الفصل الثاني

زيارة السلطان عبد العزيز للديار المصرية١

كانت زيارتُكم هَذِي لنا أملًا
واليوم قد بلغ الآمالَ راجيها

وبينما الملأ في القطر لا يزالون يتحدثون بسفر سمو الوالي إلى القسطنطينية، والحفاوة التي قوبل بها هناك، والإكرام الذي ناله؛ وبما اشتملت عليه الخطبة الرسمية من بدور سعد تسطع في سماء البلاد؛ وبينما الكل يشاهدون بدء تحقيق الخطة التي رسمها لنفسه في ذلك الخطاب، فيما أصدره من الأوامر إلى وزارة المالية بتخصيص مبلغ ستين ألف كيس (أي: ما ينوف قليلًا على سبعة عشر مليونًا ونصف من الفرنكات) بصفة مرتب سنوي له، لن يتعداه، وصرف كل ما يزيد على ذلك في مصالح البلاد — إذا بخبر دوى في وادي النيل جعله يهتز طربًا من أعلاه إلى أقصاه، وجعل عيون عموم العالم الإسلامي تتجه إليه، وتنظر نظرة إجلال وإعظام إلى العاهل الحاكم فيه. ذلك النبأ إنما كان تحرك الركاب السلطانية العثمانية إلى زيارة الديار المصرية، والبر بالوعد الذي وعد (عبد العزيز) تابعه به.

وإنما كان لذلك النبأ، ذلك الوقع العظيم؛ لأنه منذ أن فتح السلطان سليم خان الأول القطر المصري وأضافه إلى ممالكه الشاسعة الأرجاء، وبارحه بعد أن أقام فيه حكومته المملوكية المزدوجة، التي كانت من أكبر أسباب فقره وتعاسته، لم تطأه قدم سلطان عثماني مطلقًا؛ ولا وقع في خلد أحد أن خليفة الإسلام يأتي إليه ليزوره، بعد أن فارقت الخلافة العباسية ربوعه؛ ولأنه منذ أن أغمض الموت جفون السلطان مراد خان الرابع في سنة ١٦٣٠ لم يرو عن سلطان عثماني مطلقًا أنه فارق عاصمة ملكه، لا لجهاد تقي ولا لتفقد أحوال رعيته، ولا لزيارة غيره من عواهل الدنيا وملوكها.

فلم يكد العالم يصدق ذلك النبأ، لولا أنه رأى من تحقيقه ما قطع قول كل متكهن وبدد الشك من جميع الصدور.

ففي يوم الجمعة، ثالث أبريل سنة ١٨٦٣ — وكانت الجمعة المقدسة عند الطوائف الغربية — ركب السلطان عبد العزيز ومعه ابنه الأمير يوسف عز الدين، ووزيراه فؤاد باشا وزير الحربية ومحمد باشا وزير البحرية، وغيرهما من كبار موظفي الدولة والمابين والخاصة السلطانية، اليخت الفخم (فيض جهاد)، بعد أن تبرك بدعاء والدته السلطانة المعظمة؛ وركب كل من الأمراء الفخام مراد أفندي وحميد أفندي ورشاد أفندي أولاد أخيه المرحوم عبد المجيد، الفرقاطه (مجيدية)؛ وركب وراءهم جمهور عديد من الياوران والضباط والموظفين والجنود سفنًا عثمانية أخرى؛ وأقلع الجميع من الأستانة إلى مصر.

فمروا بغليبولي في اليوم الرابع من أبريل — وكان يوم سبت النور — فأطلقت طوابي الشاطئ الأوربي وطوابي الشاطئ الأسيوي مائة مدفع ومدفعًا، إجلالًا وتعظيمًا لاجتياز الباديشاه العثماني وأمراء بيته السلطاني مياه الدردنيل.

وما بلغ اليوم السابع من أبريل ضحاه، إلا ووصل الأسطول المجيد إلى عرض بحر الإسكندرية، فتجلت لهم هذه المدينة، وهم في البعد، كأنها العروس المنتظرة ساعة الزفاف.

فدنوا منها في جهة مرفأ رأس التين، وأعين قاطني السراي شاخصة إليهم، وقلوبهم مختلجة سرورًا؛ وروح (إسماعيل) تستمرئ لذة المطمع المحقق.

فلما أضحوا من البوغاز، بحيث يشرفون على جميع دائرته الشاسعة بأنظارهم، رأوا السفن مكتظة فيه، والأعلام العثمانية تخفق فوقها، وترفرف في جميع فضاء الساحل المنظور.

فما زالوا يتقدمون، حتى إذا بلغوا أقرب نقطة في البحر تستطيع السفن البخارية الرسو فيها، أطلقوا مدافع أسطولهم تسليمًا على الأرض المصرية.

فدوت المدافع من الطوابي المحيطة بالمدينة، إيجابًا وإجلالًا؛ وملأ الفضاء صدح الموسيقات العديدة من عسكرية وغيرها المصطفة على الشاطئ، وارتفعت أصوات الجم الغفير المحتشد المزدحمة أقدامه على الساحل، ضاجة. عاجة — وقد مزجت التحية السلطانية بالتحية الأميرية — وصائحة: «بادشاهمز چوق يشا» و«أفندمز چوق يشا» معًا.

ونزل (إسماعيل) ومعه عمه حليم باشا وغيره من أكابر رجاله، في زورقة الفخم تحيط به انبعاثات ذلك الفرح العمومي، وسار قاصدًا اليخت السلطاني لتهنئة متبوعة الأعظم بسلامة الوصول، وتقديم فروض الاحترام والأجلال له، وللسلام على ضيوفه الكرام واستقبالهم.

فقبل يد السلطان، وصافح باحترام وانحناء أمراء البيت العثماني؛ ثم حمد وشكر ودعا دعاءً صالحًا.

فوجد من لدن عبد العزيز حفاوة فائقة؛ وإكرامًا جديدًا: فإن مدافع الأسطول العثماني أرسلت طلقاتها، مرة أخرى، إجلالًا له، وأقبل السلطان عليه، وقلده بيده سيفًا مرصعًا، كأنه يريد تثبيت توليته الرسمية، عسكريًّا، ثم أبقاه في ضيافته ساعة وأكثر، أظهر له في خلالها ما ضاعف سروره وزاد إخلاصه.

ثم سار الجميع إلى الزوارق المعدة لهم، فتخلى السلطان عن زورقه الخاص إلى الأمراء حميد ورشاد وعز الدين، وركب هو زورق الوالي بمعية مراد و(إسماعيل).

ونزل الباقون في الزوارق الأخرى، والمدافع تدوي من البحر والبر؛ والموسيقات تصدح؛ والأصوات تضج؛ والدعوات تتعالى، وساروا قاصدين سراي رأس التين العامرة في وسط مظاهر ذلك الاختفاء العام المستمر.

وكان في انتظارهم، أمام باب السراي، فرقة كاملة من الجنود المصرية مصطفة على الرصيف، ومرتدية أفخر ملابسها العسكرية، فرفعت سلاحها حالما مست أقدامهم الأرض المصرية، وقدمت لهم تحيتها العسكرية؛ ونادى جنودها بأعلى أصواتهم، وسلاحهم يتصلصل: «بادشا همز چوق يشا» — وهي التحية التي كانت تدوي الآفاق بها في ذلك اليوم.

وكانت سراي رأس التين قد أعدت إعدادًا فخمًا لنزول الركاب السلطانية فيها.

فوجد عبد العزيز من زخرفها ورياشها والبذخ المنتشر في جميع أثاثها، ومن أسباب الراحة والهناء كلية كانت أم جزئية، المتوفرة في كل جهاتها، ما أوجب إعجابه (بإسماعيل) وضاعف تقديره للثروة المصرية.

