الفصل السابع عشر

الوداع

لم يثقل هذا الأمر كثيرًا على نفس هيلين، بل صادف هوىً من قلبها، ولم تكن كاذبةً في قولها للحاكم إنها لا تتمنى على الله في حياتها شيئًا سوى أن ترى ابنتها سعيدة في حياتها، هانئةً بعيشها، إلا أنها لا تحب أن تفتات عليها في أمرها، فإن الحاكم لم يتجاوز عتبة باب الكوخ حتى دعت إليها ابنتها وخلت بها، وأنشأت تحدثها حديثًا طويلًا قالت لها فيه: إنني أصبحت يا بنيتي امرأة عليلة منهوكة، لا قوة لي ولا عزيمة، وما مرغريت بأحسن حالًا مني، وقد صار دومينج وماري شيخين ضعيفين، والشيخوخة أسرع إلى سكان هذه المناطق الحارة منها إلى سكان المناطق الأخرى، وبول لا يزال فتى غريرًا عاجزًا عن أن يستقل بنفسه فيما يعالج من شئونه، فماذا يكون حالكما غدًا لو أنكما أصبحتما تحملان وحدكما عبء هذه الحياة الثقيلة على عاتقكما، وكيف يهون عليكما أن تريا أولادكما الصغار غدًا بائسين أشقياء لا يملكون لأنفسهم ولا تملكان لهم نفعًا ولا ضرًّا؟ وقد مَثَّلت لنفسي بين أن تعيشي بجانبي فأراك فقيرةً معوزةً تشقين ليلك ونهارك في جمع قوتك كما تشقى الأجيرة العاملة، وبين أن تفارقيني بضعة أعوام أسمع في أثنائها على البعد من أنباء سعادتك وهناءتك ونعمتك ورغدك ما يثلج صدري ويذهب بوحشة نفسي، فوجدت أني أستطيع احتمال الثانية، وأعجز عن احتمال الأولى، فسافري يا بنيتي، وكوني غدًا عكاز شيخوختي وعماد حياتي، ومُعينتي على دهري.

فرفعت فرجيني رأسها إليها فإذا دمعةٌ رقراقة تتلألأ في عينيها، ونطقت بتلك الكلمة التي عجزت عن أن تنطق بها قبل اليوم فقالت: «وكيف لي بترك بول يا أماه؟!»

قالت: «إنما أطلب إليك السفر من أجل بول، لا من أجل غيره، فهو غلامٌ مسكينٌ يبذل من راحته وقوته في سبيل العمل ما أحسب أنه قاتله وذاهبٌ بحياته إن طال عليه أمره، فارحميه وأشفقي عليه وأنقذيه من بؤسه وبلائه، ولقد آثرت أن أحتمل كل مكروهٍ في سبيل ذلك حتى الموت ضنًّا بك وبسعادتك، فكوني مثلي وفارقيه رحمةً به وإبقاءً عليه، وليكن حبك إياه عظيمًا مجيدًا كحبي إياك، ولن يعظم الحب ولن يمجد إلا إذا بُني على أساسٍ من التضحية والبذل.»

قالت: ألم تقولي لي يا أماه قبل اليوم إن للكون إلهًا يتولى شأنه ويرعاه؟ وقد رعانا وتولى شأننا بالأمس، فلم يتخلى عنا غدًا؟

ألم تقولي لي إننا ما خُلقنا إلا للعمل، وإن العمل هو ينبوع الحياة ومادتها التي لا تفنى؛ فلم تطلبين إلي اليوم أن أعتمد في حياتي على غيره، وألتمس الرزق من سبيل غير سبيله؟

دعيني أعش بجانبك يا أماه، وبجانب بول ومرغريت ودومينج وماري، وعلى مقربة من شويهاتي وأعنُزي، وطيوري وعصافيري، وبين أحضان هذا الوادي الجميل الذي أنِسْتُ به وأحببته وألِفْتُ ليله ونهاره، وكواكبه ونجومه، وأشعته وظلاله، فإنني لا أستطيع أن أعيش بين قومٍ لا أعرفهم ولا أفهمهم، ولا أحسبني أحمدهم إن عرفتهم وفهمتهم.

