الفصل الثاني

انقلاب ظهر المجن١

وقد يرجى لجرح السيف برء
ولا برء لما جرح اللسان

على أن الطريقة الاستخفافية التي قرر بموجبها التوقف عن الدفع في الاجتماع السري الذي قلنا عنه، بُعيْد تقديم الحكومة الفرنساوية المساعدة التي جادت بها، بناء على طلب الخديو بأيام قلائل، والكيفية الموشكة أن تكون استهزائية، التي أبلغ بموجبها ذلك التوقف إلى علم العموم، أثارتا تميزًا عنيفًا في صدور الجالية الأوروبية بالإسكندرية، زاده أيضًا، زيادة هائلة، موقف عمال الحكومة وموظفيها، فإنهم إما لكونهم اعتادوا الغطرسة والخيلاء، والنظر إلى الناس من عل، فلم يعودوا يستطيعون أن يصبغوا معاملاتهم معهم بغير تلك الصبغة الكريهة، وإما لأنهم لم يدركوا حقيقة الحال الجديدة، ولم يفقهوا أن مركز حكومة غنية قوية في القلوب، غير مركز حكومة ضعيفة مفلسة، استمروا ملتحفين مظهرهم العادي من عدم الاهتمام المتغطرس بانهيار الثروات الشخصية، وتخرب بيوت أصحابها، ومن عدم التقلقل في إقدامهم على الاتجار والبيع والشراء، والاستفادة من الثقة العمومية، وقوة الاقتراض والأقراض الناجمة عنها، وتجاوز الحدود في جميع ذلك التجاوز المعتاد، كأن الماضي لا يزال حاضرًا، وكأنهم لا يشعرون مطلقًا أنهم إنما يتكلمون باسم إدارة، دخلت في دور الإفلاس.

فبدأ هياج الأفكار والأرواح على ألف نوع، واقترن بعدة مظاهر تُجووِز فيها حد الاحترام الواجب لشخص مليك البلاد. من ذلك أن ناظر دائرته الخاصة عرض في سوق مينا البصل بيع أقطان يسلمها مقابل دفع نقدي، فماجت السوق وهاجت، وانهال عليه الملأ بتهاليل الازدراء والشتم والإهانة المتنوعة، ولولا قليل لضربوه وأخرجوه من الحلقة.

وانعقدت في المدينة عدة اجتماعات، تليت فيها خطب في منتهى الطعن والشدة، وذهب الخطيب في إحداها إلى وجوب خلع الخديو، وعلقت إعلانات كبيرة في الأحياء الآهلة بالسكان، وفي معظم جهات البلد، حرض الرأي العام فيها على المطالبة بقلب نظام الحكم رأسًا على عقب، واستلام تداخل أجنبي زمام الأمور في القطر.٢

إلى ذلك الحد البارد وصلت قحة زمرة من المرابين وجمهور من الدائنين، الذين طالما كانوا يتوقعون مكسبًا من الخديو، لم يروا للثناء عليه حدًّا، فكالوا له المديح جزافًا، وأنواعًا مختلفة في جرائد بلادهم ومنتدياتها، وأقوال الخطباء فيها، ورفعوه إلى ما فوق السبع السماك واندلثوا الآن عليه، حالما شعروا بانقطاع مورد المكاسب والانتفاع.

فليتعظ بذلك كبراء الأرض، وليعلموا أن بخور الثناء الذي يحرقه حولهم القوم المستغلون مركزهم وثروتهم قد يتلاشى بسرعة، وقد لا يبقى له من أثر سوى الجمر الذي أحرق به، والذي قد يستعمله القوم أنفسهم ليحرقوا به سمعة من كان معبودهم بالأمس، والقليل الباقي من مصالحه، حالما ينتهي استغلالهم الطويل إياه بحمل الدهر على قلب ظهر المجن له.

