الفصل العاشر

انسحب المرض من المشهد مُجددًا؛ فلم تعُد تظهر على أبي أي علامة من علامات القلق والتوتر التي عهدناها عليه في الأشهر الماضية، وكنت أشعُر كلَّ يوم بأنه مُستريحٌ. كان يضحك ويُمازح ويتبسَّم في وجوه الآخرين، وكان مُنتبهًا ومُراعيًا لمشاعر من حوله.

كانت المشاعر تأتي من داخله بتلقائية وسرعة، ولم يبدُ عليه أبدًا أنه هادئ بتأثير الأدوية. كان يتعامل بإيجابية مع وضعه، وكانت دُعاباته تُسعدُه، وأيضًا كان يُسدي النُّصح لكلِّ مَن يسأله؛ فقد قال مثلًا لفيرنر:

«يمكنك تعلُّم الكثير مِني.»

إلا أن الاضطرابات الإدراكية كانت تظهر عليه من وقت لآخر، بينما أصبحتْ نوباتُ الهلوسة أقلَّ وطأةً.

ذات مرَّة سأل كاتارينا: «هل رأيتِ أيضًا الأقزام السبعة الذين مرُّوا من هُنا؟»

«بالتأكيد، لقد انعطفوا عند الناصية.»

وانتهى الأمر عند هذا الحد.

وعندما كانت حِدَّة الهذيان تزداد بشكل استثنائي، كُنا نُحضِر إيفا، التي كانت تذهب إليه وتُعانقه، فكان يهدأ وتعود الحياة إلى طبيعتها، ويضحك الجميع في اندهاش.

كان أبي يشكو كثيرًا من عدم قُدرته على القيام بأي شيء، ومن أنه أصبح «أحمق»، إلا أنه كان يقول في بعض الأحيان:

«لم أُصبح بهذه الدرجة من الغباء حتى أعجز عن عمل أي شيء نافع!»

وساعده ضَعفُهُ في مواقف عديدة على استعادة ذكرياته؛ مثل مواقف «النجاح والسعادة التي عاشها»؛ إذ كان يقول:

«عندما كُنت أفعل شيئًا نافعًا فيما مضى، كُنتُ أسعدُ بذلك كثيرًا. لم أكُن شغوفًا بالقيام بكل تلك الأعمال، لكني كُنتُ أعرف أنها مُهمة، وأنه لا يوجد أحدٌ غيري يمكنه القيام بها بنفس الإتقان مثلي. في أي مكان كُنتُ فيه كُنتُ أؤدي تلك الأعمال بسرعة البرق. لم يكُن ذلك جميلًا على الدوام، ولكنه كان إحساسًا طيبًا. وأنت أيضًا كُنتَ تُحب مُشاركتي دائمًا.»

«كُنتُ أُحب مُشاركتك.»

«أنت تضحك! لقد كُنَّا فعلًا نُحب العمل معًا. لو لم نكُن معًا لكُنَّا مسكينَيْن تعيسَيْن. لم تكُن مُجرد أعمالٍ يمكن أن تقرأ طريقة القيام بها من ورقة إرشادات. فقط الأعمال البسيطة يمكن أن تقرأ طريقة القيام بها من ورقة إرشادات، وليس كل الأعمال. كُنتُ فخورًا بذلك؛ كما تعلم، كانت أشياء لا يعرف جدواها سوى القليلين. ولكننا كُنا نعرف ذلك. وكُنتُ سعيدًا لأني أستطيع القيام بأشياء لا يمكن القيام بها دون إمعانِ الفكر. مثل تلك الأشياء كُنتُ أتولَّاها، ودائمًا أنجح في أدائها! والطريقة التي يمكن أن تُدير بها الأشياء المُعقَّدة في الاتجاه الصحيح، كانت … كُنتُ مُتخصصًا في ذلك. كم كُنتُ بارعًا في مُعالجة الأُمور! وقد رأيتَ بنفسك سعادتي وأنا أقوم بذلك، ما دون ذلك لم يكُن لينجح أبدًا. لقد شعرتم بالتأكيد بأني كُنتُ أفعل ذلك بسرور، وأن آرائي فيما يحدث كانت جيدة. أعرف أنه لم يبقَ الآن الكثيرُ من ذلك، لم يبقَ الكثير، لم يعُد باستطاعتي سوى القليل، تقريبًا لا شيء. كانت الأعمال والأشياء المُتنوعة في الماضي فعلًا جيدة، لا أعرف مَن الذي كان يُحضرها، مَن الذي كان يفعل ذلك كله. أظن أنكَ كُنت مُشاركًا فيه، وإميل أيضًا. أمَّا أنا فقد كُنتُ أخلع الأشياء القديمة، وأُركِّب الجديدة في لحظة. كم كان هذا العمل جيدًا! وعندما كان كل شيء يسير على ما يُرام — يا إلهي! — كان ذلك يملؤني شعورًا بالقوة!» جمع قبضَتَيْه وضمَّهما إلى صدره، ونظر إليَّ مُبتسمًا وأردف:

