن يستنشق إلا شواظًا ولهيبًا، وحتى ما يجد المبترد ضحضاح ماءٍ في غديرٍ من الغدر أو خليجٍ من الخلجان يبترد فيه، ويزحزح عن عاتقه ذلك القميص الناري اللاصق به، وتتساقط الماشية في ظلال الأشجار وفي سفوح الجبال واهنةً متضعضعة، مادةً ألسنتها إلى السماء كأنها أيد مبسوطة بالدعاء إلى الله — تعالى — أن يجود عليها بقطرة تبل غلتها، وتطفئ لاعجها، وكأن ثُغَاءَها وعجيجها وصفير الرياح السافيات من حولها، وطنين البعوض الحائم عليها مناحةٌ قائمة على هذه الطبيعة الميتة، فإذا أقبل الليل عجزت يده الباردة الندية أن يخفف شيئًا من لهيب ذلك الأَتُون المستعر، وظهر القمر في أفق السماء أحمر كامدًا كأنه الوجه المخضب بالدم، يمشي في طريقه متثاقلًا متظالعًا كأنما هو يسبح في لُجَّةً عميقة من السحب المحيطة به.

في ليلة من تلك الليالي الداجية السوداء عجزت فرجيني عن أن تأخذ لنفسها راحتها في مضجعها وعجز الكرى عن أن يلم بأجفانها، فثارت من مكانها متململة وأخذت سمتها إلى مخدعها عساها أن تجد فيه ما يروح عن نفسها، وكان القمر لا يزال يرسل ذلك النذر القليل من أشعته الكامدة، فأزعجها أنها لم تجد من جدولها المترع المتدفق إلا خيطًا دقيقًا يلمع في ضوء تلك الأشعة الباهتة كأنه ثعبانٌ ممدود يتقلب على حرةٍ سوداء، ثم مشت إلى حوضها الصغير الذي اعتادت أن تستحم فيه فلم تجد فيه إلا ضحضاحًا من الماء ما كاد يغمر جسمها فخلعت ملابسها ونزلته، فاستطاعت أن تجد قليلًا من الراحة، وكان أول ما مر بخاطرها في تلك الساعة بعد أن عادت إليها نفسها ذكرى تلك الأيام الماضية التي كانت تستحم فيها مع بول وهما طفلان صغيران في هذا الحوض الصغير، وذكرت كيف كانا يقضيان الساعات الطوال على ضفافه عاريين يرقصان ويمرحان، ويعتليان الهضاب والرُّبى، ويتسلقان النخيل والأشجار ليقطعا أغصانها أو يجنيا ثمارها، ثم ألقت رأسها على صدرها فرأت بين ثدييها وفوق ذراعيها العاريين ظل النخلتين المسماتين باسمها واسم بول، وقد طالت عَثَاكِيلُهُمَا، وانتشرت سعفاتهما، وكبر جوزهما، ولصقت كلٌّ منهما بالأخرى لصوقًا شديدًا، فأثار ذلك المنظر في نفسها شعورًا غريبًا لم تستطع أن تفهمه ولا أن تفهم ما الذي يقلقها منه، فلم تطق البقاء في مكانها لحظةً واحدةً، فنهضت إلى ثوبها فأسبلته على جسمها، واندفعت راكضةً إلى كوخها، وأيقظت أمها من منامها واضطجعت بجانبها، وأخذت بيدها وظلت تضغط عليها ضغطًا شديدًا كأنما تريد أن تبثها ألمها وتفضي إليها بسرها فلا تستطيع، وتحاول أن تنطق باسم بول فيحتبس لسانها في فمها، ثم لا يلبث ذلك السعير المتأجج في صدرها أن يستحيل إلى زفير فشهيقٍ فبكاء، فتذرف من دموعها ما شاء الله أن تذرف حتى يهدأ ما بها، وأمها صامتة ساكتة تفهم كل شيءٍ ولا تقول شيئًا، سوى أن ترفع نظرها إلى السماء سائلةً الله تعالى بنظراتها السابحة في ذلك الفضاء أن يمنح ابنتها الهدوء والسكينة، وأن يقيها العثرات والزلات.