على أن المظاهرة التي أساءت إلى قلب الخديو، وجرحته جرحًا أبلغ من كل كلم سواه فتحته في قلبه أية مظاهرة أخرى، إنما هي المظاهرة التي حدثت في بورصة الإسكندرية عينها. فإن إدارة هذه البورصة بتأثير الإعجاب الماضي الحاف من كل جهة بشخص (إسماعيل) كانت منذ عهد قريب قد أقامت صورته في صدر قاعة جلساتها بحفلة حافلة، دوى صداها في جميع أنحاء القطر مدة.

ففي ثورة النفوس التي نحن بصددها اقترح بعضهم نزع تلك الصورة من هناك، وطردها من المحل كله، كغير جديرة وغير مستحقة أن تكون فيه، ولم يمكن إلا بكل تعب واحتياط حمايتها من المعاملة المهينة المهددة بها سخط أولئك المرابين والدائنين الجشعين.٣

ولم تكن قد مضت سنة، بعد، على إحراق أولئك الأقوام بخور ثنائهم المغرض أمامها، فما أقرب الصخرة الثرپيئية من الكاپيتول في ماجريات الحياة الاجتماعية البشرية.

وبينما كانت هذه المظاهرات السمجة تتعب آذان الهواء، بضجتها وجلبتها، وضوضائها الوقحة، وتثير انفعال الغضب والسخط في قلوب الأهالي المخلصين الولاء لخديوهم، بل تجمع حوله، بتأثير الرابطة الوطنية، والرابطة الدينية، ذات النافرين عنه، لسوء ما أصابهم من حكومته، اجتمع في البنك السلطاني العثماني كبار حملة الديون، الذين وقع عليهم أعظم الضر في أمر توقف وزير المالية المصرية عن دفع المستحق لهم، وطفقوا يتداولون فيما يجب عمله.

فقر رأيهم عن أن يبعثوا وفدًا إلى الخديو، ليستفهموا من سموه عما وصلت إليه المخابرات الدائرة بغرض الوصول إلى إعادة مجاري الدفع، وليطلبوا فيما لو خابت تلك المخابرات، إشراكهم مع حكومته في البحث عن الطرق التي قد توجب الحال إجراءها في المستقبل، محافظة على مصالح الجميع.

ولكن الخديو في تأثره الشديد مما كان قد حدث بالإسكندرية، وإظهارًا لعدم رضاه، أبى مقابلة رجال ذلك الوفد، بالرغم من أنه لم يكن يرفض أبدًا مقابلة أحد، وبالرغم من أن أولئك الرجال كانوا يمثلون في الحقيقة مصالح تقدر بملايين الجنيهات، وأحالهم على وزير ماليته.

فقابلهم إسماعيل صديق باشا بمنتهى اللطف والبشاشة، وأجاب على أسئلتهم، مؤكدًا أن الحكومة تنوي القيام بكل تعهداتها، بدون الالتجاء إلى تحويل قهري، وأن المخابرات التي أوقفت عند حلول استحقاق أبريل، استؤنفت من جديد مع زمرة الماليين القدماء عينهم، ومع ماليين آخرين، وأنه سيوقع عن قريب اتفاق يمكن من دفع المطلوبات كلها إلى حملة الأسهم. فإذا خابت — لا سمح الله — تلك المخابرات، فإنه يكون لحملة الأسهم الحق في انتداب من يشاءون لحضور المباحثات في الإجراءات الواجب اتخاذها.

فارتاح رجال الوفد إلى أقوال الوزير، وعادوا إليه من غدهم ليحرر لهم كتابًا بها، فأبى، ثم لم تمض أيام قليلة إلا وأشيع عزله من منصبه، ولكن الإشاعة كانت في غير محلها.