وبعد أن استراح، وتناول طعام الغداء — وكان شيئًا فاخرًا يفوق وصف كل واصف، وقدم باستمرار على مائدتين: إحداهما في السلاملك، للسلطان وأمراء بيته؛ والأخرى في دار الحريم، للحاشية والمعية والمابين؛ ثم استراح ثانية — أخذ يحدق بنظره، من نوافذ السلاملك المفتوحة، بالأعمال المدهشة التي خلقتها إرادة (محمد علي) الباشا العظيم، من العدم؛ ويعجب بها إعجابًا عظيمًا، ثم طلب إلى (إسماعيل باشا) أن يقص عليه كيف تمكن ذلك الجد الكبير من إتمام ما تم على يديه.

فقص عليه (إسماعيل) كيف أن (محمد علي) — في بلد كانت تعوزه كل الوسائل ما عدا يد الإنسان، وكانت كل الآراء فيه مجمعة على معارضة آرائه؛ وسدول الجهل وشبح الهمجية مخيم على ربوعه — قد أنشأ كل تلك المعجزات في أقل من ثمان سنوات، كيف أنه — بعد أن أضاع أكثر من سنة، وأنفق مليونًا ونيفًا من النقود لإيجاد الترسانة — اتضح له من الأدلة التي أقامها أمامه سريزي بك المهندس الفرنساوي (بالرغم من أنه قدم إلى خدمته مصحوبًا بتوصية ضئيلة) أن جميع مجهودات شاكر أفندي رئيس أعماله التركي، لن تجدي نفعًا، لمخالفتها للأصول؛ فأوقف حالًا سير تقدمها؛ وضرب صفحًا عن المبالغ الطائلة التي صرفت سدى وشرع، بدون أدنى إبطاء، في تنفيذ تصميمات ذلك الفرنساوي الحكيم، وكيف أنه — بالرغم من كل الصعوبات القائمة في سبيله — حفر الحوض اللازم لترسانته؛ وأقام المخازن والمعامل فيها وحولها؛ وبنى أسطوله العظيم المؤلف مما يزيد على خمس وثلاثين قطعة مشتملة على أكثر من ألف وخمسمائة مدفع بالرغم من عدم وجود الخشب والحديد لديه، وكيف أنه أوصل ماء النيل إلى الإسكندرية، بحفر ترعة المحمودية التي يرى مصبها أمامه؛ وبحفره إياها بدون آلات ومعاول، بل بمجرد أيدي الفلاحين وأصابعهم، لعدم وجود تلك الآلات والمعاول في البلاد، وكيف أنشأ سراي رأس التين والطوابي الحصينة التي تدرأ عنها وعن الساحل تعديات كل عدو، والتي وضع رسمها وقام بتنفيذها المسيو دي سريزي عينه، وكيف أقام المنارة الشاهقة، هدى للسفن والجاريات، لئلا ترتطم بالصخور القائمة عند مدخل البوغاز.

وقص عليه أيضًا كيف تم في عهد عباس، وبالرغم من إرادته، مد خط السكة الحديدية بين الإسكندرية ومصر على يد شركة إنجليزية فكرت في مده حالًا بعد النجاز من مد السكة الحديدية بين لندن وليڨربول؛ إذ لم يكن قد مد من ذلك شيء في معظم البلاد الأوروبية الأكثر حضارة.

فارتاحت نفس عبد العزيز إلى أحاديثه وتاقت إلى استعادتها والتوسع فيها، لا سيما فيما كان منها خاصًّا بالمحمودية والسكة الحديدية؛ لتيقنه من أن الترع والسكك الحديدية، بصفتها أهم طرق المواصلات بين البشر، أهم ما يستطيع حاكم بار برعاياه وملكه الإقبال على الإكثار منها في دائرة بلاده.

ولما غربت الشمس وهبطت حرارة النهار، وانسدلت ظلال الغسق خرج البادشاه من سراي رأس التين، في أفخر عربات القصر المكشوفة، تجرها أربعة جياد مطهمة ناصعة البياض، ويتقدمها ثمانية عداءون بملابسهم المزركشة بالذهب، ونفر يسير من الحراس المرتدين ملابسهم الحمراء الساطعة؛ واجتاز — و(إسماعيل) على يساره، والعربات المقلة أمراء البيتين العثماني والعلوي تتلو عربته الفاخرة — شارع رأس التين، فشارع الميدان، فشارع نوبار، فالمنشية وباب رشيد، وقد اكتظت كلها بالمتفرجين وقوفًا على جانبي الطريق، وتزينت بالرايات والأعلام الخفاقة، وازدانت بالأنوار المتألقة.

أما في الشوارع الآهلة بالسكان الوطنيين، فإن الرعايا كانوا واقفين على حافات حوانيتهم، المزينة بالبيارق، وقفة الخاشعين، يهتفون بملء أصواتهم «بادشا همز چوق يشا» وإذا ما دنا منهم الموكب يكادون يسجدون عبادة أمام جلالة الخليفة الفائت بينما أناس منهم ينثرون الورد والزهور في طريق الموكب، أو ينشرون في الهواء دخان البخور العطر ويحرقون العود والندّ، وجوقات موسيقية واقفة على بعد مائة متر الواحدة من الأخرى، تصدح بأطرب الأنغام فتشنف الأسماع وتشجي القلوب.

ولم يكن من نساء ولا أولاد إلا في نوافذ البيوت وعلى أسطحة المنازل، حيث كانت تزدحم الرءوس البيضاء والرءوس السوداء وتدوي الزغاريد والتهاليل.

وأما في الشوارع الآهلة بالأجانب، ولا سيما المنشية، فإن القبعات كانت تلوح في الهواء؛ وصيحات الابتهاج تملأ الفضاء؛ ويقتدي الأهالي بالغربيين فيصيحون معهم ويفوقونهم بأصواتهم، ويجتهدون في أن يظهروا لسلطانهم بحركاتهم وأنظارهم، مقدار الحب والإخلاص اللذين تكنهما قلوبهم له؛ بينما السيدات ينثرن من النوافذ باقات الزهور والرياحين أو يرفرفن بمناديلهن في الفضاء، وكانت الزينات يأخذ سناها بالأبصار، وعلى الأخص الزينة التي أقامها الكونت زيزينيا عند مدخل المنشية.

فلما فرغ السلطان من المرور عاد إلى سراي رأس التين من الطريق التي أتى منها بين مظاهر الإجلال والتعظيم.

وما استقر في قاعة جلوسه إلا وتألق حوله البر والبحر بالأنوار المختلفة الألوان البهية الأشكال؛ ودوت في الآفاق الألعاب النارية المتنوعة الأوضاع، وأخذت تتساقط، أمام نوافذه، بأشكال أهلة وبدور ونجوم، يأخذ سناها بالأبصار؛ واستمرت الحال كذلك حتى بعد منتصف الليل.

فلما كان اليوم التالي (يوم الأربعاء ثامن أبريل) حوالي الساعة العاشرة صباحًا، استقبل السلطان، وبجانبه (إسماعيل باشا) وفؤاد باشا، قناصل الدول العامة القادمين للتهنئة بسلامة الوصول؛ وألقى عليهم خطبة جميلة، أعرب لهم فيها عن سروره بما رآه من أسباب العمران في القطر المصري الذي هو إحدى ممالكه الشاهانية؛ وعن نياته الطيبة، البارة برعاياه التي يرجو الله أن يمكنه من تحقيقها.

فترجم فؤاد باشا الخطبة لهم، فشكروا السلطان على ما تفضل به من مقابلتهم وخرجوا وألسنتهم تلهج بالثناء على مقاصده ونياته.

ولما كانت ساعات العصر، خرج عبد العزيز و(إسماعيل) وأمراء البيتين العثماني والعلوي وجميع رجال حاشيتهما للتفرج على قسم المدينة الغربي، وساروا بعد ذلك بجانب ترعة المحمودية، وبعد أن استراح السلطان في بستان البرنس حليم (وهو الذي عرف، في أيامنا، بسراي نمرة ٣ التي كانت مخصصة لسكنى الغازي أحمد مختار باشا قبل سنة ١٩١٤؛ إذ كان مندوبًا ساميًّا للدولة العثمانية بالقطر المصري) ولقي من احتفاء البرنس حليم بجلالته ما استوجب محظوظيته منه ثم عاد إلى سراي رأس التين؛ وقضى ليلته في راحة وهناء كما قضى الليلة السابقة، والمدينة كلها حوله أنوار وأفراح وتهاليل وزغاريد.