ولم يزل الحَر آخذًا في اشتداده حتى استثار من مياه البحر أبخرةً عظيمة ما زالت تتكاثف وتتجمع حتى انعقدت في سماء الجزيرة ظلةً سوداء، فاحتجب قرص الشمس، وتلفعت الجبال والهضاب والربى والآكام بأرديةٍ بيضاء من الضباب، فما تكاد تقع عين الناظر على منظرٍ مستبين، ثم ما لبث الرعد أن قصف قصفًا شديدًا دوت به أرجاء الجبال، وأخذ البرق يرسل شرارته الحمراء في خلال السحب الكثيفة المتراكمة، فأنار بعضًا منها وعجز عن بعض، ثم انفجرت السماء عن أمطارٍ غزارٍ سالت بها الأودية والقيعان، وسحبت فيها الربى والهضاب، وما هي إلا لحظات قليلة حتى أصبح ذلك الحوض الواسع بحرًا عجابًا يعب عبابه وتصطخب أمواجه، واختفى كل شيءٍ من هواديه وأعلامه، وأُطُمه وذُرَاه، ولم يبق طافيًا منه على سطح الماء إلا تلك الربوة العالية التي يرفرف فوقها العلم الأبيض، علم الاستكشاف، فكان منظرها في وسط ذلك البحر العجاج منظر السفينة المضطربة في أيدي الأمواج الثائرة، فصعدت إليها تلك الأسرة المسكينة تنتظر قضاء الله فيها وفي زروعها وضروعها.

وظلت الحال على ذلك عدة ساعاتٍ، ثم هدأت العاصفة، ورقت السحب، واستطاعت الشمس أن ترسل من خلالها بعض الأشعة البيضاء في أنحاء الفضاء، وأخذ بول ودومينج يفتحان للمياه المتراكمة شعابًا ممتدة في أطراف الحوض تنحدر منها إلى البحر، حتى لم يبق منها بعد ساعةٍ إلا ما ركد في الحفائر والأغوار، والبطون والوهاد، فذعر بول وفرجيني لمنظر الأشجار الساقطة والجذوع المتهافتة، والأغصان المتناثرة، والأزهار المبعثرة، كأنهم يشهدون أطلالًا بالية قد عصفت بها وبساكنيها أيدي الحدثان، وعوادي الزمان.

وخطر لفرجيني أن تذهب لزيارة حديقتها لترى ما فعلت تلك الحوادث بها، فعرض عليها بول أن يصحبها فسارا معًا حتى أشرفا عليها، فإذا هي قفرٌ يبابٌ لا شجر ولا ثمر، ولا طيور ولا أعشاش ولا جداول ولا غدران، إلا ما كان من تلك البلابل الضاوية الواقعة على ذوائب بعض الأشجار ترعد بردًا، وتغرد تغريدًا شجيًّا هو بالأنين والبكاء أشبه منه بالترجيع والغناء.

فأطرقت فرجيني إطراقةً طويلة ثم رفعت رأسها والتفتت إلى بول وقالت له: لقد ضاعت كل آمالي في الأرض يا أخي، فلم يبق لي إلا أملي في السماء! لقد غرست تلك الجنة الزاهرة، وأجريت في خلالها الجداول والغدران. وأنشأت في أنحائها ما شئت من الحظائر لماشيتي، والأعشاش لطيوري، وكانت أُنسي وراحتي، وملجأ همومي وأحزاني.

وها هي ذي أيدي الحدثان قد عصفت بها، وعفت رسومها ومعالمها، ومحت سطورها من كتاب الدهر كأن لم تغن بالأمس، فلم يبق لي ما آنس به في هذا العالم ولا ما أسكن إليه، فلأطلب لنفسي سعادةً غير هذه السعادة، في عالمٍ غير هذا العالم لا تعصف به العواصف، ولا تجتاحه السيول، ولا تنال منه أيدي الصروف والغِيَر.

