الفصل الثامن

الاستعمار الأوروبي

مضت على ذلك أيامٌ والولدان ينموان في جوهما نمو النبات المحيط بهما، وينمو معهما طيب أخلاقهما وحسن سجاياهما، فبينا فرجيني جالسة في الكوخ ذات يومٍ تهيئ طعام الإفطار لأسرتها كعادتها، والشمس لا تزال في خدرها، وأمَّاها قد ذهبتا مع دومينج لأداء صلاة الأحد في كنيسة «بمبلموس» وبول في الحديقة يشذِّب بعض أشجارها، وماري وراء الكوخ تشتغل ببعض شئونها، إذ دخلت عليها زنجيةٌ مسكينةٌ آبقة كأنها الهيكل العظمي نحولًا وهزالًا، ليس عليها من الثياب إلا خرقةٌ باليةٌ تدور بِحَقْوَيْها فجثت على ركبتيها بين يديها باكيةً منتحبةً وأنشأت تقول لها: الرحمة يا سيدتي فإني أكاد أموت جوعًا، وقد مر بي يومان وأنا أجوب هذه الأحراش والغابات أتوارى مرة وأظهر أخرى، وأقتات كل ما هو فوق التراب؛ مخافة أن تقع عليَّ عيون بعض الفضوليين من الصيادين فيعيدوني إلى سيدي، والموت أهون علي من أن أعود إليه، فهو رجلٌ قاسٍ غليظٌ لا يزال يجلدني ويمزق لحمي بسوطه كلما بدا له أن يفعل ذلك.

ثم كشفت ثوبها عن جسمها وأشارت إلى مواضع الضرب منه فإذا خطوطٌ حمراء ملتهبة لا يستطيع نظر الناظر أن يثبت أمامها لحظةً واحدة، ثم قالت: ولقد حدثت نفسي كثيرًا بالانتحار فما كان يمنعني منه إلا الخوف والجزع، ثم سمعت الناس يحدثون عنكم حديثًا حسنًا، ويقولون إنكم وإن كنتم من هذا الجنس الأبيض المخيف ولكنكم قومٌ محسنون راحمون، فأضرع إليك يا سيدتي أن ترحميني وتعودي علي بلقمةٍ أتبلَّغ بها، وأن تحولي بيني وبين الشقاء! وهنا اشتد بكاؤها ونحيبها فأوت لها فرجيني ورقت لها رقةً شديدة، ونهضت إلى الطعام الذي كانت أعدته لأسرتها فأتتها به، فالتهمته في لحظاتٍ قليلةٍ، وأخذ وجهها يتطلق فرحًا وسرورًا، فقالت لها فرجيني: أتحبين أن أذهب معك إلى سيدك وأشفع لك عنده عله يعفو عنك ويرحمك ويكون لك في مستقبله خيرًا منه في ماضيه؟ وما أحسبه إلا فاعلًا حين يرى بؤسك وشقاءك ومنظر جسمك المعذب المقروح؟ فشكرت لها الجارية فضلها ورحمتها وقالت لها: سأتبعك يا سيدتي حيث شئت، فأنت ينبوع الرحمة والإحسان.

فهتفت فرجيني ببول فحضر، فحدثته حديث الجارية والرأي الذي رأته لها، فوافقها على رأيها واقترح عليها أن يرافقها في رحلتها، ثم سارا معًا والجارية تتقدمهما وتخترق بهما الغابات والأجمات في ممرات مستدقةٍ غامضة تعرفها. وكانت تعترضهما في مسيرهما بعض هضباتٍ عالية كانا يجدان مشقة عظمى في تسلقها حتى أشرفا وقت الظهيرة على ضفة النهر الأسود حيث مقام الرجل، فانحدرا إليه، وهناك شاهدا بنيةً عظيمة فخمة تحيط بها حدائق غناء، وأدواح ملتفةٌ، ومزارع منبسطة، وعبيدٌ كثيرون منتشرون في كل مكانٍ يحرثون ويحصدون، ويحفرون وينقبون، ويخوضون الأوحال، ويحملون الأثقال، ويقطعون الصخور، ولمحا صاحب المزرعة يتمشى بينهم مشية الخيلاء و«غليونه» في فمه ينفث منه الدخان، وبيده عصا خيزران طويلة، وهو رجلٌ طويل القامة، مهزول الجسم، غائر العينين؛ مقرون الحاجبين، أخضر اللون، مقطب الجبين، كأنما قد جثمت روحه الشريرة بين عينيه واستعدت للوثوب على كل من يدنو منها، فارتاعت فرجيني لمنظره المرعب المخيف، إلا أنها لم تجد بدًّا من التقدم.