دعيني أعش مما قسم الله لي من الرزق، ولقد رزقني الجم الكثير الذي لا أطلب فوقه مزيدًا، ولا أبتغي به بدلًا …

لقد عشت في هذا الوادي خمسة عشر عامًا ما شكوت ولا تألمت، ولا بت ليلةً جائعةً أو ظامئة أو ساخطةً أو ناقمة، فلم تطلبين إلي أن أترك ما لا يريبني إلى ما يريبني، وأن أبيع هذا الحاضر المعروف بذلك الغائب المجهول؟ إن نفسي لتحدثني بشرٍّ عظيم في هذه السَّفْرَة التي تدعونني إليها، وما أزعم لنفسي علم ما في الغيب، ولكنني أشعر بخوفٍ شديد لا أعرف له سببًا، وحسبي أن أعلم ألا سبيل لي إلى الوصول إلى ذلك العالم الثاني إلا إذا ركبت تلك المطية الوعرة التي يسمونها البحر حتى تسيل نفسي رهبةً وجزعًا.

فأطرقت هيلين صامتةً ولم تستطع أن تقول شيئًا؛ لأنها وإن كانت من أشهى الأشياء إليها أن ترى ابنتها بعيدةً عن بول في تلك الأيام، وأن تراها آخذةً بحظها من تلك السعادة التي تنتظرها هناك، إلا أنها رحمتها وأشفقت عليها فلم تستطع أن تجادلها فيما تقول.

ثم قالت بعد قليل: إنني لا أحب أن أشق عليك يا بنيتي في شأنٍ من شئونك الخاصة بك، فاختاري لنفسك الحياة التي تحبينها وتؤثرينها، غير أني أضرع إليك في أمرٍ أرجو ألا يثقل عليك. قالت: وما هو؟ قالت: أن تكتمي سرك الذي تعالجينه بين جنبيك، فلا تبوحي به لأحدٍ من الناس كائنًا من كان حتى لبول نفسه، وأن تجعلي الفضيلة والطهارة والشرف والعفة رائدك في كل ما تقولين وما تفعلين، وأن تأخذي نفسك بالأناة والرفق في جميع خطواتك وتصرفاتك اتقاء العثرة والزلة، وأن تجعلي نصب عينيك دائمًا أن الرجل لا يحترم إلا المرأة التي تضن بنفسها عليه، ولا يحتقر مثل المرأة التي تبذل نفسها له، أي إنه يحب المرأة الفاضلة أكثر مما يحب المرأة الجميلة، بل لا يعرف للمرأة جمالًا غير جمال الأدب والعفة، وإن زعم في نفسه غير ذلك. قالت: ذلك ما أعرفه يا أماه، ولا أعرف شيئًا سواه.

وما أتى المساء حتى وفد إلى الكوخ كاهن الجزيرة، وهو رجلٌ من أولئك الدهاة الماكرين الذين تستعين بهم الحكومات الاستعمارية على غزو القلوب الضعيفة وحيازتها بلا سفك دمٍ، ولا إنفاق مالٍ، والذين يكونون دائمًا في حاشية حكام المستعمرات ليعينوهم على ما هم آخذون بسبيله من الفتح والغزو، وكان هذا الكاهن يختلف إلى هذه الأسرة من حينٍ إلى حين ليرشدها ويباركها، فلما رأوه قادمًا إليهم ظنوا أنه إنما جاء لزيارتهم كعادته التي اعتادها، فأحسنوا استقباله وتحيته. ورأت هيلين أن تكاشفه بذلك الأمر الذي كان يشغلها، فكاشفته به، فلم يلبث أن قضى فيه قضاءً مبرمًا، وأعلن أن الله يأمر هيلين بالبقاء في الجزيرة ويأمر فرجيني بالسفر إلى فرنسا، وأنهما إن لم تفعلا فقد خالفتا إرادة الله وباءتا بسخطه وغضبه. فذعرت فرجيني ذعرًا شديدًا، ولم تجد بدًّا من الخضوع والإذعان، فانصرف الكاهن عائدًا إلى قصر الحاكم ليرفع إليه ما تم من الأمر على يده.

