الفصل التاسع عشر

أوروبا

مرت ثلاثة أعوامٍ ولم يرد على هيلين كتابٌ من ابنتها ولا من عمتها؛ فقلقت لذلك أشد القلق؛ لأنها لم تعرف عن ابنتها شيئًا منذ سافرت حتى اليوم سوى ما كانت تسمعه من حينٍ إلى حين من أفواه بعض الطارئين على الجزيرة، أنها وصلت سالمةً إلى بيت عمتها، وأنها تعيش في ذلك البيت عيشًا سعيدًا يحسدها عليه الحاسدون، ثم ورد عليها منها بعد حينٍ ذلك الخطاب، ولا أزال أحفظ صورته حتى اليوم:

والدتي

كتبت إليك قبل اليوم كتُبًا كثيرة، ثم علمت من عهدٍ قريبٍ أنها لم تصلك، فأرسلت إليك هذا الكتاب من طريقٍ آخر غير الطريق الذي كنت أرسل إليك منه.

لا أحدثك كثيرًا عن سفري وأدوار، سوى أن أقول لك إن فراقك كان له تأثيرٌ على نفسي عظيمٌ ما كنت أُقَدِّرُه من قبل، فقد بكيت كثيرًا، وتألمت كثيرًا، حتى رحمني من كان معي، وكان يُخيل إلي والسفينة تمخر بي في عباب البحر؛ أنني إنما أفارقك فراقًا لا رجعة لي منه أبد الدهر، ولقد شعرت بوحشةٍ عظيمة في الساعة التي دخلت قصر عمتي، فقد خيل إلي أنه على جماله ورونقه، وحسن نظامه، وبديع هَنْدَمِهِ، وكثرة الذاهبين والآتين في أبهائه وحجراته، مقبرةٌ موحشة لا نأمة فيها ولا حركة.

ولقد سألتني عمتي حين وقفت بين يديها بصوتٍ خشنٍ جاف لا تجول في أديمه قطرةٌ واحدة من الرحمة: ماذا عَلِمْتُ في صغري؟ فلما عرفت أنني لم أتعلم شيئًا حتى القراءة والكتابة قالت: إنك لا تزيدين في شأنك على شأن هؤلاء الخدم الوقوف بين يدي، ولم تنشِئي منشأً خيرًا من منشئهم. ثم أمرت بإرسالي إلى دير في ضواحي باريس أتعلم فيه أنواع العلوم، فعلموني القراءة والكتابة؛ فسرني منهما أني أستطيع مراسلتك وقراءة رسائلك، ثم أخذوا يعلمونني التاريخ وتقويم البلدان والحساب والهندسة والرسم والعلوم الدينية وبعض الألعاب الرياضية، فلم أحفل بشيء من هذا كله؛ لأني شعرت ببغضه والنفور منه، واعتقدت أن لا فائدة لي فيه، فوصفني أساتذتي ورفيقاتي بالبلادة وعسر الفهم، فلم أُبَلْ بذلك؛ لأني ما دخلت الدير لأرضيهم، ولا لأنال الحظوة في عيونهم، على أن عمتي تُعْنَى بي عناية كبرى، وتبذل في سبيل راحتي ورفاهيتي وتيسير جميع مرافقي وحاجاتي مالًا كثيرًا.

وقد خَصَّصَت لخدمتي فتاتين متأنقتين من وصائفها لا عمل لهما نهارهما وليلهما إلا القيام على زينتهما وحليتهما، وقضاء ما يتبقى من أوقات فراغهما في أحاديث تافهةٍ مرذولةٍ لا لب لها ولا ثمرة، كأنما تمثلان على مسرح، أو تلعبان في ملعب، ويُخيل إلي أن عمتي قد أوعزت إليهما ألا تدعواني بلقبي الذي أحبه وأوثره، فهما تسميانني دائمًا «الكونتة فرجيني» بدلًا من «فرجيني دي لاتور»؛ أي إنها تأبى علي أن أحمل اسم والدي الذي أحبه وأعطف عليه وأفخر به كل الفخر، ولا أستطيع أن أنسى ما كابده في حياته من شقاءٍ وألم في سبيلك وسبيل سعادتك؛ حتى سقط في مصرعه المحزن المؤلم في صحارى مدغشقر غريبًا وحيدًا لا يعطف عليه عاطفٌ، ولا يبكي عليه باكٍ، ويخيل إلي فوق ذلك أنها أمرتهما ألا تسمحا لي بالتحدث عنكِ، وعن حياتي الماضية معك، فإذا ذكرتك أو ذكرت شيئًا عن تلك الجزيرة التي قضيت فيها زهرة حياتي نظرتا إلي نظرات الهزء والسخرية، وقالتا لي: إنك باريسية يا سيدتي فلا يجمل بكِ أن تتحدثي أمثال هذه الأحاديث عن تلك الأصقاع المتوحشة.

