الفصل الأول

وفاة محمد سعيد باشا١

توافق الناس والزمان
فحيث كان الزمان كانوا

عاد محمد سعيد باشا، والي مصر، من أوروبا، في أواخر سنة ١٨٦٢ إلى الإسكندرية، والمرض الذي ذهب إلى بلاد الغرب، ليتطبب منه، على يد نطس أطبائها، قد تمكن من حياته، تمكنًا، سمم كل ينابيعها، فبات ميئوسًا من نجاته: وأخذ الموت ينسج أكفانه، ويسدل حوله ظله.

وكما أن الناس، حين تميل الشمس إلى الغروب، يأخذون في الشخوص إليها ويرقبون مغيبها، وتجيش العواطف في صدر كل منهم طبقًا لميوله وآماله، فهكذا كان المصريون ومستوطنو مصر، والذين تربطهم بها مصالح، ينظرون إلى مغيب حياة محمد سعيد باشا، وتواريها وراء أفق هذا العالم المنظور، بأعين تختلج فيها عواطف القلوب المختلفة.

فالأفَّاقون الذين احتاطوا بالأمير المحتضَر، أيام كانت زهرة حياته وصولته يانعة، فأثروا من إسرافه واعتزوا من هواه، كانوا ينظرون إلى دخوله في حشرجة الموت، وقلوبهم شاعرة بأن انقلاب ظهر المجن لهم بات قريبًا، وأن الأوان آن ليقتلعوا خيامهم من الأرض المصرية ويقصدوا أقطارًا غيرها.

والبطانة التي لم تحط به إلا لأنه الأمير والحاكم وولي النعم، ما رأته يحتضر وتأكدت من أنه، لا محالة، ميت إلا وولت وجهها شطر الشمس المنتظر شروقها؛ لأنها شمس من سيصبح الأمير والحاكم وولي النعم.

والذين أحاطوا بمحمد سعيد باشا، ليرتكنوا عليه في أعمال نافعة أقدموا عليها، ومشروعات جليلة أخرجوا بعضها إلى حيز الوجود، وتعلقت آمالهم في إخراج الباقي منها، إلى الحيز عينه، بحياة الرجل المائت، إنما كانوا ينظرون إلى زواله، وقلوبهم واجفة، وآمالهم مضطربة، لا يدرون ما المصير.

والشعب المصري، الذي رأى من الوالي المولى حبًّا خاصًّا له، واعتناء كبيرًا بمصالحه، ورغبة حقيقية في تحسين أحواله؛ وتخفيف أثقاله؛ ورأى منه إقبالًا على إحياء اللغة العربية وإحلالها في دوائر الحكومة محلًّا رسميًّا؛ والجيش المصري الذي كان محط انتباهه ومعزته، ووجد نعيم الحياة تحت لباس جنديته، كانا ينظران من بعيد إلى تصاعد أواخر أنفاس الأمير المحتضر، والقلب حزين مكتئب، والنفس ضارعة إلى الله أن يحذو الخلف حذو السلف؛ وأن تكون الأيام التالية ظُهر الخير، إذا صح اعتبار الأيام المتصرمة فجره.

وأما الرجال المحافظون المتمسكون بالتقاليد العباسية، الراغبون عن كل عين تتفجر في مصر للمدنية الغربية، وعن كل طريق يمهد لها؛ الناقمون على محمد سعيد باشا تركه سياسة سلفه، للسير في خطوات (محمد علي) أبيه العظيم، فإنهم كانوا ينظرون إلى احتضار ذلك الأمير، نظرة القليل الصبر، ويرقبون عن كثب، ساعة لفظه نفسه الأخير، معللين الأنفس بعود العهد القديم إلى البزوغ من وراء سرير موته؛ لاعتقادهم أن مذهب الخلف مذهبهم، وأن (إسماعيل) يكره ما يكرهون ويحب ما يحبون.

وأما (إسماعيل) نفسه، فإنه منذ تأكد أن رقدة عمه لرقدة لا يعقبها قيام؛ وأن الموت بات محتمًا، بالرغم من أن شجرة العمر لم تثقلها السنون، ساورته الانفعالات الطبيعية التي تساور كل إنسان في مركزه، وأخذ ينتظر وهو في القاهرة، أن ترد عليه الأنباء المبشرة بارتقائه سدة جده. الباشا العظيم!