فشمت نحوه خائفةً مضطربة تعتمد على يد بول والجارية من خلفهما تتبعهما حتى بلغته، فجثت بين يديه وأخذت تضرع إليه أن يعفو عن جاريته المسكينة ويرحمها، وتناشده الله والكتاب في ذلك، فلم يكترث في مبدأ أمره لمنظر فتًى وفتاةٍ فقيرين زريَّين في ملبسهما وهيأتهما، إلا أنه لما وقع نظره على فرجيني ورأى منظرها البديع الجذاب، وشعرها الأصفر الذهبي المسترسل على ظهرها، وتلك العصابة الزرقاء التي تدور بجبينها الأبيض المشرق، ورأى ماء الحياء يترقرق في وجهها ترقرُق الطل في ورقات الورد، وسمع صوتها الرخيم المتهدج كأنه ينبعث من آلةٍ موسيقية شجية، بهت وَشدِهَ وأخرج غليونه من فمه، وابتسم ابتسامة نكراء، وتقدم نحوها قليلًا وألقى عليها نظرةً فاجرةً مريبة، وقال لها: قد عفوت عنها أيتها الفتاة الجميلة، لا من أجل الله ولا من أجل الكتاب بل من أجلك أنت …

فأشارت فرجيني إلى الجارية أن تتقدم لتشكر لسيدها نعمته وفضله، ثم انكفأت راجعةً تركض ركوض الهارب وبول يتبعها حتى ارتقيا الجبل الصغير الذي هبطا منه، وجلسا تحت دوحةٍ من أدواحه يستريحان، وكان التعب قد نال منهما منالًا عظيمًا، فقد قطعا في ذلك اليوم خمسة فراسخ في أرض صخرية وعرة لا يستريحان فيها ولا يهدآن، ولا يتبلغان بطعامٍ ولا شرابٍ، فقال بول لفرجيني ها قد مال ميزان النهار وبيننا وبين مزرعتنا مفازةٌ منكرةٌ لا أحسب أننا نستطيع قطعها قبل الغروب. وليس في هذه البطحاء المحيطة بنا شجرةٌ واحدةٌ ذات ثمرٍ صالحٍ نطعمه أو ننقع ظمأنا بعصارته، وأنت ظامئةٌ جائعةٌ لا طاقة لك بالصبر على أكثر مما صبرت، فخيرٌ لنا أن نعود إلى مزرعة مولى الجارية ونطلب إليه أن يمدنا بشيءٍ من الطعام والشراب، وما أحسبه ضانًّا علينا بهما.

فوجمت فرجيني وقالت: لا يا بول، إن هذا الرجل قد ملأ قلبي خوفًا ورعبًا، وما أحب أن أرى وجهه مرة أخرى، واذكر تلك الكلمة التي كانت تقولها لنا أمي دائمًا: «إن خبز الأشرار يملأ الفم حصًى»، فلنمض في سبيلنا، وما أحسب أن الله يخذلنا أو يتخلى عنا.

قال: وما العمل، والشقة بعيدةٌ، والمنال وعرٌ، والأرض قاحلةٌ جدباء لا ماء فيها ولا ثمر ولا شيء مما يتبلغ به المتبلغ، أو يتعلل به الظامئ.