فاضطرب بول عند سماع هذه الكلمات وسرت في جسمه رعدةٌ شديدةٌ ملكت ما بين أقطاره، فصمت هنيهةً ثم التفت إليها وقال لها: هوني عليك الأمر يا فرجيني، فكما يعرض الموت على الحياة تعرض الحياة على الموت، وأعدكِ وعدًا صادقًا أن كل شيءٍ سيعود إلى ما كان عليه، وسترين عما قليل خمائلكِ وأشجاركِ ومياهكِ وظلالكِ وأطياركِ وأعشاشكِ عائدةً إلى شأنها الأول، فيعود لك أُنْسُك واغتباطك وسرورك وابتهاجك، فرفعت طرفها إلى السماء وظلت على ذلك ساعة كأنما تحاول أن تطير بروحها إلى ذلك الملأ الأعلى، ثم وضعت يدها على عاتقه وقالت له: أتدري ما هو خير من هذا كله يا بول؟ قال: لا، قالت: إن لِسَمِيِّكَ «بول» الرسول عندي منزلةً لا تعدلها منزلة أخرى، وقد رأيت له صورةً عندك تحتفظ بها في أطواء ثيابك، فرجائي إليك أن تهديني إياها، قال: لا أحب إلي من ذلك.

وانطلق يعدو إلى كوخه عدو الظليم ليأتي بها، وهي صورة أثرية قديمة كانت تحملها مرغريت في قلادتها منذ زمن بعيد، فلما ولدت ولدها بول ورأت في ملامح وجهه ما يشبه ملامح ذلك القديس العظيم سمته باسمه، وناطت تلك القلادة بعنقه كتميمةٍ تحفظه من عاديات الدهر، وغوائل الأيام، ولم يزل حاملًا إياها حتى كبر وأينع، فاحتفظ بها في صندوقه بين ملابسه كأعز شيءٍ لديه، حتى سمع فرجيني تقترح عليه أن يهديها إياها، فلم يكن شيء من الأشياء أحب إليه من أن يفعل راضيًا مغتبطًا، وما هي إلا ساعة حتى عاد بها طائرًا فرحًا فقدمها إليها، فسُرت بها سرورًا عظيمًا، وجرى ماء البشر في وجهها طلقًا غدقًا، وقالت له: ستبقى هذه الصورة تذكارك الدائم عندي ما حييت، ولن تفارق عنقي أبدًا حتى الساعة الأخيرة من ساعات حياتي، ولن أنسى أبد الدهر أنك قد أهديت إلي الشيء الوحيد الذي تملكه، فحنا عليها وهم أن يحتضنها إلى صدره فأفلتت من يده برفقٍ وركضت هاربةً إلى حجر أمها كعادتها.

فوقف بول في مكانه حائرًا مكتئبًا مذهوبًا به كل مذهب، تعبث بعقله الوساوس والأوهام.

ولقد طال هذا الأمر بينهما وأصبحت حياتهما حياةً غريبةً مضطربة لا عهد لهما بمثلها من قبل، فخلت مرغريت يومًا من الأيام بهيلين وقالت لها: لم لا نزوج بول من فرجيني فقد بدآ يشقيان في عيشهما، وأخاف أن يمتد بهما الأمر إلى ما هو أعظم شرًّا من ذلك، وعندي أنه متى تكلمت الطبيعة وجب الإصغاء إليها والإذعان لها، وما شقي الناس هذا الشقاء الذي نراهم يعالجونه كل يوم إلا لأنهم تمردوا على الطبيعة وخلعوا طاعتها، وسولت لهم نفوسهم السير في طريقٍ غير طريقها. فقالت هيلين: إن الوَلَدَيْن لا يزالان صغيرين وفقيرين، فماذا يكون شأنهما غدًا إن قسم لهما أن يلدا أولادًا كثارًا في قفرةٍ مثل هذه القفرة لا يعين المرء فيها على العيش غير المال؟ إننا كابدنا أعظم ما يكابد امرؤٌ في العالم من عناءٍ وشقاء في سبيل تربيتهما وتغذيتهما، فمن لهما — وهما ضعيفان ساذجان وقد رحلنا عنهما إلى عالمنا الآخر الذي ينتظرنا ورحل معنا دومينج وماري — بقوةٍ تعينهما على أمرهما وأمر حياتهما العائلية المستقبلة، إن الزمان قد دار دورته، وقد أصبحت أشعر منذ أعوامٍ بآلامٍ شدادٍ تخالط كل جزءٍ من أجزاء جسمي، وأرى أنني أسير حثيثًا في تلك الطريق التي يسير فيها الذاهبون إلى حفائرهم، وأن ليس بيني وبينها إلا خطواتٍ قليلة، وقد أصبح دومينج شيخًا هرمًا لا يكاد يحمل عبء نفسه، وأصبحت ماري على مقربة من ذلك، فلا يبقى لهما مساعد ولا معين.