وأغرب من هذا أنها على جودها وسخائها وبسطة يدها وإحاطتها إياي بجميع صنوف الرعاية والإكرام لا تسمح ببقاء درهم واحد في يدي، كأنها تخشى أن أبعث إليك بشيء من المال، ولا أدري ماذا يعنيها من ذلك، على أنني أعترف لها بأنها قد صدقت في فِرَاسَتِها، فإنني ما كنت أتأخر عن أن أبعث إليك بجميع ما يصل إلى يدي — لو وصل إلى يدي شيء — ولكن ماذا أصنع وأنا فقيرةٌ معوزةٌ لا أملك شيئًا، بل أنا الآن أفقر مني في كل عهدٍ مضى؛ لأنني عاجزةٌ عن أن أمد يدي بالمعونة إلى من تهمني معونته، ولقد سألتها مرة لِمَ لا ترسل إليك شيئًا من المال تستعينين به على عيشك في تلك البلاد المقفرة، فكان جوابها: إن الحياة في تلك البلاد لا تحتاج إلى كثيرٍ من المال، وإن المال يفسدها ويربكها، ويحولها من حياة بسيطة هادئة إلى حياةٍ مركبةٍ مزعجة، مملوءةٍ بالمتاعب والشواغل، فلم أستطع أن أفهم شيئًا مما تقول، ولكنني فهمت أنها لا تكترث بكِ، ولا تحفل بشأنكِ.

وما كنت أريد أن أقص عليك شيئًا من هذا لولا أنك أوصيتني أن أصدقك الحديث عن كل ما أراه وأشعر به من خير أو شر، فليتك تحضرين إلي يا والدتي لتعيشي بجانبي وتحملي عني بعض ما أكابده من الوحشة والكآبة في هذه البلاد، فإن حياتي — على رغدها ورخائها وتوفر أسباب النعمة فيها — شقية جدًّا، لا أجد فيها أنسًا ولا اغتباطًا، فلا الرياض الزاهرة، ولا القصور الشامخة، ولا الأثواب الجميلة، ولا الجواهر الثمينة، ولا المراكب الفارهة، بقادرةٍ على أن تذهب بشيءٍ من وحشتي وضجري؛ لأنني لا أجد حولي تلك القلوب الطيبة الرحيمة التي ألفتها وأحببتها، وامتزح شعوري بشعورها، فأنا أعيش من بعدها في ظلمةٍ حالكة لا يلمع فيها نجم ولا يضيء كوكب، ولولا أني أعلم أن بقائي هنا إنما هو تنفيذٌ لإرادتك، ونزولٌ على حكمك لَمَا أطقت البقاء ساعةً واحدة.

ولقد كنت أجهل في مبدأ أمري أخلاق سكان هذه البلاد وطبائع نفوسهم، وأعتقد أن ظواهرهم مرآة بواطنهم، وأن الله قد منحهم من الفضائل النفسية بمقدار ما منحهم من جمال الصور ونضرة الأجسام، حتى تكشَّف لي أمرهم، فرأيت أني أعيش بين قوم ممثلين، لا علاقة بين قلوبهم وألسنتهم، ولا صلة بين خواطر نفوسهم، وحركات أجسامهم، فهم يكذبون ليلهم ونهارهم، في جميع أقوالهم وأفعالهم، لا يرون في ذلك بأسًا، كأن الكذب هو الأساس الأول لحياتهم الاجتماعية، وكأن الصدق عَرَضٌ من أعراضها الطارئة عليها، وكأن لهم نظامًا خاصًّا بهم يختلف عن نظام البشر جميعًا في كل مكانٍ وزمان.

ولقد لبثت زمانًا طويلًا أكتب إليك الكتاب بعد الكتاب ثم أنتظر رده فلا يرد إلي شيءٌ؛ وكنت أعجب لذلك كل العجب، وأذهب في تأويله مذاهب مختلفة، حتى علمت منذ أيامٍ قلائل أن الوصيفة التي كنت أعتمد عليها في حمل كتبي إلى البريد كانت تحملها إلى عمتي فتقرؤها وتمزقها، فأحزنني ذلك حزنًا عظيمًا، ثم أفضيت بالأمر إلى صديقةٍ لي من طالبات المدرسة كنت أثق بها كثيرًا؛ فأخذت على نفسها أن تتولى إرسال ما أريده من الكتب إليك، وها هو ذا عنوانها مرسلًا مع هذا فابعثي إلي برسائلك من طريقها.