وكانت قد جرت العادة أن ينعم بلقب (بك) على أول من يحمل إلى الوالي الجديد خبر صيرورة العرش المصري إليه؛ وأن ينعم عليه بالباشوية إذا كان بيكًا.

فلم يغادر (بسي بك) مدير المخابرات التلغرافية، عدته، ثمان وأربعين ساعة؛ لكي يكون أول المبشرين، فيصبح باشا؛ ولكن النعاس غلبه في نهاية الأمر؛ فاستدعى أحد صغار موظفي مصلحته؛ وأمره بالقيام بجانب العدة، ريثما يذهب، هو، إلى مخدعه وينام قليلًا؛ وبالإسراع إلى إيقاظه حال ورود إشارة برقية من الإسكندرية تنبئ بانتقال محمد سعيد باشا إلى دار البقاء، ووعده بجائزة، قدرها خمسمائة فرنك مقابل ذلك، ثم ذهب إلى مخدعه، ونام على سريره وهو بلباس العمل.

ولم يكن الموظف الصغير الذي أنابه عنه، يجهل عادة الإنعام التي ذكرناها — فلما انتصف الليل بين اليوم السابع عشر واليوم الثامن عشر من شهر يناير سنة ١٨٦٣، وردت من الإسكندرية الإشارة البرقية المنتظرة بفارغ الصبر، فتلقاها ذلك الموظف الصغير وأسرع بها إلى سراي الأمير (إسماعيل) وطلب المثول بين يديه.

وكان (إسماعيل) لا يزال جالسًا في قاعة استقباله، سهران، يحيط به رجاله وتسامره هواجسه.

فلما رفع إليه طلب ذلك الموظف، أمر بإدخاله حالًا، فأدخل، وأحدقت به أنظار الجميع.

فجثا الرجل أمامه وسلمه الإشارة البرقية الواردة، فقرأها (إسماعيل)، وما أتى على ما دون فيها، إلا ونهض والفرح منتشر على محياه — فوقعت الإشارة من يده — وشكر الله بصوت عال على ما أنعم به عليه من رفعه إلى سدة مصر السنية، ثم ترحم على عمه ترحمًا طويلًا.

فشاركه رجاله المحيطون به في فرحه، وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء ودوام العز؛ وأخذوا يهنئونه ويهنئ بعضهم بعضًا.

ثم نظر (إسماعيل) إلى الموظف الجاثي أمامه، (والذي كان قد التقط الإشارة البرقية حالما وقعت من يد مولاه، ووضعها في جيبه)، وتبسم وقال: «انهض يا بك!» وبعد أن حباه نفحة من المال أذن له بالانصراف.

فعاد الموظف مسرعًا إلى مصلحة التلغرافات، لرغبته في الحصول على جائزة الخمسمائة فرنك التي وعد بها، زيادة على الذهب الذي أصابه؛ ودخل بتلك الإشارة على رئيسه، بسي بك، وأيقظه وسلمها إليه.

فتناولها بسي بك وقرأها، ثم فتح كيسه بسرعة وأعطى الرجل المبلغ الذي وعده به، ثم أسرع بالرسالة إلى سراي الأمير (إسماعيل)، وهو يرى أنه قد أصبح باشا، وتتلذذ نفسه بذلك.

فلما دخل على الأمير، وعرض عليه الإشارة، قابله (إسماعيل) بفتور وقال: «لقد أصبح هذا لدينا خبرًا قديمًا!»

فأدرك الرجل أن موظفه خانه، وسبقه إلى استجلاء أنوار الشمس المشرقة ونعمها، ثم ضحك عليه واستخلص منه خمسمائة فرنك، فاستشاط غضبًا ونقمة، وعاد إلى مصلحته، واستدعى ذلك المكير المائن، واندلث عليه.

فأوقفه الموظف عند حده، قائلًا: «صه! فإني أصبحت بيكًا مثلك!»

