الفصل الثاني والعشرون

السفينة

وفي عصر يوم ٢٤ ديسمبر سنة ١٧٤٤ رأى بول العلم الأبيض يخفق على قمة جبل الاستكشاف، فعلم أن سفينةً قادمةٌ إلى الجزيرة، فطمع أن تكون السفينة التي تحمل فرجيني، فانحدر إلى شاطئ البحر فيمن انحدر إليه من سكان الجزيرة ليتعرف شأنها، فعرف أن دليل المرفأ قد ركب زورقه إليها منذ ساعات، وأنه لم يعد حتى الساعة، فجلس في انتظاره حتى عاد وحده، فأخبر أن السفينة اسمها «سان جيران» وربانها اسمه المسيو «أوبن»، وأن الريح لا تساعدها على دخول المرفأ الليلة، ولا يمكنها الوصول إليه إلا في الغد، وكان يحمل في يده عدة رسائل لبعض سكان الجزيرة، بعضها آتٍ من فرنسا، وبعضها مرسلٌ من ركاب السفينة أنفسهم.

فسمع بول فيما سمع من الأسماء اسم مدام دي لاتور «هيلين»، فاختطف الرسالة من يد الرجل اختطافًا، وقرأ عنوانها فإذا هو بخط فرجيني، فطار بها فرحًا وسرورًا، وأخذ يعدو إلى المزرعة عدو الظليم، فرأى على البعد أفراد الأسرة واقفين على رأس هضبةٍ عالية ينتظرونه، فرفع يده بالرسالة وصار يلوح بها في الجو كأنما يحمل رايةً بيضاء، حتى بلغ مكانهم، فقدم الرسالة إلى هيلين ففضت غلافها وأمَرَّت عليها نظرها فعلمت أن ابنتها قادمةٌ على هذه السفينة نفسها، وأن السبب في عودتها من فرنسا أن عمتها حاولت كثيرًا أن تغير من طباعها وأخلاقها، وتذهب بها في حياتها مذهبًا غير مذهبها الأول فعجزت عن ذلك، وأنها عرضت عليها أن تزوجها من عظيمٍ من عظماء البلاط فرفضت، فنقمت عليها نقمةً عظيمة، وأصبحت تحتقرها وتزدريها، وتنظر إليها بالعين التي تنظر بها إلى فتاةٍ مخبولة العقل، فاسدة الذهن، أسيرة الأوهام والأحلام، ثم ما لبثت أن حرمتها من ميراثها، وسلبتها كل ما كانت تسبغه عليها من النعم، ولم يبق إلا أن تطردها من منزلها طردًا، فلم تجد بدًّا من الرجوع، فركبت أول سفينةٍ علمت أنها ذاهبةٌ إلى إفريقيا، ثم ختمت رسالتها بقولها: إنني أكتب لك هذه الرسالة وأنا على ظهر السفينة «سان جيران» وبيننا وبين الشاطئ أربعة فراسخ، ولا نستطيع الدخول إلى المرفأ إلا في الغد كما أخبرنا بذلك الدليل، وفي الغد نلتقي إن شاء الله تعالى.

وما إن انتهوا من قراءة الرسالة حتى استُطيروا فرحًا وسرورًا، وأخذ الزنجيان يرقصان ويقفزان ويهتفان بصوتٍ عالٍ: قد عادت فرجيني! لقد عادت فرجيني، وكان أول ما مر بخاطر بول في هذه الساعة أن يذهب إليَّ في كوخي ويبشرني برجوع فرجيني، ويشكر لي نبوءتي التي تنبأت له بها في أمرها، وكانت قد مضت هدأةٌ من الليل، فأستأذن أمه في ذلك فأذنته، فمشى ومشى أمامه دومينج يحمل مشعلًا كبيرًا حتى وصل إلي بعد ساعتين، وكنت قد أويت إلى مضجعي، فأيقظني من نومي وألقى إلي ببشراه، فلم يكن سروري بها بأقل من سروره، وقال: هيا بنا نذهب إلى الشاطئ لننتظر فرجيني فإن السفينة تصل في الصباح.

فقمت إلى ثيابي فأسبلتها علي وذهبت معه، وكانت الليلة حالكةً مدلهمة قد احتجبت كواكبها وراء قطع الغمام الكثيفة الآخذ بعضها بأعناق بعضٍ كأنها القافلة السائرة في الصحراء، فمشينا لا نهتدي بشيءٍ سوى غريزتنا التي تقود خطواتنا دائمًا في مفاوز الأرض ومجاهلها، وكنا نسمع من حينٍ إلى حينٍ قرقعةً هائلة آتية من ناحية البحر تشبه دمدمة الرعد وليست بها، فلا نفهم منها شيئًا.