وبعد فليس في هذه الحياة التي أحياها هنا ما يروقني ويعجبني، فإنني لا أزال حتى الساعة أعيش في قفرةٍ موحشة لا يؤنسني فيها غير أولئك الوصيفات السخيفات اللواتي لا أطيق رؤيتهن، ولا سماع أحاديثهن، وغير شيخ هرم من أصدقاء عمتي يزعم أنه يحبني ويعطف علي، وأحسب أنه كاذبٌ فيما يقول؛ لأني لا أشعر بحبه ولا العطف عليه، فأنا أقضي جميع أوقاتي مكبة على مِنْسَجي، أُرَوِّح عن نفسي بالنسج والتطريز، وستجدين في الحقيبة المرسلة إليك مجموعةً من الجوارب والمناديل والعصائب والأخمرة هي قسمة بينك وبين أمي مرغريت، وقلنسوةً لدومينج، وثوبًا لماري، وكنت أود أن أرسل إليها كثيرًا من أثوابي الخليعة لولا أن الوصائف هنا لا يسمحن لي بذلك؛ لأنهن يتقاسمن ملابسي ويقررن مصيرها قبل أن أخلعها.

تحيتي إلي أمي مرغريت، ووالدي دومينج، ومربيتي ماري، وأستاذي الشيخ الجليل، وكلبي الأمين «فيديل»، وإلى جميع شويهاتي وأعنزي، وطيوري وعصافيري، واعلمي يا والدتي أنني في أشد الحاجة إلى بقائي بجانبك، وإلى الرجوع إلى تلك الحياة الطيبة السعيدة التي فقدتها ولا أزال أبكي عليها، وأنني أعيش هنا كما تعيش النبتة الغريبة في أرضٍ غير أرضها، ومناخ غير مناخها، فهي صائرةٌ إلى الذبول والاضمحلال، وأرجو أن أراكم جميعًا عندي قريبا أو أراني عندكم والسلام.

فرجيني دي لاتور
وكانوا جميعًا يصغون إلى الكتاب عند تلاوته ويذرفون الدموع مرارًا حتى فرغت هيلين من قراءته؛ فعجب بول أنها لم تذكر اسمه في كتابها، ولم ترسل إليه تحيتها، كما أرسلتها لكل من في الجزيرة حتى لطيورها وعصافيرها، ولم يعلم أن الفتاة تؤجل دائمًا الحديث عن أهم الأشياء لديها وأجلِّها شأنًا عندها إلى آخر كتابها، فقد لمحت هيلين بعد ذلك حاشيةً منفردة في زاوية الكتاب فقرأتها فإذا هي تقول:

بلغي أخي بول تحيتي وشوقي، وقولي له: إنني قد أرسلت باسمه حقيبةً صغيرة، تشتمل على بضعة أنواع من البذور الأوروبية التي يغرسونها هنا ويحتفلون بها احتفالًا كثيرًا معنونة بأسمائها، فإنني أرغب إليه أن يُعنى عنايةً خاصة بزهرة البنفسج فيغرسها تحت نَخْلَتَي الجوز المسماتين باسمي واسمه، وأن يحبها كما أحببتها؛ لأنها على جمالها ورقتها حيية خجولة، لا تألف إلا المخابئ والمكامن، ولا تحب أن تقع عليها عيون تنم عليها أكثر مما تنم أية رائحة على زهرتها، وأوصيه أيضًا أن يغرس الزهرة السوداء التي يسمونها هنا «زهرة الحداد» في ظل الصخرة التي جلسنا عليها معًا «ليلة الوداع»، وقد سموها بهذا الاسم لأنها تشتمل على نقطة صفراء فاقعة تدور بها دائرة سوداء كما يدور الخمار الأسود بوجه الفتاة الحزينة في موقف الثُّكْل، وأن ينقش على تلك الصخرة كلمة «صخرة الوداع» ويحييها عني كما يحيي جميع الأمكنة والبقاع التي يعلم أني أحبها، وبلغيه أيضًا أني لا أزال أذكره وأنني لن أنسي أبدًا أياديه البيضاء التي أسداها إلي فيما مضى من أيام حياتي، وأنني دائمًا عند ظنه بي.

فاستُطير بول فرحًا وسرورًا، وتناول الكيس الصغير الذي أرسلته إليه فوجد على نسيجه الرقيق الأبيض الحرفين الأولين من اسمه واسمها مطرزين بالقصب على شكل زهرتين متعانقتين، فسُر بذلك سرورًا عظيمًا، وكان اغتباطه بالكيس أكثر من اغتباطه بما اشتمل عليه.