قالت: إن الله الذي يسمع زقزقة العصفور الصغير في عشه فيرسل إليه الحبة التي تقوته والقطرة التي ترويه سيسمع دعاءنا ويرد لهفتنا، وما ذلك عليه بعزيز.

ثم سارا في طريقهما، فما أبعدا إلا قليلًا حتى سمعا خرير ماءٍ على البعد، فانتعشا وصاحا بصوت واحد: «إن ها هنا ماءً»، وتبعا الصوت حتى وصلا إلى صخرة عظيمة عالية يتفجر من صدوعها ماءٌ زلالٌ رقراقٌ كأنه ذوب البلور في شفوفه ولمعانه، فشربا منه حتى ارتويا، ووجدا من حوله بعض الأعشاب التافهة فأصابا منها قليلًا ثم جلسا في مكانهما.

وإنهما لكذلك إذ لمحا على البعد نخلةً سامقةً من نخيل الجوز، والجوز أنواع كثيرة متعددة، وهذا النوع منها دقيق مستطيل لا يزيد حجم ساقه عن حجم ساق الإنسان إلا قليلا، وربما ذهب في الهواء ستين قدمًا أو أكثر، وله في شعفاته لفائف ضخمةٌ متراكمة أشبه بلفائف الكرنب، تحمل في جوفها طلعًا أبيض ناصعًا، حلو الطعم، جيد الغذاء.

فابتهجا بها إذ رأياها، وهرعا إليها، وكانا بين أن يصعداها — وهو ما لا سبيل إليه — أو يقطعاها — وهو ما تعيا به قوتهما — عقبةٌ كئودٌ؛ لأن جذعها على رقته ونحافته مؤلفٌ من خيوطٍ ليفيةٍ متداخلةٍ متينة النسيج، سميكة القشرة، تعيا بها الفئوس القاطعة، فلم يبق أمامهما إلا أن يحرقاها فتهوى بين أيديهما فيظفرا بثمرها، ولم يكن لديهما نارٌ ولا شيءٌ مما تقتدح به النار، وليس في تلك المدرة جميعها — على كثرة صخورها وأحجارها، واختلاف صورها وأشكالها — حجرٌ من أحجار الاقتداح، ففتقت الحاجة لبول حيلةً من أغرب الحيل وأبدعها، وقديمًا فتقت الحاجات حيل الرجال، واستثارت دفائن ذكائهم وفطنتهم، وما انتفع العالم في جميع شئونه وأحواله بمثل ما تفتقه الحاجات والضرورات، ولا نبتت أغراس المعارف والعلوم والمستكشفات والمخترعات إلا في تربة الفقرٍ والإقلال، فعمد إلى ظِرٍّ رقيق الأطراف مما يقوم لدى سكان تلك الأصقاع مقام المُدَى في منفعتها وجدواها، فبرى به طرف غصنٍ يابسٍ متين حتى صيره كالسهم، ثم عمد إلى غصنٍ آخر من نوع غير نوعه فثقبه ثقبًا دقيقًا بحد ذلك الحجر نفسه ثم أدخل طرف الغصن الأول في ثقب الغصن الثاني بعدما شد عليه بقدمه وظل يديره بكلتا يديه بسرعةٍ عظيمة، فما هي إلا لحظات حتى التهب الغصنان وانبعث منهما دخان وشرر، فجمع بضعة أعوادٍ يابسة وأوراق جافة وألقاها على النار فاشتعلت، فأدناها من ساق النخلة فنشبت بها ولم تلبث إلا قليلا حتى هوت بين يديه هُوَّي الكوكب الناري من سمائه، فأخذ يفض اللفافات عن طلعها الأبيض النضير، وجلس هو وفرجيني يشتويان ويأكلان ألذ طعام وأهنأه حتى اكتفيا، ومرت بهما ساعة سرورٍ وغبطة نسيا فيها بؤسهما وشقاءهما، ثم ما لبثا أن جمعا شتات نفسهما وأخذا يتمثلان حيرتهما وضلالهما، وبُعد الشقة بينهما وبين أرضهما، ويذكران قلق أميهما عليهما، وجزعهما لغيابهما، ويقولان في نفسهما: لا بد أن تكون الظنون قد ذهبت بهما مذاهب سيئة في شأنهما حينما عادتا من الكنيسة إلى المزرعة فلم تجداهما، ولم تعرفا الوجه الذي ذهبا فيه.

