الفصل الأول

السحاب في السماء

إذا تم أمر بدا نقصه
توقع زوالًا إذا قيل: تم!

إجمال١

إن تنفيذ الخطة التي رسمها (إسماعيل) لنفسه، يوم ارتقى عرش جده وأبيه، بالكيفية التي شرحناها في الجزء السابق، استلزم مصاريف جمة للتمكن من إزالة جميع العقبات — أيًّا كان نوعها وسببها — من الطريق المطروقة منه.

فمسألة ترعة السويس وأشغالها كلفت الخزينة المصرية والشعب المصري أولًا وآخرًا، نيفًا وسبعة عشر مليونًا من الجنيهات، بما في ذلك نفقات الاحتفال بالفتح.

والترع المحفورة كلفت ثلاثة عشر مليونًا تقريبًا.

والسكك الحديدية الممدودة، بما فيها سكة حديد السودان، كلفت ما يقرب من ثلاثة عشر مليونًا ونصف.

وميناء الإسكندرية كلفت ما يقرب من ثلاثة ملايين.

وأحواض السويس كلفت ما يزيد على مليون ونصف.

والتلغرافات والفنارات معًا كلفت فوق المليون.

والشركة الزراعية المنشأة لترويج الزراعة المصرية، وما ماثلها كلفت مليونين.

وجلب المياه إلى الإسكندرية وتوزيعها عليها كلف نحو نصف مليون.

والمباني والتحسينات والإنشاءات الأخرى، من أحياء ومسارح وغيرها بمصر والإسكندرية، وتنوير البلدين والسويس بالغاز — كل ذلك كلف ثلاثة ملايين.

والكباري المنشأة كلفت مليونين وأكثر.

ووابورات السكر والورق وخلافها، وتأسيس العزيزية كلف نيفًا وستة ملايين.

والسفن الخديوية ومراكب بخارية أخرى كلفت مليونًا ونصفًا تقريبًا.

ومشترى البوستة والمكتبة الفاضلية كلف نحو مائة ألف جنيه.

وطاعونا المواشي والخيل، والغلاءات المتتابعة، حمَّلت الخزينة المصرية خسارة قدرها أربعة ملايين تقريبًا.

وديون القرى استغرقت نيفًا ومليونًا.

وصرف على تحسين الجيش، ومشترى مدافع وبنادق له مليونان.

وأنفق على حملتي الحبشة وحملات السودان مليونان وأكثر.

وأنفق على الحملات المرسلة إلى الخارج لمساعدة تركيا ما يقرب من ثلاثة ملايين.

وأنفق على المدارس ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف.

وبلغ ما خسرته الخزينة بسبب قطع الحواجز لإنقاذ أطيان الفلاحين من الغرق مليونًا.

وزادت الخسارة الناجمة عن شركة البواخر النيلية على مائة ألف جنيه.

ودفع للحصول على فرمان تغيير مجاري الوراثة، حسب تقدير المؤرخ الألماني، فون ها استفان، ثلاثة ملايين.

وقدر بعضهم ما دُفع لرجال الأستانة والسلطان، وما صرف في ولائم وهدايا لهم للحصول على باقي الفرمانات وامتيازات الاستقلال الداخلي التام المذكورة في سياق حديثنا السابق، ما يقرب من سبعة وثلاثين مليونًا، فإذا استعظمنا المبلغ، وأنقصناه، فلن يكون ما صرف في هذا السبيل أقل من ثلاثين مليونًا.

فمجموع ذلك مائة وثلاثة عشر مليونًا وسبعمائة ألف جنيه.

•••

وربما أفاد هنا أن نضع أمام أعين قرائنا، إزاء هذا المبلغ الجسيم، المقارنة الآتية بين حالة القطر العمومية حينما ارتقى (إسماعيل) عرشه، وبينما حينما تخلى عنه:

سنة ١٨٦٣ سنة ١٨٧٩
فدن فدن
عدد الأطيان المزروعة في القطر ٤٠٥٢٠٠٠ ٥٤٢٥٠٠٠
جنيه جنيه
قيمة الواردات ١٩٩١٠٠٠ ٥٤١٠٠٠٠
قيمة الصادرات ٤٥٤٠٠٠٠ ١٣٨١٠٠٠٠
قيمة الإيرادات ٤٩٣٧٠٠٠ ٨٥٦٢٠٠٠
عدد عدد
المدارس ١٨٥ ٤٨١٧
أميال السكك الحديدية ٢٧٥ ١١٨٥
أميال الأسلاك التلغرافية ٦٣٠ ٥٨٢٠
أميال الترع ٤٤٠٠٠ ٥٢٠٠٠
الكباري ١٠ ٤٠٨
المنارات ١ ١٨
السكان ٤٨٣٢٠٠٠ ٥٥١٨٠٠٠

وذلك علاوة على ما لم يكن له وجود بالمرة، فأنشئ مما ورد ذكره آنفًا.

•••

وإذا أضفنا إلى المنصرف مبلغ ١١٥٨٥٠٠٠ جنيه الذي دفع جزية إلى حكومة الأستانة من الخزينة المصرية في سني (إسماعيل) الست عشرة، كان جميع المنصرف من (إسماعيل) على الشئون المصرية البحتة، وفي مصالح مصر المحضة، مبلغًا يزيد على مائة وخمسة وعشرين مليونًا من الجنيهات.

