الفصل الثالث

أصبح من النادر أن تجد طفلًا يحمل اسم أوجوست، ولكن أبي قدَّم خدمات جليلة لهذا الاسم على مدار ثمانية عقود ونصف. كان زملاء المدرسة ينادونه اختصارًا جوستل، عدا ذلك فقد كان اسمه يُستخدم كاملًا؛ سواء من جانب والدَيْه أو إخوته أو زوجته أو زملائه في العمل: أوجوست.

وُلد أبي في الرابع من يوليو عام ١٩٢٦، وكان الطفل الثالث من بين عشرة أطفال. كان والداه من صغار المزارعين في فولفورت، وهي إحدى قُرى وادي الراين في منطقة جبال فورآرلبرج، وقد أدَّى قانون المواريث إلى تفتيت الرقعة الزراعية وعدم وجود مزارعين كبار في تلك المنطقة. كان جدَّاي يمتلكان ثلاث بقرات وحديقة فاكهة وحقلًا وجزءًا من الغابة وحقَّ إنتاج ثلاثمائة لتر من مشروب «العَرَق» ومَنحلًا، ولم يكن ذلك كافيًا لإعاشة عائلةٍ لها هذا العدد الكبير من الأطفال. فكان جدِّي أدولف جايجر يكسب عيشه عن طريق عمله في صناعة الكهرباء الناشئة، وكان يمر راكبًا درَّاجته عبر القرى في وادي الراين السفلي؛ ليسجِّل قراءة عدادات الكهرباء في البيوت.

وعندما كان يمر جدِّي بدرَّاجته دون قصد فوق مسمار انفصل عن حدوة حصان فيُحدِث ثقبًا في إطار الدراجة، كان يترك الدراجة أمام البيت حتى يقوم أحد الأولاد بإصلاحها، وغالبًا ما كان أوجوست يقوم بذلك. وكنت أنا في طفولتي أترك الدرَّاجة أمام البيت أيضًا ليقوم أبي بإصلاحها. وكما كان مطلوبًا من أبي أن يُطيع والدَيْه، أصبح مطلوبًا منه بعد ذلك أن يُطيع أولاده. كان أولادُه أبناءَ عالَمٍ مختلف عن عالمه، وكانوا يعتقدون أنهم على درايةٍ بما يجب عمله، وبكيفية عمله بطريقة صحيحة.

يُقال إن جدِّي كانت له قدرةٌ عالية على الحساب، عدا ذلك كانت مواهبُه متوسطةً، ولم يكن رجلًا قوي البنيان. كان يُفضِّل إعطاء الأوامر على القيام بالعمل؛ لأن الجميع في الأسرة كان أكثر مهارة منه، وأصبحوا جميعًا أقوى منه بنيةً، ولم يكن يرغب في إحراج نفسه أمام زوجته وأولاده؛ لذلك لم يكن جدِّي يقول كيف يجب أن يتم عمل شيء ما، بل كان يكتفي بإصدار أمرٍ بعمله، وكان بذلك يتجنَّب أن يسأله أحدهم عن كيفية القيام بالأمر بصورة أفضل.

كانت كل حركات جدِّي تعبِّر عن محاولة فرض السلطة، وكانت يده تمتد بالضرب بسرعة؛ لذا لم تكن مناورات أولاده لتجنُّب أوامره تنجح كثيرًا. وعندما كان العبث الذي يقوله جدِّي يتخطَّى حدود الاحتمال، كانوا يعارضونه (هذا ما قالته لنا ميلي وباول).

كان الأولاد الكبار يعتبرون أباهم عاملَ إزعاجٍ، وكانوا يحاولون تجنُّبه، فكانوا مثلًا يذهبون إلى الكنيسة يوم الأحد قبله أو بعده بثلاث دقائق، ولكنهم لم يكونوا يذهبون معه أبدًا. ولأنه كان على هامش العائلة فقد كان يبذل جهودًا كي يجعل علاقته بالإخوة الأصغر أفضل؛ ولذلك كان يعاملهم بطريقة أعقل، وكان يلعب معهم لعبة «الثعلب والدجاج»، كما كان يأخذهم معه في نُزهات طويلة. وفي تلك الفترة كان قد كَبِر، ولكن صدى صوت صفعاته ظل مسموعًا في حكاياتهم.

