الفصل الثالث

فتح أبواب التجارة والصناعة والعمل١

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.

قرآن شريف
إن التجارة أصبحت حرة، منذ تنكب محمد سعيد باشا جادة الاحتكار؛ وشاد حرية الأخذ والعطاء على القوائم الأربع الآتية:
  • الأولى: أن كل فلاح مصري حر في إنماء المحصول الذي يراه أكبر فائدة له من سواه.
  • الثانية: أنه حر في بيع محصوله نقدًا لأي مشتر يشاء وبالثمن الذي يريده.
  • الثالثة: أن التجار أحرار في نقل المحصولات التي يشترونها، بجميع الوسائل، برًّا وبحرًا كما يشاءون.
  • الرابعة: أن عموم الدخوليات والجمارك الداخلية تلغى، منعًا لتحمل البضائع مصاريف تضاعف أثمانها.٢
وكانت الحكومة المصرية قد قررت في عهد عباس — ولا ندري لماذا — ألا تخرج السفن من ميناء السويس إلا بالترتيب، فما دامت السفينة التي عليها رقم ١، مثلًا لم تنته من مشحونها، أو لا تزال غير مستعدة للسفر، فإن السفينة التي عليها رقم ٢ تضطر إلى الانتظار وعدم الخروج، ولو أنها قد انتهت من شحن مشحونها وباتت على غاية الاستعداد للرحيل؛ وهلم جرًّا.٣

فشاحنو البضائع إلى موانئ البحر الأحمر كانوا يضطرون، مهما استدعت إرسالياتهم من إسراع، إلى الانتظار، ريثما يروق الإقلاع لصاحب السفينة السابق رقمها رقم سفنهم، فإن لم يرق له، ورغبوا، هم في السفر، تحتم عليهم الخضوع لكل الشروط التي يوحي بها الطمع، فينجم عن ذلك أحد أمرين: إما أن تزيد مصاريف الشحن زيادة فاحشة، وإما أن تتأخر البضائع في السويس تأخرًا ضارًّا.

فألغى محمد سعيد باشا هذا النظام؛ واستبعد من قوانين الموانئ كل ما من شأنه إيجاد عراقيل في سبيل الإتجار.

فنزل سعر الشحن نزولًا محسوسًا جدًّا وراجت الأسواق التجارية رواجًا عظيمًا؛ كانت نتيجته، من جهة، أن التجارة الخارجية سارت في طريق الصعود سيرًا حثيثًا؛ وارتفعت حركة الثغر الإسكندري — وكان المصدر العام لها تقريبًا — من ٨١١٧٣٠٥٠ فرنكًا في سنة ١٨٤١ إلى ١٨٣٩٠٢٠٠٠ فرنك في سنة ١٨٥٦ وإلى نحو مائتي مليون فرنك؛ أي: ما يقرب من ثمانية ملايين من الجنيهات في سنة ١٨٦٢.

وتلا ارتفاعها أن اتخذ النشاط التجاري في الإسكندرية شكلًا لم تعهده القرون الأولى فيها، منذ الفتح العربي؛ وأنشأ بورصة مالية انتشرت المضاربات فيها، على أثر صعود أسعار القطن في سنة ١٨٦٢، بسبب الحرب الأهلية الأمريكية، انتشارًا مروعًا، ضارع في شدته وعنفه المشاهد منه في العواصم الأوروبية؛ وأدى إلى ثروات عظيمة زالت بسرعة فجائية عظيمة أيضًا، لقيامها على بيع وشراء يعقد بالكلام لا بالتسليم، وتتحول إلى الغير بمكاسب طائلة أو بخسائر فاحشة.

وكانت نتيجة الرواج، من جهة أخرى، أن التجارة الداخلية انتقلت إلى أيدي الأهلين؛ وانحصرت فيهم شيئًا فشيئًا، لتفوقهم على عمال التجار الأجانب في معرفة عادات البلد وتقاليده ولغته وأساليبه؛ ولا سيما لقناعتهم في المأكل والمكسب، وأصبحت المراكب والسفن الشراعية التي تجتاز المحمودية، على الأخص، ومجاري النيل، على العموم، مشحونة، إن لم يكن كلها، فجلها، ببضائع لتجار من الأهلين، اشتروها من المزارعين مباشرة، في داخلية البلاد، ليبيعوها في الإسكندرية إلى التجار الأجانب نقدًا وعدًّا.

وقد قال يومئذ أحد كبار التجار الغربيين لكاتب فرنساوي بليغ كان قد زار البلاد في أواخر سنة ١٨٥٦، وهو يشير إلى امرأة مصرية، حافية القدمين، ومرتدية لباسًا يكاد يكون رثًّا: «أتراني إذا قلت لك إني دفعت الآن إلى هذه المصرية، ذات المظهر الحقير المبتعدة أمامك، أربعمائة جنيه إنجليزي ثمن بضائع أتتني بها، أتصدقني؟»٤

وحمل اتساع التجارتين الخارجية والداخلية سعيد باشا على إنشاء شركتين للملاحة: إحداهما بحرية، والثانية نيلية.

فالأولى، ودعيت «المجيدية»، إكرامًا للسلطان العثماني عبد المجيد، تأسست بفرمان همايوني استصدره محمد سعيد باشا في أواخر ربيع الأول سنة ١٢٧٣ من السلطان المذكور؛ وبرأس مال قدره عشرون مليونًا من الفرنكات، مقسم إلى أربعين ألف سهم، قيمة السهم الواحد خمسمائة فرنك، وغرضها استغلال شواطئ القلزم لغاية الخليج الفارسي استغلالًا تجاريًّا؛ ونقل الحجاج الذاهبين، سنويًّا، إلى الأقطار الحجازية، لتأدية الفريضة المقدسة، نقلًا سريعًا منظمًا؛ وربط نظام الملاحة في البحر الأحمر، بنظام سفن بخارية تمخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وتقوم بخدمة سواحل السلطنة العثمانية.

وقد وضعت هذه الشركة تحت رياسة الأمير مصطفى فاضل، أصغر أنجال إبراهيم باشا الكبير؛ وعين لها بطريقة استثنائية، مجلس إدارة مؤلف من نوبار بك وكيلًا للرئيس ومراقبًا لعموم أعمال الشركة في حال تغيب سموه؛ وكان من كبار الموظفين المصريين والتجار الأجانب.

والثانية، ودعيت «الشركة المصرية لقيادة السفن بالبخار على النيل والترع المصرية»؛ تأسست برأس مال قدره خمسة ملايين من الفرنكات؛ وبامتياز من محمد سعيد باشا في ٩ محرم سنة ١٢٧١ /٢  أكتوبر سنة ١٨٥٤ إلى مؤسسيها، وهم زمرة من كبار التجار الغربيين؛ أشهرهم ذكرًا السنيور پوپولاني؛ وبعض كبار موظفي الحكومة المصرية كذي الفقار باشا، المشرف العام على المالية المصرية؛ وكوينج بك سكرتير سمو الأمير الخاص؛ وموچيل بك كبير مهندسيه، وغرضها الانفراد بقوة البخار لجر بضائع الوارد والصادر في عموم دائرة القطر المصري، على النيل والترع المصرية بطلب من أصحاب المراكب المشحونة فيها تلك البضائع، وبالأسعار التي تضعها الحكومة المصرية لكل صنف منها، وذلك الانفراد مقابل إنشائها طلمبات نارية في العطف تكون قوتها كافية لحفظ المحمودية دائمًا في حال صالحة للملاحة ولري عشرين ألف فدان ريًّا صيفيًّا؛ وتزويد الإسكندرية بالماء اللازم لها، حتى فيما لو غيرت الحكومة طريقة المجارير المائية فيها.

غير أن هاتين الشركتين المساهمتين — وكانتا أول ما تأسس من نوعهما في القطر المصري، ولذلك توسعنا قليلًا في ذكرهما — بالرغم من أن مدة أولاهما جعلت ثلاثين سنة، ومدة ثانيتهما خمس عشرة سنة لم تقوما بأعمالهما، أعوامًا قليلة، حتى تطرق الخلل الناجم عن الإهمال وعدم الاعتناء؛ لا سيما بعد أن أخذ المرض من (سعيد) مأخذه، فخسرتا جانبًا كبيرًا من رأسي مالهما؛ وبات الخراب التام يهددهما حينما آل الأمر إلى خلفه.

فشمر (إسماعيل) عن ساعد الجد في هذا الباب من المصلحة العامة، ومد يده إلى الشركة المجيدية، فجمع ما بقي من حطامها؛ ثم صفاها؛ وأنشأ، محلها، شركة جديدة، دعاها «العزيزية» إجلالًا للسلطان عبد العزيز، كان جل رأس مالها من جيبه الخاص وساعده على ذلك ثروته الشخصية حينما ارتقى عرش مصر فقد كان إيراده لا يقل عن مائة وستين ألف جنيه سنويًّا ولم يكن عليه دين ما؛ وجعل مهمتها القيام بالشأن الذي أسست المجيدية من أجله.

ولما رأى أعمال الملاحة سائرة على أتم ما يرام في البحر الأحمر وعلى سواحل البحر المتوسط العثمانية، وريح اليسر والرخاء نافخة في قلوع «العزيزية» تاقت نفسه إلى توسيع نطاقها وجعل سفنها تمخر في المياه الأوروبية، حاملة في مرافئها الجنوبية، الراية المصرية وهي خافقة فوق بضائع مصرية.

فأرسل اثنين من أخصائه ومن كبار رجال الجاليتين الإيطالية والفرنسية، يدعى أحدهما السنيور فرنشسكو ييني بك، والثاني المسيو چورنو بك إلى البندقية ومرسيليا، ليمهدا له سبل العمل والنجاح فيهما، فعقدا اتفاقًا في إيطاليا وفرنسا، ولكنهما صادفا، من منافسه ومن حسد الملاحة الأجنبية هناك في إيطاليا وفرنسا، لا سيما من شركتي البننسيولر والأورنيتل الإنجليزية، والمساچيري امپريال ماريتيم الفرنساوية، ما اضطر الأمير إلى العدول عن فكرته، والاقتصار على ملاحتي القلزم وسواحل البحر الأبيض الجنوبية، وتحويل جهوده في إنماء تجارة بلاده إلى وجهات أخرى.٥
فطفق، من جهة، يعضد، بأمواله الخصوصية، رءوس الأموال الفردية، لتكوين شركات مساهمة عديدة، بدون نظر إلى جنسية المساهمين فيها، أو دينهم: فتأسست، بحضه، وتحت تأثير موحيات رغائبه، وبرءوس أموال كان ما يخصه فيها أهم رءوس الأموال الفردية المكتتب بها، شركة اعتمادات مالية زراعية مساهمة، غرضها تسليف المزارعين، ولا سيما أصاغرهم، نقودًا بفوائد خفيفة لإنقاذهم من أيدي المرابين اليونانيين واليهود وغيرهم؛ وشركة مساهمة لاستيراد الماكينات البخارية من أوروبا، وبيعها إلى المزارعين المصريين بأقساط تناسب درجة ثرواتهم، وتركيبها في الأماكن التي تعين لها؛ وشركة مساهمة ثالثة للقيام بنفاذ مشاريع الري والطرق الزراعية التي تقرها المجالس المحلية وتعتمدها الحكومة؛ وشركة رابعة لاستغلال السودان والإتجار بحاصلاته المتنوعة، وعمد فيما بعد إلى تأسيس شركات اعتمادات مالية لتعزيز مركز مصر المالي وتحريره من الاحتياج إلى رءوس الأموال الغربية، كمصرف أهلي أو مصرف عقاري، يكون هو أكبر مساهميها وأهم عملائها، وأنشأ، أثناء وجوده في باريس سنة ١٨٦٩ بالاشتراك مع الخواجات ا.دي.چيراردين وأعوانه الماليين الشهيرين الذين عرفه بهم نوبار باشا «الشركة العمومية المصرية» للإتجار والاستغلال، لحفر ترعة كبرى لري جزء الوجه البحري الشمالي الغربي — فدفع، هو، معظم رأس مالها وكل مصاريف تأسيسها — وأسس كذلك المصرف (البنك) الفرنساوي المصري، بالاشتراك مع المسيو ليڨي كريميي اليهودي الذي ربط بين سموه وبينه وثاق صداقة متينة رجل مالي كان مخصصًا لخدمته في تلك العاصمة.٦

وطفق، من جهة أخرى، وهو يعمل على توسيع نطاق السكك الحديدية — أساس رقي كل تجارة في العالم، بل كل رقي على الإطلاق — يفكر في جعل ميناءي الإسكندرية والسويس — وهما أكبر الثغور المصرية على البحرين الأبيض والأحمر — على درجة من الاتساع والأمن يتسنى لهما أن يباريا أكبر الموانئ العالمية في أهمية حركتهما التجارية.