وما أصبح الصباح حتى علم سكان الجزيرة أن تلك الأسرة الفقيرة الخاملة التي تسكن ذلك الوادي المقفر الموحش قد أمطرتها السماء فضةً وذهبًا، فوفد إليه الوافدون من كل مكانٍ ما بين مستمنحٍ يطلب حاجةً، ومستعينٍ يطلب معونة، وتاجرٍ يعرض سلعة، فأعطت السائل، وأعانت المسترفد، وابتاعت من الأنسجة والشفوف وصنوف الديباج والخز وأنواع الأثاث والرياش ما يزيد عن حاجتها، وما يضيق به كوخها، وخلع جميع أفرادها أسمالهم القديمة البالية وقمصهم البنغالية الخشنة، وارتدوا ملابس جديدةً بديعة الشكل والهندام، ولبست فرجيني ثوبًا حريريًّا أزرق مطرزًا بالقصب، واعتصبت بعصابةٍ وردية زاهية، ولصق ثوبها بجسمها فمثله تمثيلًا بديعًا، ووصفه وصفًا دقيقًا، وبول يرى كل هذا ولا يفهم منه شيئًا؛ لأن أحدًا منهم لم يجرؤ أن يكاشفه بالأمر إلا أن يظن ظنًّا، فعظم حزنه واكتئابه، وساورته الوساوس والهموم، فرحمته أمه مما به، وكانت تمسك في نفسها شيئًا من العتب على صديقتها هيلين في رضاها بسفر ابنتها، وتضحيتها بابنها في سبيلها، فدعته إليها وخلت به وقالت له: لِمَ تعلل نفسك يا بني بالآمال الكاذبة، والأماني الضائعة، ولِم تتطلع إلى ما تقصر عنه يدك ويضيق به ذرعك؟ ولقد آن أن أكشف لك حقيقة أمرك الذي كتمته عنك زمنًا طويلًا لتعلم من أنت؟ ولتقدِّر آمالك على مقدار حقيقتك، لا على مقدار تصورك، فاعلم أن أمك امرأةٌ فلاحةٌ وضيعةٌ لا حسب لها ولا نسب، وأن قدرًا من الأقدار الجارية بين الناس قد نزل بها في صباها فحاد بها عن طريق الشرف والاستقامة، فحملت بك من سِفَاح، أي إنك لا أب لك يعرفه الناس ولا لقب لك غير لقب أمك، فلا تقِس نفسك بفرجيني، فهي فتاةٌ شريفةٌ نبيلة من أسرةٍ كريمة مشهورة، ولها عمةٌ مثرية كانت قد أغفلت أمرها حقبةً من الزمان لأمرٍ ما ثم ذكرتها اليوم فأرسلت في طلبها لتعيش معها في باريس متمتعةً بثروتها الطائلة، حتى إذا ذهبت لسبيلها ورثت عنها هذه الثروة من بعدها، فلا تطمع في أن تتصل بها يومًا من الأيام إلا أن تكون فلتةً من فلتات الدهر، أو أعجوبة من أعاجيب الأيام، وأرِح نفسك من هموم الأماني ومتاعبها، والله أولى بك وبي من كل مخلوقٍ.

واعلم يا بني أنني لم أقترف هذا الجرم الذي ذكرته لك وأنا أعلم أني آثمة أو مذنبة، ولكنه قضاء الله قد جرى بما لا حيلة لي ولا لأحد من الناس في أمره، فاغفر لي خطيئتي إن كنت ترى أنني مخطئة أو أنني الجالبة لك هذا الشقاء الذي تكابده في حياتك.

ثم أسلمت رأسها إلى ركبتيها وبكت بكاءً طويلًا.

فحنا عليها بول وطوق عنقها بيديه وقال لها: لا تبكِ يا أماه، فما أنتِ بائسةٌ ولا شقية ما دمتُ معكِ، أما هفوتك التي تتحدثين عنها فما أحسب إلا أن الله قد غفر لك؛ لأنك قد كفرت عنها بدموعك وآلامك وشقائك الذي كابدته زمنًا طويلًا، وكوني على ثقةٍ من أنك أَجَلُّ في عيني وأكبر في نفسي من أن أعد عليك أمثال هذه الهفوات والعثرات، وأنني لا يعنيني أكان أبي معلومًا أم مجهولًا، شريفًا أم وضيعًا؛ لأنني ما فكرت يومًا من الأيام أن أفخر به أو أعتمد في حياتي عليه، أما تلك التي حدثتني عنها فسأحمل نفسي على نسيانها وسلوتها، وأرجو أن يعينني الله على ذلك، ولقد شعرت قبل اليوم بانقباضها عني وتجهمها لي، ولا بد أن تكون قد وقفت من بضعة أشهرٍ على هذا السر الذي أطلعتِني عليه اليوم فازدرتني واحتقرتني، ونفضت يدها مني إلى الأبد، والأمر لله وحده.

