الفصل الحادي والعشرون

الحديث

وحسبك الآن يا بني ما عرفت من شأني، فلَأَعُدْ بك إلى شأن ذلك الولد المسكين، فقد حدثتك عنه أنه كان يختلف إليَّ كثيرًا بعد سفر فرجيني ليطلب عندي عزاءه وسلواه وراحة نفسه من بلابلها ووساوسها.

فوفد إلي ذات يومٍ، وكنت جالسًا تحت شجرةٍ قصيرةٍ كانت قد غرستها فرجيني فيما غرست من الأشجار الكثيرة؛ التي كانت تحمل معها بذورها حيثما ذهبت وأينما حلت، قائلة لعل الله يمنحها النماء والنضرة فيهتدي بها ضالٌ، أو يفيء إليها حائر، أو يتعلل بها ظامئٌ، فجلس بجانبي وأطرق إطراقةً طويلة ثم رفع رأسه وقال: أنا حزين جدًّا يا والدي، ويخيل إلى أن فرجيني قد نسيتني وأن يدي قد أصبحت صفرًا منها إلى الأبد، فلقد مر على سفرها ثلاثة أعوامٍ لم ترسل إلي فيها إلا كتابًا واحدًا منذ ثمانية أشهرٍ، ثم انقطعت رسائلها بعد ذلك، ولا أعلم ماذا دهاها، وماذا دهاني عندها، ولقد حدثتني نفسي اليوم أن أسافر إلى فرنسا وأسعى إلى مقابلة ملكها لأتولى خدمته، وأتوصل من طريقه إلى جمع ثروةٍ طائلة أستطيع أن أتقدم بها إلى جدة فرجيني فلا ترى مانعًا — وقد جمعت في يدي بين حاشيتي المجد والشرف — أن تزوجني من حفيدتها.

قلت: ألم تحدثني يا ولدي قبل اليوم أنك لا تتصل بنسبٍ شريف أو أنك لا تعرف لك أبًا؟

قال: وأية علاقة للأبوة والبنوة بما نحن فيه؟ إنني لا أريد أن أتقدم إلى الملك بحسبي ونسبي، بل بكفايتي وجدارتي وخدمتي التي أقدمها لوطني، وهل يوجد في الناس من يأخذني بذنبٍ لست صاحبه ولا صاحب الرأي فيه، بل لم أكن حاضره ولا شاهده؛ لأنه وقع قبل وجودي في هذا العالم؟ على أنني لا أَعَدُّ ما كان ذنبًا؛ لأن والدتي أطهر وأشرف من أن تقترف الجرائم والذنوب.

قلت: إنك تحدثني بلسان الحقيقة، أما لسان الاصطلاح فهو أن من كان مثلك مغمور النسب أو مقطوعه فلا سبيل له إلى أن يلمس بأطراف قدمه أدنى درجة من درجات المجد، بل لا سبيل له أن يأخذ لنفسه مكانًا مطمئنًا بين الطبقات العالية الرفيعة التي يسمونها طبقات الأشراف والنبلاء.

قال: إنك قد قلت لي قبل اليوم — كما قرأت في كثيرٍ من الكتب — إن عظمة فرنسا إنما حملت على عواتق أولئك الرجال المغمورين الذين لا يمتون إلى الناس بحسبٍ ولا نسب، ولا شأن لهم في حياتهم سوى أنهم قد أدوا لوطنهم خدماتٍ جليلة كانت هي وسيلتهم الوحيدة إلى بلوغ ذروة المجد التي بلغوها، فهل كنت تخدعني فيما قلت لي وكان يخدعني أولئك الكاتبون؟

قلت: لم أخدعك يا بني ولا خدعوك، وإنما كنت أحدثك عن الماضي، أما اليوم فالملوك متكبرون متغطرسون لا يؤثرون مزيةً من المزايا على مزية الحسب والنسب، ولا يعرفون مفخرةً يفخرون بها سوى أنهم من سلالة أولئك الملوك الماجدين، فهم لا يُقَرَّبُون ولا يُدْنُون إلا من أمسك بطرف سلسلة يمسك بطرفها الآخر أميرٌ من الأمراء أو قائدٌ من القواد أو نبيلٌ من النبلاء، هؤلاء هم أعوانهم وأنصارهم، ووزراؤهم وقوادهم، وولاتهم وعمالهم، وجلساؤهم وسمارهم، ومواضع ثقتهم وأمناء أسرارهم، أحاطوا بهم إحاطة السحب الكثيفة بالكواكب النيرة، فلا يأذنون لشعاعٍ من أشعتهم أن يتصل بأحد من الناس سواهم؛ فكانت نتيجة ذلك أن ماتت المواهب والمزايا، وقَبِرَت العزائم والهمم، وأصبح كتاب الأمة وشعراؤها وحكماؤها وعلماؤها ورجال الفنون فيها أضعف الناس شأنًا، وأهونهم خطرًا، وأدناهم منزلة في ترتيب درجات الإنسانية؛ لأنهم قد حرموا الاتصال بتلك الشمس المشرقة التي تمدهم بالقوة والحياة، وتبعث فيهم روح النشاط والعمل.