في إحدى المرات جعل جدِّي ابنه إميل يحمله على ظهره عبر شفارتساخ، مع أنه كان في الرابعة عشرة من عمره. كان ذلك عام ١٩٣٧، عندما رأى أنَّ خلعَ الحذاء عمليةٌ مرهقة جدًّا بالنسبة إليه.

وكان أيضًا يقرأ كثيرًا، وإن كانت عادة القراءة أو عادة توزيع الصفعات لم تكن أيٌّ منهما من العادات التي ورَّثها لأبنائه؛ فقد كانت صفات الأم هي الأكثر تأثيرًا وانتشارًا بينهم.

كانت جدَّتي أكثر ذكاءً من جدِّي؛ هذا ما حكاه لنا أبي عندما كانت خيوط الذاكرة ما زالت تربطه بتلك الفترة من عمره. كانت الجدَّة طيبة وودودة، وكانت نحيفةً وقوية البنيان، وكانت عضلات ذراعها الأمامية بارزةً ومقسَّمة بوضوح. كان أبوها يعمل حدَّادًا في فولفورت، وقبل أن تذهب للعمل في ورشة تريكو كانت تساعده في العمل في ورشته؛ لأنه لم يكن لها إخوة ذكور، ولأن أباها لاحظ أنها ماهرة في العمل.

ما زالت ورشة الحدادة قائمةً هناك عند حافة الغابة خلف القصر ولها ساقية كبيرة. قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها، كانت عربة النقل تحضر الخامات المطلوبة من دورنبيرن وتضعها عند بداية جادَّة «القصر»، وبعد المدرسة كانت بنات الحدَّاد الخمس يحملن القضبان الحديدية الطويلة ويصعدن بها الشارع المرتفع وصولًا إلى الورشة.

كانت الجدَّة سيدةً هادئة وخجولة تتحاشى الظهور، وكانت ترى أن الحياة لا تعدو أن تكون مرحلة استعداد للآخرة. وأولادها لا يتحدثون عنها إلا بكل احترام وتقدير، وربما كان هذا هو السبب في قلة حكاياتهم عنها. كانت تشعر كثيرًا أنها أشبه ما تكون بخادمة رخيصة الأجر، وكان الناس في القرية يقولون إن تريزيا جايجر واحدة من أكثر ثلاث نساء عملًا في القرية، وأنها كانت قويةً وتقدر على المكوث في ورشة الحدادة تطرق الحديد حتى يتوهَّج. والعمل في الزراعة ووجود أطفال صغار يحتاجون دائمًا إلى اللفافات القماشية النظيفة، كانا يجعلانها كل مساء مُتعبةً ومبتلَّةَ الثياب بسبب نفض اللفافات المغسولة لتجفيفها. وأحيانًا كانت تستلقي في أثناء النهار على الأريكة، وكانت تطلب من أحد الأطفال أن يوقظها بعد خمس دقائق، ولكن الأطفال كانوا يتركون أمهم تنام.

وعندما كانوا يذهبون لقطف الفاكهة كانت تقول دائمًا قبل بدء العمل:

«اللهم بارك في عملنا.»

ما زالت عمتي إيرينه — الأخت الصغرى لأبي — تردِّد ذلك أيضًا كلما ذهبت إلى الحقل. كان في الحقل بجوار جدَّتي على مدار ما يناهز العقدَيْن من الزمان بصورة شبه دائمة قفصُ فاكهةٍ فيه طفل صغير. تعلَّم الأطفال المشي في داخل أقفاص الفاكهة. وكان الحرفان الأوَّلان من اسم جدِّي يتم حفرهما على أقفاص الفاكهة «ألف وجيم»، وكان حماه هو من يصنع له الخاتم المعدني الخاص بذلك؛ فقد كان حدَّادًا. كذلك كانت طباعة أول حرفين من اسمه بالحرق على خشب الأقفاص أمرًا مميزًا لمنتجاته. وكان يبيع تلك الفاكهة وصولًا إلى المجر وباريس، ومع ذلك بقي فقيرًا، وظل هناك يسكن فوق التل عند القصر، حيث يمكن رؤية ما بداخل منطقة أبينزل، ويمكن رؤية ما وراء بحر الجنوب وصولًا إلى لينداو، وإذا كان الجو معتدلًا يمكن أن ترى حتى ميناء فريدريش.