«أتَعلَم؟ لم أعتقد بالضرورة أني قد أصبحتُ أحمق، فأنا أعرف أني قادرٌ على إنجاز أشياء جيدة إذا بذلتُ جهدًا. ذات مرة جاء شخصٌ وامتدحني؛ لأني أحسنت القيام بشيء، جاء وامتدحني. كُنتُ فخورًا بقيامي بذلك؛ لأنني كُنتُ ذكيًّا بما يكفي لأقول لنفسي: انتظر! لقد كان ذلك رائعًا!»

وفي موقف آخر قال:

«لم تكُن المواقف السعيدة في حياتنا محض صُدفة، بالتأكيد كان بينها مواقف خدمَنَا فيها الحظ، لكن لم تكُن المواقف السعيدة في حياتنا محض صُدفة.» ثم فَرَك طرف إبهامه وسبَّابته والوُسطى من يده اليُمنى وهو يقول: «كُنا أكثر مهارةً من الآخرين، فمِمَّ عسانا أن نشكو إذن؟!»

وبالفعل لم أشكُ؛ فقد أمكنني النظر إلى المُستقبل بشيءٍ من الثقة. لقد تلاشى التوتُّر تمامًا، ووجدتُني أرى العلاقات بوضوح لم أعتَدْه؛ سواء العائلية أو الخاصة أو المهنية. وبدأتْ فترة هُدنة. عُدْنا لنقف على أرجلنا من جديد.

كانت الأيام الماضية تنتهي غالبًا بآمالٍ خائبة؛ وخصوصًا في أثناء إقامتي في فولفورت، وكانت الأفكار التي تُداهمني في الليل تستحوذ عليَّ بقوتها الكئيبة، حتى إن الصباح كان يأتي عليَّ وأنا مُنهكٌ من معركة الليل، وعند الظهيرة أكون مُنهكًا مثل الكلب الضال. حتى وأنا في فيينا بعيدًا عن فولفورت لم يكُن التفكير في البيت مُريحًا، أما الآن فقد عاد اليوم إلى طبيعته، وأصبحت أشتاق إلى أسابيع الصيف التي أقضيها في بيت والدَي؛ تعويضًا عن الشتاء والربيع البائسَيْن.

ونجحتُ في كتابة روايتي الخامسة، وأنا أشعر بأن الأمور تسير بسهولة لم أجدها منذ فترة طويلة. أدركتُ ذلك، على نحو أكبر، عندما تسلَّقتُ إلى أعلى فرعٍ في شجرة الكرز في يوم وصولي، فلم أصِل إلى هناك منذ كُسِرتْ لي ثلاثة أضلُع وأنا أحاول القيام بهذا العمل البهلواني قبل أعوام. يا له من إحساس بالحرية أن أشعر بأني أستمتع بحياتي مُجددًا، وأن أستيقظ في الصباح وأنا أعرف أن بمقدوري الاستمتاع باليوم! كان ذلك تغيُّرًا جوهريًّا.