هكذا أضاع بسي بك ثمرة سهره ثمانيًّا وأربعين ساعة، بعدم تجلده على الاستمرار ساهرًا. بضع سويعات أخرى!٢

وما نشرت المدافع، المطلقة من قلعة الجبل، الخبر في أنحاء العاصمة، وأعلمت سكانها بغروب شمس حياة محمد سعيد باشا، وشروق شمس حكم (إسماعيل باشا)، إلا وأسرع كبار القوم ووجوه البلد وقناصل الدول بمصر إلى سراي هذا الأمير وهنئوه، وتمنوا له ملكًا طويلًا سعيدًا.

وما بزغ نهار الثامن عشر من شهر يناير، إلا وورد إلى العاصمة آخر من كان قد بقي حول سرير الوالي المحتضر في الإسكندرية، وفارقه حالما فارقته الروح، وأسرع هو أيضًا إلى سراي الوالي الجديد، ليقدم له فروض عبوديته، ويتلمس من محظوظيته، نعمته.

ولم يبق بجانب جثة من كانت كلمته بالأمس حياة وموتًا إلا فرنساوي يقال له: المسيو براڨيه، كان صديق المتوفى الحميم.٣
وبينما تعد في مصر معدات الاحتفال بارتقاء الوالي الجديد كرسي أبيه وجده، صدرت الأوامر إلى أولي الشأن في الإسكندرية، بالإسراع إلى مواراة محمد سعيد باشا التراب، لكيلا ينشر الناسور، الذي قتله، الفساد في جثته بسرعة فتذهب الرائحة الكريهة التي قد تنبعث عنه، بالمهابة الواجبة لمقامه السامي، وقضت تلك الأوامر بأن يكون مدفن الوالي المتوفى بجانب مدفن إسكندر المقدوني العظيم ومدافن البطالسة الكرام، إجلالًا له، ولكي يكتسب، من ذلك الجوار الساطع، حقًّا أمام أعين الأجيال المقبلة، في أن تظلله سحابة الفخار المنتشرة حول قبور الصالحين من أولئك العواهل الأماجد.٤

فامتثل ذوو الشأن بالإسكندرية تلك الأوامر، ووريت جثة محمد سعيد باشا في مرقده الأبدي، في الروضة المسورة الكائنة في سفح قلعة الديماس بجوار المسجد المعروف بمسجد نبي الله دانيال — ونودي بالقلعة بمصر بولاية (إسماعيل) ابن أخيه.

فتزينت المدن والبنادر ثلاث ليال؛ وأقيمت الولائم والأفراح، وفرقت سمو الأميرة أم (إسماعيل) الهدايا النفيسة على أرباب الدولة والعلماء والمشايخ، وأقامت الأدعية في المساجد أيامًا: ورسمت بترميم بعض أضرحة الأولياء والصالحين من مالها الخاص.٥
١  أهم مصادر هذا الفصل: «تاريخ مصر في عهد إسماعيل» للمؤلف الإيطالي ف. سانتي، و«مصر الخديوي» لإدون دي ليون، و«إماطة اللثام عن أسرار مصر» للكاتبة أولمپ أدوار، و«الكافي» لميخائيل بك شاروبيم.
٢  انظر: «مصر الخديوي» لإدون دي ليون ص٥٩ و١٦٠، و«إماطة اللثام عن أسرار مصر» لأولمپ أدوار، ص١٦٣ و١٦٤؛ وانظر: «تاريخ مصر في عهد إسماعيل» لماك كون، ص١٩ في الحاشية.
٣  انظر: «إماطة اللثام عن أسرار مصر» ص١٦١.
٤  «إماطة اللثام عن أسرار مصر» ص١٦١، وكان (سعيد باشا) في أشهر حياته الأخيرة، حينما أحس بدنو أجله قد أنشأ لنفسه ضريحًا فخمًا بالقرب من القناطر الخيرية، ولكن (إسماعيل) للأسباب المذكورة في المتن لا للأسباب التي تذكرها مدام أدوار أمر بدفنه بالإسكندرية. انظر: ماك كون ص١٦ من «مصر في عهد إسماعيل».
٥  انظر: «الكافي» المجلد الأخير، ص١٣٨ طبعة بولاق سنة ١٩٠٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