دأبتْ تريزيا جايجر على أن تقول لأبنائها:

«لا تتأخروا في العودة إلى البيت، وإذا تأخَّرتم فادخلوا دون إحداث جلبة؛ حتى لا أستيقظ.»

كان مسار اليوم ثابتًا، ونادرًا ما كان يخرج عن المألوف. كانت جدَّتي تحاول إيقاظ أطفالها في الصباح عدة مرات حتى يفيقوا، وكثيرًا ما كانوا يُضطرون إلى الذهاب إلى المدرسة عَدْوًا حتى لا يتأخروا. وكانت الأحذية رديئة؛ فقد كان الثلج يظل عالقًا بالنعل الخشبي للأحذية في الشتاء؛ لذا كان يجب ضربه في الأرض المرَّة بعد المرَّة للتخلص من الثلج العالق. كانت الأحذية الخشبية تعجن الثلج الذي كان يظل متراكمًا منذ بداية عيد القديس نيكولاوس وصولًا إلى الربيع.

كان الأطفال يتناولون على الإفطار عصيدة الذرة التي يبللونها في اللبن الدافئ الذي يقدَّم لهم في صحون الحساء. جدِّي وجدَّتي وحدهما كانا يتناولان القهوة، وجدِّي فقط كان يحصل على بعض العسل، عدا أيام الأحد حيث كان الجميع يحصل على قدرٍ من العسل. وبعد الفراغ من الطعام كانوا يُصلُّون من أجل الفقراء والتعساء.

لم يتلقَّ الأطفال تربيةً قاسيةً، بل كان يتم ترويضهم بصورة حازمة، حسب ما كانوا يقولون، حتى عندما كانوا يتحدثون عن الأبقار لم يكونوا يقولون إنهم يربُّونها ولكن يروضونها، وكانت مهمة الأطفال رعاية الأبقار، ومهمة الوالدَيْن رعاية الأطفال.

قياسًا على المتعارف عليه اليوم، كان الأطفال يعانون سوء التغذية؛ فقد كانوا لا يحصلون تقريبًا على أي خضراوات، ويتناولون قليلًا من اللحم وكثيرًا من اللبن والخبز وشحم الخنزير. كان الجميع ينتظر بشغفٍ بشائرَ ثمار الفاكهة كل عام؛ حيث كان أحد الأطفال يستيقظ أحيانًا في الخامسة صباحًا ويخرج مُتسلِّلًا لينظر إذا كانت أولى ثمار الكُمثرى قد سقطت بالفعل أم لا. كان الأطفال يبنون أعشاشًا يخبِّئون فيها ما حصلوا عليه؛ كيلا يضطروا إلى تقاسُمِه مع بقية الإخوة.

إلا أن الحرمان الذي كان يعانيه هؤلاء الأطفال كان أقل كثيرًا مقارنةً بالأوضاع السائدة آنذاك. الأمر الأكثر تأثيرًا كان معاناة الأطفال من قلة إحساسهم بحب والدَيْهم واهتمامهما؛ فنظرًا إلى كثرة عدد الأطفال كان الطلب يفوق المعروض كثيرًا. كان كلُّ شيءٍ يتم تقسيمه عدة مرات.