في الأعوام الماضية تخلَّت عني الرغبة في القيام بشيءٍ في فولفورت. كنت أحبس نفسي في البيت؛ لعلمي بأن شيئًا ما يُمكن أن يحدث في أي لحظة. وكانت الأيام تمضي الواحد بعد الآخر، وكانت الأحداث مُملَّةً وغيرَ مُتوقعة؛ لذلك لم يكُن جيراني في القرية يرونني كثيرًا، أما الآن فلديَّ ليس فقط الوقت وإنما أيضًا الطاقة. كُنت أتصل بإخوتي وبزُملاء أبي القُدامى وأُخبرهم برغبتي في الحديث معهم من أجل كتابٍ أعمل على إتمامه.

وعادةً كُنا نتحدث في المساء؛ إذ كُنت أزور أبي في الصباح مرةً أو مرَّتين.

مُنذ اليوم الأول رأيتُهُ مُتزنًا وهادئًا ومُنتبهًا، وكان يسألني عن حالتي وعن خُطتي، وكان بصورة عامة راضيًا، ولكنه — حسب قوله — كان ينتظر اللحظة المُناسبة للهرب.

وقد أخبرني وكأنه يحكي عن مؤامرة:

«عندها لن تراني هنا مُجدَّدًا.»

ثم أسند ظهره إلى المقعد وابتسم.

كان قد فقد الكثير من وزنه، حتى إن ملابسه كانت واسعةً عليه جدًّا؛ فقد أصبح مقاس رقبته مُختلفًا، ولكنه ظل يرتدي القُمصان نفسها. وكان ماهرًا كعادته؛ فقد كان يفتح ويُغلق الزِّر العلوي للقميص بإصبعين بجمالٍ غير معتاد، دون عناء ودون أن ينقطع حبل أفكاره وهو يتكلم. كان أبي يُعجبُني ككُل، الإنسان ككُل، ورأيتُ أنه بخير، وأن حالته المزاجية طيبة، وتذكَّرت القول المأثور: حُسن الختام.

وإن كان استمرَّ على ذلك لتحقَّق فيه ما قرأتُه يومًا في رواية لتوماس هاردي، عندما قال عن رجل مُسِنٍّ: «إنه يقترب من الموت مثل القطع الزائد للخطوط المُستقيمة.» فهو يتقدم مُغيِّرًا مساره ببُطء شديد؛ مما يجعل مِن غير الواضح إذا كان والموت سيلتقيان يومًا ما بالرغم من قربهما الشديد.

فقد كانت لدى أبي رغبةٌ حقيقية في أن يعيش فترةً أطول، وكان موقفه واضحًا في هذه النقطة تحديدًا.

•••

كان يوم ثُلاثاء عندما دخلتُ في مُنتصف الظهيرة إلى غرفة الانتظار في دار المسنين، وكان أبي يجلس إلى طاولة أحد زُملاء الدار، الذي سأله أبي قبل أيام:

«مَن تكون؟»

فأجابه الرجل: «اسمي فِرد.»

فقال له أبي ممازحًا:

«أظُن أنك بالأحرى فِردلي (شخصية كرتونية يمثلها حصان).»

تحدَّث الاثنان طويلًا، وعجِبتُ وسعدتُ عندما رأيت أنهما أجريا حديثًا جيدًا، وأبدى كلٌّ منهما اهتمامًا بالآخر، مع وجود بعض أوجه القصور في الحوار؛ نظرًا لظروف مرضهما.

قال فِرد إنه كان بالأعلى عند القديس بطرس في السماء، وإن المكان جميل جدًّا هناك؛ لأن لديهم مساكن جديدة. فقال أبي:

«ليس هذا ما يستهويني، أُفضِّلُ التنزُّه قليلًا؛ فرُبما أجدُ مَن أتحدث معه هنا.»

فعلَّق فِرد قائلًا: «هذا لن يكون متاحًا هناك بالتأكيد.»