وبما أن عموم إيرادات القطر المصري في تلك السنوات الست عشرة إنما بلغت مائة وستة عشر مليونًا، باعتبار سبعة ملايين ومائتين وخمسين ألف جنيه سنويًّا على المتوسط، وهو متوسط مبالغ فيه، فإذا استنزلنا منها عموم المنصرف على الإدارة المصرية وفي شئون الحكم في تلك المدة عينها — وهو أربعة وستون مليونًا وستمائة ألف جنيه، باعتبار ثلاثة ملايين وثمانمائة ألف جنيه سنويًّا، لا أربعة ملايين، كما قرر السير كيف الآتي ذكره فيما بعد — فإن الصافي الباقي من تلك الإيرادات لا يكون إلا مبلغ اثنين وخمسين مليونًا من الجنيهات، وهو قيمة ما دفع للأستانة فقط — أي أن هذا الباقي يقل ثلاثة وسبعين مليونًا عما صرفه (إسماعيل)!

ولكنه كان لا بد من صرف ذلك المبلغ، بل وأكثر منه أيضًا — لو أمكن الحصول عليه لتحقيق الخطة التي رسمها الأمير المصري لنفسه، لا سيما وأن جوف الأستانة لم يكن ليشبع.

فاضطر — والحالة هذه — إلى الاستدانة والاقتراض.

ولما كانت مصر من أغنى بلاد الأرض، وكان المشهور عن الأمراء الشرقيين، عمومًا، عدم التدقيق في المحاسبة، وعن (إسماعيل) على الأخص، سعة سماحة الكف، وعظم كرم النفس، فإن الماليين الغربيين، لا سيما اليهود، أظهروا من الاستعداد لإجابة جميع طلباته أغرب ما يتصوره الإنسان، بل بالغوا في بادئ أمرهم، في إغرائه على الاستدانة منهم إلى حد من المرغبات والمحببات يكاد لا يتخيله التصور، فتلا الاقتراض منهم الاقتراض، و(إسماعيل) في تلهبه الفائق لتحقيق أمنياته السامية لا يفكر في أن يعمل للأعباء المالية، ولكيفية تراكمها على ساعديه حسابًا، ولا يرى من نفسه ميلًا مطلقًا إلى تقدير عواقبها، بفعل تربيته ومنبته ومركزه. فاستمر يجري في سيره السريع، وعيناه غير شاخصتين إلا إلى المرمى الفخيم الذي كان سيره يدنيه منه، ولا يهمه من أمره إلا أن يرى الذهب — الذي هو في حاجة إليه للوصول إلى ذلك المرمى — طوع بنانه دومًا.

على أنه ليس أدل على معرفة مقدار المنافع والفوائد التي أصابها من جراء ذلك وسطاء الإقراض، من أن نذكر ما حكاه فرديناند دي لسبس عن نفسه حينما أراد فتح الاكتتاب بشركة ترعة السويس، قال: «كنت محتارًا في أمري. فقال لي بعض الأصدقاء اذهب إلى روتشلد وهو يريحك، فعملت بنصحهم، وذهبت إلى ذلك المالي، فقال لي أجل، إذا شئت فتحت سلك الاكتتابات في مكتبي. فسألته وماذا تطلب مني؟ قال: يا سلام! أرى أنك لست رجل شغل، ماذا أطلب منك؟ المعروف المتفق عليه، أي خمسة في المائة. قلت خمسة في المائة على ثمانية ملايين، هذا ينتج أربعمائة ألف جنيه. كلا، كلا يا سيدي، إني أفضل أن أؤجر محلًّا بستين جنيهًا، وأباشر شغلي بنفسي.»٢

وليت الوسطاء بين (إسماعيل) ومقرضيه اقتصروا على الخمسة في المائة، بل ليتهم اقتصروا على ضعفها!

وكان الدهر قد وضع بجانبه، منذ طفوليته، إنسانًا نما وشب وترعرع معه، فكان أدرى الناس بأميال روحه العظيمة، وتجردها من الاهتمام بالماديات إلا لتحقيق النفسانيات، فرأى أن يثري — وأيما إثراء — من موارد الثروة التي يستطيع أن يضع عينها تحت تصرف مولاه — ولو تعسر عليه السمن إلا من بؤس مواطنيه — فأقبل يتلمس تلك الثروة من كل باب، وشرع يملأ خزائنه بها، بينما هو يدفق المال، المتسنى له استخلاصه بكل تفنن من الجيوب إلى أيدي مولاه.

فأدى هذا وذاك إلى تراكم سحاب في سماء (إسماعيل)، ما فتئت الأيام تزيده تلبدًا، كلما زادت في فؤاد الخديو حرارة الرغبة في تحقيق مساعيه.

وهذا هو ما سنشرحه مفصلًا في الصفحات الآتية.

١  أهم مصادر هذا الإجمال «مصر» لمالورتي ص١٤٠ و١٤١ و١٤٢ و١٤٣.
٢  انظر «مصر» لمالورتي ص١٣٨ حاشية ٥٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