قال: وماذا علي إن اتصلت بنبيلٍ من أولئك النبلاء وعشت تحت كنفه لأصل من طريقه إلى الغاية التي أريدها؟

قلت: إنك لا تستطيع أن تنال الحظوة عنده إلا إذا نزلت على حكم أهوائه وشهواته؛ أي أن تجعل نفسك جسرًا يمشي عليه إليها، وذلك ما تأباه عليك عزة نفسك وأنفتها.

قال: يخيل إليَّ أني إن قمت بواجبي لأمتي ووطني وأديت للإنسانية العامة خدمة عظمى يرن صداها في جميع الآفاق؛ لا أعدم أن أجد بين الأشراف المحسنين من يتولاني بحمايته ورعايته، ويأخذ بضبعي إلى المنزلة التي أستحقها.

قلت: استمع مني كلمةً أقولها لك يا بني، لقد كان اليونان والرومان والمصريون — حتى في أدوار سقوطهم وانحطاطهم — يبجِّلون الفضيلة ويعظِّمون شأنها، ويقدسون المواهب والمزايا أعظم تقديس، ويعرفون لأصحابها أقدارهم ومنازلهم، ويبسطون عليهم جناح مودتهم ورحمتهم، ولعلك قرأت من ذلك شيئًا في كتب التاريخ، أما اليوم فقد انقضى ذلك كله، وأصبح الشرف محصورًا بين الجاه والمال، فلا يظفر به إلا ذو منصبٍ عالٍ، أو مالٍ كثير، وقد يعطف بعض أولئك الذين يسمونهم النبلاء على بعض أصحاب المواهب والمزايا، كالشُّعراء والكتاب والموسيقيين والمصورين؛ لا لأنهم يحترمونهم ويجلونهم، أو يمجدون ذكاءهم ونبوغهم، بل ليزينوا بهم مجالسهم كما يزينونها بالتحف والذخائر؛ وليمتعوا أنفسهم بمنظر ذلتهم وخضوعهم بين أيديهم كما يمتعونها بمنظر مضحكيهم ومُجَّانهم، وما أحسب أنك ترضى لنفسك بهذه المنزلة، أو أن يكون منتهى آمالك في حياتك أن تصبح خليعًا ماجنًا.

قال: إن فاتني أن أعيش في كنف رجلٍ شريف، فلن يفوتني أن أعيش في كنف حزبٍ من الأحزاب أو جماعة من الجماعات أخدمها وأخلص لها؛ فأنال الحظوة عندها.

قال: إنك تستطيع أن تفعل ذلك، ولكن على أن تضرب بينك وبين ضميرك سدًّا إلى الأبد، فالهيئات كالأفراد لا يعنيها إلا مصلحتها وفائدتها، وكثيرًا ما تكون مصلحتها في جانبٍ، والحق في جانب آخر، بل ذلك هو الأعم الأغلب في أمرها، فإما جَارَيْتها فهلكت، أو نابذتَهَا فاستُهدفت لغضبها ومقتها.

قال: الموت أهون علي من أن أخطو خطوةً واحدة لا يرضى بها ضميري.

قلت: إذن ودِّع جميع آمالك وأمانيك وداعًا دائمًا لا لقاء بينكما من بعده.

قال: وا شقاآه! لقد أُخذت علي جميع السبل، وسُدت جميع المسالك، ويخيل إلي أنني سأقضي بقية أيام حياتي في ظلمةٍ داجيةٍ لا ينفذ إليها شعاع من أشعة الرحمة، ولا يلمع فيها بارقٌ من بوارق الإحسان، وأن قد حيل بيني وبين فرجيني إلى الأبد.

قلت: إنك واهمٌ يا بني، فما أنت بشقيًّ كما تظن، وما الشقاء إلا تلك العظمة التي تطلبها وتسعى إليها، إنك تعيش من حريتك واستقلالك وهدوئك وسكونك وطهارة ضميرك وصفاء سريرتك في سعادة لا يتمتع بها متمتعٌ على ظهر الأرض، فما حاجتك إلى تلك العظمة التي لا سبيل لك إلى بلوغها إلا إذا مشيت إليها على جسر من الكذب والرياء، والملق والدَّهان، والمواربة والمداجاة، والظلم والإثم، ونَصَبْتُ نفسك ليلك ونهارك لمحاربة الدسائس بالدسائس، والدنايا بالدنايا، والأكاذيب بالأكاذيب، وملأت فراغ قلبك حقدًا وموجدةً على الذين يسيئون إليك أو يجترئون عليك، وكنت في آنٍ واحدٍ أذل الناس لمن هم فوقك، وأقساهم على من هم دونك، ثم لا تحصل بعد ذلك كله على طائلٍ سوى أن تطعم لقمةً يطعمها جميع الناس، وتستر سوأةً لا يوجد في الناس من لا يسترها، وما أحسب أن فرجيني ترضى لك ولا لنفسها أن تكون وسيلتك إليها هذه الوسيلة الدنيئة الحقيرة، وهي الفتاة الشريفة الفاضلة التي لها طهارة الملك في سمائه، وصفاء الكوكب في أفقه، واعلم يا بني أن الفقير يعيش من دنياه في أرضٍ شائكة قد ألفها واعتادها، فهو لا يتألم لوخزاتها ولذعاتها، ولكنه إذا وجد يومًا من الأيام بين هذه الأشواك وردةً ناضرة طار بها فرحًا وسرورًا، وأن الغني يعيش منها في روضةٍ مملوءةٍ بالورود والأزهار قد سئمها وبرد بها، فهو لا يشعر بجمالها، ولا يتلذذ بطيب رائحتها، ولكنه إذا عثر في طريقه بشوكة تألَّم لها ألمًا شديدًا لا يشعر بمثله سواه، وخيرٌ للمرء أن يعيش مؤمِّلًا كل شيء من أن يعيش غنيًّا خائفًا من كل شيء.