ثم نهضا من مكانهما وأخذا يدوران بأنظارهما يمنةً ويسرةً ليتعرفا الطريق التي أتيا منها فأضلاها، فسُقط في أيديهما ولم يعرفا كيف يعودان، وكان بول أهدأ من فرجيني روعًا وأثبت جأشا، فظل يعللها ويهدئ روعها ويقول لها إن كوخنا يكون دائمًا في مثل هذه الساعة تحت قرص الشمس، فإذا نحن اتجهنا جهة الشرق لا نحيد عنه يمنة ولا يسرة، ثم إذا صعدنا هذا الجبل المثلث الرأس الذي نراه أمامنا لا نلبث أن نجد أنفسنا في مزرعتنا.

وأخذا يسيران في الوجهة التي توهماها، فمرا بغاباتٍ كثيرةٍ، وأدواحٍ ملتفةٍ، وهضابٍ عالية، وأنهار جارية، لم يطأ السائحون لها أرضًا حتى اليوم، وظلا على ذلك ساعتين حتى اعترض طريقهما نهرٌ واسع يتدفق ماؤه تدفقًا، فذعرت فرجيني لمنظره ومنظر الصخور السوداء الجاثمة في مجراه، واستحال عليها أن تضع قدمها فيه، فلم ينشب بول أن حملها على ظهره وخاض بها الماء لا يحفل بتياره المتدفق، ولا بصخوره المتزلقة، وظل يقول لها وهو سائر بها: لا تخشي شيئًا يا أختاه، فإني جَلْدٌ قويٌّ لا يعجزني حمل شيءٍ من الأشياء كيفما كان شأنه، وأشعر أني أزداد قوةً وجلدًا حين أكون معك، وأستطيع أن أقول لك إن نفسي كانت تحدثني بشرٍّ عظيمٍ لذلك الرجل مولى الجارية حينما ظننت أنه احتقرك وازدراك فلم يحفل بك ولا برجائك، ولو أنه فعل لبطشت به بطشةً لا أبالي بعواقبها.

فاضطربت فرجيني وقالت له: ولكنك لا تفعل يا بول إلا إذا أردت أن تكون غلامًا شريرًا، دع الأشرار يا صديقي وشأنهم، لا تُهِجْهُم، ولا تعترض طريقهم، عسى أن يموت شرهم في صدورهم حينما لا يجد له مضربًا ولا منتدحًا، ثم تنهدت ورفعت رأسها إلى السماء وقالت: آه يا رب! لِمَ لَم تجعل طريق الخير سهلًا ليِّنًا كطريق الشر؟

ولم يزل سائرًا بها حتى بلغ الضفة الأخرى، وأراد أن يستمر في سبيله حاملًا إياها على ظهره حتى يصعد بها الجبل المثلث الرأس اعتزازًا بقوته وبأسه، فألحت عليه ألا يفعل، فأنزلها.