على أن المسيو پستريه — بالرغم من كل ما حدث — كان لا يزال مجدًّا في مخابراته، لا سيما أنه بعد انسحاب الحزب الإنجليزي المعرقل لجميع المشروعات المعروضة من الحزب الفرنساوي، أصبح سيد الميدان دون غيره، وعزا بعضهم انسحاب الحزب الإنجليزي إلى كونه أدرك أن الحالة باتت ميئوسًا منها.

فأدَّت نتيجة مخابراته إلى ولادة مشروع عرضه البنك العقاري الفرنساوي على الخديو، والتمس موافقته عليه. فأجل الخديو إجابته ٤٨ ساعة، لم تضيع الهيئة الرسمية الفرنساوية منها دقيقة، بل شغلتها كلها بالتأثير على (إسماعيل)، تأثيرًا قويًا، لتحمله على قبوله.

فاعتمده (إسماعيل) في نهاية الأمر، وأصدر مرسومين، نشرتهما «الوقائع الرسمية» في عدد ٧ مايو سنة ١٨٧٦، عين أولهما شروط الاتفاق وضماناته، وبين الثاني طريقة إجرائه.

أما مضمون المرسوم الأول، فهو أن عموم ديون الحكومة والدائرة السنية توحد وتجعل دينًا واحدًا عامًّا ذا فوائد سعرها ٧٪، ويسدد في ٦٥ عامًا بسحوب في كل ستة أشهر، وسندات هذا الدين تعطى هكذا:
  • أولًا: بقدر القيمة الحقيقية، فيما يختص بأقراض سنة ٦٢ وسنة ٦٨ وسنة ٧٠ وسنة ٧٣.
  • ثانيًا: باعتبار ١٠٠ جنيه لكل ٩٥ جنيه فيما يختص بأقراض سنة ٦٤ وسنة ٦٥ وسنة ٦٧.
  • ثالثًا: باعتبار ١٠٠ جنيه لكل ٨٠ جنيهًا من الدين السائر، وأن مجموع الدين العام الموحد هكذا يكون ٩١٠٠٠٠٠٠ جنيه اسميًّا، تمتع أول يولية سنة ١٨٧٦، ويحتاج لسنوية قدرها ٦٤٤٣٦٠٠ جنيه، منها ٦٨٤٤١١ جنيهًا لحساب الدائرة، و٥٧٥٩١٨٩ جنيهًا لحساب الحكومة.

وإن إيرادات مديريات الغربية، والمنوفية، والبحيرة، وأسيوط، ودخوليات مصر والإسكندرية، وجمارك الإسكندرية، والسويس، ورشيد، ودمياط، وبورسعيد، والعريش، والسكك الحديدية، ومصلحة التبغ (الدخان)، ومصلحة الملح، ومصائد المطرية، والمسنوات (الهواويس)، ورسوم الملاحة في النيل، وكوبري قصر النيل، وقدرها كلها ٥٧٩٠٨٤٥ جنيهًا تخصص لخدمة ذلك الدين الموحد العام.

وأن دفع ما يجب على الدائرة السنية دفعه، وقدره ٦٨٤٤١١ جنيهًا يكون مع تحصيل المطلوب لها أولًا فأولًا، وأن ضم هذا المبلغ إلى المبلغ السابق يكون مبلغًا إجماليًّا قدره ٦٤٧٥٢٥٦ جنيهًا لخدمة لن تتقاضى سوى ٦٤٤٣٦٠٠ جنيه.

وذكر ذلك المرسوم أن عدة محال مالية أخذت على نفسها القيام بنفاذ المشروع، وأن الخديو يعين مندوبين خصوصيين لمراقبة نفاذه، وأنه سينشأ لخدمة الدين الموحد صندوق خاص يفصل المرسوم الثاني نظاماته وقوانينه.

وأما مضمون المرسوم الثاني هذا، فهو إن إدارة الصندوق الخاص تناط بمندوبين أجانب يعينهم الخديو، بناء على تقديمهم من دولهم، ويكونون موظفين مصريين.