وفي يوم الخميس (تاسع أبريل) اجتاز، بمركبته المفتوحة، المدينة مرة أخرى، فقابلته بما قابلته به المرة الأولى، وتوجه إلى المحطة، حيث كان في انتظاره القطار المعد لركوبه، ليقله إلى مصر عاصمة الديار، ولم يكن قد رأى قبل ذلك قطارًا، فاستوقفت أنظاره آلاته وعدته؛ وأهاجت فيه عواطف حب الاستطلاع — وكانت قوية في قلبه.

فأخذ يستفهم ويستفسر عن كل ما يرى؛ فتقدم إليه ناظر المحطة ومهندس القاطرة بكل بيان شاء وإيضاح طلب والإيضاحات التي سأل عنها، حتى إذا أتت الساعة الحادية عشرة، صعد إلى صالونه الخاص، وجلس (إسماعيل) وفؤاد باشا في مقعد آخر مجاور ليكونا تحت طلبه، وركب باقي الأمراء العثمانيين والعلويين في عربات القطار الأخرى؛ وكذلك رجال الحاشيتين، فسار بهم القطار يقطع سهول الوجه البحري، والراكبون يتحادثون بما توجبه المناظر الممتدة أمامهم من مواضيع الحديث، حتى إذا بلغ بهم القطار كوبري كفر الزيات الفخم، أخذ الكل يعجبون ببنائه، ويعظمون من شأنه، ويبالغون في تقدير نفقاته، واستفهم السلطان عنه من (إسماعيل) فقال: إنه بلغ ما يزيد على السبعة ملايين من الفرنكات، وأخذ البرنس حليم يقص على من معه في المقعد حكاية نجاته من الموت في حادثة سقوط القطار في النيل، منذ خمس سنوات تقريبًا.

ولما مروا على طنطا، ورأوا ازدحام الأقدام على محطتها، ونظروا مآذن الجامع الأحمدي تعلو في آفاقها؛ طلب عبد العزيز بعض إيضاحات عنها وعن أهميتها فأجابه (إسماعيل) إلى طلبه، وقص عليه ما يعمل فيها أيام المولدين الأحمديين الأصغر والأكبر.

وحكى له على سبيل الفكاهة كيف أن نساء الريف المجاور — حينما جعل (محمد سعيد باشا) الخدمة إجبارية على الجميع — تجمهرن حول سرايه بطنطا وأخذن يصحن ويصخبن وبلغ من بعضهن الحمق مبلغه، فأقبلن بعصي في أيديهن على جدران مسجد مجاور يضربنها صائحات: «خذ! هذا جزاؤك، أيها الظالم، الذي تريد انتزاع أولادنا منا!» بينما (سعيد باشا) — وكان مصابًا برمد في عينيه، وقد استفهم عن سبب اللجاج والهرج الواصلين إلى أذنه، وعلمه — يقهقه ويكاد يستلقي على ظهره من كثرة الضحك؛ وكيف أن إحدى تلك النساء لمحت ناظر المحطة الفرنجي واقفًا على رصيفها القريب من القصر فنادت زميلاتها وأشارت إليه قائلة: «هاكن النصراني الذي يسير أولادنا في عربات النار، هلم لننتقم منه!» فتحول تيار سخطهن صوب ذلك المسكين وهجمن عليه كمجنونات، غضابى، وهن يصحن: «لنقتلنه! لنقتلنه!» ففر الرجل من وجوههن، هائمًا خائفًا؛ واقتفين أثره؛ وركبن خلفه كأنه الصيد وهن السلوقية، وما زال يجري وهن يطاردنه حتى وصل باب سراي الأمير، فاقتحمه خائفًا منذعرًا، وبعد أن أوصده وراءه صعد وسقط على قدمي سعيد هاتفًا: «أنقذني يا مولاي» وأخبره الخبر، فكاد سعيد يغشى عليه من الضحك، ولم يعد يستطيع جمع أجزاء جسمه المترجرج.٢

ولما بلغ القطار براكبيه كوبري بنها، ورأوا، من خلال النوافذ، السراي الفريدة التي أقامها عباس باشا، عند أحد تعاريج النيل، في نقطة تجتلي عين الناظر منها مساحة من الأفق، قلما يضارع جمال أي منظر في العالم، جمالها الطبيعي، تمثلت أمام أعينهم الفاجعة الرهيبة التي قضت على حياة ذلك الوالي، في أعماق تلك السراي، المهملة منذ ذلك الحين — فسرت في أجسامهم قشعريرة كأنهم يرونها تمثل من جديد؛ وتخيلوا الألفي بك، محافظ مصر، آتيًّا منها مرة أخرى؛ داخلًا ذلك القصر الدامي؛ مخرجًا منه الجثة الهامدة، مرتدية ملابس الجسم الحي: مجلسًا لها في صدر العربة — كأن عباسًا لا يزال العاهل الحاكم، وكأنه لم يمت — آمرًا الحوذي، الذي كان يجهل كل شيء، أن يسير إلى مصر؛ داخلًا العاصمة، وهو جالس في تلك العربة على يسار جثة الوالي القائمة — كأن الموت لم ينزل على عرش مصر منذ سويعات؛ متخذًا كل استعداد وحيطة لحرمان محمد سعيد باشا ولي العهد الحقيقي من ميراثه وإقامة إلهامي باشا الغائب في الأستانة مكان عباس أبيه.

وقص (إسماعيل) على عبد العزيز كيف أن قناصل الدول عارضوا الألفي بك فيما أراد فعله واحتجوا عليه، فلم يتم له ما نوى، واستتب الأمر لمحمد سعيد، فبلغ من رعب ذلك الرجل، بالرغم من تأكيدات الوالي الجديد الطيب القلب له، بأنه قد صفح عنه وغفر له زلته، أنه، حالما دوت في أفق مصر، أول طلقة من المدافع المؤذنة بتولية سعيد، وقع مغشيًّا عليه وفارق الحياة.٣

وبينما القطار واقف بالمسارفين ببنها، لمحوا على أحد أرصفتها، القطار القائم إلى الزقازيق.

فسأل السلطان (إسماعيل) عن الوجهة التي يقصدها ذلك القطار، فأجابه بإيضاح واف، واستطرد الحديث إلى التكلم عن السويس وترعتها، واغتنمها فرصة ليبذر بذور أغراضه الخفية في الأذن السلطانية، حتى إذا ما جاءت الأيام، التي يرى إظهار تلك الأغراض فيها، يكون السلطان مستعدًا لتعضيده في إنجاحها.

وبعد ما فارقوا بنها وأخذوا يقتربون من مصر؛ وبدأت قمم الأهرام العظيمة تبدو في البعد كأنها تناطح السحاب، مجللة بثوب العثير الدقيق الذي تلحفها به الرياح الهابة على الصحراء حولها، دارت الأحاديث على ماضي مصر المكنون وعلى الأعمال القديرة المعجزة، التي تمت فيها على أيدي فراعنتها الأماجد، وأحس (إسماعيل) في تلك الحظة، بأن هاجسًا قام في قلبه يحدثه بأن ملكه معد ليعيد مجد العصور الفرعونية التي دالت؛ ويسر له قائلًا: «إن التاريخ سيقيمك في مصاف أكبر أولئك الفراعنة مجدًا وفخارًا».