ثم نهض قائمًا وقد ظن أنه قد شفي مما به، فتنفس نفس الراحة ومضى لسبيله.

غير أنه لم يبعد إلا قليلًا حتى شعر بوخزةٍ في قلبه، فلم يهتم بها، ثم تتابعت الوخزات، فخيل إليه أن قلبه يرفرف بين أضلاعه رفرفة الطائر بأجنحته، وأنه يحاول أن ينبعث من مكانه ويطير في أجواز الفضاء، فصرخ صرخةً عظيمة وظل يهتف: آه يا فرجيني! آه يا فرجيني! حتى وصل إلى صخرةٍ عالية على شاطئ البحر فتهافت عليها، وأسلم رأسه إلى ركبتيه، وذهبت به نفسه مذاهب لا يعلمها إلا الله.

وظل على ذلك ساعةً حتى انحدر قرص الشمس إلى مغربه وبدأ كوكب الليل يخطر في جو السماء محفوفًا بحاشيةٍ من سحبه وغيومه، فلا يكاد يلمحه اللامح من خلالها إلا كما يلمح وجه الحسناء من وراء خمارها، ثم أخذ يرسل أشعته الباهتة الخضراء على ما تحته من صخورٍ وهضاب، ورمالٍ وتلال، فأضاءتها وأضاءت فيما أضاءته ذلك الشبح الضئيل الجاثم على تلك الصخرة المنفردة.

وإنه لكذلك إذ شعر بيدٍ قد وضعت على عاتقه وبأحرى ترفع رأسه، فانتبه فإذا فرجيني واقفة أمامه ودموعها تترقرق في عينيها، فذُعر إذ رآها وظل ينظر إليها نظرًا حائرًا مضطربًا، فقالت له: ما بقاؤك هنا وحدك في هذا المكان يا بول؟! فقال لها: لقد حدثوني عنك أنك مسافرةٌ بعد يومين أو ثلاثة، وأنك ذاهبة لتفتشي لك عن أخٍ آخر غيري يصلح لك وتصلحين له؛ لأنكِ عرفتِ أنكِ فتاةٌ شريفة سريةٌ لا يجمل بك أن تتصلي بفتًى وضيعٍ مسكينٍ مثلي، فأحزنني ذلك حزنًا عظيمًا، وكنت أظن أنني أستطيع أن أحمل نفسي على الصبر عنك واليأس منك، فعجزت، فلم أرَ بدًّا من أن أروِّح عن نفسي ببضع قطراتٍ من الدمع أذرفها في هذا المكان الخالي.

ثم أشار إليها أن تجلس بجانبه، وأقبل عليها، وظل يقول لها: إلى أين تريدين أن تذهبي يا فرجيني؟ وأي أرضٍ تلك الأرض التي اخترتِها وآثرتِها على أرضك التي نشأتِ فيها، وألفتِ ماءها وهواءها، وظلالها وأفياءها، وخضراءها وغبراءها؟ وأي قلبٍ ذلك القلب الذي رأيت أنه يحمل لك في سويدائه من الحب والعطف أكثر مما يحمل لك قلب أمك فاستبدلته به وسكنت إليه من دونه؟

لمن تتركين تلك المرأة المسكينة وأنت أنس وحشتها، وسمير وحدتها، وعماد حياتها، وكل أملها ورجائها في هذا العالم؟

كيف تستطيع أن تهنأ بنومها حينما تمد يدها في ظلام الليل وسكونه إلى مضجعك فلا تراك بجانبها؟ وكيف تستقبل وجه النهار إذا فتحت عينيها في الصباح فلا تقعان على وجهك المشرق الجميل؟ أو تجد لذة الطعام والشراب إذا جلست إلى المائدة فلا تراكِ بين الجالسين إليها؟ أو تصغى إلى أصوات الطبيعة المترنمة وصوتك لا يجلجل بينها، ولا تنبعث رنته بين رناتها؟