واستمرا سائرين في أرضٍ وعرةٍ كأْداء كاطِّراد السيف تحفَى فيها النعال، وتدمى الأقدام، وكانت فرجيني قد نسيت نعلها في كوخها حينما ورد عليها من أمر تلك الزنجية المسكينة ما أذهلها وطار بلبِّها، فأضر بها الجهد، وأدمى قدميها المسير، فلم تزل تتحامل على نفسها حتى وصلت إلى جدول ماءٍ جارٍ، فترامت على ضفته وأخذت تنضح قدميها بمائه، ثم مدت يدها إلى شجرةٍ فرعاءً حانيةٍ عليها فاقتطعت بعض أعوادها وأوراقها ونسجت منها لنفسها ما يشبه النعل فانتعلته فهدأ بعض ما بها، وأقبلت على بول تقول له: ها هي ذي الشمس قد أشرفت على المغيب، ولا تزال الشقة بيننا وبين المزرعة بعيدة جدًّا، وقد نال مني التعب، ولم يبق لي جَلَدٌ على المسير، فاتركني وحدي هنا واذهب إلى المزرعة لتخبر أهلنا خبرنا فيطمئنوا علينا، وابعثوا إلي من قِبلكم من يحملني إليكم، فأبى بول مستعظمًا الأمر، وقال: الموت أهون علي من أن أتركك وحدك في هذا المكان الموحش المقفر، فسأبقى معك ما بقيت، فإن أظلنا الليل قطعت لك نخلةً من نخيل الجوز فأطعمتك ثمرها كما فعلت الغداة ثم نسجت لك من أعوادها وأغصانها مهادًا لينًا تنامين عليه وأنا ساهرٌ بجانبك حتى الصباح.

فأذعنت لرأيه، وكانت قد شعرت بشيءٍ من الراحة بعد ما خصفت قدميها بتلك الأعواد المخضلَّة، فقامت تعتمد بيمناها على فرعٍ قطعته من تلك الشجرة، وبيسراها على كتف بول حتى بلغا غابةً كثيفة قد أحاط بها من جميع أقطارها كثيرٌ من الأدواح الباسقة الملتفة، فدخلاها، وما أمعنا فيها إلا قليلا حتى احتجب عنهما وجه الشمس وراء تلك الهضاب الشامخة والأدواح العالية، وغاب عن عينيهما الجبل المثلث الرأس، وكان علمهما الذي يهتديان به، فإذا هما في مضلةٍ بهماء لا يريان فيها غير الصخور العالية، والهضاب المشرفة، والأشجار المتشابكة، والمسالك المتشابهة، والأعماق المتغلغلة، فذُعر بول ذعرًا شديدًا، ووقف في مكانه حائرًا ذاهلًا لا يدري ماذا يأخذ وماذا يدع؟ ثم اندفع يعدو ها هنا وها هنا هائمًا مخبولًا عله يجد طريقًا أو مسلكًا، أو دليلًا يهديه الطريق، فلم يجد، فتسلق شجرة عالية ووقف بين فرعين من فروعها وظل يدور بنظره حوله ليرى موضع الجبل المثلث الرأس، أو يرى قرص الشمس في منحدرها إلى مغربها، فلم ير غير ذوائب الأشجار العالية تتلألأ على أوراقها الخضراء أشعة الشمس الذهبية قبل انحدارها إلى الغروب، وغير الظلال الممتدة التي يرسلها الليل طلائع لجيوشه الزاحفة المتدفقة، وكانت الريح قد هدأت وخفت صوتها، شأنها ساعة الغروب، وساد السكون على كل شيء، فأصبحت الغابة كأنها كوكبٌ من كواكب السماء، السابحة في أجواز الفضاء، لا يدب فيها حيوانٌ، ولا يخطر إنسانٌ، فملك الخوف قلب بول وجُن جنونه، وأخذ يصيح بأعلى صوته لا يدري من يحدث ومن ينادي، الغوث، النجدة، النجدة، إلي أيها الناس لتنقذوا فرجيني البائسة المسكينة، فلم يجبه غير الصدى المتردد.

ولم يزل يكرر هذا النداء والصدى يردد صوته حتى خيل إليه أن صوته قد أصبح صدًى من تلك الأصداء، فنزل من مكانه خائرًا متضعضعًا، ليس وراء ما به من الهم غاية، ثم وقف وأجال نظره في الفضاء فلم ير ماءً ولا ثمرًا، ولا نخيلًا ولا شجرًا، ولا كنًّا ولا مأوى، ولا شيئًا مما يقتات به المقتات، أو يتعلل به المتعلل، فصرخ صرخة عظيمة، وتهافت على الأرض باكيًا منتحبٌا، فذُعرت فرجيني حين رأته على تلك الحال وهُرعت إليه وضمته إلى نفسها وظلت تقول له: لا تبك يا بول، فإن بكاءك يقتلني همًّا وكمدًا، واغفر لي جريمتي التي أجرمتها إليك، فلولاي لما قاسيتَ هذا البلاء الذي تُقاسيه الآن، ولقد كان خيرًا لي ألا أُقْدِم على عملٍ من أعمال الخير أو الشَّرِّ إلَّا بعد استشارة أمي، ثم قالت له: دع البكاءَ والنحيب ولنتوجه إلى الله تعالى بالضَّراعة والابتهال عسى أن يُفَرِّج كربتنا، ويجعل لنا من أمرنا مخرجًا.