أما السويس، فإن شركة البنسيو لراند أورينتل الإنجليزية كانت قد طلبت في سنة ١٨٤٢ من (محمد علي) أن يأذن لها بإجراء أعمال هامة فيها، تجعلها فرضة فسيحة أمينة، وإنشاء حوض عام لتصليح السفن؛ فأبى.

فلما آلت الأحكام إلى محمد سعيد باشا رفعت إليه شركة المساچيري امپريال ماريتيم طلبًا في المعنى عينه؛ وتوسمت منه قبولًا لما اشتهر عنه من الميل إلى فرنسا وحبه للفرنساويين، فعضد طلبها المسيو براڨيه — وكان أخص أخصاء محمد سعيد باشا. فأجابها إليه في سنة ١٨٦١؛ واتفق معها على أن يدفع لها سبعة ملايين من الفرنكات على أن تقوم هي بعمل الحوض العائم، فقط؛ علاوة على تقديمه يد السخرة المصرية إليها لتستعين بها على نجازه.

فكلفت الشركة بالعمل محل دوسو اخوان Dussan — وهو الذي بنى فيما بعد ميناء بورسعيد — وشرع ذلك المحل في سنة ١٨٦٢ ولكن الحكومة المصرية رأت، بعد ذلك، لأسباب لا داعي إلى بيانها هنا، أن تمنع يد السخرة، وتعوض الشركة منها بإعطائها مليونًا ونصفًا من الفرنكات، علاوة على السبعة المتفق عليها، ولم يقف سخاؤها عند هذا الحد بل تجاوزه حتى وصل المبلغ إلى تسعة ملايين. على أن العمل لم يتم إلا في عهد (إسماعيل)؛ ولم يفتح الحوض المذكور إلا في سنة ١٨٦٦.

فأراد (إسماعيل) أن تعمل ميناء واسعة هناك؛ لا سيما بعد الفراغ من عمل ترعة السويس وفتحها، فأمر؛ فشرع في العمل في سنة ١٨٧٠ وأنشئ حوض خارجي دعاه (إسماعيل) «بور إبراهيم»، إكرامًا لاسم أبيه الهمام، وربطه بالسويس بسكة حديدية، أنشأ إلى جانبها سكة عربات؛ وما زال يعمل ويحسن لتأمين السفن وراحتها حتى بلغ مجموع ما أنفقه في هذا السبيل، مليونًا وخمسمائة ألف وعشرة آلاف جنيه.

أما ميناء الإسكندرية — وطولها ستة أميال وعرضها ميلان بين رأس التين ورأس العجم من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وهي مقفلة من كل جانب إلا من هذا الجانب الأخير — فإن (إسماعيل) كان قد أحس بوجوب تصليحها منذ ارتقائه سدة جده، للمسه، بيده، المضار الناجمة عن قيام الصخور متشعبة في مدخلها ومجراها، ولكن ذلك الإحساس زاد فيه، بعد فتح ترعة السويس، زيادة لم يعد يستطيع معها صبرًا على بقاء الحال كما هي، لا سيما بعد أن رأى تحول جانب عظيم من تجارة الإسكندرية بسبب صعوبة مدخل مينائها إلى مجرى تلك الترعة البحرية.

فعقد، قبل نهاية سنة ١٨٧٠، عقدًا مع محل جرينفلد وشركائه الهندسي بلندن، كلفه بمقتضاه بإقامة حاجز ضخم خارجي؛ وإنشاء ميناء داخلية؛ وبناء أرصفة فيها للسفن، تكفل لها وللمسافرين الراحة التامة، نظير تقاضيه مبلغ مليونين من الجنيهات الإنجليزية.

فبعد بضعة أشهر صرفت في تجهيزات لم يكن منها بد (ووجد المهندسون الإنجليز، في خلالها، سبيلًا إلى جعل المليونين المتفق عليهما — بالرغم من احتوائهما على زيادة في التقدير تبلغ ثمانين في المائة، أسوة بجميع الأشغال العمومية والخصوصية التي قام بها مهندسون غربيون في عهد (إسماعيل) — مليونين ونصفًا، وذلك بإضافتهم بعض تعديلات إلى التصميمات والرسوم الأصلية) شرع في العمل في بدء ربيع سنة ١٨٧١، بعد حفلة شائقة وضع الخديو فيها بيده أول حجر في ذلك الميناء الفخم.

فسير بالحاجز، أولًا، جنوب منارة رأس التين الغربي، وعلى بعد خمسين مترًا منها، مسافة قدرها ألف متر، ثم ميل به نحو الجنوب الجنوبي الغربي مسافة قدرها ثلاثمائة وخمسون مترًا: واجتيز به الثغر كله، فإذا به ميلان يشتملان على ألف وأربعمائة فدان مياها هادئة تستطيع أكبر مراكب العالم وعمارات الدول كلها الرسو باطمئنان والاجتماع براحة فيها، وإذا بالمدخل الأهم دائر خلف الحاجز الجنوبي الغربي على بعد ١٥٠٠ متر من الشاطئ، والممر الضيق لدخول المراكب الصغيرة وخروجها، إلى جهة رأس التين، وإذا بالبناء قد برز على علو سبعة أقدام فوق كل علو قد تبلغ إليه أمواج البحر في أشد ارتفاعها، وشمل، من جهة الشاطئ الحاجز “Mole” الواسع، على مسافة تسعمائة متر من فم المحمودية، لجهة رأس التين، واشتمل على أرصفة طولها ١٤٤٠ مترًا في منتهى المتانة والجودة.
ثم أوصل ذلك جميعه بسكة حديد القباري، بخط حديدي أنشئ لهذا الغرض خصيصًا، فأصبحت القطارات تستطيع تفريغ مشحونها على الأرصفة الراسية البواخر بجانبها مباشرة؛ وتستطيع البواخر تفريغ مشحونها مباشرة أيضًا، في القطارات العاجة التي تملأ صغار قاطراتها تلك الأرصفة! وبلغت قيمة ما تقاضته الحكومة من الرسوم سنويًّا من السفن الداخلة إلى ذلك المرفأ لغاية سنة ١٨٧٧ مائة وثلاثين ألف جنيه.٧

على أن همة (إسماعيل) لم تقتصر على توسيع ميناءي السويس والإسكندرية؛ ولكنها تناولت موانئ البحر الأحمر القصية عنها، من القصير إلى زيلع وبربرة، وأدخلت عليها من التحسينات ما كان متناسبًا مع انتعاش حركة السودان التجارية في عهده، ونموها.

ولعلم (إسماعيل) أنه لا بد للموانئ، لكي تقوم بعملها قيامًا نافعًا في النهار والليل، من منارات فيها، ترشد السفن إلى أحواضها الداخلية الأمينة، وتدرأ عنها أخطار الشعاب الصخرية، أكثر من إنشاء هذه السرج الجزيلة النفع على جميع شواطئ مملكته المترامية الأطراف.

فإنه، حين أدركت (سعيدًا) منيته، لم يكن من تلك المنائر سوى منارة الإسكندرية ونور عائم في خليج السويس، فما ابتعدت الأيام بملك (إسماعيل) إلا وقد قامت سبع منارات عظيمة على ساحل البحر الأبيض، غير الصغرى منها، وسبع أخرى على سواحل البحر الأحمر، وواحدة على ساحل الأوقيانوس الهندي، وإليك بيانها:
  • أولًا: على ساحل البحر الأبيض: أربع بالإسكندرية وهي: منارة رأس التين تبعث أنوارها المتألقة إلى بعد عشرين ميلًا، ومنارة طرف الحاجز، تبعث أنوارها إلى بعد ستة أميال؛ ومنارة العجمي؛ ومنارة الخليج الغربي؛ ثم منارة رشيد، ونورها الأبيض والأحمر جميل للغاية؛ ومنارة رأس البرلس، ونورها أبيض ثابت؛ ومنارة دمياط، ونورها أبيض كذلك؛ ومنارة بورسعيد الكبرى، وهي مثيلة منارة الإسكندرية، وتبعث أنوارها الجميلة إلى بعد عشرين ميلًا.
  • ثانيًا: على ساحل البحر الأحمر، منارة السويس الكبرى، تبعث أنوارها على بعد ثمانية عشر ميلًا؛ أنشئت في الميناء، علاوة على النور العائم في الخليج والنور الأبيض المقام على مدخل الثغر؛ ومنارة أخرى دون الكبرى بقليل، تبعث أنوارها إلى مدى أربعة عشر ميلًا، من قمة رأس الزعفران، الواقع على بعد خمسين ميلًا جنوبي السويس؛ ومنارة ثالثة مثلها يرى نورها من بعد أربعة عشر ميلًا كذلك، على قمة رأس غريب، ويبعد عن رأس الزعفران جنوبًا خمسين ميلًا أخرى؛ ورابعة، أقوى منها، في جزيرة الجبل، على مدخل الخليج، تبعث أنوارها إلى بعد ثمانية عشر ميلًا؛ وخامسة قائمة على صخور ديدلوس في وسط البحر الأحمر في خط ٢٤ و٥٥ شمالًا، تبعث أنوارها إلى بعد أربعة عشر ميلًا؛ وسادسة مثلها في سواكن؛ وسابعة في الوجه بمحطة الأربعينيات (الكورنتينات).

وأما التي على ساحل الأوقيانوس الهندي، فواحدة في بربرة، قائمة هناك، دليلًا ساطعًا على نور المدينة والحضارة المنبعث عن (إسماعيل) إلى أقصى أطراف مملكته، والمنبئ بشروق شمس أيامه في شرق القارة السوداء، لتبدد غياهب ظلماتها الهمجية وتخترق حجب دياجيرها المدلهمة.

وقد بلغ ما أنفق في إقامة هذه المنارات الشاهقة التي كان معظم حراسها من الإنجليز الخبيرين بعملها، نيفًا ومائة وتسعين ألف جنيه؛ وقد اعتنى بها وبتنظيمها اعتناء جعلها في مقدمة مثيلاتها في البلاد الغربية عينها، وجعل ما يتقاضى من الرسوم على السفن المنتفعة بها يزيد على ما تستدعيه صيانتها من نفقات — والفضل في ذلك إلى مديرها العام ماك كيلوب باشا.٨

وكانت السفن التي تجتاز قنال السويس إلى الشرق الأقصى تدفع رسومًا في ذهابها وإيابها؛ وأما التي تقف في السويس ثم تعود إلى بورسعيد فلم تكن تدفع سوى رسوم الذهاب؛ والسفن الحربية لا تدفع شيئًا؛ وأما السفن البريدية فكان يعمل خصم قدره ٥٪.

ولعلم (إسماعيل)، أيضًا، أن نفخ روح الحياة في أصناف الصناعات والفنون وأبواب العمل، من شأنه أن يضاعف الحركة التجارية بإكثار مستورداتها وصادراتها أكب على الأمرين معًا بكل نشاط نفسه النشيطة.

أما الصناعات والفنون — وقد كانت مصر في أيام الفاطميين والأيوبيين، بل في ذات أيام السلاطين المماليك من بحريين وبرچيين، مهبطها وكعبتها — فإن الحكم التركي المملوكي — الذي أنشأه في الديار السلطان العثماني سليم خان الأول عقب انتصاره على جنود طومان باي البواسل، في واقعة الريدانية، وذبحه نيفًا وخمسين ألفًا من سكان القاهرة، وسلبه كنوزها ونفائسها وتسييره صناعها ومشاهير رجال فنونها إلى الأستانة، مع الزمرة من أعيانها التي اعتقلها فيها صحبة المتوكل على الله آخر خليفة عباسي بمصر — كان قد قضى عليها قضاء مبرمًا؛ كما قضى على كل حركة حيوية غيرها: فبت ترتاد البلاد من الإسكندرية إلى أسوان فلا تجد مصنعًا واحدًا من المصانع العديدة التي كانت تعمل فيها النفائس والطرف من أنواع ما تحفظه دار آثارنا العربية بمصر، اليوم.

فلما استلم (محمد علي) زمام الحكم بيده القوية، وصفا له الجو بزوال أيام معارضيه من مماليك وغيرهم؛ ووقع في خلده أن ينشئ في مصر، ومن مصر، دولة شابة يقيمها على جبهة الشرق، ساطعة السنا، رأى أنه لا بد له من إحياء الصناعات والفنون فيها، ليتمكن من نيل أغراضه وقضاء أوطاره.

فأقبل ينشئ المعامل والمصانع في كل جهة؛ منها ما هو لصنع الأشياء الشرقية التي كانت البلاد تصنعها في أيام عزها السابق — ونرى بعضها الآن مما صنع في عهده في قصور أفراد أسرته الكريمة و«سراياتهم»؛ ومنها ما هو لصنع الأشياء الغربية المستوردة من الخارج.

تلك المعامل والمصانع أقيمت، في الوجه البحري: بمصر، وقليوب وميت غمر وزفتى والمحلة الكبرى وسمنود والمنصورة ودمياط وفوّة وشبراخيت إلخ، وفي الوجه القبلي: في بني سويف والمنيا ومنفلوط وأسيوط وطهطا وجرجا وسوهاج وإخميم وإسنا إلخ؛ واشتغل فيها نيف وعشرون ألف عامل.