وبمجرد أن يصبح الطفل قادرًا على الإمساك بإحدى العُدد، كان عليه أن يُساعد في العمل. وكان الصغار يعتنون بمن هم أصغر. أما بالنسبة إلى الحصان الذي استعاروه من الجيران، فقد كان من الواجبات الضرورية أيضًا ضبط فرامل العربة التي يجرُّها حتى لا تنزلق. كذلك كان يتم إرسال الأطفال إلى الحقل لجمع الحشائش للخنزير الذي كان لديهم في الحظيرة. وذات مرة وجدوا يوزيف — الأخ الأوسط من بين سبعة إخوة — فاقدًا الوعي على إثر سقوطه من فوق شجرة. كذلك كان الأطفال يجمعون من بين الحشائش المحصودة الحشائشَ التي لا تأكلها الأبقار، وكانوا يدفعون عربة اليد وعليها التفاح إلى السوق في بريجينتس، وكانت الجدة تَلحق بهم على الدرَّاجة. وفي طريق الرجوع كان أبي وأخوه باول الذي يصغره بعام يتبادلان دفع العربة والركوب فيها وتوجيه الحصان، وكانت أحذيتهما المصنوعة من خشب مثبَّت بالمسامير تطقطق فوق بلاط الأرضية. وكانت الشوارع في ذلك الوقت ما زالت مِلكًا للأطفال.

والتعبير المستخدم بأنه يتم «انتزاع شخص ما رغم إرادته لأداء عمل» كان ينطبق عليهم حرفيًّا. كان الأولاد يجُرُّون عربة القش ويحصدون سخرية أخواتهن اللاتي كن يقلن:

«استخدام الحمير يُغني عن استخدام الخيول!»

كان هناك عملٌ للأولاد وعملٌ للبنات؛ فالأولاد كان عليهم العمل في الحظيرة، أما الفتيات فكن يستيقظن في الخامسة فجرًا ليذهبن إلى الحقل.

ذات مرة ضربت عاصفةٌ حقلَ الذرة فأتت عليه تمامًا، واضطر الأطفال للعمل على مدار يوم كامل ليربطوا عيدان الذرة بالحبال في العصي لتقف مستقيمة مرة أخرى. وكانت الأسرة تعتمد بصورة أساسية على الذرة لصنع طعامها اليومي من عصيدة الذرة.

كان هناك اكتفاءٌ ذاتي كامل، باستثناء الخبز والدقيق والسكر والملح. لم تكن العائلة تشتري إلا الضروري جدًّا، حتى إن ورق الحمام كان يتم صنعه من ورق الجرائد التي كانت تُقَص إلى شرائح في حجم اليد، وكان هذا أيضًا من واجبات الأطفال؛ حيث كان يجلس أحدهم إلى المنضدة في غرفة المعيشة ويقطع الورق.

كذلك كان الورق يُستخدم في التدفئة أيضًا، ولم تكن هناك قمامة؛ فقد كان لديهم كومة سماد وخنزير وفرن.

كان أبي يتمنى طوال حياته أن يكون مستقلًّا، وهذا يرجع لطابع الفلاح المترسِّخ بداخله، وبينما رأى هو في ذلك نفعًا له، كان ذلك الطابع يثير استياء زوجته وأولاده الذين نشَئُوا في عالمٍ من المفاهيم المختلفة مثل الاستهلاك والتخلص من القديم. وتُعد القدرة على إصلاح الأشياء واستعمالها مجددًا، والقناعة التي ورثها من والدَيْه بتأجيل بعض الاحتياجات أو حتى إلغائها تمامًا، من الأمور الآخذة في الانقراض في هذا البلد.

كان في قبو البيت الكبير في وادي الراين وعاءُ إعدادِ العَرَق، وكنت في طفولتي كثيرًا ما أجلس على دلو مقلوب أو قطعة خشب أراقب العَرَق أثناء تصنيعه. كنتُ أحب صوت النار وهي تتأجَّج في الفرن، وصوت الكحول وهو يسقط في الزجاجات الكبيرة الحجم، ورائحة العرق العطرية في الحجرة المرتفعة الحرارة، ورائحة العمل التي تفوح من الرجال. وفي الخارج كنت أشاهد بقايا الثمار المعصورة وهي تبرد في حفرة في الأرض وينبعث منها بخارٌ يغطي الفروع اليابسة لأشجار الكمثرى التي عرَّاها الشتاء.

