الفصل الأول

إيقاظ الآمال١

وما زلت توّاقًا إلى كل غاية
بلغت بها أعلى البناء المقوّم

غير أنه لم يكن من مصلحة (إسماعيل) ولا من مصلحة البلاد أن ينفر رجال ذلك الحزب؛ لأنهم، وأن لم يكن يرجى منهم نفع مطلقًا، لانغلاق عقولهم دون أشعة كل نور من أنوار التطور الاجتماعي، كانوا قادرين على تعكير مياه التفاهم بين مصر والأستانة، وذلك التعكير لم يكن مرغوبًا فيه، بل كان المرغوب فيه عكسه لنجاح سياسة الدهاء التي عول (إسماعيل) على اتباعها في تحقيق أمنيات نفسه.

لذلك، فإنه، بعد أن انقضت مراسم التهاني بارتقائه سدة جدّه وأبيه، صرح بعزمه على السفر إلى الأستانة العلية لتناول فرمان التولية فيها، اقتداء بأبيه (إبراهيم) وعملًا بنصوص فرمان سنة ١٨٤١.

فأقام حليم باشا عمه مقامه في غيبته؛ وسافر إليها، ومثل بين يدي السلطان عبد العزيز — وكان قد أخلف، منذ أقل من سنتين، أخاه عبد المجيد على عرش آل عثمان — فلقي منه كل حفاوة وإكرام وقلده السلطان بيده أفخر نياشين الدولة فوق تقليده إياه إمارة مصر.

فاغتنم (إسماعيل) فرصة فيض هذه التعطفات، والتمس من عبد العزيز التنازل إلى زيارة القطر المصري؛ فوعده السلطان بذلك عاجلًا؛ فشكر وعاد راضيًا محظوظًا.

ولما وصل إلى الإسكندرية وقابله جميع قناصل الدول وكبار رجال الجاليات الغربية ليهنئوه بسلامة الإياب وفرمان التولية، ألقى على مسامعهم خطابًا نفيسًا، كان بمثابة إعلان للخطة التي رسمها لنفسه، فيما يختص بإدارة مصر الداخلية، وهاك نصه:٢

يا حضرات القناصل

إني أشعر شعورًا عميقًا بالواجب الذي وضعه الله سبحانه وتعالى على عاتقي باستدعائه المرحوم عمي إلى جواره وانتخابه إياي لتولي زمام الأحكام المصرية، وإني آمل في ظل صاحب الجلال الهمايوني السلطان الأعظم أن أقوم قيامًا حسنًا بأداء ذلك الواجب.

وإني موطن العزم توطينًا حقًّا، يا حضرات القناصل، على تخصيص كل ما أوتيت من ثبات وهمة لترقية شئون القطر الملقاة تقاليد حكمه إليَّ، وإنماءِ رخائه.

وبما أن أساس كل إدارة جيدة إنما هو النظام والاقتصاد في المالية فإني سأجعلهما نبراسي في كل أعمالي، وأعمل على توطيد أركانهما بكل ما في وسعي.

ولكي أقدم مثالًا صالحًا للجميع ودليلًا محسوسًا على إرادتي هذه الأكيدة فإني قد عزمت منذ الآن على ترك الطريقة المتبعة من أسلافي، وعلى تقرير مرتب سنوي لي، لن أتجاوزه أبدًا، فأتمكن بذلك من تخصيص عموم إيرادات القطر لإنماء شئونه الزراعية وتحسينها.

وإني قررت أيضًا إلغاء طريقة السخرة المشئومة، التي اتبعتها الحكومة دائمًا في أشغالها، والتي هي السبب الأهم، بل الأوحد، الحائل دون بلوغ القطر كل النجاح الذي هو جدير به.

وإني لمتيقن أن التجارة الحرة ستجد فائدتها ومصلحتها في هذه الإجراءات، فتنشر الرخاء وتعممه بين جميع الطبقات من الأهالي والسكان.

أما التعليم، وهو أس النجاح والرقي؛ وإقامة معالم العدالة بقسطاس حق، وهي محور كل أمن؛ فإني سأخصهما بفائق عنايتي، فينجم عن النظام في المالية والإدارة؛ وعن توزيع العدالة توزيعًا لا تشوبه شائبة، زيادة في سهولة المعاملات، وضمانة لسلامتها بين الأوروبيين والقطر.

وإني آمل، يا حضرات القناصل، أن أجد منكم اقتناعًا بهذه العواطف التي تملأ فؤادي، وإقبالًا على وضع أيديكم في يدي بإخلاص، لنعمل معًا في سبيل نير، على ما فيه خير البلاد وساكنيها.٣

فكان لهذا الخطاب وقع حسن، ليس فقط عند سامعيه، بل في عموم الأرض المصرية، وفي ذات البلاد الخارجية؛ وتيقن الجميع أن الملك الجديد البازغ فجره، يحمل في طيات مستقبله سعادة، قلما حلمت الأقطار الشرقية بمثلها.

وكان فرديناند دي لسيبس، صاحب مشروع ترعة السويس، خائفًا على مشروعه انقلابًا في الوالي الجديد، وانحرافًا كان قد هوّل به كثيرون حوله، فرأى (إسماعيل) أن يسري عنه مخاوفه، ويسكن مخاوف الشركة العالمية القائمة بذلك المشروع مع إبقاء يديه حرتين في المستقبل.

فاغتنم فرصة وجود فرديناند في زمرة القناصل العامة المحيطين بشخصه في تلك الحفلة الرسمية التاريخية، وقال له على مسمع من الجميع: إني، يا مسيو دي لسيبس لأرى نفسي غير جدير بالملك إذا لم أكن قناليًّا أكثر منك، وإنك، لو كنت والي مصر، وأنت رئيس شركة القنال، لما فعلت في مصلحتها، بالأستانة، أكثر مما فعلت أنا.٤

فبدد، بذلك، سحابة الوهم التي كانت قد غشيت أفكارًا كثيرة؛ وتمكن، بباكورة أعماله هذه التي سردنا تفاصيلها، من بلوغ غايتين معًا: (الأولى) المحافظة على وداد الرجعيين ومحبيهم؛ و(الثانية) اكتساب ثقة الأوروبيين وإعجابهم به.

أما شعبه فكان فرحًا به، فرحًا بتوليته، ولا فرح الصبي بيوم العيد.

١  أهم مصادر هذا الفصل: «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون، و«مصر القديمة والحديثة» لأودسكلكي.
٢  ومن قائل: إن هذا الخطاب تلي في القلعة، ثاني يوم التولية.
٣  انظر: «مصر القديمة والحديثة» لأودسكلكي ص١٢ ج١، و«مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص٢٢.
٤  «أوائل ترعة السويس» لفرديناند دي لسيبس ص٢١٤ و٢١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