ولكنها، بالرغم من وجود الرؤساء المستقدمين من أوروبا حتى من أميركا بكثرة فيها، لتعليم الصناع المصريين المشتغلين تحت إدارتهم، ما لبثت كلها أن تعطلت وأقفلت في عهد (محمد علي) عينه، ما عدا معمل الطرابيش بفوّة، فإنه بقي قائمًا بفضل استيراد جميع أفراد الجيش والهيئة الإدارية طرابيشهم منه.٩

والمرجع في هذا البوار والتعطيل إلى سببين رئيسيين: (الأول) عدم وجود المواد الأولية كالحديد والفحم، في البلاد، وضرورة استحضارها من الخارج بأثمان باهظة كان من شأنها جعل مجاراة المصنوعات المصرية للمصنوعات الأجنبية، في أثمانها، ومساواتها فيها، أمرًا متعذرًا؛ و(الثاني) أخذ الحكومة المصرية بمبدأ الاحتكار التجاري، وهو مبدأ من شأنه قتل كل همة فردية والقضاء على روح كل إقدام.

ولم تجد الصناعة تعضيدًا من خلفاء (محمد علي) الثلاثة الأول، فإبراهيم لم يعش؛ وعباس لم يهتم؛ وانصرفت الأمة في مدة سعيد بكلياتها وجزئياتها إلى الفلاحة، عقب التسهيلات التي قدمت لها، ولم تكن قد اعتادتها. على أن تهافت الأجانب على القطر في مدة سعيد، أوجب توسع العمارة بالإسكندرية، مع ما توجبه شيئًا فشيئًا من تغيير معالم ونشوء مصانع ميكانيكية؛ ولكنه لم يدخل تغييرًا محسوسًا، حتى ولا تعديل على نظام الصناعات والفنون البلدية.

فبقي هذا النظام معمولًا به كما كان منذ قديم الزمان: أثرًا للماضي الفرعوني؛ واتخذ من العصر التركي اسمًا جديدًا لم تعهده مصر العربية وهو «الطوائف».

فكل صناعة أو حرفة كان يقال لها: «طائفة» وكان لكل طائفة شيخ ينتخبه كبار رجاله، وتصدق الحكومة على تعيينه مقابل رسم يدفعه إليها، ويختلف مقداره مع اختلاف الأيام.

فمتى تعين الشيخ رسميًّا، أصبح حاكم «الطائفة» المطلق والمسئول الوحيد عن كل شئونه، فهو الذي يحدد أثمان العمل؛ ويرتب درجات الأجور؛ ويقبل دخول أعضاء جديدين في الطائفة؛ ويرشد إلى كيفية إنجاز الاتفاقات؛ وينتدب الصناع الذين ينجزونها؛ ويجمع العوائد المفروضة على رجال الطائفة؛ ويمنح الأعضاء، ساعة قبولهم، الشهادات التي تثبت كفاءتهم وتبين مقدار الأجرة اليومية الواجبة لهم؛ لأنه إذا جاز لرجل الطائفة أن يقاول على الشغل بالقطعة، لم يكن يجوز له أن يقاول عليه باليومية؛ لأن يوميته كانت معلومة ومبينة في شهادته، ولا سبيل له إلى زيادتها ولا إلى تنقيصها، فكانت المزاحمة، والحالة هذه، معدومة بالمرة؛ وكان العمل على العموم تحت رحمة شيوخ «الطوائف»؛ فإذا بلغهم أن أحد رجال الطائفة اشتغل بأجرة زائدة على المبينة في شهادته أو ناقصة عنها جاز لهم أن يطلبوا عقابه من الحكومة وحبسه وينالونهما.

على أنه كان يباح للصانع أن يشتغل في فرعين من فروع فنه بشرط دفع ضريبة مضاعفة؛ كذلك إذا احترف بحرفتين — وهو ما كان نادرًا — إلا إذا اتفق سرًّا مع الشيخ، وحمله برشوة على غض نظره.١٠

أما الصناعة الغربية المستوطنة، فلم تكن خاضعة لهذا النظام، ولكنها لقلتها، لم يكن في استطاعتها أن تزاحم الصناعة المحلية، مزاحمة محسوسة، ومن المعلوم أن قلة المزاحمة تعود الخمول، وتحول، عادة، دون تحسين العمل ورقيه وبلوغه درجة الكمال.

فلا عجب، والحالة هذه، من بقاء الصناعات والفنون المحلية في مستوى واحد، طوال المدة ما بين سنة ١٨٠٠ وسنة ١٨٦٣.

فلما نفخ (إسماعيل) فيها، من روحه، أخرجت الأرض المصرية أولًا، برأس مال قدره ستة ملايين من الجنيهات، معامل سكر في مصر الوسطى، تمتد على طول تسعين ميلًا على شاطئ النيل الأيسر، من بني سويف إلى برج أسيوط؛ وتستغل محصول ٢٥٧٠٠٠ فدان بمعاصرها القائمة بالفشن، ومغاغة، وآبا، وبني مزار، ومطاي، وسمالوط، والمنيا، وفرشوط؛ ومعامل سكر أخرى في الصعيد، تمتد ما بين أرمنت، والضبعة والمطاعنة وتستغل أربعين ألف فدان؛ ومعامل سكر ثالثة في واحة الفيوم، تستغل حاصلات ديميرس، وسليكس، والفيوم، وأبو كساه، ومعصرة دودا؛ وكل معمل منها يشغل نيفًا وألفي عامل، كلهم مصريون ما عدا المهندسين — فإنهم كانوا إنجليز — ويخرج، علاوة على السكر، عسلًا أسود (دبسا) أجود من عسل جزر الهند الغربية، وروما من أطيب المشروب، بثمن إجمالي قدره سنويًّا مائة وسبعون ألف جنيه.

وأخرجت، ثانيًا، معامل نسيج عديدة، اشتغل فيها من الصانعين ما ربا عددهم على عدد صناع كل حرفة أخرى: فألف وستمائة منهم كانوا يشتغلون في معامل دوائر الوالدة باشا، بفوّة، وبولاق، وشبرا، والمعمل الأول كان يخرج خمسين ألف طربوش، في السنة، يباع معظمها إلى رجال الجندية والبحرية، وباقيها للعموم؛ والأخرى تخرج ٣١٥ ألف ثوب من الصوف، معظمها للجنود أيضًا.

وأقام بمصر ستين معملًا لنسج القطن والتيل؛ وعشرين لنسج الصوف؛ وأحد عشر لعمل الأبسطة؛ ومائة وسبعة للحياكة ونسج البفتة.

وأقيم بالإسكندرية ثمانية وثلاثون محلًّا لنسج القطن؛ وواحد وثلاثون محلًّا لعمل الأبسطة.

ونشأ في دمياط مائة وستة وستون دكانًا لنسج الحرير واثنان وستون لصناعته، وقام المجتهدون، في بني سويف، يكثرون من عمل البساط الصعيدي المعروف بالكليم والأنسجة التيلية الخشنة للبس الفلاحين؛ وكان في كل دكان من دكاكينهم من منوال إلى اثني عشر منوالًا.

وأخرجت، ثالثًا، معامل لصنع المعادن؛ منها ثلاثة للحكومة، وهي: مسبك مدافع، ومعمل بنادق — وفيه ماكينات لتصليح البنادق من أحدث طراز رمنجتن — وعنابرهما ببولاق؛ ومعمل خرطوش بالإسكندرية؛ علاوة على معمل سلاح، وعنابر للبواخر والسفن الحربية — وهو ما أنشئ فيما بعد نظير له في السويس.

أما معامل شغل المعادن الخاصة بالأهلين فكانت بمصر: خمسة وثمانين مسبك حديد، و٧٣ معملًا للنحاس، و٨٠ محلًّا للتبييض، عدا ٢٤٠ محل صائغ، وعدة معامل سلحدارية وحدادين، تخرج من الأسلحة أنفسها وأجملها، ومن الأدوات الحديدية الصغرى، ما تدعو إليه الحاجة؛ وبالإسكندرية: ٦ مسابك حديد، و٤٣ محل حدادة، و٢٠ معمل نحاس، و٩٣ محل صياغة.

ثم أنشأت الحكومة، بقليوب، معملًا لضرب اللبن كان يخرج ٤٧٠٠٠٠٠ لبنة حمراء كل عام؛ ثمن الألف منها تسعون قرشًا صاغًا — وكان معظم البناء حينذاك بالأجر والقليل منه جدًّا بالحجر. وكانوا يستخرجون الحجر، بمصر، من المقطم؛ وبالإسكندرية، من المكس كما هو شأنهم اليوم، بعد أن كانوا، قبل سنوات قليلة من ذلك العهد، ينهبون المعابد القديمة كلما أرادوا إنشاء بناء بالحجر.

وبدت الدباغة وصناعة الجلود فأنشأت الحكومة، لهذا الغرض، مصنعًا بالإسكندرية، كانت تدبغ فيه من ثلاثين إلى أربعين ألف جلد سنويًّا، ما بين جلود بقر وجاموس وخراف وماعز.

وأنشأ الأفراد نيفًا وثلاثين مصنعًا بمصر والإسكندرية، تجهز وتدبغ أكثر من مائتي ألف جلد سنويًّا، فكثر تصدير الجلود المصرية إلى الخارج، وراجت صناعة السروجية في داخل القطر رواجًا عظيمًا.

ولسنا نقول شيئًا عن صناعة الخزف؛ لأنه من المعلوم أن صنع القلل والزلع والأباريق والأزيار، وما على شاكلة ذلك جميعه، والتفنن في صنعه، قديمان بمصر قدمًا تكاد الذاكرة لا تدركه؛ ومن المعلوم أيضًا أن هذه الصنعة بلغت في مصر القديمة شأوًا لم تبلغه في مصر الحديثة، ولكنا نقول إن أفضل أدوات حرفته إنما كانت تخرجها مصانع قنا وبلاص وأسيوط ومنفلوط وملوي؛ وتنزل إلى المراكب في النيل منها، سنويًّا، خمسمائة ألف قطعة، كما كانت تفعل في أيام طوطمس العظيم، وأيام أن أُكْرِهَ بنو إسرائيل على مغادرة مصر.

وأخرجت هذه الأرض المصرية أيضًا من ثمانية إلى عشرة معامل زجاج — واسم أحدها لا يزال مطلقًا على إحدى المحطات بين الإسكندرية ودمنهور — كانت تصنع للأسواق نيفًا وعشرة آلاف قطعة متنوِّعة سنويًّا؛ عدا عشرين ألف زجاجة مصباح. نذكر هذا: والألم ملء الفؤاد، في هذه الأيام التي لا معمل زجاج لنا فيها حتى أصبحت زجاجة المصباح البسيطة ذات العشرين الفضة دارجة، سابقًا، تباع بنصف ريال، منذ أن حالت الحرب العالمية الكبرى دون أن ترسل مصانع الغرب شيئًا منها إلينا.١١

وماذا نقول عن معامل الورق التي أقامتها الدائرة السنية — أي: دائرة (إسماعيل) — ببولاق سنة ١٨٧٠، وكان يشتغل فيها ٢٢٠ عاملًا وطنيًّا تحت رقابة مهندسين ورؤساء أعمال من الإنجليز؛ فيخرجون ١٨ طنًّا من الورق المستعمل للف السكر، وسبعين ألف فريدة ورق طباعة وكتابة، من أنواع مختلفة، يصنع أوطؤها قيمة من الحلفاء وقشر القصب، وكانت تكفي كل الحاجة إليها بمصر، ويصدر الزائد على الحاجة منها بالات بالات إلى الحجاز، بل إلى الهند؟

نحن لا نتوسع في ذكرها، خشية إيلام النفوس؛ لأن عدمها الآن بمصر، مع انعدام الوارد من الخارج أصبح يهدد المدارس، بالإقفال، لا الصحافة والتأليف فقط بالتعطيل، ومصالح الحكومة بالارتباك.

أما المطبعة الأميرية التي أنشأها (محمد علي) فإن (إسماعيل) وسعها توسيعًا أصبحت معه تستطيع أن تطبع كل ما تحتاج إليه مصالح الحكومة، وجميع كتب التدريس التي تقررها وزارة المعارف العمومية باللغتين العربية والتركية، وفي كل لغة من اللغات الأوروبية الكبرى، كالفرنساوية والإنجليزية والطليانية، طبعًا نظيفًا متقنًا، خليقًا بأي مطبعة بباريس ولندن، مهما كانت كبيرة، ومعتنى بها، أن تفتخر به؛ مع أن عمالها — وكانوا أكثر من مائة — كانوا جميعًا من المصريين.