أما بالنسبة إلى أبي وإخوته، فقد كان صنع العَرَق يعني لهم وجود مياه ساخنة، والتي كان يتم نقلها مباشرة إلى حوضٍ في الورشة المجاورة حيث توجد خلف السياج حظيرةُ الدجاج. كان المشهد يشبه أفلام رُعاة البقر: رائحة العرق وصوت الدجاج وأولاد الفلاحين الذين يغتسلون عرايا في الماء الساخن. وكان هذا المشهد يتكرَّر عشر مرات في العام تقريبًا، أما باقي السنة فقد كان الأطفال يغتسلون في المطبخ عند الحوض الوحيد في البيت، وبماء بارد.

وبقي أبي متعلقًا بأسلوب حياته البطيء الذي عهده منذ كان طفلًا؛ فقد ظل يغتسل في أغلب الأحيان عند حوض الغسيل، منحنيًا بشدة على الحوض مُصدِرًا أصواتَ تأوُّه عالية وهو يضرب وجهه بالماء، حتى إن الماء كان يندفع لأمتار بعيدة. ثم كان يُدخل خرقة التنظيف بالإصبع السبابة في أذنه بعمق ويهزُّه بقوة، لدرجة أن مجرد مشاهدته يفعل ذلك كانت مؤلمة.

هذه هي الغنيمة الهزيلة التي خلَّفها لي ما نُقل إليَّ عن طريق المصادفة من حياته، وكأنها قليلٌ من أعواد القش التي خلَّفتها الريح في حقل بعد حصاده.

وفي عام ١٩٣٨ بدأ الحكم النازي، وكانت العائلة تُعَدُّ من المسيحيين الاجتماعيين في القرية. لم يفهم جدَّاي انتماءهما إلى الكاثوليكية على أنه يقتصر على الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد وحسب. كذلك لم يكن للعائلة أي مصالح اقتصادية خاصة يمكن للنظام السياسي الجديد أن يستفيد منها. يرجع الفضل في أن العائلة كانت مؤمَّنة ضد الأزمات بدرجة كبيرة لعملها بالزراعة، ولوظيفة جدِّي في صناعة الكهرباء التي كانت تشهد ازدهارًا متناميًا.

كانت جدَّتي تقول: «إن الشيطان هو من يقوم بحشو الأسلحة بالطلقات.» أما جدي، الذي كان شديد العناد، فقد عاد إلى استخدام صيغة «سيادتك» الرسمية في كلامه مع أخي زوجته الذي كان ينتمي للحزب النازي.

لم تكن العائلة تنشغل بالحديث عن السياسة كثيرًا؛ فعند تناول الطعام كانت الأفواه تنشغل بالطعام، وبعده لم يكن هناك وقت للجلوس والحديث. كان كل شيء يحدث بسرعة؛ تناوُل الطعام ثم النزول سريعًا للعودة إلى العمل. وبعد ذلك تم استدعاء إميل الأخ الأكبر للالتحاق بمنظمة «شباب هتلر»، ولكنه رفض بحجة أنه عضو في الصليب الأحمر. وعندما تم تهديده بالفصل من المدرسة إذا لم يرجع عن ذلك، قرَّر جدِّي الدخول في مواجهة معهم، وكانت النتيجة السماح لإميل بالبقاء في المدرسة الثانوية المنخفضة المصروفات، ولكن أُلغيت معونة الأطفال الثمانية التي كانت تتلقَّاها الأسرة في ذلك الوقت. ولم تواجه الأسرة مزيدًا من المشاكل، على خلاف جيراننا المباشرين الذين تم التشهير بهم عن طريق لوحة عُلِّقت على بيتهم تقول: هذه العائلة ضد الشعب الألماني.

ويتذكر باول حتى اليوم أن كلمة عائلة (بالألمانية Familie) التي تبدأ بحرف F كبير كانت مكتوبة بحرف f صغير. كان عمره وقتها أحد عشر أو اثني عشر عامًا، وكان يقف أمام تلك اللوحة متعجِّبًا من هذا الخطأ في كتابة أول حروفها، غير مدركٍ أنه مقصود. كان يسكن البيت المجاور زوجان حديثا الزواج، حصل أبي في خريف عام ٢٠٠٩ على نفس الغرفة في دار المسنين التي كانت تقيم فيها الزوجة قبل وفاتها عن عمر يناهز الرابعة والتسعين. وهكذا تترابط قصص حياة سكان قريتنا.