وأن الأموال التي خصصت بسداد الدين الموحد تورد إلى هذا الصندوق الخاص، كما يورد إليه القسط السنوي المطلوب من الدائرة السنية، ومبلغ الفوائد المطلوبة للحكومة الإنجليزية عن أسهم السويس، فإذا لم يكف الموجود لدفع ستة أشهر ما، فإن وزير المالية يتدبر في سد العجز قبل حلول الميعاد بخمسة عشر يومًا.

وإن كل نزاع ينجم بين مديري هذا الصندوق ووزير المالية يُرفع أمر النظر فيه، وفصله إلى المحاكم الجديدة (المحاكم المختلطة).

وإن المندوبين يعينون لمدة خمس سنوات، ويجوز إعادة انتخابهم، وأنهم يقيمون بمصر، وأنه يحظر على هذا الصندوق الدخول في أي عمل بنكي أو تجاري أو صناعي فني، كائنًا ما كان، وأنه لا يسوغ للحكومة بدون موافقة المندوبين إدخال أي تعديل في الضرائب المخصصة لخدمة الدين الموحد، أو في المعاهدات التجارية المنظمة لرسوم الجمارك، من شأنه أن يقلل من مقدار الإيرادات.

وأن الحكومة تتعهد هي والدائرة معًا، بأن لا تصدر أذونات جديدة، ولا تعقد قروضًا جديدة إلا بموافقة المندوبين المذكورين، ولكنها — لكيلا تعرقل أعمال الإدارة اليومية — يمكنها أن تفتح لنفسها حسابًا جاريًا، عند أحد البنوك لغاية ٥٠ مليونًا من الفرنكات على شرط سداده من أصل الإيرادات في نهاية كل سنة.

ثم أصدر (إسماعيل) مرسومًا ثالثًا، في ١٤ مايو عينه، عدَّل بموجبه تشكيل إدارة وزارة المالية، بأن أدخل عليها مجلسًا أعلى للخزينة، منقسمًا إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مختص بمراقبة خزائن الحكومة المركزية وحساباتها.

والقسم الثاني: مختص بمراقبة الإيرادات والمصروفات، والنظر في أمر الموظفين والمستخدمين، الثابت عليهم أنهم أجروا دفعًا، لا شيء يبرره.

والقسم الثالث: مختص بتحقيق الحسابات وتصفيتها، والتصديق عليها، أو انتقادها إذا كان هناك محل للانتقاد.

ذلك المجلس الأعلى يبدي رأيه في كل الميزانيات النظرية التي يضعها وزير المالية قبل نهاية كل سنة بثلاثة شهور.

ويكون من عشرة أعضاء: خمسة منهم أجانب، وخمسة وطنيون، ومن رئيس يعينه الخديو.

ويكوِّن قسمه الأول من ثلاثة أعضاء أجانب كلهم، وقسمه الثاني من خمسة أعضاء، منهم أجنبيان، وقسمه الثالث من ثلاثة أعضاء، كلهم وطنيون.

وتعيين أعضاء هذا المجلس، وعزلهم، وإيقافهم، أو إحالتهم على المعاش — جميع ذلك يكون حقًّا من حقوق الخديو، بعد أخذ رأي مجلسه الخاص، على أن المجلس الأعلى يكون مطلق التصرف في أمر وضع النظامات اللازمة لخدمته الداخلية، وتنظيم أقلامه، وتوزيع الأعمال على موظفيه ومستخدميه.