ولما قارب القطار طوخ، تحول الحديث إلى القناطر الخيرية التي أنشأها الباشا العظيم على مفرقي النيل: فأجمع الكل على اعتبارها مضارعة، في العظمة، لأعظم ما خلقته إرادة فراعنة القدم؛ وزائدة، في الفائدة، على كل ما أوجده أولئك القديرون، ولم يكن (مرييت) و(بروجن) و(ماسبيرو) قد أماطوا، بعد، حجاب السر عن تاريخ الأسرة الثانية عشرة الرفيعة الشأن، أسرة أزرتسن وأمنمحعت، بانية اللابرنت، ومحتفرة خزان ميريس.

وهكذا مرت على المسافرين الساعات، وهم لا يشعرون بمرورها، حتى وقف القطار بهم أخيرًا بالقرب من قصر النيل.

فنزل السلطان، واستراح هنيهة، في المحل الفخم المعد له؛ وكذلك أمراء بيته الكرام؛ وأقام الجميع هناك إلى أن تجهزت المعدات التي صدرت الأوامر بها.

فلما سدل المساء سدوله، سار الموكب السلطاني من قصر النيل إلى سراي القلعة عن طريق شارع كوبري قصر النيل؛ فباب اللوق؛ فحسن الأكبر؛ فغيط العدّة؛ فباب الخلق؛ فتحت الربع؛ فالدرب الأحمر — وهذه الشوارع بحاراتها ودروبها وسككها وعطفاتها مزينة بأبهى زينة؛ متألقة بأجمل الأنوار؛ مكتظة بأناس من مختلف الأمم والملل والنحل؛ ممتزجين، امتزاجًا يقر العين، ويشرح الصدر؛ هاتفين بالتحية السلطانية — وكان قد تقرر أن لا يهتف بغيرها، إجلالًا لصاحبها، على طول الطريق؛ ومظهرين من عواطف الولاء والإخلاص والعبودية ما تحار له العقول والألباب؛ ناثرين الزهور؛ حارقين البخور؛ مكبرين؛ مهللين؛ وقد انتشرت بينهم الچوقات الموسيقية على أبعاد قليلة بعضها من بعض صادحة بالسلام السلطاني، بينما النساء والأولاد قد انعقدت عناقيدهم فوق السطوح وفي النوافذ وعلى درجات الجوامع والمساجد والزوايا الخارجية وفي نوافذها، والجميع يدعون للسلطان كل بلسانه، وكيفيته الخاصة وعلى طريقته المعتادة.

وكان السلطان شيقًّا، وكذلك من معه، إلى رؤية تلك القلعة الشهيرة، وسرايها التاريخية؛ لازدحام تذكارات التاريخ حولهما من أيام صلاح الدين وبيبرس وقلاوون وبرقوق وقايتباي إلى أيام سليم خان وبونابرت ومحمد علي؛ لا سيما ما كان من تلك التذكارات لا يزال حاضرًا بالأذهان.

وكانت سراي القلعة قد أعدت لنزول الضيوف الكرام فيها، إعدادًا شبيهًا بما يروى عن مثله في كتاب ألف ليلة وليلة، مما لم يكن يستطيع القيام به إلا سلاطين الجن.

فما ارتاح السلطان في مخادعه، ومرت أمام عيني مخيلته، أشخاص العظماء الذين سبق وجودهم في تلك الأماكن وجوده فيها؛ ثم تناول طعام العشاء، وكان أفخر ما تتلذذ به الأذواق، وتستمرئه الألسنة؛ كثيرًا وفيرًا؛ ممدودًا على عدة موائد للآكلين، إلا ودوت حوله الآفاق بالمدافع المؤذنة بصلاة العشاء — وكان (إسماعيل) قد أمر أن تضرب عند حلول كل وقت من مواقيت الصلاة، لكي يكون الشعور عامًّا بأن أيام إقامة الخليفة بمصر لأيام أعياد مباركة — وعلت ضجة المدينة العظيمة، حافلة بالدعوات الصالحات؛ عاجة بالهتاف: «باديشا همز چوق يشا».

وما هي إلا لحظة، وتألقت الزينات، وأشعلت ألعاب النار، وشقت السواريخ كبد السماء؛ وانتثرت الأهلة والنجوم منها متباينة الألوان في الفضاء؛ وبرزت المدينة كلها تسطع في جميع جهاتها بالأشعة المنبعثة إليها من كل صوب.

فتقدم السلطان إلى حيث استجلت أنظاره أرجاء القاهرة بأسرها، هذه القاهرة الثملة فرحًا بتشريفه أرضها، فمتع عينيه بذلك المنظر الشائق — وكان الليل قد كساه ثوبًا خياليًّا يلعب باللب ويسكره — وأحس في صميمه بلذة سماع كل تلك الأصوات، المصعدة إلى أذنيه الدعوات التي ترسلها الرعية المخلصة لسلطانها نحو قدمي العرش الإلهي.

ففاض صدره بالحبور المتدفق إليه من كل حدب وصوب؛ وأراد إظهار امتنانه ومحظوظيته (لإسماعيل)، فنزع وسام «المجيدية» المرصع المتدلي على صدره السلطاني، وعلقه بيده على صدر (إسماعيل)؛ وقال له: «إني لا أدري كيف أشكرك على كل ما بذلته لتملأ نفسي سرورًا»، فأجابه (إسماعيل): «إنما قدمت لمولاي ما هو له»، فزاد هذا الجواب في سروره.

وبعد أن استجلى من موقفه السامي جمال المناظر المبسوطة تحت قدميه، دخل إلى مخادعه ونام نومًا هادئًا هنيئًا.

وكان الغد يوم جمعة، فتقرر أن يصلي الخليفة صلاته الجامعة في مسجد (محمد علي) بالقلعة عينها، وأن يذهب إليه من السراي التي بات فيها راكبًا على جواد مطهم في موكب يكون كل من فيه فارسًا.

فلما آذنت ساعة الصلاة، امتطى عبد العزيز الحصان الذي قُدِّمَ له؛ واقتدى به أمراء بيته السلطاني وأمراء البيت العلوي والوزراء العثمانيون والمصريون وكبار رجال المابين والمعية، وكوكبة من الفرسان، وسار جمعهم في موكبهم الحافل المهيب، داخل القلعة، من السراي إلى الساحة الفسيحة الأرجاء المنبسطة أمام مسجد (محمد علي) حيث كانت جميع الأعالي المحيطة، المطلة على تلك الساحة، غاصَّة بالمتفرِّجين، وداوية بدعائهم.

وبعد أن انقضت الصلاة، توجه السلطان إلى زيارة قبر الباشا العظيم، الراقد رقدته الأبدية، في ذلك الجامع المرمري البناء، المطل من علاه على القاهرة كلها، كأنه روح (محمد علي) تشرف على جسم القطر الذي أعادت إليه الحياة، لتتعهده وترعاه.

فوقف إليه، برهة، خاشعًا، ثم التفت إلى من حوله وقال على مسمع من الملأ: «لقد كان رجلًا عظيمًا، وإن ذكره ليخلَّد».

ثم عاد إلى سراي القلعة حيث استقبله وفود المهنئين من الأعاظم والعلماء والبطاركة والرؤساء الروحانيين، والوجهاء والأعيان والتجار، ولكي يظهر لهم بجملة واحدة مقدار انشراحه من زيارته للقطر المصري، قال لهم: «إني ضيف إسماعيل وضيفكم»، فكان لقوله هذا وقع عظيم في القلوب؛ لأنه كان بمثابة إعلان رسمي لاستقلال مصر!

لذلك كانت الزينات، التي أقيمت في مساء ذلك اليوم، أجمل بكثير من زينات الليلة السابقة، وكان أبدعها شكلًا ما أقيم منها أمام قصري (إسماعيل باشا) وحليم باشا وسراي عابدين، وبلغ من تفنن صانعي الألعاب النارية ومن إعجاب السلطان بها أنه طلب بعضهم من (إسماعيل) ليأخذهم معه إلى القسطنطينية.