بينما كان والدي وفِرد يتحدثان، كانت هناك سيدتان تُناديان المُمرضة بالتبادُل وتطلبان المُساعدة في هذا الأمر أو ذاك. تجاهَلَ أبي تلك الاستغاثات، أو تغاضى عنها، لا أعرف؛ لم يتغير شيء تمامًا في تعبير وجهه الفَرِح، ولم يلتفت برأسه إليهما. وكان جُلُّ تركيزه مُنصبًّا على فِرد وعليَّ، ولم يكُن يهتم بما يجري خلفه إلا عندما كان فِرد يلتفتُ إليهما. وبُقدرة كبيرة على صياغة الكلام باقتضاب كان فِرد يُلقي على أسماع السيدتين ملاحظات لاذعة، وكان بمنزلة «شوبنهاور» دار المسنين.

«أغيثوني! أغيثوني! هلَّا يساعدني أحد!»

«اصمتي يا هذه!»

«أريد الذهاب إلى بيتي!»

«إذن فاطلُبي سيارة أُجرة!»

«أحتاج إلى طبيب!»

«لقد أنهى عمله!»

«يا عزيزي الطبيب!»

«إنه في البيت مع حبيبته!»

«أحتاج إلى المُساعدة!»

«لم يعُد بإمكان أحدٍ مساعدتك!»

فقالت السيدة بخجل: «يا إلهي، لم أكُن أعرف ذلك!»

وعجبتُ كثيرًا لأن السيدتين من فولفورت والمنطقة المُحيطة بها، ومع ذلك فقد صاغتا شكواهما باللغة الألمانية الفُصحى، وكأنهما تريدان بذلك تأكيد جدِّية مُعاناتهما.

وكان أبي أيضًا يتكلَّم مع فِرد غالبًا بالفُصحى، ولكن بارتياحٍ شديد وكأنَّ الذي يُهمُّه هو فقط جدية مُحتوى كلامه.

ووراء أبي كانت تجلس إلى طاولةٍ سيدتان تُطالعان الصُّحُف، ولم تنزعجا أيضًا بما كان يدور حولهما. بالنسبة إليَّ كان الأمر مُقلقًا أن ينادي شخصٌ طلبًا للمساعدة ويُقاطعه فِرد بتعليقاته الساخرة. ولكن بما أن العاملين في الدار والنُّزلاء الآخرين تقبَّلوا الأمر وكأنه أمرٌ عادي مثل دقَّات الساعة، فقد حاولتُ أن أعتبره أنا أيضًا كذلك. ولكني غضبتُ قليلًا عندما كان أبي في أيامٍ أُخرى يُنشد أُغنية وكانت إحدى السيدتين اللتين كانتا تقرآن الصُّحُف تُنادي بشيء من الإصرار:

«ماذا؟ ماذا؟ يجب على هذا الشخص أن يصمت!»

عندها قال أبي لفِرد:

«الأوقات تتبدَّل، ولكن لن تظل الحال هكذا دائمًا.»

قالها بحزم وترنَّحت لهجته بين الأسى والاستسلام للقدر.

فقال فِرد: «ليتني أستطيع الذهاب بعيدًا! كم أود صعود جبال الألب ثم الهبوط عند ريكاتشفينده!»

فردَّ أبي: «لن أذهب معك إلى هناك.»

«ولِمَ لا؟»

«لأني لا شيء.»

«أنت ما زلت شيئًا ما.»

ابتسم أبي وقال: «لا أعتقد.»

فقال فِرد: «يجب عليك فقط أن تُريد.»

«لم تعُد الإرادة كبيرة لديَّ، وإنما فقط الأمل. كُنت شخصًا ارتحلَ كثيرًا في حياته.»

فقال فِرد شيئًا لم أسمعه، لكن ظهرت على أبي الحيرة وقال:

«حسنًا، لقد فهمت … وماذا سنفعل الآن؟ نتلو صلاة المسبحة الوردية؟»

«لا!»

«سيستغرق ذلك طويلًا.»