وجثيا يصليان صلاةً طويلة استغرقت شعورهما ووجدانهما، وذهبت نفساهما فيها حيث تذهب نفوس القانتين المتبتلين في مواقف خشوعهم وابتهالهم، وكانت الشمسُ قد انحدرت إلى مغربها ولم يبق منها في حاشية الأفق إلا كما يبقى على صفحة البحر الهادئ من آثار السفينة الماخرة، فلبثا على ذلك هُنيهة ثم استفاقا على صوت كلبٍ ينبح نباحًا شديدًا، فصاح بول: إنه كلب أحد الصيادين الذين يرصدون الأيائل في أعماق هذه الغابات ليُطلقوا عليها كلابهم فتعقرها، ثم اشتد نباح الكلب وأخذ يدنو منهما شيئًا فشيئًا، فارتعدت فرجيني وقالت: يُخَيَّل إليَّ يا بول أني أسمع صوت كلبنا «فيديل» لا، بل هو بعينه، وما ارتبتُ فيه قط.

وما أتمت كلمتها حتى كان الكلب «فيديل» تحت أقدامهما يتمسَّح بهما ويجاذبهما أثوابهما، ويكاد — لو استطاع — أن يبكي فرحًا بهما، ثم ما لبثا أن رأيا الزنجي دومينج مقبلًا عليهما، فازداد سرورهما واغتباطهما، وما وقع نظر الرجل عليهما حتى هُرع إليهما وجثا تحت أقدامهما باكيًا مستعبرًا، وظل يقول لهما: لقد مر بأُمَّيكما اليوم يا ولديَّ يومٌ ما مر بهما مثله مذ نزلا هذه الأرض حتى اليوم، ولقد كان جزعهما عظيمًا جدًّا حينما عادتا من الكنيسة فلم تجداكما، ولم تعرفا أي سبيل سلكتما، ولا أي أرضٍ اشتملت عليكما، ولم تستطع ماري أن تقول لهما شيئًا؛ لأنها كانت مشتغلةً ببعض الشئون وراء الكوخ في الساعة التي خرجتما فيها فلم تَرَكُما، وقد فتشنا عنكما في كل مكانٍ وسألنا عنكما كل غادٍ ورائح فلم نجد من يدلنا عليكما، فرأيت أن أستعين بالكلب «فيديل» على تتبع آثاركما، فأحضرت له بعض أثوابكما وألقيتها بين يديه فاشتمها، وكأنه علم ما يُراد منه، فألصق خيشومه بالأرض وانبعث في الطريق التي سرتما فيها، فِعْلَ الدليل الحاذق، فتبعته أخترق الغابات والأجمات، وأتسلق الصخور والهضاب، وأجتاز الجداول والأنهار، وأشعر بجميع ما شعرتما به من المتاعب والآلام، حتى بلغنا ضيعة الرجل الأوروبي على شاطئ النهر الأسود، وهنالك حدثني بعض الذين عرفتهم من عبيده وأجرائه أنكما حضرتما إليه لتسألاه العفو عن زنجيةٍ مسكينةٍ كانت قد أبِقَت منه وخافت الرجوع إليه، فوعدكما بالعفو عنها، ثم ما لبثتما أن عدتما أدراجكما قبل أن تعلما ما تم في شأنها.