فإنا لسائرون إذ لمحنا زنجيًّا ضخم الجثة يمر بجانبنا، فاستوقفته وسألته من أين أقبل، فقال إني مرسلٌ من شاطئ جزيرة الذهب إلى الحاكم لأبلغه أن سفينةً قد ألقى بها التيار إلى ما وراء جزيرة العنبر تطلق مدافعها من حينٍ إلى حين؛ أي إنها في خطر، وأنها في حاجةٍ إلى المعونة، فسألته هل يعرف اسمها؟ فأجاب أن لا، وانطلق لسبيله، فالتفت إلى بول وقلت له: أخاف أن تكون سفينة «سان جيران»، وخيرٌ لنا أن ننحدر إلى الشاطئ المقابل لجزيرة الذهب لنقف على الحقيقة، فمشى معي صامتًا لا يقول شيئًا حتى أشرفنا بعد قطع ثلاث مراحل على ذلك الشاطئ، وكانت الطلقات قد انقطعت فراعني سكوتها أكثر مما راعني دويها، ثم ظهر القمر في كبد السماء محاطًا بثلاث دوائر سوداء، كأنه متمنطقٌ بنطاق الحداد، فرأينا على نوره الضعيف الباهت منظر البحر وهو ثائر مهتاج تموج ظلماته بعضها في بعضٍ، وترتطم أمواجه بصخور الشاطئ وهضابه، فينبعث لها صوتٌ أجش كأنه أنين الثكلى، أو حشرجة المحتضر، وقد يتطاير منها أحيانًا شررٌ لامعٌ كذلك الشرر الذي يتطاير من أجنحة الحباحب، ورأينا الصيادين مكبين على زوارقهم ينقلونها من الماء إلى اليبس ويطرحونها فوق الرمال خوفًا عليها من الهلاك، ولمحنا على مقربة منا جماعةً من الناس مجتمعين حول نارٍ عظيمة يستدفئون بها، فقصدنا إليهم، وجلسنا على مقربة منهم، وسمعناهم يتحدثون أن السفينة قد جار بها التيار عن طريقها ودفعها إلى شاطئ جزيرة العنبر حيث الخطر عظيمٌ لا حيلة فيه، وأنها إن لم تبادر بدخول المضيق الذي بين جزيرة العنبر وجزيرة «سان لوي»، فمصيرها الهلاك ما من ذلك بدٌّ، وكان بول يسمع هذا كله وهو صامتٌ مطرقٌ كأنه لا يفهم منه شيئًا.

ولم يزل هذا شأننا حتى بدأت حاشية الظلام ترق عن بياض الفجر فتلمع بعض أشعته من خلالها كما يلمع الماء من خلال الطحلب، فحاولنا أن نرى سطح البحر فلم نستطع؛ لأن الضباب كان كثيفًا جدًّا، كأنما قد بنى دُوَيْن السماء سماءً أخرى لا يرى الرائي من خلالها غير بعض القمم العالية تطفو وترسب كما يطفو الغريق ويرسب في عباب الماء، ثم استطعنا بعد حين أن نرى على سطح البحر شيئًا أشبه بغمامةٍ كثيفة، فتأملناه، فإذا هو جزيرة العنبر التي زعموا أن السفينة محتبسة بشاطئها، إلا أننا لم نر السفينة بحالٍ من الأحوال.

وهنا حضر المسيو لابوردونيه حاكم الجزيرة راكبًا جواده ووراءه فصيلةٌ من الجند تحمل بنادقها على عواتقها، فأمرها أن تصطف صفًّا واحدًا، ففعلت، فأمرها أن تطلق بنادقها فأطلقتها، فلم نلبث أن رأينا نورًا لمع على سطح البحر، وأعقبه دوي مدفعٍ، فعلمنا أن السفينة غير بعيدة عنا، فتقدمنا جميعًا نحو الشاطئ لنتحقق من رؤيتها، فاستطعنا بعد لأيٍ أن نرى شبحها الغارق في عباب الضباب، وأن نرى سواريها الذاهبة في كبد السماء، وأن نسمع — برغم جرجرة الآذِيِّ وزمجرته — صوت ربانها وهو يصرخ صرخاته العظمى التي يستنهض بها همم رجاله، فأمر الحاكم بإعداد زورقٍ لنجدتها، وبإشعال النار على طول الشاطئ لترى على ضوئها الزورق المعد لإنقاذها، فما رأت النار حتى أخذت تطلق مدافعها تباعًا، واستمر التخاطب بهذه اللغة النارية بينها وبين الشاطئ ساعة طويلة.

وإنا لكذلك إذ دلف إلى الحاكم شيخٌ زنجيٌّ هرمٌ يدب على عصاه، وقال له: إننا نسمع يا سيدي منذ الليلة زمجرةً هائلة تنحدر إلينا من قمة الجبل، ونرى أوراق الأشجار تهتز وتضطرب دون أن تهب علينا ريحٌ، ونرى طيور البحر هاربةً إلى البر أسرابًا أسرابًا دون أن يزعجها مزعجٌ، أو يطاردها مطاردٌ، فهي العاصفة، ما في ذلك ريبٌ ولا شك، فأنقذوا السفينة قبل هبوبها، فإن لم تفعلوا فانفضوا أيديكم منها إلى الأبد.

فاصفر وجه الحاكم، وشعر برعدةٍ شديدة في جسمه، إلا أنه تجلد واستمسك، وصاح: سأنقذها ولو كان في ذلك حياتي!

ولقد صدق الزنجي فيما قال، فقد لبس الجو حلةً غريبةً لا عهد له بمثلها من قبل، وكأنما انبعث في جميع أوصاله رعشةٌ شديدة كتلك الرعشة التي تنبعث في جسم المحموم، وأقبلت طيور البحر من كل صوبٍ هاربةً إلى البر كأن مطاردًا يطاردها ويشتد على أثرها، وتراءت قطع السحاب سوادء قاتمةً تلمع في خلالها نقطٌ نارية حمراء كما يلمع بصيص النار من خلال الرماد، وامتلأ الجو بفحيح الأفاعي، وطنين البعوض، وزمجرة الوحوش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