ومما يحسن ذكره في مقابلة السلطان للعلماء، اللطيفة الآتية وهي: أن (إسماعيل) كان يعتقد في علماء الأزهر الأجلاء عدم خبرة ودراية بواجبات الرسميات في موقف كهذا — وكان هذا هو الواقع — فحسن لديه أن يختار أربعة منهم فقط ليتشرفوا بالمثول بين يدي الحضرة السلطانية، وهم: السيد مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر، والشيخ السقاء، والشيخ عليش، والشيخ العدوي من كبار علمائه، وأولهم وثانيهم من دواهي الرجال وأوسعهم صدرًا؛ وثالثهم من المتصوفين؛ وأما الرابع فكان من الورع والتوكل على الله، بحيث لا تهمه ولا ترهبه العظمات البشرية.

ثم وكل إلى قاضي القضاة التركي أمر تعليمهم آداب المثول بين يدي الخليفة، فأفهمهم فضيلته أن المقابلة ستكون في قاعة يقف السلطان في صدرها، على منصة مرتفعة عن الأرض قليلًا، بينها وبين باقي القاعة حاجز، مفتوح من وسطه؛ وأنه ينبغي لهم إذا ما بلغوا الباب ووقعت أعينهم على جلالته أن ينحنوا انحناء عظيمًا، ويسلموا بكلتا اليدين، حتى تمسا الأرض؛ ثم يتقدم كل منهم نحو فتحة الحاجز، بخطوات موزونة حتى إذا صار أمامها، كرر الانحناء والتسليم، ووقف أو يرد السلطان عليه تحيته، فيعيد؛ حينئذ الانحناء والتسليم مرة أخرى، ثم يرجع متقهقرًا ووجهه إلى السلطان إلى أن يبلغ باب الدخول؛ فيكرر الانحناء والتسليم عينهما؛ ثم ينصرف مثل ما دخل، حتى يتوارى عن نظر السلطان.

فاستغرب العلماء أن تنحصر المقابلة في تلك الصور من الانحناء والاحترام، ولكن قاضي القضاة أكد لهم أن الأمر كذلك، فقالوا: «قد فهمنا».

فلما جاء دورهم في المقابلات، دخل الشيخ العروسي أولًا، فالشيخ السقاء بعده، فالشيخ عليش، وفعل كل منهم ما علمه القاضي أن يفعل.

وكان (إسماعيل) واقفًا وراء السلطان بمسافة، وعينه تراقب كل حركاتهم، فأعجب من إتقانهم الدرس الذي أُلقي عليهم إتقانًا محكمًا.

فلما أتى دور الشيخ العدوي، دخل هذا الأستاذ الفاضل، وانحنى عند الباب كزملائه؛ ثم أسرع، بعد ذلك، نحو السلطان بمشيته الاعتيادية، ولم يعاود الانحناء ولا التسليم فبدأ قلب (إسماعيل) يخفق — ثم تقدم بقدم ثابتة حتى وصل إلى الحاجز، وجاوزه، وصعد إلى المنصة، التي كان السلطان واقفًا عليها — وقلب إسماعيل يجف ونظر إليه بعين ثابتة وقال: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله»، فوثب قلب (إسماعيل) في صدره، ولولا مهابة السلطان لركل الرجل وأخرجه.

ولكن السلطان ابتسم ابتسامة لطيفة، ورد على الشيخ العدوي تحيته وأحسن منها، وانحنى أمامه انحناء خفيفًا.

فخاطبه الشيخ فيما يجب على السلطان نحو رعاياه، بصفته كبير الحكام؛ لأن الحكام خلفاء الأنبياء في الناس؛ وفيما يجب على أمير المؤمنين، بصفته خليفة الرسول، نحو المؤمنين؛ وهول في المسئولية الملقاة على عبد العزيز؛ وأكد له أن ثوابه عند الله سيكون بمقدار ثقل المسئولية، وحسن نفاذه فيها؛ كما أن عقابه عند الله تعالى سيكون على قدر إهماله واجباتها.

فامتقع لون (إسماعيل)، ولعن الساعة التي اختار فيها ذلك الشيخ الأبله، ومن أشار عليه به، وأخذ يحسب لغضب السلطان ألف حساب.

ولكنه لم ير على وجه السطان علامات الغضب مطلقًا، بل وجد ملامح عبد العزيز مرتاحة إلى كلام ذلك الأستاذ؛ لا سيما أنه لم يفهم منه شيئًا لجهله اللغة العربية.

أما العدوي فلما فرغ من خطبته، ختمها بالسلام الذي بدأها به ثم انحنى أمام السلطان، وأقفل خارجًا بوجهه لا بظهره كسابقيه، وسبحته بيده فوجد هؤلاء في انتظاره على الباب يلومونه على فعلته التي كانت على زعمهم «قذى في العيون».

فقال لهم: «أما أنا فقد قابلت أمير المؤمنين، وأما أنتم فكأنكم قابلتم صنمًا، وكأنكم عبدتم وثنًا».

ثم سأل السلطان عبد العزيز (إسماعيل): «من الشيخ؟» فأجابه: «هذا شيخ من أفاضل العلماء، ولكنه مجذوب، وأستميح جلالتكم عفوًا عن سقطته»، فقال السلطان «كلا. بل إني لم أنشرح لمقابلة أحد انشراحي إلى مقابلته» وأمر للشيخ العدوي بخلعة سنية وألف جنيه.٤

وكان يوم السبت التالي حادي عشر أبريل، يوم تشييع المحمل المصري إلى الأقطار الحجازية، فتقرر أن يرأس جلالة السلطان نفسه الحفلة السنوية المعتادة، واتخذت جميع الوسائل لكي تكون، بسبب وجوده على رأسها، يتيمة الحفلات التي من نوعها؛ لأنه لم يسبق لسلطان عثماني أن ترأس مثلها منذ الفتح السليمي، ولم يكن أحد يتوقع أن تجود الأيام بزيارة سلطانية أخرى في العصر ذاته.

فلما كانت الساعة العاشرة، نزل السلطان من القلعة، وسار نحو الكشك الذي أقامه محمد علي خصيصًا لذلك تحت السور إلى جنوب باب العزب، وهو قريب من المكان الذي يروى أن الأمير المملوك أمين بك وثب منه وثبته المشهورة في حادثة ذبح المماليك.

فلفت بعض الحضور نظر السلطان إلى ذلك، فرغب عبد العزيز في أن تلقى على مسامعه الرواية، بينما تتم حوله مراسم الاحتفال.

وكانت تفاصيل تلك الرواية مختلفًا فيها، فما حُكي للسلطان منها هو أن أمين بك، لما قذف بحصانه من فوق السور، وانكسرت أرجل الجواد حينما مست الأرض، فسقط ميتًا، وقع هو أيضًا عن صهوته وأصيب برضوض أفقدته رشده، فبصر به بعض البدو، فأسرعوا إليه واحتزوا ثلاثة أرباع عنقه، لكي يسرقوا سلاحه ونقوده؛ غير أنه لم يمت، وتمكن — وحده، على قول بعضهم؛ وبمساعدة بعض ذوي الرحمة، على قول آخرين — من النهوض والاختفاء في مكان أمين تعالج فيه إلى أن شفي واستطاع الالتجاء إلى سوريا.

وبعد الفراغ من حفلة المحمل، توجه السلطان للتنزه في المدينة، فزار مساجد آل البيت الكرام وغيرها وكان الناس من السوقة والعامة، كلما مر بجموعهم المحتشدة، صاحوا: «الفاتحة لمولانا السلطان!» فينظر إليهم كأنه يحييهم، وهو إنما يستغرب لذلك، ويقارن في سره بينه وبين خشوع الأستانة وسكوتها؛ وإطراق العيون فيها إلى الأرض حينما يمر في شوارعها ذاهبًا إلى صلاة الجمعة.٥

ثم عاد من طوافه، فتناول طعام الغداء في سراي الجزيرة، ولما كان الأصيل، أبدى رغبته في رؤية أنجال (إسماعيل)، فأرسل (إسماعيل) من أحضرهم من قصرهم بالمنيل في جزيرة الروضة، حيث كانوا منقطعين إلى علومهم تحت عناية المسيو چاكليه؛ بعيدين عن كل المؤثرات الخارجية، لا سيما مؤثرات الحريم، فأعجب السلطان بهم وبنباهتهم وذكائهم؛ وشجعهم بأقوال حكيمة على الاستمرار في دروسهم بنشاط وهمة ورغبة صادقة، ليكونوا قرة عين أبيهم الكريم، وفخر مصر، وخير أحفاد للرجلين العظيمين (إبراهيم باشا) و(محمد علي).