على أن الإقدام الشخصي شرع، مع ذلك في مزاحمتها مزاحمة كبيرة منذ ذلك الحين، فالدائرة السنية أنشأت محل ليتوغرافيا لها ببولاق؛ وأنشأ بعض الفرنج والأهلين خمس مطابع وخمسة محال ليتوغرافيا بمصر، وأربعة بالإسكندرية؛ ولكن العمال فيها كانوا إفرنج كلهم.

وازداد عدد المشتغلين في باقي الحرف، فالطحانون والفرانون أصبحوا طائفة كبيرة؛ وبلغ عدد الخبازين في المدن والبنادر وحدها — خلاف الفلاحين والبدو — ٢٣٠٠ خباز منهم ١٠٠٠ بمصر و٤٩٠ بالإسكندرية، وبلغ عدد صانعي الفطير والحلوى ألفًا ومائتين، منهم ٨٠٠ بمصر، و٢٠٠ بالإسكندرية، والباقي في البنادر، وبلغ عدد الطواحين البخارية ٢٧ بمصر و٢١ بالإسكندرية؛ وما يدار منها بالخيل ٥٧٥ بمصر و١٢٧ بالإسكندرية، علاوة على ٣٧ طاحونة هوائية بهذا الثغر، وجملة طواحين بطنطا والزقازيق والمنصورة، وكان للحكومة طاحنة بخارية عظمى، تقوم بطحن الغلال اللازمة للجيش والبحرية؛ ومخبزان عظيمان بمصر والإسكندرية، لتوزيع الخبز على الجنود والنوتية، وعلى جهات البر والمدارس والحجاج العابرين.

وزاد عدد البنائين وصانعي الأحذية والسمكريين، وازدادوا اتقانًا لصنائعهم، حيال المزاحمة الأجنبية؛ كذلك كان شأن التطريز والصياغة، ولو أنهما استمرا يشتغلان على النماذج القديمة المصرية.

غير أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئًا فشيئًا، وتحل محلهما الصنعة على الطراز الغربي؛ حتى أصبح ثمن «العينة» فقط من الصنعة القديمة أغلى مما كان ثمن الشباك كله في عهد علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وكذلك بات شأن التزويق والتنميق في داخل المنازل والقصور: فإن الذوق والصنعة القديمين زالا منهما، وحل مكانهما الذوق والصنعة الألمانيان.

أما التفريخ فبقي كما كان قديمًا، ووصفه هيرودوتس المؤرخ اليوناني، غير أن معامله — وكان عددها ٦٠٠ في القطر — ازدادت نشاطًا وطفقت تخرج نيفًا واثني عشر مليون دجاجة سنويًّا.

وأدت الحرب الأميركية الأهلية إلى إنشاء معامل قطن في البلاد، منها ستة بخارية، بتسعة مكابس بالإسكندرية؛ ومعملان في داخلية القطر، أحدهما بالمنصورة، خاصة و«تورت اخوان»، كان أكبر المعامل قاطبة، لاشتماله على ثمانين محلجًا وسبعين مكبسًا وآلات لتنظيف الذرة وطواحين زيت وطواحين دقيق عظمى وآلات لفرز الكتان.

وأحيت روح (إسماعيل) العمل في مناجم الزمرد، بجبل زبارا ووادي سقيط، بين إدفو والبحر الأحمر؛ وفي مناجم الرصاص، بجبل الرصاص، في الجهة عينها؛ وفي مناجم الذهب في بلاد البشاريين؛ وفي مناجم الفيروز بمغاور شبه جزيرة سينا؛ وفي محاجر المقطم وأسوان الغرانيتية، ومحاجر وادي عمرحوب المرمرية، وجبلي الدخان الأبيض والأحمر الرخامية؛ وحثث: فأوجد البحث قليلًا من الحديد والرصاص والنحاس في بعض الصخور بشلال أسوان وجبل زبارا.

ونشط استخراج النطرون من مديرية البحيرة، واستخراج النترات والأملاح من البحيرات ومن الصخور، حوالي شواطئ البحر الأحمر.

أما النطرون فأصبح له ثمانية أحواض كبيرة، وبركتان صغيرتان تجفان في الصيف، استغلت الحكومة جانبًا منها، واستغل الأهالي الباقي؛ واشتغل فيها ثلاثمائة عامل، منهم مائة راهب قبطي مقيمون في أربعة أديرة.

وأما النترات، فإنه أضحى يستخرج منه ٦٥٠ كيلو من أنقاض المدن القديمة، وينظف في المعامل المصرية، فيؤدي ٥٦٠ كيلو من نترات البوتاسا.

وأما الملح، فإنه أصبح يشتغل في استخراجه ألف شخص وثلاثمائة حيوان من اثنتي عشرة حفرة؛ فيستخرجون منه ٧٢٠٠٠ إردب سنويًّا.

ووجد زيت حجر (بترول) على بعد مائة ميل جنوب السويس؛ فأحضرت الماكينات لاستغلال ينابيعه، وبوشر العمل؛ وما لبث أن أخذ يبشر بنجاح قريب.

وراج صيد الأسماك في المصايد والنيل والبحر فاشتغل نيف و٣٧٠٠ صياد، في نيف وثمانمائة قارب، على النيل وفي البحر؛ وما يزيد على ستة آلاف صياد، في أربعة آلاف قارب، على بحيرة المنزلة؛ حتى بلغت العوائد المربوطة على هذه البحيرة فقط ستين ألف جنيه؛ وراجت كذلك الملاحة النيلية: فبلغ عدد المشتغلين فيها ستة وثلاثين ألفًا؛ وكانوا أكثر الناس بسطة في السرور، وأشدهم ميلًا إلى الابتهاج والغناء، وكثيرًا ما كانت الحكومة، ساعة احتياجها إلى نوتية في سفنها الحربية أو التجارية، تستدعيهم إليها وتنظمهم في سلكها بأجور جيدة. أما المراكب النيلية التي كانوا يعملون فيها، فكانت على ستين نوعًا من الدهبية الفخمة إلى الصندل البسيط.

وقد وضع بعضهم تعدادًا لأرباب الحرف والصنائع في القطر، سنة ١٨٧٧، فإذا بهم كالآتي: ٣٧١ صانع أسلحة؛ ٢٦٠٥ حداد؛ ٤٣٤ صانع لبن؛ ٦٤٧٣ نشارًا ونجارًا؛ ٣٢٠ فحامًا؛ ٧٧٠ صانع ملابس؛ ١٢٩٦ نحاسًا؛ ٥١٠٩ صائغ؛ ١٨٧١ مطرزًا، ٣٢٠ حفارًا؛ ٨٦ قمرياتيًّا؛ ٢٦٣٠ جوهرجيًّا؛ ٢٤٨٢ حراق جير؛ ٢٨٥ مرخماتي؛ ٤١١٣ بناء؛ ١٤٦٣ حصريًّا؛ ٦٨٦ نقاشًا؛ ٢٥٧ عامل شباك؛ ٥٤٠ طوانيًّا؛ ٨٣٤ فخرانيًّا؛ ١٩٠ خيالًا؛ ٧٧٠ سروجيًّا؛ ٢٢٣٥ صانع أحذية؛ ٥٨٩ مغربلًا؛ ١٤٠٤ حجارًا؛ ٢٥٢٠ خياطًا؛ ٩٧١ دباغًا؛ ٥١٠ قصديري؛ ٤٣٦٠ سمكريًّا؛ ٥٨٢ منجدًا؛ ٣٠٠ مطبعيّ؛ ٢٠٠ صانعي ورق؛ ٢٥٠ صانع زجاج؛ ١٠٠٠٠ نساج؛ ٩٦٠٠ صائد سمك؛ ٣٦٠٠٠ مراكبيّ (نوتي)؛ ٩١٠ قلفاطي؛ ٣٥٠ مركب مزاريب.

فكان، والحالة هذه، مجموع المشتغلين في الحرف والصنائع مائة ألف وأكثر، أي بنسبة ١ إلى ١٢ من مجموع الذكور البالغين في القطر جميعه، وهذه نسبة تدل على مقدار الحركة والعمل في مضماري الصناعة والفن.

وكانت الأشغال الهندسية، في كل ما تستدعي الحرف المذكورة منها، معهودًا بها في بادئ الأمر إلى رجال من الإنجليز بمرتبات تتراوح بين ٨ و٢٥ جنيهًا شهريًّا، ولكن الحركة التعليمية ما لبثت أن أحلت المصريين، لا سيما المتخرجين من مدرسة الفنون والصنائع ببولاق، محلهم بمرتبات من ٨ إلى ١٠ جنيهات شهريًّا.

غير أن هذه الصنائع والحرف كلها، ولو أنها كانت بحركتها الحثيثة، والنشاط الذي أوجبته، تجعل مصر شبيهة بخلية نحل، الكل فيها يشتغل، لم تكن سوى وجه من وجهي الحياة العملية التي دبت في جسم القطر إذ نفخ (إسماعيل) فيه من روحه.

وأما الوجه الثاني فالأعمال والمنشآت الخصوصية والعمومية، التي أشغل فيها ذلك الأمير المقدام الهمم والمجهودات.

فإنه ما ارتقى العرش، إلا ووضع نصب عينيه، لا سيما فيما يختص بعمارة الإسكندرية ومصر، الاقتداء بأغسطس قيصر الروماني، القائل: «وجدت روما مبنية باللبن، فتركتها مبنية بالرخام»؛ أو بالإمبراطور نابليون الثالث، الذي وطن عزمه على تغيير شكل باريس، من حسن إلى أحسن؛ وما فتئ ينفذه حتى صير العاصمة الفرنساوية عروس مدائن العالم طرا.

أما الإسكندرية، فإنها بعد عزها الأقعس في أيام البطالسة والرومان والبيزنطيين أنفسهم، إذ كانت ثانية عواصم المسكونة، وكان عدد سكانها يربو على ستمائة ألف آلت إلى الخراب والدمار، شيئًا فشيئًا على توالي القرون، لتخلي السياسة عنها.
  • أولًا: مذ اتخذ عمرو مدينة الفسطاط عاصمة له (عملًا برغبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ألا يكون بينه وبين المسلمين بمصر ماء)، فالمعسكر، فالقطائع، فالقاهرة، وابتعاد التجارة عن شواطئها.
  • ثانيًا: منذ أن أنشأ الطولونيون مدينة رشيد، وبعد أن ابتنى الظاهر بيبرس دمياط الحديثة على أنقاض دمياط القديمة؛ وما زالت مبانيها تتهدم، وأكوام المهدوم تكتنف المعمور، وتزاحمه على قواعده، وتحصره فيما عرف، لغاية عهد (محمد علي) الكبير، بالجزيرة الخضراء؛ وما فتئ عدد سكانها يتضاءل، حتى باتت ضيعة حقيرة، لا يؤبه بها؛ وبات سكانها لا يزيدون، إلا قليلًا، على ستة آلاف، حينما احتلها الفرنساويون في سنة ١٧٩٨.

فلما استخلص (محمد علي) الحكم لنفسه من أيدي الباشوات المرسلين من لدن الأستانة وأيدي المماليك، ومن مطامع الدول المستعمرة؛ وعنَّ له أن يتخذ الإسكندرية عاصمة لدولته الحديثة، ومقرًّا ومرجعًا لتجارتها؛ وأقبل يعمرها، ويحسنها، ويجملها، لا سيما بعد أن أوصل مياه المحمودية إليها: فأنشأ حولها الحدائق والبساتين، وأقام، على ضفاف تلك الترعة، القصور والمنازل الخلوية البديعة؛ ومد ما بين باب رشيد وسرايه الفخمة برأس التين، شارعًا جميلًا مرصوفًا بحجر مستخرج من الجبل الأحمر فوق مصر، ومكسوًّا بمسحوق الجير والبتسولانة الصناعية، لتمتزج أجزاء ذلك الحجر معًا، وتبرز متجانسة لا نتوء فيها؛ وبنى الترسانة على يد سير يزي بك مشيد عمارته البحرية، التي خلفت أسطوله المدمر في واقعة ناڨارينو؛ وأنشأ الحوض الحديدي العائم لتصليح سفنه التجارية والحربية، على يد موچيل بك؛ فصنع بفرنسا، وأتى به، جاهزًا، إلى الإسكندرية، فوضع في المحل المعد له، وكلف ١٢٧ ألف جنيه؛ وأصلح الميناء الجديدة؛ وصرح للفرنج بالخروج من وكالتهم المدعوة «فندق» التي كانت متاجرهم فيها، ويأوون إليها ليلًا وتقفل عليهم أبوابها، لئلا يمتزجوا بالأهلين أو يمتزج الأهلون بهم، وأذن لهم بالانتشار في المدينة: فأقبلوا ينشئون لأنفسهم الحي الذي عرف فيما بعد باسمهم؛ وقد اقتدى به ابنه إبراهيم، وأنشأ الميدان المعروف بالمنشية، وشيد حوله المنازل الفخمة التي شرع يؤجرها بأجور عالية إلى قناصل الدول العامة، حتى دُعي ذلك الميدان باللغة الأجنبية «ميدان القناصل»؛ وأقدم زعماء التجارة، المتعاملون مع (محمد علي) مباشرة، كزيزينيا، وأنسطاسي، وجباره، وغيرهم، على بناء قصور لهم ومنازل لا يأنف الملوك أنفسهم السكنى فيها؛ حينذاك أخذت الإسكندرية تنمو شيئًا فشيئًا وتتسع، فتتلاشى أكوام الخراب أمام تقدم خطوات العمار؛ وتتكون الأحياء الجديدة فوق رفات الأحياء الميتة؛ وتختط الشوارع الحديثة فوق خطوط شوارع الإسكندرية، الراقدة تحت تراب القرون؛ إسكندرية البطالسة والرومان؛ حتى أصبحت مدينة مساحتها خمسة أضعاف ما كانت عليه، يوم أن فتحها بونابرت، وجرح كليبير في رأسه وهو يهاجمها من جهة باب رشيد؛ وأصبح عدد سكانها نيفًا وستين ألفًا، وما زالت تنمو، بعد ذلك، وتزداد بتدفق حياة القطر وتجارته كلها إليها، ونزوح الريف العامل للسكنى فيها، وحب سعيد لها، وتفضيله إياها على العاصمة، مقتديًا في ذلك بأبيه المجيد، حتى أصبحت في عهده مدينة ذات مائة ألف نفس تقريبًا تزدهي بالقصور والبساتين والمنتديات العامة، ما تزدهي به المدن الغربية التي هي من درجتها.