وكيف لي بتعزيتها وتعزية أمي عن همومهما وأحزانهما إذا دخلت إليهما فرأيتهما باكيتين منتحبتين تسألان عنك الليل والنهار، والأصائل والأسحار، والظباء السانحة، والطيور البارحة، فلا تسمعان ملبيًا ولا مجيبًا، ولا تقبلان عزاءً ولا سلوى؟

وصمت هنيهةً ثم قال وعيناه مخضلتان بالدموع: وما أصنع أنا من بعدك أيتها الغادرة القاسية إذا ظللت أفتش عنك في كوخك ومخدعك، وتحت ظلال الأشجار، وعلى ضفاف الأنهار، وفي جميع الأماكن التي أعلم أنك تأوين إليها، لأجلس إليك ساعةً أتمتع فيها بلذة حديثك، وحلاوة سمرك، فلا أراك في واحد منها؟ ومن لي بمن يستقبلني حينما أعود من المزرعة تعبًا لاغبًا فيبتسم لي تلك الابتسامة العذبة الجميلة التي تذهب بجميع أوجاعي وآلامي؟ ومن ذا الذي يصحبني في هدوء الليل وسكونه إلى شاطئ البحر وقد بسط القمر أشعته على أمواجه المنبسطة، وصبغها بلونه الفضي الجميل، فيجلس بجانبي على رملةٍ من رماله الميثاء فيسمعني تلك الأناشيد الساحرة الخالبة التي تستغرق شعوري ووجداني، وتملك علي مداركي وعواطفي، ويُخيَّل إلي حين أسمعها أنها هابطة من الملأ الأعلى، وأنها نغمات الحور الحسان في فراديس الجنان؟

إنني لا أستطيع أن أعيش من بعدك يا فرجيني، ولا أستطيع أن أسألك أن تستصحبيني معك في سفرك، فأنتِ أجلُّ من ذلك شأنًا وأعظم خطرًا، ولقد أَفْضَتْ إلي أمي اليوم بسر حياتك وسر حياتي، فعلمت أنك فتاةٌ شريفةٌ جدًّا، وأنني فتًى وضيعٌ جدًّا، لا أصلح أن أكون أخًا لك، بل لا أصلح أن أكون عشيرك وجليسك، وإنما أسألك أن تأذني لي بركوب السفينة التي تركبينها لأكون ملاحًا من ملاحيها، أو خادمًا من خدمها، فأراك على البعد، فأجد في رؤيتك راحتي وسلوتي، وأعدك وعدًا صادقًا لا أغدر فيه ولا أحنث أنني لا أجالسك ولا أدنو منك، ولا أتصل بك بوجهٍ من الوجوه إلا إذا عرض لك خطرٌ من الأخطار، فإنني أبذل لك في تلك الساعة جميع ما تملك يدي، وما تملك يدي غير حياتي، فأبذلها لك طيب النفس عنها.

ما الذي طرأ عليك يا فرجيني؟ وما الذي نال من نفسك هذا المنال كله حتى استحالت حالتك إلى حالة أخرى أكاد أنكرها ولا أعرفها؟

كنتِ تخافين البحر أشد الخوف، وتجزعين لرؤية عواصفه وأنوائه جزع الأطفال الصغار، وتعجبين كل العجب للذين يخاطرون بأنفسهم في ركوبه، فإذا أنت مزمعةٌ أن تعبريه، وأن تلبثي بين أمواجه الثائرة تسعين يومًا كاملة.

كنتِ تتألمين أشد الألم لفراق أمك يومًا واحدًا، فها أنت تريدين أن تفارقيها طويلًا لا يعلم مداه إلا الله تعالى، ومالك حيث تذهبين من الأرض أمٌّ سواها.

كنتِ تقولين لي: إنني لا أجد لذة الحياة بعيدةً عنكَ، فها أنت تجدينها بعيدةً عني جدًّا بين أقوام لا تعرفينهم، ولا تَمُتِّين إليهم بصلةٍ من الصلات، أو سبب من الأسباب.