ثم عاد إلى القلعة، ولما أسدل الغسق ظلاله، بدت مصر، مرة ثالثة، في حلل زينتها البهية؛ وأخذت نجوم الألعاب النارية وأهلتها تباري مرة أخرى نجوم السماء، وبدورها في السطوع واللألأة والجمال.

فأظهر عبد العزيز (لإسماعيل) نيته في الإقامة بمصر عدة أيام؛ ورجاه الاكتفاء بما عمل من الزينات والألعاب، والامتناع عنها في الليالي التالية؛ حثًّا براحة القائمين بها، وراحة السكان معًا.

وكان قد أرسل من الإسكندرية باخرة تحمل البريد إلى القسطنطينية، فأوفد إليها، أيضًا، في تلك الليلة، المصاحب عبد الكريم أغا، ليبلغ جلالة السلطانة والدته، أنباء صحته الجيدة؛ ويحمل إلى بابه العالي، الأوراق الدولية الخاصة بالإدارة اليومية.

ثم كلف رامز أغا، أحد خصيانه، بالذهاب ببطاقة زيارته إلى أربعة عشر «حريمًا» بمصر، ليبلغ «تحياته وتسليماته السلطانية» إلى أرامل محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وعباس باشا، ومحمد سعيد باشا وغيرهن.

وفي يوم الأحد ثاني عشر أبريل — وكان عيد الفصح عند الطوائف الشرقية — ذهب لزيارة قصر النزهة، في طريق شبرا؛ وكان (لإسماعيل)، وهو الوحيد الذي تفننت الهندسة المعمارية في تجميله وتزيينه، على صغر حجمه، فأعجب به أيما إعجاب، وأمر بعض الرسامين الذين بمعيته أن يأخذوا رسمه — ولكنه لم يمكث فيه طويلًا وغادره إلى قصر شبرا ذاتها — وكان لحليم باشا، الذي أراد السلطان أن ينزل في ذلك اليوم ضيفًا عليه.

فاستقبله حليم باشا في تلك الروضة الغناء، التي أنشأها لوالده، أبدع الخيالات الشعرية، وكانت مزدهية بالزهور والرياحين، المغروسة على أبدع نظام وأجمل تنسيق؛ حافلة بالطيور المغردة المختلفة الأجناس والأنواع والأشكال — وكانت الزهور والطيور أحب المخلوقات إلى قلب عبد العزيز، وأعز ما ترتاح إليه نفسه بعد ربات الخدور.

فقضى بقية نهاره، وبعض مسائه في تلك الجنة الأرضية، متجولًا بين رياحينها وأزاهرها طورًا، وطورًا جالسًا أمام بحيرتها، المحيطة بها، المظلة الرخامية البديعة الصنع، العديمة المثيل في العالم بأسره، أو جالسًا في القاعة العظمى الكائنة في الزاوية على يمين الداخل، والتي قلما بذلت في تشييد سواها الأموال التي بذلت في تشييدها؛ وقلما ازدهت غيرها، بالصنعة الدقيقة المواد الثمينة التي ازدهت، هي، بها: كأن (محمد علي) أراد أن يجعلها قصرًا من قصور الجنان، بجانب تلك المظال الرخامية، المتتابعة صفوفها على شكل دائرة بيضاوية حول تلك البحيرة المعدة لمسابحة جواريه فيها، وقد أقيم في وسطها بناء مرمري على شاكلة باقة أزهار، تجلت الدقة كلها في صنعه وتكوينه، وأعد لجلوسه، هو، على أريكة حريرية فيه لكي يتسنى له في شيخوخته — والمياه تجري من تحته، والجواري يسبحن حوله، ويتداعبن أمامه، والروائح العطرية تتأرج من الأزاهير النابتة في كل مكان، وداخل كل مظلة من هاتيك المظال، والمتدلية إلى حافة البحيرة بشكل من أبدع الأشكال — أن يتخيل أنه انتقل إلى جنة الفردوس التي أعدها ربه للصالحين والمحسنين من عباده، وأن يتمتع، وهو حي في هذه الدار، ببعض لذات الدار الأخرى التي بات منها على أدنى من قاب قوسين.٦

أسفًا على تلك!

آهٍ لتلك الروضة الفيحاء الغناء! كيف عبثت بها أيدي الإهمال، وكيف جردها من محاسنها الفريدة تغيب أيدي الصيانة عنها!

وأسفًا على ذلك!

وآه ثم آه! لذلك الإيوان البديع الأكبر المكون من مجموع هاتيك المظال الصغيرة الكلية الجمال، المزرية الواحدة منها بجمال إيوان كسرى المشهور! كيف تناولتها أيدي الدمار: فأتلفت رخامها البديع؛ وذهبت ببهجة صنعها المدهش؛ وباتت تهددها بخراب عاجل!

وقضى عبد العزيز وقته فيها يتحادث مع حليم باشا وفؤاد باشا عن زراعة البساتين والزراعة على العموم؛ ثم عن القناطر الخيرية — وكان الأمير مراد أفندي، ولي العهد، قد ذهب في ذلك اليوم عينه لزيارتها في مركب بخارية والتفرّج عليها. وأرسلت هناك أورطتان مصريتان للقيام بفروض استقباله، ولكنه لم يفارق المركب؛ وتفقد، وهو فيها، القناطر: الأمر الذي لم يرتح له ضباط تينك الأورطتين والذي لم يمكنهم من التفرج على القلعة السعيدية — وهي حصن أنفق محمد سعيد باشا على إقامته عند نقطة انقسام فرعي النيل، مبلغًا طائلًا من المال، بدون جدوى، كان الأجدر به إنفاقه على إتمام عمل القناطر الخيرية الضخم، الجليل، الذي أقبل عليه أبوه، الباشا العظيم، بضع سنوات فقط قبل أن يوافيه الأجل المحتوم.

ولما توغل المساء في الليل، عاد السلطان إلى القلعة فلم يفارقه الانشراح من شبرا وبستانها وإيوانها!

وفي يوم الإثنين ثالث عشر أبريل — ووافق وقوع عيد شم النسيم، احتفلت القاهرة به احتفالها المعهود ولكن زاده بهجة وجود السلطان — قصد عبد العزيز المتحف المصري — وكان مديره حينذاك مرييت بك، الاچيبتولوچي الشهير — فتفقد جميع غرفه ومحتوياته، واستفسر عن كل ما رآه فيه، وارتاح إلى البيانات التي استطاع مرييت أن يبديها له.

ثم ذهب من هناك لزيارة معامل القطن والحرير ببولاق — وكانت أعمالها ناجحة تبشر بفلاح باهر في المستقبل، لم يحقق، وا أسفاه المستقبل شيئًا منه — فسره ما رآه فيها من حسن الترتيب والنظام وانشرح صدره لعلامات النجابة والذكاء، البادية على وجوه الشبان المشتغلين فيها.

ولما كانت المحادثة بالأمس عن القناطر الخيرية قد شوقته إلى رؤيتها، ركب زورقًا بخاريًّا من زوارق (إسماعيل باشا)، أعد خصيصًا لذلك الغرض، وتوجه فيه من بولاق إليها، فتفقدها بعناية؛ وأعجب بها إعجابًا عظيمًا: وأكبر من إقدام وهمة الباشا العظيم الذي باشر إنشاءها بالرغم من طعنه في الشيخوخة، وحكم بأنها لمن أجل أعمال الدنيا فائدة، وأن محمد علي قد استحق ببنائها شكر الأرض المصرية إلى الأبد.