ولكن نموها لم يكن منظمًا ولا مطابقًا لروح العصر الجديد، فإنها بقيت قليلة الشوارع الواسعة المسلوكة؛ كثيرة الأزقة والدروب الضيقة، المعوجة، القذرة؛ كثيرة الحفر والنقر، في ذات الشوارع المهمة؛ فما بالك بالحارات والمسالك الصغيرة؟ لا تنظيم فيها، ولا اعتناء بنظافة ورش وصيانة؛ تتكوم الأتربة والأقذار في طرقاتها وسككها التربة، التي لا بلاط يغطيها؛ إذا هبت ريح عليها، انتشرت، عثيرًا شريرًا ضارًّا، في الفضاء، وأصابت المارة بأمراض في أعينهم؛ أو ضربتهم بأوبئة في أحشائهم؛ وإذا سقط مطر، تحولت إلى وحول، بعيدة الغور، تغرق فيها الأرجل حتى الركب، والعربات حتى ما فوق نصف العجل؛ فيبيت المرور منها متعذرًا، وتنقطع حركة الأخذ والعطاء، إلا إذا استخدمت الجمال والهجن لنقل البضائع من الجمرك إلى الأسواق، ومن الأسواق إلى الجمرك، بأجور باهظة؛ وإذا ما جن الليل، وانسدلت سدول ظلماته البهيمة، انباعت الأخطار والأهوال في تلك الشوارع والأزقة والدروب، لعدم وجود تنوير عام فيها؛ وانقطع مرور الأقدام منها، إلا أقدام من لم يخف التعرض لشر اللصوص وقطاع الطرق، أو اضطرته أشغاله للتغرير بنفسه؛ وباتت الضواحي، حتى عند أبواب المدينة عينها، محطًّا للإثم والإجرام، وبما أن استقاء أغلبية الأهالي، بالرغم من توصيل مياه النيل إليهم في ترعة المحمودية، استمر من الصهاريج، كما كان قديمًا؛ أو إذا تحول إلى مياه المحمودية، قلما اعتنى بتقطيرها أو ترويقها؛ وبما أن الوقايات الصحية لم تكن مألوفة، وكان ذبح المواشي اللازمة للغذاء، مثلًا، يتم على قوارع الطرق أو في داخل حوانيت الجزارة؛ وكان دفن الموتى يباح في جوار المنازل وداخل المدينة، حتى في المساجد والبيوت، ما فتئت الأوبئة، ولا سيما الطاعون، تهاجم الإسكندرية الجديدة وتفتك بأهلها، بين حين وحين، فتكًا ذريعًا.

فأقبل (إسماعيل) يغير ذلك جميعه؛ ولو أنه لم يكن يحب مدينة الإسكندرية ولا الإقامة بها، لتطيره منها، بعد أن قال له منجم: إنه سيلقى منيته فيها، وإذا بالسائح الذي زار تلك المدينة في أوائل سنة ١٨٦٣، يكاد لا يعرفها لدى عودته إليها في سنة ١٨٦٩؛ ويكاد لا يعرفها، من جديد، لدى عودته إليها مرة أخرى في سنة ١٨٧٨.‏١٢

فشوارعها وسعت بالتدريج توسيعًا مستمرًا؛ وانتزعت منها أكوام الأقذار والأتربة؛ وطمرت الحفر والنقر؛ ومهدت تمهيدًا حسنًا؛ وبلطت بلاطًا جميلًا أتى به من تريستي، بمصاريف كبيرة؛ وغرس بعضها، على جانبيه، بالأشجار الباسقة: فأصبحت حركة التجارة فيها آمنة مطمئنة؛ وحركة النقل والتنقل سهلة تتم بمصاريف قليلة من الجمرك وإليه، وبين أنحاء المدينة قاطبة.

وحاراتها وأزقتها وسعت بالمثل؛ ونظفت؛ وأبعد عنها كل مسببات الأمراض والأوبئة؛ وفصلت أحياؤها بعضها عن بعض بقواعد تنظيمية، ما فتئ مفعولها يزيد، بين أقسام المدينة، فراغًا جميلًا، أضحى يملأ حدائق وبساتين؛ وأنشئت أحياء جديدة، أهمها حي للعمال، بُني على الأراضي الواقعة بجوار عامود الصواري — وكانت ملكًا للمسيو براڨيه السابق ذكره، فاشتراها (إسماعيل) منه ووهبها للحكومة — وأمر بأن تنفق أجور المساكن التي يدفعها العمال في سبيل إنشاء مستشفى لهم يتطببون فيه مجانًا، واختطت شوارع جديدة، منها ما هو للنزهة المحضة كشارع المحمودية وسكة الرمل — وهما من أجمل متنزهات القطر؛ وتجليا، حين تما، عروسي السكك المصرية قاطبة — ومنها ما قضت به الحاجة في الأحياء الجديدة.

وأنيرت جميع هذه الشوارع والأحياء والضواحي بالأنوار الغازية، إنارة بديعة، على مثال المدن الأوروبية الكبرى، فزالت الأخطار والأهوال منها؛ وولت أقدام الإثم مدبرة؛ وسادت الطمأنينة وانتشر الأمن في كل جهة بعد مغيب غزالة النهار.

وأنشئت بلدية للاعتناء بأمور التنظيم، والصيانة، والنظافة: فأبطل الذبح داخل البيوت والحوانيت، وجعل له محل خاص، وأبطل دفن الأموات في المدافن الخاصة بجوار المنازل وداخل المساجد؛ وغيرت طرق الاستقاء، ووزعت المياه على البيوت مروقة جهد الاستطاعة؛ وأقيمت الوقايات الصحية، على يد الإدارة الصحية المعروفة إذ ذاك باسم «الانتندانس سانيتير»؛ فخفت وطأة الأمراض والأوبئة، وأخذت تتلاشى جراثيمها شيئًا فشيئًا.

وخرج بالعمار خارج الحدود والأبواب القديمة؛ وسيرته شرقًا وجنوبًا وشمالًا، سيرًا حثيثًا، وقامت القصور في وسط الرياض الفيحاء والغياض الزاهرة، تمتد، حلقة متصلة، على شاطئ البحر، من طابية الرومان إلى سيدي جابر، وما فوقها؛ وأجملها كلها وأكبرها حجمًا القصور التي شادها (إسماعيل) لنفسه ولأبنائه وبناته، ابتغاء تشغيل العمال ومساعدتهم على القيام بشئون حياتهم، واتفق أن أحد تلك القصور — وهو الذي شاده لنفسه خاصة، وكان أوسع الكل أرجاء — احترق بعد الفراغ من بنائه؛ فأمر بإعادته أحسن مما كان.

ناهيك بالأعمال والأشغال العظمى التي عملت في الميناء واستوقفت إعجاب الكل، مما سبق لنا بيانه.

فزاد ذلك جميعه في مساحة البلد المبنية، حتى أصبحت أربعة أضعاف ما كانت عليه في عهد سعيد؛ وزاد في عدد سكانها حتى أضحى، في أقل من خمسة عشر عامًا، نيفًا و٢٤٠ ألفًا، منهم ٤٨ ألفًا غربيون، بعد أن كانوا ٧ آلاف فقط، عند ممات الباشا العظيم! ولكي يبرهن أن عصره عصر رقي فكري صحيح، وعهد تقدم حق في مسالك الحضارة، أقام في شهر أغسطس من سنة ١٨٧٤ في ميدان المنشية الذي أنشأه (إبراهيم) أبوه، تمثالًا نحاسيًّا لجده العظيم، تجلى فيه (محمد علي)، فارسًا مهيبًا، يشرف على الساحة الفسيحة، ويده الثابتة على خاصرته القوية، تدل على أن النصر بات طوع بنانه وأنه نشر مجده في الفضاء الحاف به!

وأما مصر القاهرة١٣ فإنها، بعكس الإسكندرية، ما فتئت تزداد عمارًا واتساعًا، منذ أن أنشأها جوهر قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي، حتى انقراض دولة الأمراء المماليك، وقيام الأسرة المحمدية العلوية، ولكنها بالرغم من كل بناء قام فيها، ما فتئت محصورة بين بابي الفتوح والنصر شمالًا، والخليج المصري غربًا، والجبل وقرافة المماليك وسلاطينهم شرقًا، وخرائب الفسطاط جنوبًا، وكان كل حد من هذه الحدود يمتاز بتلال سوداء من الخرابات والأقذار تعلو عنده حتى يبلغ ارتفاع بعضها من خمسين إلى مائة قدم، كالتلال التي لا تزال نراها جنوب مسجد أحمد بن طولون إلى يومنا هذا وهي أطلال مدينة القطائع، عاصمة الطولونيين، الواقعة بين فسطاط عمرو وقاهرة المعز، وكان سكان كل حد، ما عدا الحد الغربي، لا يفتأون يزيدون تلك الآكام القذرة ارتفاعًا، بما يرمونه عليها، يوميًّا، من أقذار منازلهم، وأما الحد الغربي، وهو الخليج، فكما أنه كان — أيام الفيضان — مستقى المنازل المقامة على شاطئه، والمتدلية منها الأدلاء فيه، كان — أيام التحاريق — مصب مجارير كل تلك المنازل. إلا أنه كان، في وسطه، عند بركة أوجدها هناك الفيضان، يتكيف تكيفًا يقر العين، بما أنشئ فيه من بساتين منذ عهد الأمير أزبك، قائد جنود (قايتباي) التي قهرت عثمانيي (بايازيد الثاني)، في ربوع سوريا القصية، حتى عهد الاحتلال الفرنساوي، وأطلق على مجموعها اسم الأزبكية، إكرامًا لذلك الأمير.

فكان القادم إلى مصر، من أية جهة يصل إليها، حتى من جهة الغرب — لأن تلال الأقذار كانت تفصل الأزبكية عن بولاق — يرتد نظره عند وقوعه على تلك الدمن؛ ويود لو أن في الاستطاعة إزالتها وملاشاتها؛ ولكنه لا يلبث أن يسلم بأن ذلك محال، بعدما يتأمل جسامة الأكوام، ويقدر الهمة الواجبة للإقدام على ذلك العمل الشاق فوق كل تصور، والذي يعد بجانبه ما قام به هرقل، البطل اليوناني من تنظيف إسطبلات أوچياس الملك، لعب أطفال؛ حتى جادت الأيام لمصر (بإبراهيم) الهمام.

فبينما (محمد علي) أبوه يكلف برهان بك رئيس إدارة الأشغال العمومية، وأحد تلامذة البعثة المصرية الأولى إلى باريس، بوضع مشروع لتحويل الأزبكية ببركتها إلى بستان عام، يشتمل من الخضرة السندسية والظل والماء على ما تنشرح له الصدور، وبينما برهان بك يصدع بالأمر، ويضع مشروعه، ويقدمه إلى الأمير، فيعتمده ويأخذ من وقف الأسرة البكرية الأربعين فدانًا المتكونة جهة الأزبكية منها، ويعطيهم — بدلًا عنها — أطيانًا ببلدة بهتيم قدرها عشرة أضعاف المأخوذ منهم؛ بينما يقدم برهان بك على نفاذ المشروع، ويحول الأزبكية إلى المتنزه المرغوب فيه، سنة ١٨٣٧، أمر (إبراهيم باشا) المسيو بونفور مهندسه بإزالة الأكوام كلها الواقعة ما بين النيل وبولاق، ومصر القاهرة، والفسطاط (مصر العتيقة)؛ وإنشاء متنزهات خاصة مكانها، تمتد مدى البصر، ووضع تحت تصرفه ما شاء من الأموال والرجال، فأقدم المسيو بونفور بهمة على تنفيذ ما أمر به؛ ولم تمض ثمان سنوات إلا وتم ثلثا المهمة، وتجلت الرياض والغياض الفيحاء تزينها الأشجار الباسقة — لا سيما الجميز واللبخ — حيث كانت تعلو الأكوام الجارحة للنظر.

