الفصل الخامس

اشتد المرض ببطء شديد، ولكن البطء لم يمنعه من التفاقم. لم يَعُد والدي قادرًا على تخطِّي اليوم دون تعريض نفسه للخطر، ولولا مساعدة الآخرين لهلك.

كانت زوجته وأولاده قد تركوا البيت الواقع في شارع أوبيرفيلد، وأصبحنا نطلب له طعامًا جاهزًا. ثم تَطلَّب فقدانه مزيدًا من القدرات أن نستأجر من يرعاه بضع ساعات يوميًّا؛ لذا كان يحضر في الصباح من يعينه على قضاء اليوم، وفي المساء مَن يرافقه حتى الخلود إلى النوم. وكان حبُّه للنوم ولفترات طويلة نعمةً كبيرةً؛ إذ كان يستمتع سواء بالنوم العميق لاثنتي عشرة ساعة أو بالبقاء في السرير؛ لأنه كان يحب الدفء. هذا الذي كان يومًا فلَّاحًا وكان الماء يتكثَّف على جدران غرفته من شدة البرودة عندما كان طفلًا. عندما كانت تدخل السيدات الآتيات من خدمة الرعاية المنزلية، أو كانت تدخل أورزولا زوجة بيتر إلى غرفة نومه قرابة التاسعة صباحًا، عادة ما كان لا يزال ملتحفًا غطاءه، رغم خلوده للنوم الليلة السابقة في التاسعة مساءً. وكان يتبرَّم دائمًا معترضًا؛ لأنه لا يقبل أن تعطيه سيدات صغيرات ذوات أصوات ناعمة أي تعليمات …

وفي النهار كان أبي يقف تقريبًا طوال الوقت في حديقة بيتر وأورزولا ينتظر أحدًا يؤنسه، مثل حفيدته، كلما أمكن ذلك. ولكن على المدى الطويل لم يكن ذلك حلًّا؛ لأن أبي لم يكن لديه إحساس بعدد مرات زيارته لهم أو طول مدتها؛ لذلك بحثنا عمَّن يرافقه لبضع ساعات في فترة ما بعد الظهيرة. كنا نطمئن لوجوده مع جارتنا ليليانا التي كانت تلعب معه الورق أو تخرج للتنزُّه معه أو تأخذه معها في الرحلات. كذلك كان يقضي يومًا أو يومين أسبوعيًّا في إحدى دور المُسنين، وعادةً ما كانت أورزولا تصطحبه إلى هناك. كان ذلك وقتًا طيبًا بالنسبة إليه، وحلًّا مُرضيًا للجميع.

أما هيلجا فكانت ترعاه في عطلة نهاية الأسبوع، في حين كان يقوم فيرنر بالاعتناء بالبيت والحديقة. وأمي وأنا كنا نأتي من فيينا لأيام أو لأسابيع، وكنا عندها نبيت في المنزل ونعتني بكل شيء، مما يتيح للآخرين فرصةً للاستراحة. وتعامَل كلٌّ منا على طريقته مع الوضع الجديد دون تردُّد، فكل واحد فعل ما في وسعه وقدرته، ويعلم الرب كم كنا مشغولين بأمور أخرى، وكم تمنَّينا لو كانت حياتنا أسهل من ذلك؛ فرغم توزيع العمل كان الوضع منذ بدايته مرهقًا جدًّا، غير أن ما حدث عزَّز إحساس الانتماء والتماسك داخل الأسرة. أوقف مرضُ أبينا انهيارَ الأسرة؛ فقد عدنا نحن الإخوة مرة أخرى لنجلس في القارب نفسه، ولكن بطبيعة الحال كلٌّ في ناحية.

ويرجع نجاحي في عملي كاتبًا إلى تلك الفترة، وقد جاء النجاح مفاجئًا وكأنه سقط عليَّ من مدخنة المدفأة. كنت حتى ذلك الوقت كاتبًا يجد من يمتدحه ولا يجد من يقرؤه، واليوم أصبحت أتمتع باهتمام واسع وتأتيني دعوات لزيارة كافة أرجاء العالم، وهذا له جوانب إيجابية وأخرى سلبية لما يتطلبه من وقت لم يكن مطلوبًا لهذا الجانب من حياتي قبل ذلك. لم أكن أتصور أن النجاح يسرق منا الوقت بهذه الطريقة، ورأيت أن هذا هو أسوأ توقيت للهروب من مسئوليتي. لعل أبي في مثل هذا الموقف كان سيقول: عليكَ أن تُرتِّب القش عندما يكون الطقس جيدًا. ولكن هذه الأمور لم يعد يدركها الآن. النجاح أو الفشل، من يكترث؟

عندما قلت لأبي بعد انتهائي من الدراسة إني أريد أن أصبح كاتبًا، نظر إليَّ وابتسم بسخرية وقال:

«لو وضعت إصبعي في أنفي لكتبتُ شعرًا.»