وقد كتبت هيلين إلى ابنتها كتابًا قالت لها فيه: إنها وجميع أفراد الأسرة قد أصبحوا بعد فرقتها في وحشةٍ مخيفة لا يهونها عليهم شيء من الأشياء، وإن الموت أهون عليهم من أن يعيشوا بعيدين عنها، منقطعين عن رؤيتها، وإنها لا ترى بأسًا من رجوعها إلى الجزيرة متى أرادت ذلك. وكتب إليها بول يشكر لها هديتها، ويقول لها: إنه قد أصبح الآن عالمًا من علماء الفلاحة، وإنه سيقوم بغرس تلك البذور في أماكنها المناسبة لها حسب القواعد التي يرسمها ذلك الفن، وإنها ستراها حين عودتها زاهرة نامية، تحييها بابتساماتها اللطيفة، وتنشر عليها ظلالها وأفياءها، ثم أخذ يبثها آلام نفسه ولواعجها التي قاساها من بعدها، ويشكو لها شكاةً لم تترك دمعة في محاجرها عندما قرأتها إلا استذرفتها.

ثم أخذ بعد ذلك يهيئ الأحواض لغرس تلك البذور ويعد لها عدتها من طلٍّ وماء، فأنفق في ذلك وقتًا طويلًا ثم غرسها، فلم تلبث إلا قليلًا حتى ذبلت وتضاءلت، إما لأنها ميتة لا حياه فيها، أو لأن التربة غير صالحة لنمائها، أو لأن الشرق شرق، والغرب غرب، فمحال أن يمتزجا ويختلطا ويشتركا في نظامٍ واحد وحياة واحدة، فتطير بذلك وتشاءم، وزاده حزنًا وألمًا ما أصبح يسمعه من أفواه بعض المهاجرين الطارئين على الجزيرة من الروايات الغريبة التي تفترق ما تفترق ثم تتفق على أن فرجيني موشكةٌ أن تتزوج، فلم يحفل بذلك في مبدأ الأمر، ثم حفل واهتم؛ لأن أخبار السوء لا يمكن أن تمر بدون أن تترك أثرها في النفس، بدأ يصدق ما يسمعه، لا لأنه يعتقد صدق القائلين؛ بل لأنه وقع في الخطأ الذي يقع فيه الناس دائمًا، وهو اعتقاد أن الدخان لا يمكن أن ينبعث من غير نار، وفاتهم أن تلك النار التي يتحدثون عنها قد تكون نار الحقد والبغض المشتعلة في الصدور، فيكون الدخان الذي ينبعث عنها إنما هو دخان المختلقات والمفتريات، وكان يقرأ فيما يقرأ من الروايات أحاديث الغدر والخيانة التي يرويها الراوون عن النساء فيقول في نفسه: ربما أفسد ذلك المجتمع الخبيث نَفْسَها، وحوَّل حياتها الطيبة الطاهرة إلى طريقٍ غير طريقها؛ فنسيت أقسامها وعهودها، وأيمانها المحرجة التي أقسمتها بين يدي ألا تستبدل بي أخًا سواي، والنفس الإنسانية كما يقول «روسو» مرآةٌ تتراءى فيه مختلفات الصور والألوان، والمرء كما يقول «موبسَّان» ابن البيئة التي يعيش فيها.

فكأن استنارة ذهنه وسعة دائرة معارفه واضطلاعه بشئون العالم وأحواله كان شقاء عليه وويلًا له، ولعله لو بقي فدْمًا جاهلًا كما كان، لا يجول نظره في أفق أوسع من الأفق الذي يعيش فيه، كان من أبعد الأشياء عن ذهنه أن يتصور أن فرجيني غادرةٌ خائنة.

وكان إذا حزبه الأمر، ولجَّت به الوساوس والهموم، فزع إلي وألقى بين يدي أثقاله وأعباءه، فأحدِّثه أحاديث كثيرةً عن الدهر وتقلباته، والأيام وصروفها، وما يتداوله الناس في دنياهم من نعيم وبؤس، وجدةٍ وفقر، وراحة وتعب، وصحة ومرض، ورجاءٍ يشرق في ليل اليأس حتى يحيله نهارًا ساطعًا، ويأس يغشِّي نهار الرجاء حتى يبدله ظلامًا قاتمًا، وخيرٍ لا يزال يطارد الشر حتى يطرده ويأخذ مكانه، وشرًّ لا يزال يغالب الخير حتى يغلُبَه ويفْلُج عليه، فيجد في أحاديثي هذه ملهاةً يتلهى بها حينًا عن شواغله وهمومه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