ولما عاد (إبراهيم) من حروبه بسوريا، سهل الأعمال الجارية وأتم بونفور ما كلف به، فزالت الأكوام كلها من باب الحديد إلى مصر القديمة، غربي القاهرة بأسرها.١٤

حينذاك أقبل (إبراهيم) على إزالة ما كان منها بحريها أيضًا؛ أي: ما بين بابي الفتوح والنصر، من جهة؛ والعباسية والظاهر والفجالة الحالية، حتى باب الحديد، من الجهة الأخرى، ولم يكن في استطاعة غير المنصور في (نزيب) تتميم ذلك العمل التيتاني، فأقبلت الأيدي بتأثير إرادته القوية وهمته الشماء، تعمل، بكثرة واستمرار، معاول القطع والجرف، في تلك الدمن المتكدسة، فتنزعها وتطرحها في البرك المجاورة — وأخصها بركة الرطلي، وبركة طبالة المستنصر الفاطمي — فتطمها، حتى نظفت منها الجهة ما بين بابي القاهرة الشماليين والفجالة؛ وجففت، في ذات الوقت، تلك البرك التي كثيرًا ما كان الفيضان وعدم الاعتناء يحولانها إلى مستنقعات، تتولد فيها جراثيم الأمراض.

وإذا بالموت داهم أبا (إسماعيل) الهمام، وقطع شجرة حياته، وهي في إبان إثمارها فوقف العمل، وفرحت الأوبئة.

وكان حي الأزبكية في أثناء ذلك قد تغيرت معالمه مرتين: فبرهان بك حاطه، أولًا، بسد كان من شأنه أن الأرض داخله تتحول كلها إلى بحيرة عظيمة تمخر فيها المراكب، أيام الفيضان؛ وتصير، في باقي السنة، إلى حقل، بساطه السندسي من البرسيم العطر، والأشجار المغروسة فيه مظال خضراء كمظال الجنان، تغرد على أويكاتها الطيور ويهدل الحمام، وحفر، خارج ذلك السد، ترعة عرضها عشرون قدمًا تجري في طوله وتتصل — بفتحات — بالبحيرة، فتوصل إليها الماء اللازم لري أرضها أيام جفاف فرشها؛ وتفصل السد عن الشارع الدائر حول ذلك الحي — هو شارع كان عرضه مائة قدم تحف به من خارجه البيوت، ومن داخله صفوف من شجر اللبخ الزكي الشذا — فكنت، وأنت مستظل بها، تمتع نظرك بماء البحيرة وزمرد أوراق الشجر، أو بالبساط السندسي السابق ذكره، وتلذذ سمعك بخرير مياه الترعة. أما الوجه الحسن فلا تعدمكه الصدف في ساعات النهار، وقد كان يحيط بحي الأزبكية، من جهاته الثلاث، قصور فخمة مشيدة على النسق الشرقي، ووقف التاريخ في بعضها، مفكرًا أنى يجري مجاريه، فمنها القصر الذي شاده محمد بك الألفي بعد هدم ثلاثة غيره لم تقم طبقًا لذوقه، فلما أتم بناءه وجاء وفق مرامه، داهمت الحملة الفرنساوية الحكم المملوكي وبددت شمله شذر مذر، فذهب الألفي بك، بعد كسرة إمبابة، يهيم على وجهه خلف مراد بك زعيمه، وحلت قدما بونابرت، رجل الأقدار، في ذلك القصر: فكان كأنه بُني له، ومنها القصر الذي اتخذه كليبير مقرًّا لأركان حربه؛ فوافاه في البستان المحيط به سليمان الحلبي وقتله — وكان والي دمشق قد وعد ذلك اليافع المتحمس دينيًّا، بإطلاق سبيل أبيه من السجن الذي كان قد زجه فيه، إذا هو أقدم على الفتك بقاهر الصدر الأعظم يوسف باشا، في ساحة وغى هليوبوليس، فبر سليمان بوعده غير أن أباه لم يفز بالنجاة وخوزق؛١٥ وجعل (محمد علي) في ذلك القصر عينه ديوان معارفه العمومية، ولكنه ألحق بستانه — حيث ذهبت المأساة المفجعة، بطالع فرنسا في مصر — بالسراي الفاخرة التي كانت لابنته زهرة هانم، زوجة الدفتردار الشهير بقسوته الطبيعية المتناهية؛ ومنها القصر الذي كان لخسرو باشا، عدو (محمد علي) اللدود، والذي أراد اغتياله، مرة، تحت ستار الليل البهيم، ولم يفلح؛ والقصر الذي كان (لمحمد علي) عينه، يوم كان لا يزال يرتقي درجات سلم طالعه العجيب، وحمل فيه زعماء جنده على أن يقسموا على حسامه بطاعته طاعة عمياء في كل ما يأمرهم به، وألا يتخلوا عنه ما دام حيًّا، كيفما دارت حوادث الزمان؛ وأما الجهة الرابعة، فكان يشغلها صف بيوت خشبية عالية مظلمة وغريبة الشكل يملكها ويسكن فيها جماعة من الأقباط.

ثم تمادت الأيام وأساء بعض سكان تلك القصور، لا سيما القناصل الأجانب، استعمال الترعة ذات العشرة الأمتار عرضًا، وحولوا مجراها — في أيام التحاريق — إلى إسطبلات لدوابهم وزرائب لطيورهم ودجاجهم؛ ثم لم يلبثوا، لكيلا تضيع منهم هذه المزية، أن طلبوا ردمها زاعمين أن حميات خبيثة تنبعث منها.

فردمت؛ وفقدت الأزبكية بذلك خير جزء من أسباب بهجتها؛ فأهملت؛ وما مضى إلا زمن يسير حتى تحولت إلى دمنة؛ ثم باتت مكانًا ترتكب فيه أعمال عربدة وسكر، في القهوات والحانات المنتشرة في جنباتها، وأعمال سرقة وتهتك تحت ظل أشجارها، حملت أقدام الكرام على هجرها والابتعاد عنها، بعد أن كانت تؤمها كوكبات الفرسان الفاخري الملابس للتنزه فيها، وسياسهم في ركابهم يحملون لهم شبكاتهم.

ومع أن القاهرة واقعة على مقربة من النيل، فإن الاستقاء كان متعذرًا فيها لبعد النهر في الحقيقة عنها، وعدم صلاحية مياه الخليج للشرب معظم أيام السنة، ولم يخف هذا العيب الأساسي في موقع المدينة العظيمة، على الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، سيد جوهر الصقلي بانيها؛ فيروى أنه قال له؛ إذ قدم إليها من المهدية في المغرب: «لقد بنيتها، يا جوهر، في بقعة لا هي على قمة الجبل، فتتحصن بها، ولا هي على شاطئ النهر فتنتفع به.» ولذلك فكر هو وخلفاؤه من بعده في تحصينها من جهة الصحراء الشرقية، وفي جلب مياه النيل إليها من الجهة الغربية، فاحتفر المعز، الخندق الذي قاتل القرامطة عنده، شرقيها؛ ووفق حفيده، الحاكم بأمر الله، إلى احتفار الخليج المصري، الذي عرف مدة باسم الخليج الحاكمي، والذي بات يروي عطش القاهرة دهرًا، ولكنه لم يكن وافيًّا بالغرض، لا سيما بعد أن تراخت المحافظة على نظافته، في عهد الحكم العثماني، وبات مستودع أقذار ومصرفها، وعاد الأهالي إلى الاستقاء رأسًا من النيل على أيدي سقائين.

فوجه (محمد علي) اهتمامه بنوع خاص إلى هذه المسألة الحيوية، مسألة تموين القاهرة بماء للشرب، وفكر، في بادئ الأمر، في تعميق فرش الخليج المصري ذاته، بحيث يصبح ترعة صيفية تستمد مياهها لري الأطيان الواقعة شمالي العاصمة، فوق انتفاع أهل القاهرة بها لشربهم.

ولكن عقبات كثيرة حالت دون ذلك، أهمها أن أساسات جدران معظم المباني القائمة على ضفة ذلك الخليج أقل غورًا في الأرض من العمق المنوي إبلاغ قاعه إليه، فلو عمق الخليج لتداعت.

ففكر، إذًا، في طرق أخرى كإيجاد آلات رافعة عند فم الخليج، أو إنشاء مصرف جامع في وسطه؛ أو احتفار ترعة يكون فمها على بعد كاف، فوق القاهرة، بحيث إن مياهها، إذا انصبت في الخليج، كفته ماءه طول السنة؛ وفكر في تسيير تلك الترعة بين أكوام الفسطاط، أو من وراء القلعة، والذهاب بمصبها في الخليج إلى شمالي مصر.

ولكن المصاعب التي قامت دون تحقيق كل ذلك أدت إلى الإحجام عن المشروع بتاتًا.

فلما شاد (عباس الأول) قصره المشهور في الصحراء الشمالية فوق الظاهر — فتسمت تلك الصحراء العباسية، باسمه — فكر، هو أيضًا، في توزيع المياه على القاهرة، وتسيير فرع كبير منها إلى ذلك القصر، وكلف بالعمل لينان بك، ثم ضم إليه لامبير بك والمسيو بوديسو، فوضعوا المشروع وأفاضوا في تفصيلاته، وقدروا نفقات تنفيذه بمبلغ ٣٦٦٩٣٣٤ فرنكًا؛ وبدءوا يسوُّون الأرض، ويخطون تصميمات الشوارع التي عزموا على تسيير مواسير المياه تحتها، ولكن العمل لم يخط إلى الأمام خطوة، ووقف حيثما ابتدأ.

فأراد (سعيد) أن يبدي هو أيضًا اهتمامًا فيه، فأجاز، على فم ساباتييه، القنصل الفرنساوي العام، لفرنساوي يقال له: الميسو كردييه، بوضع مشروع جديد للغاية عينها غير الذي سبق لعباس باشا المصادقة عليه، فأسس كردييه هذا شركة لذلك الغرض وباشر الأعمال التمهيدية لتمام المشروع، ولكن الاهتمام لم يتعد هذا الحد؛ لأن صعوبة التنفيذ كانت جسيمة.

ولا يخفى أن تعذر وجود الماء يوجب تراكم القذارة، حتمًا، وعدم التمكن من رش الأحياء إلا نادرًا، وأمام منازل الموسرين، فقط على أيدي الرجال المعروفين بالسقائين.

فشوارع القاهرة — قاهرة عهد المماليك وعهدي الفرنساويين و(محمد علي) وقد كانت ضيقة ضيقًا جعل سير العربات فيها أمرًا مجهولًا إلى اليوم الذي قدمت فيه لإبراهيم بك الكبير عربة من فرنسا على سبيل الهدية (ومع ذلك فإن القوم هناك لما رأوا، بعدها بقليل، الجنرال بونابرت يتجول في أحياء مصر وبولاق بعربة تجرها ستة جياد استغربوا الأمر جدًّا ودهشوا له) — وكانت معوجة، قليلة التمهد، تزدحم الأخطار فيها بسبب ازدحام الأقدام في مضايقها — كانت، إذًا، تربة كثيرة الغبار، وتنجم عن انعقاد ذلك الغبار، الكثير المكروبات، في الهواء، نفس المضار الناجمة عن انعقاد نظيره في الإسكندرية، وبما أن ما كان يجري في الثغر من أمور مخالفة للقواعد الصحية ومسببة للأوبئة وداعية لانتشارها، كان يجري بكيفية أوسع، وعلى قياس أكبر في مصر القاهرة، لزيادة اتساع هذه عن ذاك، وبعدها عن البحر الملح؛ أي: عن أعظم مصادر الهواء النقي، كان انتشار الأمراض والحميات الخبيثة والأوبئة سهلًا فيها؛ وفتكها بالأهالي ذريعًا، وقد ترقب بعضهم حركتها؛ فاتضح له أن الطاعون على الأخص، كان يعاود العاصمتين كل عشر سنوات، ويجتاح عددًا عظيمًا من سكانهما.