وبما أنه لم يرشح أحد، سوى الفرنساويين إلى هذا التدبير الجديد، فإن سعر قرض سنة ١٨٧٣ — وكان قد ارتفع إلى ٤٧، على أثر انتشار خبر نجاح المخابرات التي كان المسيو پستريه مكبًّا عليها — هبط في ٢٠ مايو إلى ٤٠ بميل إلى زيادة في الهبوط، لا سيما بعد اطلاع الجمهور على نصوص المرسوم الأخير الفرنساوية — وكانت من وضع المسيو شالويا رئيس مجلس المالية المصرية الأعلى، والعضو في مشيخة مملكة إيطاليا — وهي نصوص ظن الملأ أن المقصود منها المزاح والهزار في أمر حيوي، لغرابة تعابيرها.٤

ولكن التدبير المتفق عليه سير به بالرغم من ذلك، وعين كل من المسيو دي بلينبير والهرفون كريمر، والمسيو باراڨلي مندوبين في صندوق الدين، بناء على اقتراح الحكومات الفرنساوية والنمساوية والإيطالية.

وأما الحكومة البريطانية، فإنها اتباعًا لخطتها السابق إعلانها من عدم رغبتها في التداخل في أمور مصر الداخلية، أبت تعيين مندوب من قبلها، مع أن سندات معظم الدين المضمون كانت في أيدٍ بريطانية، وعليه فإن رجال المال بلندن أعلنوا عدم رضاهم عن المشروع الفرنساوي، وعدم ارتياحهم إليه بالمرة. وعبرت لجنة البورصة فيها عن ذلك الشعور العام، بإعلانها نيتها على رفض أسعار الدين المصري الموحد بالكيفية التي ذكرناها في جدول الأعمال البورصية.

فبذل الماليون الفرنساويون وسعهم لمقاومة تلك النية، والتغلب على هذه العراقيل، ولكنهم لم ينجحوا، واضطروا إلى التنازل عن مشروعهم، ومخابرة الماليين البريطانيين في أمر وضع مشروع آخر، يكون أقرب إلى الإنصاف، وأجمع للآراء، وأضمن للمصالح المتضاربة.

فبات مشروعهم، إذًا، في خبر كان، وشعور الناس بأن ثلاثة مراسيم خديوية باتت حبرًا على ورق، وأن إدارة وأقلامًا أسست بشكل رسمي، واشتغلت بشكل رسمي، عادت إلى العدم بتأثير المعارضة الإنجليزية، ذهب بجانب عظيم من المهابة التي كان للمليك في القلوب.

وكان المستران فرولنج وجوشن، بصفتهما مصدري ثلاثة من الأقراض المضمونة، قد قدما إلى وزارة الخارجية البريطانية احتجاجًا شديدًا، حينما بلغت لندن أنباء الاتفاق على توحيد الدين المصري.

وكذلك فعل مجلس إدارة حاملي الأسهم الأجنبية، وأكد اللورد دربي وزير الخارجية لكل منهما أنه أصدر تعليمات إلى قنصل بريطانيا العظمى العام بمصر، لكي يشد أزر كل مجهود يبديانه بما يستطيع من الوسائل غير الرسمية.٥

فلما سقط المشروع الفرنساوي عقدت بلندن في أوائل شهر يولية جمعية عمومية لحاملي الأسهم، وكلف فيها المستر ج.ي. جوشن، العضو في البرلمان البريطاني، لما له من الخبرة في الأمور المصرية، ولأهمية مركزه الشخصي بالذهاب إلى مصر صحبة فرنساوي، يقال له المسيو چوبير، بصفتهما وكيلي أصحاب الشأن البريطانيين والفرنساويين، ليتفاوضا مع الخديو، ويجتهدا في الاتفاق سويًّا على تدبير يكون أصلح من التدبير المقدم من جانب رجال البنك العقاري الفرنساوي.

وكان المستر جوشن قد أبدى لبعض أصدقائه رغبته في قبول تلك المهمة.