«ولن يُجدي شيئًا. هل تستطيع أساسًا تلاوة صلاة المسبحة الوردية؟»

«أعتقد نعم.»

«إذن فكيف هي؟ قُل وسأكرر!»

هزَّ أبي رأسه وغيَّر الموضوع. وعندما دار الحديث مُجددًا عن أن أبي لم يعُد قادرًا على فعل الكثير وأن الأمر لن يبقى هكذا، قال فِرد:

«إذن سيضعونك في التابوت ويُرسلونك إلى الآخرة.»

فقال أبي: «ولكني أُفضِّل البقاء قليلًا، والثرثرة. كما تعلم، لم أعُد قادرًا على تمهيد الطُّرُق، ولكن بإمكاني الذهاب والمجيء ورؤية بعض الأشياء والتقاطها.»

فقال فِرد إنه كان بالأعلى عند القديس بطرس وتفحَّص المكان، وأن المكان هناك أعجبه، إلا أن القديس بطرس قال إن اسم فِرد غير موجود على القائمة.

واستطرد فِرد قائلًا: «لديهم مساكن جديدة كثيرة هناك، يجب أن تذهب إلى هناك.»

فكرَّر أبي قوله: «ليس هذا ما أصبو إليه، أُفضِّل البقاء قليلًا ومشاهدة بعض الأشياء.»

فقال فِرد: «لكنك أنهيتَ مُدة حياتك.»

«وأنت؟ هل ترغب في البقاء قليلًا والعيش هكذا؟»

فردَّ صديقه فِرد ضاحكًا: «سيُسعدني أن أعيش بعض الأعوام الأُخرى.»

«نعم، يبدو عليك فعلًا أنك ما زلت شديد القوة.»

فتح أبي الزرَّ العلوي لقميصه الأزرق ذي الرسومات البسيطة، وعندما انفتح الزر جذب ياقة القميص ليكون مفتوحًا إلى أقصى حدٍّ، وقال ضاحكًا:

«يجب أن أُدخِل بعض الهواء إلى هناك.»

كان يجلس معهم إلى نفس الطاولة رجلٌ نحيفٌ في كُرسي مُتحرك، وكان مُعظم الوقت يُحرِّك قدمَيْه ببطء وكأنه يخطو، بينما ظل وجهه وجسده دون حِراك. قال له أبي في معرض الحديث وهو مُتعجِّب بعض الشيء:

«إن ما تفعله لن يُجدي كثيرًا.»

قال فِرد: «إنه يجول طوال اليوم، ولكن عقله يجول في اليوم الواحد عبر النمسا كُلها.»

فردَّ أبي: «المشكلة عندي في الأجزاء السفلية.» ثم أمسك بفخذيه وأردف: «لقد أصبحتْ مترهِّلة، والأجزاء السُّفلية مهمة جدًّا بالنسبة إليَّ.»

«ولكن أجزاءك السُّفلية ما زالت تعمل.»

«أظن ذلك.»

«كم عمرك الآن يا أوجوست؟»

«هل من المفترض أن أعرف؟»

«في الحقيقة، نعم.»

ساعدتُ أبي وقلتُ إنه سيُتم في القريب عامه الثالث والثمانين، فشكرني بشدة قائلًا:

«يا هذا، شكرًا، هذا لُطفٌ منك. سأُقدِّر لك هذا الصنيع.»

فأضاف فِرد: «لم نعُد على أي حال في العشرين.»

فقال أبي: «أُمِّي أيضًا بخير، ولكن عدا ذلك …»

نادت السيدة المُتكئة على الأريكة:

«أيتها المُمرضة المُقدَّسة! أيتها المُمرضة المُقدَّسة! أيتها المُمرضة المُقدَّسة! تعالَي وساعديني!»

فعلَّق فِرد قائلًا: «لم تعُد الممرضات اليوم مُقدَّسات!»

قالت سيدةٌ أُخرى: «أنا مُتعَبَةٌ جدًّا! أنا مُتعَبَةٌ جدًّا!»