فلما وطن (إسماعيل) عزمه على الاقتداء بأغسطس قيصر وناپليون الثالث، وأقبل على تنفيذ ذلك العزم بهمته المعتادة التي لم تعرف الملل ولا الكلل، يزيدها نشاطًا، ما كان يعتقده من صحة في قول أحد أولياء الله في عهد جده، وهو «إن هذه الأسرة المحمدية العلوية، ما دامت مقبلة على التشييد والبناء كان الملك والعز مضمونين لها، فإذا أقلعت عنهما أو توانت فيهما، تلاشت أو اضمحلت» رمى إلى إصابة غرضين: (الأول) إدخال ما يمكن إدخاله من الإصلاحين الاجتماعي والصحي على قاهرة المعز لدين الله، مع إبقائها على ما هي عليه من ذاتية تجعل العصور الوسطى، بفروسيتها، وتقواها الخشنة الخالصة واتجاه الصناعة والفن فيها نحو ما يلعب بالتصور، مع استمراء الذوق لذاته الحقيقية: وتجعل موصوفات روايات ألف ليلة وليلة، أيضًا حاضرة أمام المخيلة، كأن الأجيال لم تمر وتتوال، وكأن تلك العصور لا تزال حية حاضرة؛ و(الثاني) إنشاء قاهرة أخرى غربيها يدعوها العصران، الحاضر والمستقبل «قاهرة إسماعيل» وتختص دون الأولى، بإعجاب القلوب، وتلذذ الأعين، بشوارعها الفسيحة، الظليلة، ذات الأرصفة الأمينة؛ وميادينها الواسعة، الجميلة ذات الفسقيات الزاهرة؛ وقصورها الفخمة، النبيلة، المقامة على أحدث طراز عصري؛ وبساتينها الزاهية، المتنوعة فيها النباتات الغريبة، وملاعبها الفاخرة، المتلألئة بالأنوار ليلًا؛ وأحيائها الطلقة الصقيلة، القائمة الصحة على حراستها، بدل الأبواب القديمة.

فأقبل، أولًا، يزيل ما بقي شمالي قاهرة المعز من أكوام قذرة؛ ويطمر ما لم يزل غير مطمور من مستنقعات وبرك تبعث كريه الروائح؛ وينظف ما بين بابي الفتوح والنصر، وقلعة الكبش، والسيدة زينب، من شوارع وأزقة ودروب وأسواق، بتعميم الكنس والرش فيها، ومنع ثورة الغبار وكل مخالف للقواعد الصحية ثم اختط ما بين الظاهر وباب الحديد، الشارع المدعو الآن بشارع الفجالة؛ واختط ما بين باب الحديد والأزبكية الشارع الذي أطلق عليه اسم كلوت بك؛ لا لتكريم الطبيب الفرنساوي عالي الهمة، منشئ مدرستي أبي زعبل والقصر العيني الطبيتين، والذي يعد بحق أبا الطب الحديث بمصر فحسب، ولكن للدلالة، بنوع أخص، على أن الإصلاح الصحي سيسير من شمالي المدينة إلى جنوبها؛ ويتناول بذراعيه شرقها وغربها، ثم اختط جنوب الأزبكية بشرق، إلى القلعة، الشارع الفخم الذي أطلق عليه اسم جده العظيم، إشعارًا بأن القلعة، وإن بناها صلاح الدين، فإنما أصبحت تعرف بمحمد علي؛ لأن دولته قامت فيها، وشمس حياته توارت في المقام المشيد على جبينها، فأصبح السبيل إلى ذلك الحصن سهلًا أمينًا، بعد أن كان الوصول إليه عن الطريق، التي يتبعها المحمل سنويًّا، منه إلى الحسينية، وعرًا كثير التعرجات، والمنعطفات، والمضايق.

ولما عاد سنة ١٨٦٧ من زيارته لمعرض باريس، وقد أخذت بلبه التحسينات الجارية في العاصمة الفرنسية على طريقة هوسمن الشهير، أقدم على الأزبكية؛ فقلبها رأسًا على عقب؛ وطلب من بستاني فرنساوي، أن يعملها له على شاكلة حدائق تلك العاصمة فكيفها ذلك البستاني تكييفًا بديعًا، وتصرف في الترعة التي كانت دائرة حولها والبحيرة التي كانت داخل السد الذي بناه (محمد علي) تصرفًا جميلًا؛ وإذا بما كان مجرى لمياه راكدة، وصفوف أشجار لا نظام لها، وبحيرة أقرب إلى المستنقع منها إلى بساط يقرُّ العين النظر إليه، قد تحوَّل إلى بستان على مثال الپرك منسو بباريس وخرج إلى الوجود، نزهة من أنزه المنتزهات، ومكانًا بديعًا يخلب الألباب، تنيره الأنوار الغازيَّة، وتزينه الفسقيات الناثرة الماء في الأعالي، لؤلؤًا ساطعًا، والمغائر الصناعية، المنحدر منها الماء بخرير تلذ به الأسماع، إلى بحيرة صافية، تجري الأسماك فيها ملوّنة.

وأقبل على الحي المحيط به؛ فجعل ينتزع ملكية منازله الخشبية التي كانت للأقباط مقابل تعويضات يدفعها إليهم، ويزيل تلك المساكن العتمة، ويهب الأرض التي كانت قائمة عليها هبة إلى من شاء التعهد بإقامة مبان فخمة عليها، تتفق مع عظمة القاهرة الجديدة المراد إنشاؤها.

فكان أكبر أولئك المتعهدين شأنًا، وأكثرهم مالًا وإقدامًا، الدوق أوف سيوذرلاند فإنه ما فتئ يقيم، في حي الأزبكية هذا، القصور والفنادق؛ ويعدل، ويكيف الموجود منها فيه حتى بلغ به إلى ما نراه الآن عليه، من العظمة والرونق والجمال.

فاتخذه (إسماعيل) محورًا لعظمته؛ وبعد أن أوصله بالموسكي شرقًا، تحول إلى غربية؛ فأزال ما كان يعرف بباب الجنينة — وهو باب كان قائمًا على مدخل ذلك الحي، في منتهى الطريق الواصلة ما بينه وبين بولاق — واختط إلى جنوبيه بميل نحو الغرب الأحياء البديعة المعروفة الآن بأحياء التوفيقية وعابدين والإسماعيلية؛ بعد أن أقام، في طرف الأزبكية الجنوبي، المسرحين الفخمين المضارعين في الجمال، والجلال والأبهة، مسارح أوروبا وهما المسرح الجديد والأوبرا، وأنشأ، أمام هذه، الميدان الفسيح الأرجاء المنظم الزوايا، المزري بميدان ڨندم ذاته الشهير في باريس: وفي هذا الميدان الآن تمثال لأبيه البطل الهمام؛ تجلى (إبراهيم) فيه، فارسًا صنديدًا، يتطاير البرق من عينيه، وقائدًا بصيرًا، تكسوه المهابة ويظلله الجلال؛ كما تجلى، حقًّا، لعسكره المصري المعجب به، وللعسكر العثماني المأخوذ رعبًا منه، يومي قنية ونزيب، وقد كان هذا التمثال في عهد (إسماعيل) بميدان العتبة الخضراء أنزله العرابيون أيام الحوادث العرابية، ثم بعد أن سكنت تلك الفتنة نصب في ميدان الأوبرا حيث هو الآن.

ثم اختط، في تلك الأحياء، الشوارع العريضة، الظليلة، الواصلة بين جهاتها المختلفة؛ الشوارع، التي، بالرغم من كل ما حدث بعدها، لا تزال من أفخر مسالك القاهرة، وأكبر شرايين مواصلاتها، وأهمها: شارع عبد العزيز، والشارع الذي أقام نوبار باشا فيه قصره الفخم فسمي باسمه، شمالًا؛ وشارع كوبري قصر النيل، وشارع سراي الإسماعيلية، غربًا: وغيرها وغيرها مما امتازت به القاهرة الإسماعيلية.

أما جنوبًا، فإن كل ما اختط من سكك فقد انتهى إلى رحبة فسيحة الأرجاء، مترامية الأطراف، تركت بين الشوارع والأحياء الجديدة، وبين الدروب والأزقة، الموصلة من عابدين إلى السيدة زينب، لتمتد أمام السراي المنشأة بعابدين، مقرًّا للملك، بدل سراي القلعة؛ كما تمتد ساحة الكونكرد، في باريس أمام قصر التويلري الإمبراطوري!

ألا كم أبدع التفنن والتنسيق في سراي عابدين هذه، وفي تزيينها بالرياش والأثاث الفاخر! وكم أنفق من مال في سبيل ذلك، وفي سبيل جعل الحديقة الداخلية، في تلك السراي، قطعة من جنان الفردوس!

وأما غربًا، فإنه لما بلغ العمار النيل — وكان العمل من جهة أخرى، قائمًا على قدم وساق لإنشاء سراي الجزيرة الفذة — لم يعد يحسن إبقاء العبور، من شاطئ إلى شاطئ، على كوبري من المراكب المصفوفة بعضها بجانب بعض، والممدودة عليها ألواح الخشب، أو في معديات بسيطة؛ وبات من المحتم إقامة كوبري يتناسب في فخامته وجماله مع أبهة الأحياء المجاورة له، فعهد (إسماعيل) إلى شركة فرنساوية أمر إنشائه، فأنجزته في سنة ١٨٧٢ وبلغت نفقاته مائة ألف وثمانية آلاف من الجنيهات.

وبينما هو يقام، شعر (إسماعيل) بالحاجة إلى ربط الجزيرة ببر الجيزة أيضًا؛ فكلف محلًّا إنجليزيًّا بإنشاء كوبري، يصل بينهما، فأنجز في السنة عينها، وبلغت تكاليفه نيفًا وأربعين ألف جنيه.

وفي أثناء السير في هذه المنشئات العظيمة، وبينما القصور الباذخة تقام في كل جهة يصلح أن يقام فيها قصر، ويبلغ عددها عشرات العشرات، أهمها: قصر الجزيرة ببستانه الساحر، وقصر النزهة على سكة شبرا، وقصر حلوان، وقصر القبة، وقصر الإسماعيلية، وقصر الزعفران؛ بينما قصور أخرى قديمة تجدد تجديدًا لا يعيد إليها بجدتها فقط، بل يزيدها رونقًا وبهجة: كالقصر العالي، وقصر المسافرخانه، وقصر النيل، وسراي القلعة؛ بينما المساجد، لا سيما مسجد الرفاعي، والمدارس توضع قواعدها الجرانيتية، وتنشأ في كل جهة من جهات المدينة العظيمة — منها ما يشيده (إسماعيل)، ومنها ما يشيده البر؛ وبينما وزراء مصر ووجهاؤها وأعاظم سراتها، كشريف ونوبار، وإسماعيل صديق، وعلي شريف، وغيرهم، كطلعت ورياض، يقتدون بالأمير ويقيمون في الأحياء المنشأة حديثًا أو في الأحياء العتيقة؛ المزدانة بقصور المماليك القدماء، كحي الدرب الأحمر، وحي الحلمية القديمة، وغيرهما، المنازل الفاخرة، والبيوت العامرة، ذات الرياض والبساتين الداخلية — كان العمل قائمًا على قدم وساق، وبكيفية لا تدري ما هو الملل أو الكلل، لإنجاز ما لم تتمكن العزائم السالفة من إنجازه، وأعني به توزيع المياه على أحياء القاهرة توزيعًا منظمًا مستمرًا، فحثت همم الشركات، وحملت الجهود على المباراة؛ ولم يمض زمن إلا وأقيمت المباني اللازمة لرفع المياه وتخزينها؛ ومدت المواسير تحت الشوارع وفي الحارات والدروب، وسير ماء النيل مقطرًا من خزاناته إليها، فتسرب منها إلى الحنفيات في البيوت، وحلت مشكلة قديمة العهد، بفضل إرادة (إسماعيل) الحديدية.

ولما بات الماء ميسورًا غزيرًا، توسع القوم في وسائل النظافة والصيانة، وطفق طل الرش يهطل على الشوارع في الصباح والعصر بانتظام؛ وأخذت المنازل، حتي الحقيرة منها، تغسل مرارًا في الأسبوع وبغزارة: فقلت الأمراض، وتحسنت الصحة العمومية.

وكان العمل قائمًا، كذلك، على قدم وساق، بالكيفية عينها، وفي عموم الأحياء، قديمها وجديدها، لتعميم الإنارة بالغاز، فكانت مواسير السائل المنير توضع بجانب مواسير الماء المحيي؛ حتى إذا تمت الأحياء البديعة، وشيدت القصور الرفيعة، وغرست البساتين الجميلة، وتجلت الشوارع الفسيحة، ناصعة النظافة، ظليلة الجانبين، تدفقت إليها في وقت معًا المياه، وسطعت فيها الأنوار: فتجلت المدينة، كلها، المعتادة الظلام ليلًا، منذ نشأتها — وقد تكيف قديمها، وبرز جديدها يرفل في حلله البهية — عروس الشرق قاطبة ويتيمة عواصمه.

وبلغت نفقات هذه المباني والمنشئات، والتحسينات، وتوزيع المياه والنور على العاصمتين، وفي السويس بعدهما، ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف جنيه.