لقد شعرت بهذا الطارئ الجديد الذي طرأ على نفسك مذ رأيتك تلبسين هذا الثوب الضيق اللاصق بجسمك، وعهدي بك أنك تضيقين ذرعًا بالريح العاصفة إذا مدت يدها إليك وحاولت أن تعبث بذيل ردائك، أو تدور بقميصك حول جسمك، ولا أدري ماذا يكون شأنك غدًا إذا فارقت هذه القفرة الموحشة إلى ذلك العالم المزدحم الهائل الذي يتدفق حريةً واستهتارًا، ويسيل نعمةً ورغدًا؟

نعم إنك قد مللتِني يا فرجيني، ومللتِ الحياة بجانبي، وأصبحتِ تشعرين بالحاجة إلى المال الذي لا أستطيع تقديمه لكِ، وإلى العيش الرغد الذي تقصر يدي عنه، فلا ألومك ولا أعتب عليكِ، ولكنني أسألك هل أنتِ على ثقةٍ من أن المال هو السبيل الوحيد إلى السعادة التي تنشدينها؟ وإنك تكونين في ذلك الفناء الواسع أسعد منك في هذه الزاوية الضيقة؟ إنني أخاف أن تكوني مخطئةً فيما تظنين.

إنني لا آسَى على نفسي يا فرجيني، فقد عرفتُ من أنا وعرفت من أنتِ، وأصبحت لا أَمَلَ لي في أن أعيش في دائرةٍ أوسع من الدائرة التي خُلِقْت لها، ولكنني أضن بك على الدهر وأرزائه أن يمتد إليك ظفرٌ من أظفاره الجارحة فأهلك على أثرك همًّا وكمدًا، فإما أن تعدلي عن السفر، أو تأذني لي بالسفر معك، فإنني لا أستطيع أن أحول بين قلبي وبين القلق عليك ما دمت غائبةً عني، فإن أبيتهما فودعيني منذ الساعة الوداع الأخير، فلا أمل لي في الحياة من بعدك!

فلم تستقبله إلا بدموعها تتحدَّر على خديها تَحَدُّرَ حبات العقد وهي سِلْكُه فانتَثَر، وأنشأت تقول له: إنني إنما أسافر من أجلك يا بول لا من أجل نفسي؛ لأنني أصبحت أشفق عليك الإشفاق كله من هذا الشقاء الذي تكابده في سبيلي وسبيل هذه الأسرة المسكينة، وطالما بكيتك بيني وبين نفسي كلما رأيتك صاعدًا شرفًا، أو عابرًا نهرًا، أو سالكًا وعرًا، أو حاملًا ثقلًا، حذرًا عليك أن تزل بك قدمك في هوةٍ من الهوى فتهلك فأهلك على أثرك، فأنا إن فارقتك فإنما أفارقك بجسمي لا بنفسي لأعود إليك بعد قليلٍ من الأيام بالراحة الطويلة من الآم هذه الحياة ومتاعبها، ولنستطيع أن نتمتع غدًا في هذا المعتزل الساكن الجميل متعةً لا يكدرها علينا مكدر حتى الموت.

ورجائي إليك، ألا تعود مرةً أخرى إلى ذلك الحديث المزعج الذي حدثتنيه الساعة، فإنما نحن توءمٌ، نشأنا معًا، ودرجنا معًا، وشربنا الحياة من كأسٍ واحدة، وسلكنا سبيلها من طريق واحدة، هذا هو نَسَبُنَا، وهذا هو حَسَبُنَا، لا نعرف غيره، ولا نفهم شيئًا سواه، وإني قائلةٌ لك كلمةً ما كان يمنعني من أن أقولها لك قبل اليوم إلا الخجل والحياء: لو أن الدنيا عرضت علي بحذافيرها على أن أبتاعها بشوكةٍ تشاكها ولحظةٍ تتألم فيها، لأبيتها غير آسفةٍ ولا نادمة.

على أنني لا ذنب لي فيما كان، فقد أمرتني أمي بالسفر ولا أستطيع أن أخالف لها أمرًا، وأبلغني الكاهن أن تلك إرادة الله ومشيئته، ولا قِبَل لي بالخروج عن إرادته، وبعد فهأنذا بين يديك فمر في بما تشاء من أمرك أطِعْك وأذعن إليك غير مباليةٍ بشيءٍ بعدك، فكل ما في الحياة هينٌ علي إلا أن أراك جازعًا أو متألمًا.

فصاح بول صيحة الفرح والسرور وقال: سافري يا فرجيني، وسأسافر معك لأقيك بنفسي عاديات الدهر وطوارق الحدثان، فإن حيينا حيينا معًا، وإن هلكنا هلكنا معًا، ثم دنا منها وضمها إلى صدره فشعر بالراحة التي يشعر بها الملقي عصاه بعد سفرٍ طويل.

