الفصل الخامس

الحياة الطبيعية

نهضت هيلين من نفاسها بارئةً نشطةً، فأخذت هي وصديقتها مرغريت تعملان في أرضهما بمعونة الزنجي «دومينج»، وهو رجلٌ كهلٌ قد نيف على الخمسين من عمره، إلا أنه كان فَتِيَّ الهمة والعزيمة، واسع الخبرة في شئون الزراعة الجبلية وأساليبها، فكان يغرس في كل أرض ما يناسبها من البذور والأغراس، ولا يفرق في ذلك بين القسمين ولا يمنح أحدهما من اهتمامه وعنايته أكثر مما يمنح الآخر، فزرع الذرة في التربة المتوسطة، والحنطة في الأرض الجيدة، والأرز في التربة السَّبِخَة، والقرع والقثاء وما أشبههما من النبات المتسلق حول الصخور وفوق رءوس الهضاب، وزرع البطاطا في التربة الجافة اليابسة، وشجيرات القطن في الربوات العالية، وقصب السكر في الأرض القوية المتينة، وغرس على ضفة النهر حول الكوخين أشجار الموز ذات الأوراق العريضة والأَفْيَاء الظليلة، ولم يفُته أن يزرع لنفسه بضع شجيراتٍ من التبغ يُروِّح بتدخينها عن نفسه هموم دهره وآلامه.

وكان يذهب فوق ذلك إلى الغابات البعيدة والأحراش النائية لاحتطاب الحطب واجتلاب أخشاب الوقود، ويقضي جزءًا عظيمًا من يومه في تمهيد الأرض وتذليلها، وتكسير الصخور ورصف الحصى، وإنشاء الممرات والمستدقات والجداول والأقنية، وكان يقوم بهذا العمل كله وحده راضيًا مغتبطًا لا أُعينه عليه إلا بالرأي والإرشاد؛ لأنه كان يحب سَيِّدَتَيْه حبًّا جمًّا، ويُخلص لهما إخلاصًا عظيمًا، وربما كان للغرام يدٌ خفية في ذلك النشاط الغريب المنبعث في أنحاء نفسه — كما هو الشأن في أكثر حركات الناس وسكناتهم — فإنه كان مغتبطًا كل الاغتباط بتلك الصلة التي نشأت بينه وبين الزنجية «ماري» في العمل، وبودِّه لو استحالت إلى صلةٍ أخرى غيرها أدنى إلى نفسه وألصق بفؤاده، وقد تم له بعد عام واحد من اتصاله بها ما أراد، فقد سمحت له سيدتاه بالزواج منها، فبنى بها ليلة عيد ميلاد فرجيني، وسَعِد بجوارها سعادةً لا تختلف في روحها وجوهرها عن السعادة التي يهنأ بها البيض المتمدينون.

وكانت ماري فتاةً نشطةً حاذقة، ذكية الذهن، صَنَاع اليد، متحليةً بكثير من الصفات الفاضلة. وقد استفادت في مسقط رأسها «مدغشقر» العلم ببعض الصنائع اليدوية التي يزاولها الناس هناك، فكانت تجيد صنع السلال من لحاء أشجار القصب، ونسج المآزِر والمطارِف من خيوط بعض الأشجار الليفية، وكانت تحسن القيام على خدمة المنزل ومنظَرَته وترتيب أثاثه وتربية الطيور الداجنة، ورعي الماشية، ومزاولة الطبخ والغسل، فإذا فرغت من عملها حملت ما فضل عن حاجة البيت من فاكهةٍ وحبوب — ولم يكن بالشيء الكثير — إلى سوق المدينة فباعته فيها ثم عادت ببضعة دريهمات تعطيها لسيدتيها.

أي إن المزرعة كان يعيش فيها امرأتان وطفلان وخادمان، وكلبٌ للحراسة، وعنزتان للبن، وبضع دجاجاتٍ للبيض، لا أكثر من ذلك ولا أقل.

وكان لا بد للسيدتين من أن تعملا عملًا يعينهما على عيشهما ويُروِّح عنهما سآمة الوحدة ومللها، فكانتا تغزلان بياض نهارهما، وأحيانًا سواد ليلهما على ضوء القمر، فاستطاعتا أن تجدا رزقهما، ولكن مُقَتَّرًا مكدودًا، فأكلتا الدُّخَن والذرة، وشربتا الماء الرَّنْق، ولبستا القمص البنغالية الخشنة التي يلبسها الإماء في هذه الجزيرة، ومشتا على الأرض حافيتين غير منتعلتين إلا في اليوم الذي كانتا تذهبان فيه إلى الكنيسة في حي «بمبلوس» لأداء الصلاة، وقلما كانتا تذهبان إلى «بورلويس» عاصمة الجزيرة إلا في الدرجة القصوى من الضرورة حياءً من نفسيهما، وفرارًا من أعين الساخرين والهازئين، فإن فعلتا نالهما من الألم والامتعاض ما ينغص عليهما يومهما، ويستثير كامن حزنهما وألمهما، ولا يزال هذا القلق يساورهما حتى تعودا إلى مزرعتهما فإذا أشرفتا عليها، ورأتا على بُعدٍ منظر خادميهما المخلصين وهما يهبطان إليهما من قمة الجبل ليساعداهما على صعوده وتسلقه، وشعرتا بنسيم الحرية العليل يهب عليهما ويمازج أنفاسهما، نسيتا في هذا المعتزل المنفرد كل ما لحقهما وآلم نفسيهما من خشونة الناس وقسوتهم، وفضولهم وكبريائهم، وكأنما قد نبتتا في هذه البقعة بين نخيلها وأشجارها، ولم تريا طول حياتهما بقعةً سواها.