فإذا تمثلنا مقدار ما اقتضته كل هذه الأعمال المختلفة من حركة تجارية متنوعة، وأضفنا إلى ذلك جميعه ما نجم، في سني ملك (إسماعيل) الأخيرة، من مضاعفته لتلك الحركة عينها، عن انضمام بواخر الأسطول المصري إلى سفن الشركة العزيزية في أعمالها، وتكوينها معها ما عرف فيما بعد باسم «الوابورات الخديوية»، لم نستغرب اطراد الزيادة في الواردات والصادرات على العموم، ولا سيما في عامي ١٨٧٢ و١٨٧٣ وهما السنتان اللتان بلغ العمل فيهما أقصاه، والجهود غايتها، كما يتضح ذلك من الجدول التالي:١٦
سنة جنيه سنة جنيه
حركة الواردات
١٨٦٦ ٤٦٦٢٢١٠ ١٨٧١ ٤٥١٢١٤٣
١٨٦٧ ٤٣٩٩٠٩٧ ١٨٧٢ ٥٥٠٥٩٩٥
١٨٦٨ ٣٥٨٢٩٦٩ ١٨٧٣ ٦١٢٧٥٦٤
١٨٦٩ ٤٠٢١٦٠١ ١٨٧٤ ٥٣٢٢٤٠٠
١٨٧٠ ٤٥١٢٩٦٩ ١٨٧٥ ٥٦٩٤٨٢٠
حركة الصادرات
١٨٦٦ ٩٧٢٣٥٦٤ ١٨٧١ ١٠١٩٢٠٢١
١٨٦٧ ٨٦٢٣٩٧٤ ١٨٧٢ ١٣٣١٧٨٢٥
١٨٦٨ ٨٠٩٤٩٧٤ ١٨٧٣ ١٤٢٠٨٨٨٢
١٨٦٩ ٩٠٨٩٨٦٦ ١٨٧٤ ١٤٨٠١٤٤٨
١٨٧٠ ٨٦٨٠٠٧٢ ١٨٧٥ ١٢٧٣٠١٩٥
وأدركنا صدق قول السير بارتل فرير في محاضرة ألقاها في «الادنبرج فيلوز فيكل انستتيوش» وهو: «إن التجارة والسكك الحديدية عملت بمصر عملها في كل قطر أوروبي تقريبًا»؛ وأدركنا كذلك صدق قول القنصل المؤلف الأمريكي إدون دي ليون القائل في سنة ١٨٧٥: «الحقيقة هي أن التصليحات والتحسينات والأشغال العمومية التي شرع فيها وأنجزت في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة، في القطر المصري، كانت مدهشة عجيبة لا مثيل لها في أي قطر مساحته أربعة أضعاف مساحة القطر المصري؛ وسكانه أربعة أضعاف سكانه».١٧
وإذا عرفنا أن ثمن مجموع الواردات، ما بين سنة ١٨٦٥ وسنة ١٨٧٥، زاد على ثمن مجموعها، ما بين سنة ١٨٥٥ وسنة ١٨٦٥، خمسة عشر مليونًا وستمائة ألف جنيه؛ وأن ثمن مجموع الصادرات، ما بين سنة ١٨٦٥ وسنة ١٨٧٥، زاد على ثمن مثيله، ما بين سنة ١٨٥٥ وسنة ١٨٦٥، واحدًا وستين مليونًا وستمائة وواحدًا وثلاثين ألفًا وخمسمائة وستة من الجنيهات؛ أدركنا بسهولة مقدار الثروة الضخمة التي دخلت القطر زيادة على الثروة الهائلة التي أصابها أهله في الاثنتي عشرة سنة الأولى من ملك (إسماعيل)١٨ وكبرت حركة القطر الزراعية التجارية العملية في عيوننا؛ وبتنا أقرب إلى النظر، بلا تحيز، إلى ما يهول به من جسامة الضرائب وفداحة الديون.

هذا إذا صح الاعتماد على صدق الأرقام المبينة أعلاه، ولكن المعلوم أنها دون الحقيقة بكثير، وذلك لأن مصلحة الجمارك لم يدخلها الإصلاح، بمعانيه كلها، إلا في سنة ١٨٧٧ فإنها كانت، في أيام (محمد علي) التزامًا يمنح، مقابل جعل سنوي معلوم، إلى أفراد يستغلونه لحسابهم الخاص، أسوة بأبواب إيراد أخرى كانت حكومة (محمد علي) تعطيها التزامًا لمن يرسو عليه آخر عطاء.

وكانت الجمارك نوعين: جمارك الثغور والحدود والجمارك الداخلية، فكانت الرسوم في جمارك الثغور تؤخذ على الواردات والصادرات؛ وتؤخذ في جمارك الحدود على الواردات فقط سواء أكانت من السودان أم من الغرب والشرق، وأما الجمارك الداخلية فكانت رسومًا تدفع على البضائع لدى إدخالها في أي بلد من بلاد القطر الهامة، وكان يقال لها في مصر وطنطا وغيرها: «دخوليات» وفي أسوان وإسنا وباقي الصعيد حتى أسيوط «جمارك»، والاختلاف في التسمية نتيجة الاختلاف في الواردات، فمن أسوان لغاية أسيوط كانت تتقاضى، على الأخص، من الجلابين، على الرقيق المجلوب؛ وأما فيما عداها من المدن فكانت تؤخذ على البضائع، ولا سيما مواد الطعام، كالخضر والفواكه والأسمان واللحوم.

وقد رأينا أن محمد سعيد باشا ألغى جميع الجمارك الداخلية والدخوليات، كما أنه أبطل أن تكون جمارك الحدود والثغور التزامات، وأنه جعلها مصلحة أميرية مستقلة.

غير أنها لم تنتظم: (أولًا) لأن وظائفها كانت تباع بيعًا كما كانت تباع مناصب القضاء في فرنسا قبل الثورة العظمى فيها سنة ١٧٨٩؛ (ثانيًا) لأن المرتبات كانت قليلة، وغير وافية بالحاجة، فتلزم متقاضيها بالركون إلى «البقشيش» والرشوة ليعيشوا فكانوا يأخذون جنيهًا، مثلًا، على صندوق البضائع الحريرية، الملزم بدفع رسوم قدرها ثلاثة وعشرون جنيهًا وثمانية عشر شلنًا للحكومة، ويسمحون له بالخروج من الجمرك؛ أو يعتبرون البضائع الحريرية بضائع قطنية، ويتقاضون عليها الرسوم المفروضة على البضائع القطنية؛ أو كانوا، أيضًا، لا يراعون حقوق الأولية: فيمكنون من يزيد بقشيشه من التجار على بقشيش سواه من تخليص بضائعه والخروج بها قبل غيره، ولو كان آخر القادمين، غير تبخيس أثمانها الحقيقية ساعة التثمين؛ و(ثالثًا) وأخيرًا لأن التهريب كان كثيرًا ومنظمًا؛ ومعظم المهربين يونانيون في منتهى الجسارة؛ ونظام الامتيازات يحميهم، فيمكنهم من الاستهزاء بالحكومة المصرية عمالها، ولا أدل على ذلك مما رواه موريس بك، أحد كبار رجال خفر السواحل ضبطوا ذات يوم كمية كبيرة من تبغ وتمباك كان بعض المهرّبين اليونانيين يحاولون تهريبها، فلما نمى خبر الضبط إلى القنصل اليوناني — وكان يشاطر المهرّبين أرباحهم — جمع في الحال خمسمائة «جريكي» من حرافيش القوم وزعانفهم وأوباشهم، علاوة على جماعة المهرّبين أنفسهم؛ وهاجم، بجمهورهم الغفير، خفراء السواحل، في عقر مقرهم، ليستخلص منهم المضبوط، فدارت بين الطرفين معركة فظيعة، عض القنصل فيها بأسنانه ذراع أحد العساكر عض كلب، رأى موريس بك أثره بعدئذ، في ذراع الرجل، وعرف أن القنصل هو العاض، لأن سنًّا من أسنان هذا الموظف الأمثل الأمامية كانت ناقصة في فكه، وظهر أثر نقصها في دائرة العضة، فلما رفع الأمر إلى الحكومة، أتدري أيها القارئ اللبيب، ماذا كانت نتيجة الشكوى؟ أن السياسة تداخلت في الأمر: فعوقب خفراء السواحل ولم يصب المهرّبين أذى.١٩

فعهد (إسماعيل) إلى موظف إنجليزي في جمرك لندن، يقال له: المستر سكر يڨنور، بتنظيم مصلحة الجمارك المصرية وترتيبها، وكان الرجل خبيرًا في العمل، لاشتغاله زمنًا طويلًا فيه، وتقلده عدة مناصب إدارية جمركية في البرتغال والبرازيل.

فأدخل إصلاحات جمة على المصلحة المعهودة أمورها إليه، لا سيما على حساباتها، التي وصفها لي كبير من موظفي الحكومة المحالين على المعاش ممن كانوا في الجمرك في ذلك العهد البعيد، فلم يجد تعبيرًا عن حالتها أظهر للخلل السائد فيها من قوله لي: «إنها كانت بطن حمار».

ولكن خللًا كبيرًا استمر، بالرغم من مساعي المستر سكر يڨنور ومجهوداته، منتشرًا في عدة أفرع من مصلحة الجمارك؛ ولم يعمها الإصلاح تمامًا إلا في عصرنا هذا وعلى أيدي حكومتنا الحالية بفضل مجهودات مديريها كليار باشا وشيتي بك والمستر كنج لويس خليفتهما.

فلو كان نظامها الحالي نظامها سنة ١٨٧٥، لأمكن لنا أن نقف، تمامًا، على حقيقة الثروة التي دخلت القطر ما بين سنة ١٨٦٥ وسنة ١٨٧٥؛ ولتجلى لنا أن مقدارها ضعفا ما أثبتته الإحصائية الجمركية في تلك الأيام، مذ أوجب إنشاء وزارة تجارة مستقلة سنة ١٨٧٦.

١  أهم مصادر هذا الفصل: «مصر المعاصرة» لمريئو، و«رسائل من مصر» لسنت هيلير، و«مصر في عهد إسماعيل» لسانتي، و«تاريخ المالية المصرية» لمجهول، و«مصر كما هي» لماك كون، و«مصر في أيام محمد علي»، و«سياحة بمصر في أيام محمد علي» لبكلر مسكاو، وعلى الأخص «مذكرات عما تم بمصر من الأعمال الهامة من أيام الفراعنة إلى الآن» للينان دي شفون.
٢  انظر: مريئو «مصر المعاصرة» ص٧٣.
٣  انظر: مريئو «مصر المعاصرة» ص٧٦.
٤  انظر: مريئو «مصر المعاصرة» ص٧٥، وسنت هيلير «رسائل من مصر».
٥  انظر: «مصر في عهد إسماعيل» لسانتي.
٦  انظر: «تاريخ المالية المصرية» لمجهول.
٧  انظر: ماك كون «مصر كما هي» ص٢٥١ و٢٥٢.
٨  انظر: «مصر كما هي» لماك كون ص٢٥٦ وما يليها.
٩  راجع كتابي هامون ومانجين في هذا الصدد، وعلى العموم كل ما كتبه الكتاب الغربيون في هذا القسم من تاريخ (محمد علي) من موجودات دار الكتب المصرية، فلا سبيل إلى حصرها وبيانها في هذه الحاشية.
١٠  انظر: ماك كون «مصر كما هي» ص٢٩٦ وما يليها لغاية ص٣١٤ للاستيثاق من صحة المقول في نظام الحرف وفي المعامل والمصانع بمصر في الدولة العلوية.
١١  كتب هذا في سنة ١٩١٨.
١٢  انظر: «مصر تحت حكم إسماعيل» لسانتي.
١٣  لجميع التحسينات التي أجريت في القاهرة على أيدي (إبراهيم) و(إسماعيل) انظر: كتاب لينان دي بلفون المعنون: «مذكرات عما تم من الأعمال الهامة بمصر منذ أيام الفراعنة إلى الآن» ص٥٩٥ وما يليها.
١٤  انظر: بكلر مسكاو «مصر تحت حكم محمد علي» ص١٦٣ وما يليها وهو الكتاب المعنون أيضًا «أسفار وحوادث بمصر».
١٥  انظر: پكلر مسكاو «سياحات وحوادث بمصر» ص٢١٦ ج١.
١٦  انظر ماك كون: «مصر كما هي» ص١٧١ و١٧٢.
١٧  انظر: «مصر الخديوي» لإدون دي ليون ص٣٦٣.
١٨  وقد قدر العارفون أن ثمن مجموع المحصول الزراعي في تلك الأيام كان ٤٥ مليونًا و٣٨٢ ألفًا و٣٣٢ جنيهًا سنويًّا، فضلًا عن مبلغ ٦ ملايين و٥٤٠ ألفًا و٧٨٣ جنيهًا ثمن خيل ومواشي وطيور وبيض وزبدة وجبنة وعسل وملح وسمك، وحجر وخشب إلخ، فيكون المجموع سنويًّا: ٥١٩٢٣١١٥ جنيهًا.
١٩  انظر بتلر: «حياة البلاط بمصر» ص١٣٨ و١٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