كان أبي وإخوته الذين كانوا في سِنِّ المدرسة قبل بداية الحرب تلاميذَ في المدارس الإلزامية والثانوية العليا. وما أتاح لهم إمكانية الذهاب إلى المدرسة كان احترام والديهم للتعليم واعتباره بديلًا لعملية الزراعة البسيطة التي كان على الأكثر واحدٌ فقط من الأولاد يعيش عليها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرحتهم بمواهب أبنائهم. فضلًا عن ذلك كان من المعروف أن تلاميذ المدارس يعملون في البيت أفضل ممن يتعلمون الحِرف. لم يكن هناك ما يتعارض مع فكرة المدرسة، اللهم إلا في حالة روبيرت، ثالث أصغر الإخوة؛ فقد ترك دراسته الثانوية لأنه كان يخشى من أن والدَيْه يخططان لجعله راهبًا.

•••

في فبراير ١٩٤٤، استُدعي أبي للخدمة العسكرية، وكان ابن تسعة عشر عامًا وتلميذًا في مرحلة الثانوية العليا، ومن ذوي أصول ريفية، وليست لديه معرفة كبيرة بالعالم ولا خبرة واسعة في الحياة. كان قد غادر مرحلة الطفولة ولم يصل إلى مرحلة النضج بعد، ليس بالعسكري ولا بالمدني، أو كما كان أندري بيلي يسمِّي مَن هم على حاله: التلاميذ الجنود.

تم نقله من «خدمة العمل الإلزامي» إلى «خدمة السلاح» في منتصف عام ١٩٤٤؛ تقريبًا مثل ما حدث مع إميل الذي يكبره بثلاثة أعوام وباول الذي يصغره بعام. أما مَن بقي في البيت فأصبح الآن يتابع التطورات السياسية باهتمام؛ خوفًا على الإخوة والأبناء الذين يشاركون في الحرب، وعندما كانت تمرُّ الأسابيع دون سماع أخبارٍ من الأولاد، كان القلق والتساؤلات يتزايدان.

كان حظُّ إميل جيدًا؛ فقد أَسَره الأمريكيون في أفريقيا سريعًا، حيث أمضى بقية الحرب في الأسر الأمريكي، وعمل حتى نهاية الحرب مترجِمًا في مونتانا، وبعد فترة أرسل رسالةً إلى أسرته فعرفوا أنه في مكان آمن. أما باول فقد أسره النيوزيلنديون عام ١٩٤٥ في إيطاليا، وكان يكسب نقودًا إضافية من خلال أعمال يدوية يقوم بها عن طريق إبر حياكة صنعها من قطع من الأسلاك الشائكة. كذلك كان يصنع من أكمام البلوفرات المخلوعة قبعات لزملاء المعتقل الذين كانوا يعانون من حرارة الشمس أو الذين يريدون تحسين مظهرهم. وظل يرتدي قبعته حتى بعد انتهاء الحرب بفترة طويلة.

ولأن باول كان قد بلغ بالكاد عامه السابع عشر، فقد عاد في صيف ١٩٤٥ إلى البيت. لم يُبلِغ بعودته إلى البيت أحدًا قبلها، بل عاد دون أن يعلم بذلك أحدٌ. دخل أولًا إلى الحظيرة حيث البقرات الثلاث، ثم إلى مكان صنع العَرَق حيث يقوم بذلك ابن عمه رودولف، الذي سبقه على السلم الخلفي إلى المطبخ، وهناك كانت تعمل الجدَّة التي كانت وقتها قد أنجبت طفلها العاشر قبل أيام، والذي كان غلامًا، ولكنه مات بعد ولادته بساعات قليلة؛ لأن الحبل السري كان مُلتفًّا حول عنقه.

دخل رودولف وقال:

«يا تيريزا، يوجد هنا جُنديٌّ يبحث عن مأوًى.»

تردَّدت الأم لحظاتٍ بالرغم من أن البيت كانت به أماكن خالية لغياب ثلاثة من الأبناء. ثم دخل باول من ظل الباب إلى المطبخ والدموع تنهمر على خدَّيْه.