فقال فِرد: «إذن فاذهبي إلى غُرفتك! اذهبي إلى غُرفتك ونامي!»

قالت السيدة من على أريكتها: «لم أقترف ذنبًا! يا إله السماوات ساعدني! يا إله السماوات!»

قال فِرد: «أَنزِل علينا رحمتك!»

فسأل أبي مُتفاجئًا ومسرورًا: «حقًّا؟»

فقالت السيدة: «ولِمَ؟ ولِمَ؟»

قال فِرد: «ولِمَ لا؟»

قال أبي: «أراكَ مُستعدًّا لتلاوة «الصلاة الربانية: أبانا الذي في السماوات». إذا تركتك تفعل، فأنت تبدو وكأنك ما زلت قويًّا جدًّا، وكأن الرغبة ما زالت تراودك.»

فقال فِرد: «نعم، الرغبة موجودة بالفعل.»

فقال أبي معبِّرًا عن كامل تقديره: «أنت ما زلت قويًّا جدًّا وصلبًا!»

فضحك فِرد وقال: «لقد أصبحتُ صلبًا.»

ثم حكى أن الإسعاف نقلته في الصباح إلى المستشفى في فيلدكيرش، وراودته رغبةٌ قويةٌ في أن يقول للسائق، ذلك الشاب أخضر العود، كما وصفه:

«ابتعد ودعني أقُدِ العربة!»

وبعدها تحدثا مرة أُخرى عن الهرب، ثم عاد فِرد للحديث من جديد عن أنه كان عند القديس بطرس هناك بالأعلى، إلا أن القائمة لا تزال خالية من اسمه:

«كانت الإقامة هناك ستعجبُني.»

قال أبي: «بالتأكيد، الوضع هُناك جيدٌ جدًّا، لكني أُفضِّل مع ذلك البقاء في فولفورت.»

عندما قُدِّم الطعام وأردتُ أن أودِّع أبي قال لي:

«نعم، اذهب أنت إلى البيت. لا يسعُني إلا أن أُسديك نصيحةً واحدة: ابقَ في البيت ولا ترحل!»

•••

عندما جئتُ لأول مرة إلى دار المسنين، شعرتُ لوهلة بالتعاطف مع كل الذين يعيشون أو عاشوا أو سيعيشون هناك، ومع مرور الوقت اعتدتُ على ذلك الوضع الغريب، وفي نهاية الأمر لم أعُد أجد طريقة الحياة تلك أغرب من غيرها. كان الجو العام إجمالًا هادئًا ومُنتظمًا بسبب الأصوات دائمة التكرار التي تملأ المكان، وأصبحت أصوات الهمهمة الآتية من الحلق والنداءات المبحوحة الصادرة من أحد النُّزلاء، التي كانت تقلقني في بادئ الأمر، مألوفةً ولا بأس بها بعد أن تعرَّفتُ إلى صاحبها الطيب الودود.

لم يكُن إخوتي يتحمَّلون الجو في غُرفة الانتظار بدار المسنين؛ لذلك كانوا يصطحبون أبي إلى الخارج قدر الإمكان. عندما كنتُ أرغب في أن أعرف من أُختي ما يمكنها حكيه عن زياراتها الكثيرة هناك كانت ترفض؛ فقد تمثَّلت استراتيجيتي في الحكيِّ، وتمثَّلت استراتيجيتها في كبت ما تُعايشه هناك. كانت تقول إنها ستكون سعيدة إذا استطاعت أن تنسى ما تراه هناك بعد خروجها من باب دار المسنين بخمس دقائق، وكلما كان ذلك أسرع، كان أفضل. إنها لا ترى الأمر شائقًا، بل مُبكيًا. وأخبرتني أنها يمكن أن تبتسم وهي تقرأ ما أكتبه، ولكن الموقف نفسه يكون مُرعبًا.

وعندما يقول أخي الأصغر إنه يُفضِّل عدم الذهاب إلى هناك لأنه لا يحتمل ذلك، فإنه فعلًا لا يحتمله. وهو ليس الوحيد الذي يشعر بذلك؛ لذلك كُنا كثيرًا نُحضر أبانا إلى أوبيرفيلد.