ولقد عشت في كل جو وبيئة، وخالطت جميع الطبقات والأجناس، وعاشرت الناس أخيارًا وأشرارًا، وأعلياء وأدنياء، وحضرت مواقف الحب بين المتحابين، والصداقة بين المتصادقين، فلم أر في حياتي منظرًا أجمل ولا أبهج ولا أحلى في العين ولا أرفع في النفس من منظر الحب والصداقة بين هاتين السيدتين الكريمتين، حتى كان يخيل إلي أحيانًا أن نفسيهما قد استحالت إلى نفسٍ واحدة يحملها جسدان، وكنت إذا حدثت إحداهما شعرت كأني أُحدث الأخرى معها، وإذا حدثتهما معًا كنت كأني أحدث نفسًا واحدة ذات صورة واحدة ولون واحد، فلقد وَحَّدَت بينهما الهموم والآلام، ومازجت بين نفسيهما الوحدة والعزلة، والفكرة والرأي، والحاجة والمصلحة، والذكرى المؤلمة والبؤس المشترك، فنطقت كلٌّ منهما بما نطقت به الأخرى، وشعرت، وفكرت فيه، وكأن الله تعالى إذ زَوَى عنهما الأرض الفسيحة ذات الطول والعرض، وحرمهما فيه نعمة العيش الهنيء، أبدلهما منها تلك الروضة الغناء من الحب والإخلاص؛ لتعيشا فيها ناعمتين هانئتين، لا تمر بسمائهما غنيمةٌ، ولا ترجُف بأرضهما رجفة.

فإن اضطرمت بين جوانحهما في بعض الأحايين نارٌ أقوى من نار الصداقة وأشد منها لهيبًا واستعارًا؛ لا تلبث أن تهب عاصفةٌ من دينهما وتقواهما فتلوي بها عن سبيلها، وتطير بها إلى العالم الثاني، كما تتطاير الشعلة الملتهبة في جو السماء إذا فقدت مادتها التي تغتذي بها على وجه الأرض.

وكان أعظم ما يؤنسهما ويروِّح عنهما ويمازج بين شعورهما وإحساسهما رؤية طفليهما الصغيرين بين أيديهما يمرحان ويلعبان ويعدوان ويَطْفُران، وينامان في مهدٍ واحدٍ، ويستحمان في إناءٍ واحدٍ، ويطير كلٌّ منهما شوقًا إلى صاحبه إذا فقد مكانه وغاب عنه وجهه، كأنهما أخوان شقيقان، بل توأمان متشابهان.

وكثيرًا ما كانت ترضع إحداهما ولد الأخرى فتمنحه من عطفها وحنانها ما تمنح ولدها، حتى قالت هيلين مرة لمرغريت: «سيكون لكل منا ولدان، ولكلٍّ من ولدينا أمَّان.» وكان اجتماع ذينك الطفلين اليتيمين على ثدي واحد — بعد ما فجعهما الزمان بأسرتيهما وحرمهما حنان أبويهما وعطفهما — سببًا في نموهما وترعرعهما، وسرورهما وغبطتهما، كالصِّنوين الباقيين من شجرتين قد عصفت الريح بهما وبأغصانهما، إذا لقح أحدهما بالآخر أَوْرَقَا وأثمَرَا بأبهى وأجمل مما لو بقي كلٌّ منهما في مكانه.

•••

وكان يلذ لأميهما كثيرًا الحديث عنهما، وعن مستقبل حياتهما، وعن اتصالهما بعقدة الزواج متى بلغا أشدهما، وكأنما قد بقيت في زوايا قلبيهما بقيةٌ من ذلك الألم الماضي، ألم حرمانهما الهناء الزوجي الذي كانتا تتعللان به في مُؤتَنَف حياتهما، فهما تتعللان عنه برؤية ولديهما متمتعين به. إلا أن حديثهما هذا كان ينتهي أحيانا ببكائهما ونشيجهما حينما تذكران أنهما قد أساءتا إلى نفسيهما بطموح إحداهما إلى منزلةٍ في الحياة فوق منزلتها، ونزول الأخرى فيها إلى مقامٍ دون مقامها، فعاقبتهما الطبيعة على تمردهما وشذوذهما بهذا العقاب المؤلم الشديد الذي تقاسيانه وتذوقان مرارته.

ولكنهما لا تلبثان أن تسمعا صوت طفليهما الصغيرين يبغمان في مهدهما ويتناغيان حتى تعودا إلى سكونهما واستقرارهما، وتشعرا ببرد العزاء يتدفق في صدريهما، خصوصًا عندما تذكران أن الهناء الذي فاتهما في ماضيهما لن يفوت ولديهما في مستقبل أيامهما، وكانتا تقولان إنهما سيقضيان حياتهما بعيدين عن مفاسد المدنية وشرورها وتقاليدها العمياء وأوهامها الباطلة، فلا ينالهما من أذاها شيءٌ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