كما بدا الأمر جيدًا بالنسبة إلى أبي في البداية أيضًا؛ فقد أصيب بإصابة قوية في ساعده الأيمن في أثناء فترة التدريب؛ لذلك حصل على إجازتين لتلقِّي العلاج. وفي كل مرة عندما كان الجرح يبدأ في الالتئام كان يعرض أن يذهب إلى البيت لإحضار مشروب العَرَق لأعضاء السَّرِيَّة استعدادًا لاحتفالات عيد الميلاد، طمعًا في أن يقضي أسبوعَي العيد في فولفورت، إلا أنه أُرسل إلى الجبهة الشرقية في شهر فبراير ١٩٤٥. كان عمره حينئذ ثمانية عشر عامًا، وأصبح يعمل سائقًا دون حصوله على رخصة قيادة، حتى تسبَّب في حادث جسيم في منطقة شليزين العليا عندما فشل سائق عربة تجرُّها أحصنة في تفاديه وهما يمران على جسر متجمد فوق أحد السدود، وكانت آلة التنبيه متعطلة، والفرامل غير مجدية بسبب الجليد، فاضطر إلى توجيه السيارة نحو منحدر السد؛ مما أدَّى إلى انقلابها عدة مرات. وعندما هدَّده رؤساؤه بأن ما حدث سيكون له تبعات، وأنه سيُعرض على محكمة عسكرية بتهمة التخريب المتعمد، ردَّ على ذلك بالإشارة إلى عدم حصوله على رخصة قيادة وأنه كان من المفروض ألا يقوم بالقيادة أساسًا.

وعندما اتضح أن كل شيء قد بدأ في الانهيار انفصل عن وحدته، وحاول مع زملاء آخرين من النمسا الوصول إلى الأمريكيين. وربما دفعتهم العجلة بسبب الحنين إلى الوطن إلى سلوك الطريق الأقصر؛ فبدلًا من أن يسيروا في اتجاه الغرب اتخذوا طريق الجنوب عبر بومين الذي كان أقصر طريق إلى البيت، وإلى الروس أيضًا. وبالفعل عندما وصلوا إلى كامبتال في الأراضي النمساوية تبدَّد حلم العودة السريعة إلى البيت.

عندما كان أبي يدَّعي بعد ذلك أنه رأى العالم في أثناء الحرب، فإنه لم يكُن يعني الحرب، ولكن يعني ما بعدها. تم تكليفه في الأَسْر بالقيام بإنزال غنائم الحرب ونقلها، حتى وجد ذات يوم عَظْمةً فاسدة في الحساء وأكلها من شدة الجوع، فأصيب في اليوم التالي بالحُمَّى، وفقد وزنه بسرعة حتى وصل إلى أربعين كيلوجرامًا. وأمضى الأسابيع الأربعة التالية في مستشفى ميداني مؤقت على حدود مدينة براتيسلافا في ظروف لم أعرف عنها شيئًا إلا قبل عدة أشهر. لم يكن والدي يحكي عن تلك الأسابيع الأربعة؛ حيث كانت حكاياته تبدأ دائمًا من اليوم الذي أطلق الروس فيه سراحه «لأنه لم يعد لي أي قيمة.»

وبعد ذلك قام رجال الصليب الأحمر بنقله مع آخرين إلى مارش على الحدود السلوفاكية النمساوية بالقرب من هاينبورج.

وبعدها ودَّعهم رجال الصليب الأحمر قائلين: «وداعًا أيها النمساويون!» وحتى يومنا هذا يردِّد أبي تلك الكلمات عندما يكون مستغرقًا في التفكير.

أما العودة إلى فورآرلبرج، فقد استغرقت ثلاثة أسابيع أخرى، وكان الأمر يشبه قطع سباق حواجز شاق، ولم يكن بحوزة أبي لا المال ولا الأوراق اللازمة للعبور من المنطقة السوفييتية إلى المنطقة الأمريكية. كما لم يرغب في عمل صورة للحصول على تحقيق شخصية؛ لأن استخراج الصور كان سيحتاج إلى أربعة عشر يومًا أخرى. ولكن الحنين إلى الوطن استبدَّ به، حتى إنه كان ينتظر فرصة العبور بصورة غير شرعية.