ثم عاد إلى قصر النيل وتناول طعام الغداء فيه.

وفي يوم الثلاثاء، رابع عشر أبريل، ذهب إلى زيارة الأهرام، ومعه أمراء البيت العثماني، وأمراء البيت العلوي، وجمهور كبار رجال البلاطين.

وبعد أن عبروا النيل إلى شاطئه الغربي، عند الجيزة، ركب السلطان عربة مفتوحة تجرها أربعة جياد، وركب وراءه (إسماعيل باشا) و(فؤاد باشا) في عربة أخرى يجرها جوادان فقط، وامتطى الباقون خيولًا.

ولما تكن الطريق إلى الأهرام قد مهدت بعد، فكثيرًا ما كانت تجتاز حقولًا مزروعة أو تمر في أرض تَرِبة، ترفع حوافز الخيول الواقعة عليها، سحابات عثير كثيف منها تملأ بها الفضاء.

وكانت عربة السلطان سائرة في طليعة الموكب اتقاء للغبار، وخيولها القوية العفية تتخطى بها المنحدرات في المرتفعات، ولأنها كانت أربعة صافنات، تمكنت من الاستمرار مقلة راكبها الكريم، حتى مدخل الصيوان الذي أعد له في ظل الهرم الأكبر، وعند قاعدته.

وأما عربة (إسماعيل باشا) وفؤاد باشا، فإن الجوادين فيها أجهدا تعبًا، أدى بهما إلى التوقف عن المسير، بالرغم من كل حث وتحريض، فاضطر الراكبان الكريمان أن ينزلا منها ويمتطيا جوادين آخرين.

وهكذا سار الموكب، والعثير وراءه يتناول عنان السماء، حتى بلغ الأهرام، حيث كانت موائد الطعام قد مُدَّت في الصواوين المعدَّة لذلك كأنها في أكبر القصور اشتمالًا على معداتها.

فاستراح القوم ثم أكلوا، وبعد ذلك أقبل عبد العزيز يسرح الطرف ويستفهم متخطيًا من جوار هرم خوفو، إلى الرابية البارز من قمتها أبو الهول، والمعبد المصري القديم الذي بجواره، ومقبرته، وامتطى جوادًا إلى هرم منقورا الذي كان لا يزال معظم جزئه الأعلى مكسوًّا بطلائه العجيب، فإلى هرم نيتوكريس الأحمر الجميل!

ألا ليت شعري! من ينبئني بما جال في مخيلة سلالة سلاطين آل عثمان، وهم يتجوَّلون حول آثار الفراعنة الخالدة، الدالة على عظمتهم الزائلة، والقائمة على مدخل الصحراء الشاسعة، معالم ماضٍ كان قصيًّا، وقتما خط التاريخ أوَّل صفحاته! من ينبئني بما قالت لهم — لا سيما لعبد الحميد — عينا أبي الهول السريتان الشاخصتان بصفاء أبدي أمامهما، كأنهما تريدان أن تحجبا مكنونات الأيام وراءه؛ وتشعران الحاضر، مهما كان فخمًا عظيمًا، بضآلته، تجاه مجموعة المفاخر البشرية، التي حركتها القرون بالتتابع (من خوفو إلى أوزورتسن، وآمنمحهت؛ ومن أحمس إلى توطمس وآمن هوتِبْ؛ ومن راع مسيس إلى نيخاؤ وبتامتك؛ ومن كمبيز إلى إسكندر الأعظم والبطالسة الأماجد؛ ومن قيصر الأكبر إلى هدريان وديوكليسيان؛ ومن عمرو بن العاص إلى أحمد بن طولون والمعز لدين الله؛ ومن صلاح الدين إلى بيبرس وقلاوون وبرقوق وبرسباي وقايتباي؛ ومن سليم الرهيب إلى پونابرت العجيب) كسينما توغراف أمام تينك العينين؛ ثم وارتها في طيات الدهور!

ولما مالت الشمس إلى الغروب عاد الموكب السلطاني إلى الجيزة وتناول الجميع طعام العشاء في سرايها البديعة — ولم يكن (إسماعيل) قد أجرى فيها التحسينات التي صيرتها فيما بعد لؤلؤة قصوره، ودرة منتزهاته الخصوصية. ثم رجع السلطان إلى القلعة وما استقر فيها برهة إلا وحانت صلاة العشاء، فقام ينادي بها، بعد إطلاق المدافع، خمسة عشر مؤذنًا اختيروا اختيارًا دقيقًا لجمال أصواتهم وأخذوا يتبارون في التلحين والإنشاد مباراة حملت كل من سمعهم على الظن بأنهم بلابل الفضاء برزت من خلواتها تشجي بأنغامها المطربة، في ذلك المساء المجلوة سماؤه، ضيوف مصر وواليها.

وكان الغد يوم الأربعاء، خامس عشر أبريل، فجعل يوم راحة عامة وخصص لتجهيز معدات السفر إلى الإسكندرية.

فلما بزغت شمس يوم الخميس، سادس عشر أبريل، ازدحمت شوارع العاصمة وساحاتها وظهور منازلها ودرجات سلالم جوامعها، بجماهير الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأجناسهم، انتظارًا لمرور السلطان وموكبه العظيم — وحالما وافت الساعة التاسعة صباحًا، أخذت المدافع ترمي طلقاتها بين كل دقيقة وأخرى إيذانًا بالرحيل، لغاية الساعة العاشرة، حتى إذا دقت هذه، نزل السلطان من القلعة بموكب فخم، مهيب؛ فمر على تلك الجماهير محييًّا مسلمًا، وأمر بأن توزع مبالغ طائلة من المال على فقراء العاصمة وخدمة مساجدها.

فانطلقت ألسن تلك الجماهير بالدعاء لجلالته؛ وذرفت عيون كثيرة دموعًا سخينة في توديعه، وما زالت أصوات الدعاء ترتفع من كل فم، إلى أن بلغ الموكب القطار المعد له، فأقله، فشخصت إليه الأبصار، وشيعته القلوب حتى توارى.

وكان السلطان قد أبدى عزمه على زيارة المقام الأحمدي بطنطا، فأقيم له صيوان فخم بجوار محطتها، ولكنه رجع عن عزمه في آخر لحظة، واكتفى بإيقاف القطار قليلًا قبالة ذلك الصيوان، لكي تتمكن الجماهير الغفيرة، المزدحمة هناك، من استجلاء منظر وجهه البهي، والقيام بفروض الدعاء له.

ثم سار إلى الإسكندرية ونزل في سلاملك رأس التين الذي كان قد أقام فيه.

وفي اليوم التالي، وكان يوم الجمعة سابع عشر أبريل، صلى السلطان الصلاة الجامعة، بأبهة وجلال عظيمين، خارجًا وراجعًا منها، ممتطيًّا فرسًا ضليعًا أصيلًا، في موكب تحف به فخامة وعظمة، يزيد في كمال مظهرهما ما في لباس عبد العزيز من البساطة، وكان عبارة عن كسوة إفرنجية تزين صدرها أنسجة حمراء فقط؛ وليس على طربوشه أية علامة تميزه عن غيره؛ بينما ملابس أمراء بيته ووزرائه وكبار رجال حاشيته موشاة بالمذهبات الساطعة؛ محلاة بالنياشين اللامعة.

وبعد الفراغ من صلاة الجمعة، والإحسان بجانب عظيم من النقود على فقراء الإسكندرية، وخدمة مساجدها، عاد عبد العزيز إلى سراي رأس التين، وتناول طعام الغداء، ثم استراح قليلًا، ريثما انتصفت الساعة الثالثة بعد الظهر.