فلكي يمهد اللورد دربي الطريق أمام المندوب البريطاني اجتهد في تفهيم الخديو بواسطة الكرنل ستانتن، القنصل البريطاني العام، بأن «المستر جوشن كان عضوًا في الوزارة السابقة، ولا يزال رجلًا ذا مركز سامٍ، وشهرة بعيدة في بلاده.» وأكد الكرنل ستانتن للخديو أن الرجل «سيقيم الميزان باستقامة بين سموه وبين الذين هو آتٍ نائبًا ومحاميًا عنهم، وإنه إذا ظهر أن الاتفاق أمر يتعذر الوصول إليه مع مندوب غير متحيز كالمستر جوشن، فإنه يصبح من المحال الاستمرار على حال مجلبة الخراب للبلاد ودائنيها.»٦
وبمناسبة هذا التهديد والتخويف المبينين، يجدر بنا إيراد قول للمستر ماك كون، المؤرخ الإنجليزي في هذا الشأن. قال: «وإنه لمن الغريب جدًّا أن تكون الحال المصرية المالية الحالة الخارجية الوحيدة التي أوجبت تدخل وزارة خارجية بريطانيا العظمى. فإنه في نفس هذه السنة التي شدت فيها أزر إرسالية المستر جوشن والمسيو چوبير، الشد كله، الذي كان يمكن لها إبداؤه بكيفية ملائمة، كان يوجد لا أقل من سبع عشرة دولة مفلسة في جدول نقابة حاملي الأسهم الخارجية الأسود. وبلغت الديون المطلوبة منها ٤٠٠ مليون جنيه، ومع ذلك فلم يرو مطلقًا أن الحكومة البريطانية أبدت على إحداهن احتجاجًا، ولو برسالة قنصلية في مصلحة المقرضين، ولكن الشيلوكات٧ الذين جزروا مصر لم يكونوا دائنين من نوع بقية الدائنين، فإنهم كانوا في باريس ولندن على السواء، أصحاب قوة وبأس في البرلمان والصحافة، وعليه فإن كل وسائل الدوائر الرسمية في البلدين استخدمت لتمكنهم من الحصول على أكثر من الست عشرة أوقية المطلوبة لهم من لحم الفلاحين المصريين البائسين.»٨

على أن الملأ المالي المصري لم يجد من نفسه صبرًا يمكنه من انتظار تطور الحوادث، ومجيء الأيام بالأدوية الموافقة لمداواة المرض المالي الناشب مخالبه في خزينة الحكومة، بل حالما سمع أن الخديو أبى مقابلة وفد الجمعية التي انعقدت في البنك السلطاني العثماني، وأن الوزير إسماعيل صديق باشا أبى أن يثبت كتابة وعوده الشفهية لذلك الوفد، وحالما ظهرت في الوجود المراسيم الخديوية الثلاثة البادي ذكرها، لم يسكت حتى يرى ماذا تكون نتيجتها، وكيف يقابلها الرأي العام المالي بأوروبا، بل أقبل، من ساعته، وأرسل إلى الحكومة والخديو على أيدي محضري المحاكم المختلطة الجديدة احتجاجات رسمية على السندات المستحقة عليهما، التي لم تدفع قيمها.

وأعقب الاحتجاجات بطلب حجوزات يوقعها على ممتلكاتهما، وقفى ذلك كله بقضايا تجارية، رفعها عليهما، باستناده على المادة العاشرة من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة.

فأصدرت هذه المحاكم أحكامًا ألزمت بها الحكومة، والدوائر الخديوية بدفع المستحق عليها، وجعلت أحكامها مشمولة بالنفاذ المؤقت، حيث نصت القوانين الجديدة بوجوبه.

فأكبرت الحكومة، وأكبر الخديو ما عداه — لعدم سابقة حدوثه، ولاستبعادهما توقعه، ووقوعه مطلقًا — وقاحة وقحة في الدائنين والمحاكم معًا، وأصدرت الحكومة أوامرها إلى عمال التنفيذ بالامتناع عن تنفيذ تلك الأحكام امتناعًا كليًّا.