فاضطربت فرجيني وقالت: وماذا تم في شأنها؟ ألم يعفُ الرجل عنها؟ فابتسم دومينج وقال: نعم عفا عن قتلها وإزهاق روحها، أما ما دون ذلك فلا، فإنه ما لبث على إثر ذهابكما أن أمر بشدها إلى بعض الأشجار عاريةً، وظل يجلدها بسوطه حتى تناثر لحمها، وتدفق دمها، ثم تركها مكانها تتأوه آهاتٍ تستبكي العيون وتذيب الأكباد، وقد رأيتها بعيني فلم أستطع البقاء أمامها لحظة واحدة.

وما أتم كلمته حتى صعقت فرجيني وهتفت بكلمتها التي كانت ترددها دائمًا: آه رَبِّ، لِمَ لَم تجعل طريق الخير سهلًا لينًا كطريق الشر؟!

ثم عاد الزنجي إلى حديثه يقول: ثم انكفأ «فيديل» راجعًا فتبعته فسار قليلًا على شاطئ النهر الأسود، ثم صعد الجبل الصغير المشرف عليه فصعدت وراءه حتى قادني إلى عين ماءٍ جاريةٍ رأيت على مقربةٍ منها نخلةً من نخيل الجوز ساقطةً محترقة لا يزال ينبعث دخانها وبقايا طلعٍ مشوي متناثر حولها، فعلمت أنكما عجتما بهذا المكان، وأن الجوع قد نال منكما منالًا عظيمًا فتجشمتما في طلب الطعام هذا العناء الكثير، ثم قادني الكلب بعد ذلك إلى هنا كما تريان، ونحن الآن على مقربةٍ من الجبل المثلث الرأس، وبيننا وبين المزرعة أربعة فراسخ، وقد أرسلت لكما سيدتاي هذا الطعام فكلاه وخذا لنفسكما راحتها وسكونها، ثم نرى بعد ذلك كيف نعود، وأخرج لهما طعامًا كثيرًا، وأثمارًا متنوعة، وركوة ماءٍ قَراح، وشيئًا من شراب الليمون المحلَّى بالسكر، وجلسوا جميعًا يأكلون ويشربون فرحين مغتبطين، لولا ما كان ينغص على فرجيني أحيانًا من ذكرى تلك الزنجية المسكينة المعذبة، حتى فرغوا من الطعام وتهيئوا للمسير، فإذا بول وفرجيني ضعيفان متضعضعان لا يستطيعان الانتقال خطوةً واحدة لما نالهما من الأين والإعياء.

فوقف دومينج وقفة الحائر المضطرب لا يدري ماذا يصنع: أيحملهما على عاتقه، وهو ما لا طاقة له به، أم يقضي الليل بجانبهما، ووراءهما أمَّاهما تنتظرانهما انتظار الظامئ الهيمان عُلالة الماء البارد؟ أم يرجع إلى المزرعة وحده ليعود منها بمن يساعده على حملهما؟ وكيف له بتركهما وحدهما في هذه القفرة الموحشة التي لا يعلم إلا الله ماذا تضم بين أقطارها من مخاوف وأهوالٍ، فتنفس تنفسةً طويلة وأنشأ يقول: أسفي على تلك الأيام المواضي حين كنت أحملكما فيها يا ولدي على ذراعٍ واحدة ما أشكو ولا أتبرم، أما اليوم فقد وهن عظمي، وضعفت منتي، وتقاربت خطاي، ولم يبق لي من الحياة إلا هذه الخطوات البطيئات التي أخطوها إلى قبري!