ورفض كل الأسِرَّة التي عُرضت عليه لينام عليها؛ لأنه كان يعلم أن بها قَمْلًا؛ لذا كان يُفضل أن ينام في الحظيرة التابعة لأحد الأنزال أو في وسط كومة قش لدى بعض الفلاحين.

وبعد ستة أيام من الانتظار في أورفار ساعده بعض سكان فورآرلبرج في الاختباء تحت سرير سيارة من سيارات الصليب الأحمر، واستطاع بذلك أن يعبر نهر الدانوب إلى لينتس، وهناك خلَّصه الأمريكيون من القَمْل.

وهناك أيضًا رضي بالتصوير؛ لأن لينتس توافرت بها إمكانية الحصول على صور سريعة، وظل يحمل تلك الصورة في حافظة نقوده قرابة ستة عقود حتى فقدها قبل أعوام.

وبعد إينسبروك طَلب في القطار من أول شخص رآه من سكان فولفورت قطعةَ خبز، وعندما وصل إلى لاوتراخ حيث نزل من القطار، قابل أحد أبناء عمومته الذي لم يتعرَّف عليه في البداية لتغيُّر شكله بسبب فقدان الوزن الشديد وقَصَّة الشعر القصير، واصطحبه ابن العم إلى البيت.

يمكنني أن أتصوَّر شعور أبي عندما عاد بعد غياب طويل، حتى أنا يتملَّكني شعورٌ بالسعادة عندما أعود من فيينا وأبدأ بعد نفق آرلبرج في قراءة أسماء المحطات وكأنها جزءٌ من قصيدةٍ: لانجين، فالد، دالاس، براتس، بينجس، بلودنتس.

عاد أبي إلى البيت في الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وتحديدًا في التاسع منه. كان الضوء قد عاد للاصفرار، وأُحضرت كومة القش الثالثة من الحقل قبل البدء في جمع الكمثرى والتفاح. وفي شهر أكتوبر عاد إلى مكانه في المدرسة من جديد في إحدى الدورات التدريبية التي تُقدِّمها الأكاديمية التجارية لتلاميذ المدرسة الثانوية، وكأنَّ شيئًا لم يكن.

أم أن شيئًا قد حدث بالفعل؟!

لم يُدرك أحدٌ في ذلك الوقت أن هذا الشاب ابن التسعة عشر ربيعًا لن ينفتح على العالم مرة أخرى؛ لقد انتهى هذا الأمر بالنسبة إليه تمامًا. لعله أقسم وهو في المعتقل أنه إن قُدِّر له العودة إلى البيت مُجددًا فسيُمضي ما بقي له من عمر فيه. كم كان طريق العودة طويلًا وبطيئًا! وتغيرت تمامًا خطته لدراسة تقنيات الكهرباء؛ فالحقائق تُغيِّر المشاعر.

ما زلت أذكر وأنا طفل كيف كان موضوع العُطلة يتسبَّب — كلما ذُكِر — في مشاكل كثيرة، عندما كان أبي يقول للمرة المائة إن جمال فولفورت يكفيه. كان مثل هذه الجُمل يبدو مجرَّد حُججٍ واضحة يُداري بها كسله، وربما كانت أحيانًا فعلًا مجردَ مبررات … ولكن في بعض الأحيان فقط، بعد فترة طويلة بدأتُ أتفهَّم أن السبب في رفض أبي السفر كان خوفًا مرضيًّا، وأن المخاوف التي تسكن قلبه لم تنتهِ، وأنها كانت السبب في جعل تصرفاته تبدو للعائلة على ما كانت عليه؛ فقد كانت كل تلك الاحتياطات الغريبة التي كان يتخذها مجرد وسائل تساعده على ألا يتعرَّض لخطر ثانيةً. فلم يُرِد المخاطرة بأن يقع فريسةً للغربة مرة أخرى.

وكانت سخرية القدر أن يشعر بعد أعوام قليلة بالغربة الدائمة، حتى إنه كان يتمنَّى كل يوم أن يعود إلى البيت، فقط لأنه نسي أنه في البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