كَم هُم مختلفون! هؤلاء البشر! أو لعل أبي كان سيعُبِّر عن ذلك المعنى بقوله: إن الرب لديه ضيوف مختلفون بعضهم عن بعض تمامًا. بالنسبة إليَّ كان الجو في دار المسنين لطيفًا ومُثريًا، والعاملات فيه ودودات وهادئات، كلهُن من المنطقة، ويتحدثن دون كُلفة. مُعظم النُّزلاء مُتمسِّكون بالحياة بطريقة بدائية جدًّا، وإذا كان العالم في الخارج لم يعُد يضعهم في مصاف أقرانهم، فقد كُنتُ أرى أنهم يناسبونني تمامًا.

•••

ولسوء الحظ كان أبي عند زيارتي الأخيرة له في نهاية الصيف في حالة مزاجية سيئة، حتى إن مُمرضةً فلبينية، استقبلتني أمام الدار قائلةً:

«ها قد أتى أرنو لحسن الحظ. إن أوجوست يرغب منذ ساعات في الذهاب إلى البيت.»

دخلتُ إليه واصطحبته إلى الحديقة في الخارج، فأخبرني بأنه حزينٌ لوضعه؛ لأنه لا يُفلح في عمل أي شيء، ولأن كل مساعيه لكي يذهب إلى البيت لم تُفلح تمامًا. طأطأ رأسه وقال بطريقة مُثيرة للشفقة إن الأمر ربما يتعلق بأنه كان في عطلة نهاية الأسبوع مرتين في أوبيرفيلد واليوم السابق على ذلك مع إخوته في بيت والدَيْه. حكت لي العمة ماريانا أن اللقاء كان رائعًا، وأن الجميع سعِد برؤيته، ولم يحتاجوا إلى بذل الجهد ليجدوا مواضيع للحديث، ولا يحتاج باول خصوصًا مَن يطلب منه أن يحكي شيء ما، وكان أوجوست يستمع إليه طوال الوقت بإعجابٍ واهتمامٍ شديدَيْن.

وعند زيارتي لأبي مساءً، ظنني باول، وأخذ يسألني عن بقية الحكايات، وإذا كُنت سأساعده على الذهاب إلى البيت، وكان شارد الذهن جدًّا من شدة الهَم، وذكر عِدة مرات أنه حزين. اجتهدتُ في تهدئته، وأخبرته أن لدينا الوقت، ويمكن أن نجلس قليلًا قبل أن ننطلق إلى البيت. فسألني بدهشة وبشيء من الخجل، إذا كُنا فعلًا بعد ذلك سنذهب إلى البيت. أكَّدتُ له ذلك وقلتُ إننا سننتظر قدوم هيلجا ثم نذهب جميعًا إلى البيت. ربَّتَ أبي على خدي مرتين أو ثلاث بباطن يده ومرة بظاهرها، ثم شكرني؛ لأن ما قلته أسعده جدًّا. كنت قد أحضرت معي صحن توت، وأخذت أعطيه التوت الواحدة تلو الأخرى. بعدها ذهبنا إلى حجرته واستمعنا إلى الموسيقى، وتحدَّثنا من وقت لآخر. لم يواسِه ذلك، ولكنه كان سعيدًا لأن أحد «إخوته» يزوره. بعد قليل شعرتُ أنه هدأ ولم يعُد يُفكر كثيرًا في الذهاب إلى البيت. ولأن وقت نومه اقترب وكان عليَّ أن أحزم حقيبتي، فقد تسلَّلت خارجًا. لم أقدر على وداعه؛ لذا مشيت دون كلمة واحدة، وشعرت ببؤس شديد وأنا ذاهب، حتى إني وددتُ الرجوع إليه وأنا في الرُّدهة وتذكَّرت التعبير القائل: شخصٌ ينتزع نفسه من المكان انتزاعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