قال: إنما أريد المجد الأدبي لا المجد المالي.

قلت: نعم، إن المجد الأدبي مجدٌ عظيمٌ وشريفٌ ولكنه لا يصل بك إلى الغاية التي تريدها، إن الأدباء والحكماء، والمصلحين والمفكرين، هم عظماء هذا العالم وساداته، وهم الكواكب النيرة التي تطلع في سمائه الداجية المدلهمة فتنير أرجاءها، وتبدد ظلماتها، وهم الأشعة الباهرة التي تنفذ إلى أعماق القلوب المظلمة القاتمة فتذيب جهالاتها وضلالتها، وتطير بأوهامها وأحلامها، وهم المنائر العالية التي يهتدي بها الحائر، ويستنير بها الضال، ويعرف بها المُدْرِج الساري أي شعبٍ يسلك، وأيه غاية من الغايات يريد؟ وهم الأطباء الماهرون يتولون القلوب الكسيرة اليائسة فيعالجون همومها وآلامها، ويملئون فضاءها رجاءً وأملًا، إلا أن سبيلهم إلى ذلك من أوعر السبل وأخشنها؛ لأنهم أنصار الخير، وللشر أنصارٌ أشد منهم قوة وأكثر عدةً وعددًا، وهم دائمًا هدفٌ لغضب الملوك؛ لأنهم يثيرون ثائرة الشعوب عليهم، وغضب النبلاء؛ لأنهم يحتقرون نبلهم، ويزدرون مجدهم وعظمتهم، وغضب الكهنة؛ لأنهم ينعون عليهم رياءهم، وكذبهم، وغضب العامة لأنهم يصادرون أهواءهم وشهواتهم؛ أي إن العالم كله حربٌ عليهم من أقصاه إلى أقصاه، وقلما تنتهي حياتهم إلا بما انتهت به حياة سقراط الحكيم، وهومير الشاعر، وأفلاطون الفيلسوف، وفيثاغورث الرحيم، من قتلٍ، أو صلبٍ، أو إلقاءٍ في السجن، أو تشريدٍ في الأرض، ولا ذنب لهم إلا أنهم أحبوا البشر وعطفوا عليه، وتألموا لألمه وبكوا لبكائه، فنقم البشر منهم هذه العاطفة الطيبة الكريمة، وانتقم لنفسه منهم بإرهاق أرواحهم، أو تعذيب أجسامهم، أو تقطيع أوصالهم، ولم يقنع في أمرهم بذلك حتى شوَّه وجه تاريخهم وسوَّد صفحاته بما شاء من الوصمات والعيوب، ولم تستطع شمس الحقيقة أن تبدد تلك الظلمات المحيطة بهم وبتاريخ حياتهم إلا بعد عدة قرونٍ وأجيال.

قال: لولا فرجيني ما أسفت على شيءٍ في الحياة، ولا بكيت على فائتٍ منها.

قلت: إن فرجيني باقيةٌ على عهدها لم تتغير، فاحذر أن تخسرها من حيث تريد أن تكسبها، واعلم أنها ما قطعت رسائلها عنك إلا لأنها عازمة على الرجوع في عهدٍ قريب، فانتظر رجوعها بعد قليلٍ من الأيام، وأعد نفسك لحياةٍ مستقبلة سعيدة يستغفر لك الدهر فيها عن جميع سيئاته إليك. فأضاءت حول ثغره ابتسامةٌ لم تضئه من عهدٍ بعيد، وقال: أأنت على ثقة مما تقول؟ قلت: نعم، فكأنما قد نزل عليه بهذه الكلمة وحيٌ من السماء، فما أصبح الصباح حتى رأيته مشمرًا عن ساعديه، يجول في أكناف «حديقة فرجيني» يشذب أشجارها، ويشق أنهارها، ويحول مياهها، ويسقي ما ذبل من أغراسها، وقد لبس بُردًا قشيبًا من الجد والنشاط لا عهد له بمثله منذ أعوامٍ ثلاثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