والرأي الذي أراه أن نباعد بينهما، فنرسل بول إلى بعض أصقاع الهند ليتَّجر فيها بما يتجر به الأوروبيون المنتشرون في تلك البلاد، عله يتلهى عن فرجيني بشواغله وأعماله، وربما عاد عليه من ذلك ما يعينه على أمرها وأمره غدًا.

ثم اتفقتا على أن تستشيراني في هذا الأمر، فأشرت عليهما بما رأتا، وقلت لهما: إن في هذه الجزيرة وفي ما حولها من الجزر كثيرًا من السلع التي تنفق نفاقًا عظيمًا في الأسواق الهندية، كالقطن والآبنوس والأصباغ وما إليها، فإذا سافر بول بها فباعها هناك ثم عاد ببعض السلع الهندية الغريبة فباعها هنا وطال مرانه على ذلك واعتياده رجوت له في مستقبل حياته خيرًا كثيرًا.

فعهدتا إليَّ أن أفاتحه في هذا الشأن، فخلوت به ذات يومٍ وأنشأت أحدِّثه حديثًا طويلًا عن التجارة وفضائلها ومزاياها، وعن الضرب في آفاق الأرض وثمراته وفوائده، ثم أفضيت إليه بذلك المقترح، فأصغى إليه وهو صامتٌ واجمٌ لا يقول شيئًا حتى انتهيت من حديثي، فرفع رأسه إلي وقال: وهل يوجد عمل أعظم ثمرة وأعود فائدة من عمل الفلاح، الذي يقوم بزراعة حقلٍ من الحقول لا يعطيه إلا القليل من جهده وأقل من القليل من ماله فيعود عليه منه ضِعف ما بذل له خمسين أو ستين مرة؟ ومتى كانت البحار يا سيدي وِطاءً لينًا أخاطر فيه بنفسي لأربح شيئًا أستطيع أن أربحه من بيع ما فضل عن حاجتنا من حبوبٍ وأثمارٍ في أسواق هذه الجزيرة وما حولها من الجزر؟ وأية حاجة بنا إلى المال الكثير ونحن والحمد لله في سعةٍ من العيش لا نشكو جوعًا ولا ظمأ، ولا ضيقًا ولا ضجرًا، ولا نطلب لأنفسنا منزلة في الحياة فوق المنزلة التي نحن فيها؟ ولا أكتمك يا سيدي أنني أخاف المال وأخشاه خشيةً شديدةً، وأقشعر من ذكره كلما سمعت به، وأعتقد أننا لا نزال سعداء في هذه الحياة ما دمنا بعيدين عنه وعن التفكير فيه، فإن قُدِّر لنا يومًا أن نشقى فيها فإنما شقاؤنا يكون على يده وَبِشُؤمِ طالعه، فلنتمتع بالسعادة التي قسم الله لنا، ولا نجني على أنفسنا بالتكلف والمحاولة وركوب الطريق الهوجاء التي لا نعرفها ولا نعرف غايتها ولا منتهاها، والله أعلم بنا منا، وأحنى علينا من آبائنا وأمهاتنا.

فوقفتُ بين يدي هذه الكلمات الحكيمة المملوءة شرفًا وفضيلةً موقف الجمود والصمت، لا أستطيع أن أقول له شيئًا، ولا أن أنكر عليه أمرًا، ولا أن أفضي إليه بسر ذلك المقترح الذي اقترحته عليه، ضنًّا به أن يهلك يأسًا وجزعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