وكنا نفتش عنهما في تلك الساعة أنا وهيلين ومرغريت ولا نعرف لهما مكانًا، حتى سمعنا صيحة بول حين صاح فقصدنا إليه، فما وقع نظره علينا حتى انتفض من مكانه ومشى إلينا، ثم التفت إلى هيلين وألقى عليها نظرةً ما ألقى عليها مثلها قبل اليوم، وقال لها بنغمة الهازئ الساخر: نِعْمَتِ الأم أنت يا سيدتي، ونعم ما تسدينه إلى ولديك الكريمين عليك من نعمةٍ سابغة ويد بيضاء، إذ تريدين أن تفرقي بينهما، وتمزقي شمل حياتيهما، وتعذبي قلبيهما الناشئين الضعيفين بصنوف العذاب وألوان الآلام، وأنت تعلمين أنهما متحابان متآلفان، لا يستطيع أحدهما أن يصبر عن صاحبه لحظةً واحدةً، وأن افتراقهما هو القضاء عليهما معًا.

لقد كنت يا سيدتي أزهد الناس في المال، وأشدهم نقمةً عليه، وزراية وزهدًا فيه، فما الذي بدا لك في شأنه حتى أصبحت تخاطرين بولديك العزيزين عليك في سبيله؟ بل تخاطرين بكرامتك وعزة نفسك؟ لأنك تريدين أن ترسلي ابنتك إلى تلك الأرض التي أهانتك واحتقرتك، وأبت أن تسمح لك بالبقاء فيها، والعيش تحت سمائها، عقابًا لك على هفوةٍ صغيرةٍ ما كان مثلها جديرًا بمثل هذا العقاب المؤلم الشديد.

نعم إنها ابنتك وأنت صاحبة الشأن فيها، ما ينازعك في ذلك منازعٌ، ولكنني أنا أيضًا أخوها وصديقها وعشيرها، فصلتي بها عظيمةٌ جدًّا لا تفترق عن صلتك إلا قليلًا، ولئن فَرَّق بيني وبينها النسب فلقد جمعنا الحب والإخاء، والود والوفاء، والولادة في مهدٍ واحدٍ، والرضاع من ثديٍ واحد، وبكائي عليها إن مسها ألمٌ، وبكاؤها علي إن نالني وصبٌ، ومخاطرة كل منا بنفسه في سبيل صاحبه حتى يستنقذ حياته من يدي أجله أو يهلك دون ذلك، واشتركنا معًا في الخير والشر، والنعيم والبؤس، والجوع والشبع، والري والظمأ، وخوض الأنهار، واجتياز القفار، وتسلق الجبال، ومقاساة الأهوال، فكيف لي بالصبر على فراقها أو لها بالصبر على فراقي؟

أبعديها عني ما شئتِ، ولكنني سأتبعها وأتَرَسَّم آثارها حيثما حلت من الأرض، فإن أبيتم إلا أن تقفوا في وجهي وتحولوا بيني وبين ركوب السفينة التي تحملها؛ خضت البحر وراءها خوضًا، لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، فإن قدرت لي النجاة فذاك، أو لا، فحسبي منها أنها تلقي علي في الساعة الأخيرة من ساعات حياتي نظرةً من نظراتها، وأن تذرف في سبيلي دمعة من مدامعها، فيكون شخصها آخر ما أرى من الأشياء، وصوتها آخر ما أسمع من الأصوات.

فاستعبرت هيلين وقالت: وماذا يكون حالنا من بعدك يا بول؟

قال: هل تظنون أنني أبقى من بعدها إنسانًا تستطيعون أن تنتفعوا بي في شأنٍ من شئونكم؟ أو أن يبقى لي من الفهم والإدراك ما يعينني على مأربٍ من مآرب هذه الحياة؟ إنها فكري وعقلي، وتصوري وإدراكي، وقوتي وعزيمتي، وحياتي من مبدئها إلى منتهاها، فإن أردتم أن تفقدوني إلى الأبد فأبعدوها عني، وودعوني الوداع الأخير قبل أن تودعوها.