فقام، على أثر ذلك، نزاع عنيف بين هيأة القضاء المختلط والحكومة، وأعلن معظم القضاة الأجانب عزمهم على ترك مناصبهم، ومغادرة الديار المصرية إذا لم تقم السلطة التنفيذية بتنفيذ الأحكام القانونية التي يصدرونها. وتطرف أحدهم — وكان هولنديًّا يدعى المسيو هاكمن، من قضاة محكمة الإسكندرية الابتدائية المختلطة — وأعلن إقفال المحكمة وتوقفها عن القضاء بين الناس، حتى تخنع الحكومة إلى أحكام المحاكم، وتقوم بتنفيذها، وهي صاغرة، وحتى تعطي الضمانات الكافلة على عدم عودها في المستقبل إلى عرقلة أعمال القضاء، ووضع العقبات في سبيل سيره.

وتداخل قناصل الدول العموميون بمصر في النزاع تداخلًا سياسيًّا، وتحيزوا للمحاكم على الحكومة، وأنذروا هذه بالويل والثبور، إذا استمرت متمادية في عنادها وإصرارها عليه.٩

فلما رأى الخديو أن موقفه بات خطيرًا، وتيقن أنه بإدخاله في القوانين الجديدة نص المادة العاشرة المذكورة — سواء أكان ذلك لأن نوبار باشا خدعه وحوَّل نظره عن نتائجه، أم لأنه أراده من تلقاء نفسه — بات لا يستطيع إلا الامتثال لما أصبح قانونًا مصدقًا عليه من الدول، أو لأنه غلب صوابه على هواه، كما كان المنتظر من رجل حنكته الأيام مثله، فإنه رفع التحظير الذي كان وضعه على أيدي رجال التنفيذ الإداريين، وأذن لهم بالامتثال لمنطوقات الأحكام الصادرة والتي ستصدر، أيًّا كان نصها، ومهما كان موضوعها.

ولكنه لاعتباره ما وقع من بعض القضاة الأجانب، لا سيما من المسيو هاكمن مهينًا لشخصه، وحاطًّا من كرامته، اشترط، نظير رفعه العقبات من سبيل أحكام القضاء ضده وضد حكومته، أن تقدَّم له الترضية اللازمة.

فاجتمعت جمعية محكمة الاستئناف المختلطة العمومية، وقررت أن يقدم المسيو هاكمن استعفاءه من خدمة الحكومة المصرية.

ففعل، وبذلك عادت المياه إلى مجاريها، أي أن دائني الحكومة والدوائر الخديوية أصبحوا يجدون من أحكام القضاء المختلط قوة قانونية يتمكنون بموجبها من الحصول على حقوقهم، فاستخدموها، واستعملوها لدرجة توقيع حجز على منقولات سراي الرمل الخديوية، والإنذار ببيعها.

١  أهم مصادر هذا الفصل الجزء الأخير من الفصل التاسع من «تاريخ مصر المالي» لمجهول، والفصل العاشر منه، والفصل الثاني من «مصر الحديثة» للورد كرومر، و«مصر في عهد إسماعيل» لماك كون.
٢  انظر «تاريخ مصر المالي» لمجهول ص٢٣٢.
٣  انظر «تاريخ مصر المالي» لمجهول ص٢٣٢.
٤  انظر «تاريخ مصر المالي» لمجهول ص٢٥٨ و٢٥٩.
٥  انظر «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص١٨٨.
٦  انظر «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص١٨٩.
٧  انظر «شيلوك»، في رواية «تاجر البندقية» لشكسبير، اسم اليهودي الذي اتفق مع التاجر أنطونيو — وكان يكرهه كراهة شديدة — على إقراضه مبلغًا من المال، على أن يحق له، في حال عدم سداده، قطع أقة من لحمه في أي جهة يريدها من جسمه.
٨  انظر «مصر في عهد إسماعيل» لماك كون ص١٨٩.
٩  انظر «مصر تحت حكم إسماعيل» لمالك كون ص١٩٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