حينذاك نزل هو وأمراء بيته وكبار دولته ورجال مابينه، يرافقهم (إسماعيل باشا) وأمراء بيته وكبار دولته، في الزوارق المعدة لهم، فذهبت بهم إلى اليخت السلطاني «فيض جهاد» وسفن الأسطول المرافقة له، بينما كانت الطوابي والبواخر الراسية في البوغاز (ومن ضمنها المركب الإيطالية المسماة ڨيكتور عمانويل، المرسلة من قبل ملك إيطاليا الملقب بالملك الحلو الشمائل، لتشترك في تعظيم الخاقان العثماني) وقلاع الساحل لغاية المكس والعجمي من جهة؛ ولغاية سيدي بشر وأبي قير من الجهة الأخرى، تطلق مدافعها تحية وإجلالًا؛ وبينما الجماهير يكتظ بها الشاطئ وهي هاتفة مهللة! فصعد السلطان إلى يخته يصحبه (إسماعيل) وصعد باقي الأمراء إلى سفنهم؛ وأخذت المراكب تستعد للرحيل.

فتقدم (إسماعيل) إلى توديع عبد العزيز، فقال له السلطان: «إني أعيد لك تشكراتي القلبية على ضيافتك البهية لي ولآل بيتي، وأؤكد لك أني لن أنسى زيارتي لهذه الديار ما حييت؛ وأؤمل أن الشعب المصري، بفضل عنايتك واهتمامك وغيرتك على مصالحه، سيزداد رخاء وسعادة، وإني في كل سانحة سأشمله بتعطفاتي هو وأميره الجدير بها».

فانحنى (إسماعيل) وشكر وأثنى، ثم أذن له السلطان بالانصراف، فنزل إلى زورقه، وأخذت السفن العثمانية تبتعد رويدًا رويدًا عن الأرض المصرية، والأرض المصرية ترتج ارتجاجًا في توديعها، حتى توارت عن الأبصار!

هكذا انقضت الزيارة السلطانية للقطر المصري! وهكذا مرت أيامها العشرة البهية! ولم يبق أثر منها في البلاد، بعد ذكراها، سوى اسم (عبد العزيز) الذي أطلق على أحد شوارع العاصمة، إحياء لتلك الذكرى؛ وسوى النياشين؛ والألقاب والرتب التي فاضت بها التعطفات السلطانية على كبار الموظفين المصريين!

أسفًا! هل كان يدور في خلد الأمراء، عائشى تلك الأيام وأعيادها، أن الأقدار ستنسج، لكل منهم، خيوط مأساة سوداء: فلا تمضي أربع عشرة سنة إلا ويتدهور عبد العزيز عن عرشه الرفيع إلى سجن ضيق، لا تلبث أيدي الإثم، أيامًا، إلا وتسلبه الحياة فيه، بقص شرايين ذراعيه واستصفاء دمه — ولا يرفع مراد على الأكف سلطانًا، إلا ليزج به في حبس انفرادي، يوافيه الموت الخفي فيه بعد ثلاثين سنة، وليس بين الرفع والسقوط إلا ما يوشك أن يكون طرفة عين! — ثم لا تمضي ست عشرة سنة وبضعة أشهر إلا ويصدر أمر عبد الحميد بخلع الخديو الأول (إسماعيل) عن عرش مصر السني؛ فيخرجه إلى منفى، مر مذاقه؛ وحياة معكرة أيامها، بعد الإقامة على أوج العز الأقعس، وفي نعيم الحكم المطلق، والرخاء غير المحدود! ولا تمضي خمس وأربعون سنة إلا وتثل ثورة عسكرية عرش عبد الحميد عينه وتخرجه بدوره ليذوق حرقة السجن ومرارة المنفى، وألم التسيير، قسرًا، من حبس إلى حبس؛ ومن اعتقال سري إلى اعتقال سري؛ ويموت، أخيرًا، موت صعلوك، لا يكاد أحد يلتفت إليه، كأنه لم يكن السلطان الرهيب، الذي لبثت ترتعد الفرائص، ثلاثة وثلاثين عامًا، لدى ذكر اسمه! ولا تمضي إحدى وخمسون سنة إلا ويرى رشاد نفسه وقد كان سجنه أخوه عبد الحميد ثلاثًا وثلاثين سنة، بعيدًا عن كل مظاهر العالم، لا يدري ما فيه، حتى إذا جاءت الثورة العسكرية، وجدته شيخًا هرمًا؛ فأخرجته من حبسه وهو لا يكاد يصدق؛ وأجلسته على عرش أجداده، وهو كأنه في منام، أميرًا للمؤمنين مدخلًا رغم أنفه في الحرب العالمية العظمى بعد أن داهمته، مرغمًا أيضًا، الحرب الطرابلسية وحرب البلقان: فيرى أنه لم يرتق عرش أجداده إلا وقد جرد هذا العرش من كل ديباج وخز؛ وأصبح سريرًا خشبيًّا، كله شظايا تجرح الجسم، وأشواك هموم واخزة تحيط بالجالس عليه، بدلًا من أزهار اللذات السالفة! ولا تمضي اثنان وخمسون سنة إلا وتقتل يد أثيمة، صبرًا وغدرًا، يوسف عز الدين، ذلك الذي كان في تلك الأيام شابًّا في مقتبل ربيع حياته، وكانت الدنيا تبتسم له ابتساماتها كلها في ظل سلطة أبية العليا ومقامه الأرفع! …

ألا أفٍّ للدنيا! ما أكذب مظاهرها! وما أقصر حياة سرورها ولذاتها!

على أن (إسماعيل) لم يدع فرصة تلك الزيارة السلطانية تمر، دون أن يحاول الانتفاع منها لتقديم أمنياته في سبيل تحقيقها.

فاستهواء لنفس عبد العزيز وحملًا لها على مساعدته في المستقبل، كل المساعدة الممكن توقعها، لم يكتف بما بذله له بسخاء فائق، من مسببات الارتياح والسرور، وبأخذه على نفقات جيبه الخاص، كل المصاريف التي عنّ لضيوفه صرفها، وهم في ضيافته؛ بل بالغ في تقديم الهدايا والتحف الفاخرة وتنويعها، حتى ملأ بها سفينة برمتها، لعبد العزيز عينه، ولأمراء بيته السلطاني، وكبار رجال دولته، وزود فؤاد باشا، الصدر الأعظم، وقت فراقه، بمبلغ ستين ألف جنيه ليجعله عونًا له، وطوع بنانه.

فسافر السلطان من مصر، وهو في حال نفسية تجعله مستعدًا لقبول أي طلب يقدمه (إسماعيل) إليه، إذا كان مشفوعًا بما يجعل الطلبات كلها مقبولة في الأستانة، ومثل (إسماعيل) لم يكن ليجهل الوسيلة.

فما أقلع الأسطول العثماني من ثغر الإسكندرية، وعاد الوالي إلى عاصمة دياره، إلا وأقبل بكل ما في وسعه على تحقيق الخطة التي رسمها لنفسه.

١  أهم مصادر هذا الفصل: «سفر السلطان عبد العزيز إلى مصر» لجارديه، فتحسن مطالعته برمته.
٢  انظر: «مصر في عهد سعيد باشا» لمريو، ص٣٠ و٣١.
٣  انظر: «مصر الخديوي» لإدون دي ليون ص٨٧ و٨٨، و«مصر في عهد إسماعيل» ص١١ لماك كون، و«إماطة اللثام عن أسرار مصر» لأولمب أدوار، ص١٤٦ وما يليها.
٤  قص عليَّ هذه اللطيفة سبط ولد الشيخ العدوي صديقي، السيد محمد عاشور الصدفي القاضي بالمحاكم الشرعية ومن أفاضل الأدباء.
٥  انظر: «الكافي» لشاروبيم بك ج٤ ص١٣٨ طبعة بولاق الأميرية سنة ١٩٠٠.
٦  انظر: «مصر مرحلة مرحلة» لروونيه ص١٦٥، وانظر: «مصر الخديوي» لإدون دي ليون ص٧٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