ثم اختنق صوته بالبكاء وحاول أن يذرف دمعةً واحدةً يروِّح بها عن نفسه فلم يستطع، فارتعد جسمه، واستحال لونه، وشاعت نظراته، ولمعت عيناه، ولبس وجهه أغرب صورةٍ لبسها في حياته، وظل يهذي ويقول: أيتها المرأة القاسية! لا متعك الله برؤية ابنتك بعد اليوم، ولا أعادها البحر إليك إلا جثةً باردةً طافيةً على أمواجه، ولا وقعت عيناك عليها إلا محمولةً على الأيدي إلى مقرها الأخير، ولتكن ذكراها مبعث ألمٍ دائمٍ لك لا يفارقك حتى الموت.

ثم دار على نفسه دورةً سريعة وسقط مغشيًّا عليه، فبكت هيلين ومرغريت، وبكيت أنا أيضًا على جفاف دمعتي ونضوب مادة حياتي؛ لأنني أصبحت والدًا لهذا الولد المسكين، وأي والدٍ لا يستطيع أن يملك نفسه ومدامعه أمام دموع ولده المنهلة بين يديه، وظللت أقول في نفسي: ويلٌ لك أيتها القارة المشؤمة، لا خلاص منك ولا نجاة من يدك أبد الدهر، فقد فرت منك تلك الأسرة المسكينة، ولجأت إلى أقصى مكانٍ يمكن أن تناله يدٌ في العالم، فما زلتِ بها ترسلين وراءها عقاربك واحدة بعد أخرى حتى أزعجتها من مستقرها، واستطعت بحفنةٍ واحدةٍ من الدنانير أن تفسدي عليها حياتها وتبددي ما اجتمع من أمرها، وأن تعيديها إلى حبائلك المنصوبة التي ظنت أنها قد أفلتت منها أبد الدهر، فوا شقاءك ووا شقاء العالم بك!

وهنا تقدمت نحوه فرجيني تمشي بخطواتٍ خفيفة مختلسة حتى جلست إلى جانبه، وقد تلألأ وجهها بنورٍ سماويٍّ غريب، لا يشبه نور القمر، ولا نور الشمس، ولا نور أي كوكبٍ من كواكب الأرض والسماء، بل هو مبعث ذاته، ومنبع نفسه وأكبت على أذنه تقول له: سواء بقيت هنا يا بول أو رحلت فإني أقسم لك بدموعي ودموعك، وآلامي وآلامك، وبما قُدِّر لنا أن نلقاه في حياتنا من شقاءٍ ولوعة أنني أكون لك ما حييت، ولا أكون لأحدٍ غيرك، أقسم لك على ذلك بين يدي أمي وأمك، وبين يدي هذا الشيخ الصالح الجليل، فهم شهودي على ما أقول، والله من ورائهم محيط.

فكأنما صبَّت على جسمه سَجْلا من الزلال البارد، فانتفض ورَأْرَأَ بمقلتيه واستوى جالسًا، وظل يدور بنظره حوله ثم أسلبت عيناه الدموع في هدوء وسكون، فاحتضنته أمه إلى صدرها، وبكت حتى امتزجت دموعه بدموعها، فهمست هيلين في أذني: إن الموقف مؤلمٌ جدًّا، ولا صبر لي على مشاهدته، فتقدمت نحو بول وجذبت يده، وقلت له: هيا بنا يا ولدي إلى المنزل، وقد انتصف الليل، فمشى معي صامتًا لا يقول شيئًا ولا يلوي على شيءٍ مما وراءه، حتى بلغنا مفترق الطريقين: طريقي إلى كوخي، وطريقه إلى كوخه، فقلت له: هل لك أن تترك أهلك الليلة يستريحون من آلامهم ومتاعبهم، وتذهب معي إلى كوخي لتبيت عندي ثم تعود في الصباح؟ وكن على ثقةٍ أن فرجيني لا تسافر بعد اليوم، فقد عزمت غدًا أن أكلم الحاكم في أمرها، والحاكم لا يرد لي رجاءٍ، وما أحسب إلا أن الأمر سينتهي على ما تحب وترضى. فأسلم لي يده، فَقُدْتَه كما تقاد السائمة البلهاء حتى وصلنا إلى المنزل. فقضى ليلته قلقًا مروعًا لا يذوق النوم إلا لمامًا حتى أصبح الصباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