وإنه لكذلك إذ لمح أشباحًا سوداء تنحدر إليه من قمة الجبل كأنها قطع الليل، فراعه منظرها، ثم تبينها فإذا قومٌ من الزنوج السود الآبقين من ظلم مواليهم البيض في شعاب الجبال ومخارِمِها، وكانوا قد سمعوا وهم في مكمنهم حديثه مع الولدين ورأوا حيرته في أمرهما فجاءوا لمساعدته، وقال زعيمهم: إن هذين الأبيضين الصغيرين من أطيب الناس قلبًا، وأشرفهم نفسًا، وأدناهم رحمة فقد جشَّما اليوم نفسهما عناءً عظيمًا في سبيل مساعدة زنجيةٍ مسكينة كان قد بلغ بها الشقاء والبلاء مبلغهما، فرحماها وأويا إليها وذهبا بها إلى سيدها ليشفعا لها عنده ويسألاه العفو عنها والمرحمة بها، وقد رأيناهما صباح اليوم وهما سائران معها إلى شاطئ النهر الأسود، فشكرنا لهما في أنفسنا فضلهما ونعمتهما، وعجبنا كيف استطاع ذلك الإهاب الأبيض الدميم أن يضم بين أقطاره قلبًا غير أسود، وقد سمعنا الآن حوارك معهما، وعلمنا أنهما في حاجة إلى من يحملهما إلى مزرعتهما، فجئنا لنتولى ذلك بأنفسنا مكافأةً لهما على نعمتهما التي أسدياها إلى تلك الطريدة المسكينة.

ثم أشار إلى أصحابه فاقتطعوا في لحظات قليلة بضعة أعوادٍ من بعض الأشجار العاتية وصنعوا منها ما يشبه المحفَّة، فصعد إليها بول وفرجيني، وحملها أربعة منهم على عواتقهم، ومشى الباقون أمامهم ينيرون الطريق بمشاعلهم، ويغنون أغانيهم الخاصة كأنما قد نسوا جميع همومهم وآلامهم التي يعالجونها في أنفسهم، حتى وصلوا عند منتصف الليل إلى المزرعة.

وكانت هيلين ومرغريت تنتظران ولديهما منذ غروب الشمس عند سفح الجبل وقد نصبتا حولهما على أبعادٍ مختلفة بعض المشاعل الكبيرة لتريا على ضوئها وجوه القادمين، فما لمحتا المحفَّة على بُعدٍ حتى طارتا إليها وضمتا ولديهما إلى صدريهما باكيتين منتحبتين، فبكى الولدان لبكائهما، وبكى الجميع لبكائهم، والتفتت هيلين إلى ابنتها وقالت لها: أين كنتما أيها الولدان الشقيان؟ ومن أذنكما بالذهاب وحدكما في هذه الفلاة الموحشة؟ فجثت فرجيني بين يدي أمها وقالت لها: العفو يا أماه، فقد جاءتني اليوم زنجيةٌ مسكينةٌ آبقةٌ من سيدها تتضور جوعًا، وتسيل نفسها همًّا وكمدًا، فسألتني أن أطعمها وأسقيها، وأن أنقذها من بؤسها وبلائها، فقدمت لها ما شاءت من الطعام والشراب، ثم حِرْتُ في أمرها بعد ذلك، فلم أرَ خيرًا لها من أن أصحبها إلى سيدها وأسأله العفو عنها والمرحمة بها، وأبى بول إلا أن يصحبني، فذهبنا إلى شاطئ النهر الأسود، فلما فرغنا من شأننا وأردنا الرجوع ضللنا الطريق، وظللنا حائرين ساعاتٍ طوالًا حتى وافانا دومينج، وكان التعب قد نال منا منالًا عظيمًا فعجزنا عن المسير، فتقدم هؤلاء السود الطيبون لمساعدتنا، وصنعوا لنا هذه المحفَّة وحملونا عليها رحمةً بنا، ووفاءً بذلك المعروف القليل الذي بذلناه لمواطنتهم المسكينة، وكذلك يجزي الله المحسنين خيرًا بما فعلوا.

فضمتها أمها إلى صدرها وقالت: قد عفوت عنكما يا ولديَّ، وأدعو الله ألا يحرمكما نعمة العطف على البائسين والمنكوبين. ثم عادوا جميعًا إلى أكواخهم فرحين مغتبطين وقدموا للزنوج كثيرًا من الطعام والشراب، فشكروا لهم فضلهم وانصرفوا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