أذكر جيدًا المكان الذي كنا نقف فيه عندما قال لي ذلك؛ كنا في ورشة أبي أمام رفِّ الألوان والدهانات. كان أبي يمتلك قدرةً على قول مثل هذه الأشياء بطريقة لا تجعلني أغضب فعلًا منه، وغمز بعينه وقال لي إنه يجب عليَّ أن أفعل ما أريد، وإنه يبارك ذلك — ولكنه شخصيًّا لا يعتبر هذا عملًا حقيقيًّا.

قضيت خريف عام ٢٠٠٦ في رحلات متصلة للقراءة من أعمالي الأدبية. وكلما أمكن كنت أترك صديقتي لأقضي عطلة نهاية الأسبوع في فولفورت. كان الأمر مرهقًا؛ فقد كنت أشعر كثيرًا بالحيرة بين علاقة الحب والأسرة والعمل، وأحيانًا كنت أرى في هذا الجانب عبئًا عليَّ، وأحيانًا كنت أرى أن الجانب الآخر هو الذي يُثقل كاهلي؛ فلم أكن معتادًا على حياة الترحال مثل البدو، كما لم أمتلك قدرةً جيدة على إدارة الوقت، فضلًا عن أن تحمل المسئولية لم يكن من نقاط قوتي. كنت أرى في نفسي دائمًا شخصًا مُنطلقًا في الحياة ولا يهدأ أبدًا. وماذا عليَّ أن أفعل؟! في كل مرة نضع حياتنا في قالب، تأبى الحياة إلا أن تكسر ذلك القالب.

وأخيرًا مع بدايات عام ٢٠٠٦ كنت قد أنهيت معظم ارتباطاتي المهنية. قمت بتفكيك درَّاجتي ووضعتها مع حقيبة أمتعتي في سيارة أمي، وتوجَّهت إلى فولفورت مرورًا بميونخ، حيث وصلت بعد قرابة الست ساعات وأنا أُعاني بعض الصداع. كان ذلك قبل يوم من عيد ميلاد أبي الثمانين.

ارتديتُ ملابسَ عملٍ دلَّت رائحتها على أنها كانت مُخزَّنة لفترة طويلة في شقة مهجورة، وقفزتُ من النافذة إلى خارج البيت حيث حصدتُ عند التل أسفل البيت ثمارَ التوت البري وتوت العليق. وجمعتُ ثمار الكرز، ثم قمت أخيرًا بتهيئة المكان لإقامتي، وعندما قابلتُ أبي في أول المساء قال لي:

«ها أنت ذا أتيت لترى ما إذا كنتُ لا أزال حيًّا.»

كان ما زال يبدو رجلًا قويًّا شديد التماسك، بحيث لو قابله أحدٌ في الطريق لما خطر بباله أن هذا الرجل مريضٌ. كان يُطالع الجميع بابتسامة مشرقة، ويراوغ في أي حوار بدعابات تجعل الآخرين يظنون أنه ما زال يعرفهم، وأنه ما زال نفس الشخص الظريف الذي عرفوه دائمًا. ولكن عندما كان الحديث يتطرَّق إلى أمر يتطلَّب إدراك السياق ورؤية العلاقات كانت جوانب ضعفه تتضح.

وكان يفرد منديله على السور أمام البيت ويجلس عليه يراقب الشارع في سلام، وينتظر طويلًا حدوث شيء. ولكن، ماذا؟ في الحقيقة كانت طلباته متواضعة؛ فإذا مرَّت سيارة يُلوِّح بيده، وإذا مرَّت سيدة على درَّاجتها يحييها قائلًا:

«أهلًا بالسيدة الجميلة.»

ولم يكن ذلك مثيرًا للريبة.

ذات مرة وصلت أمي بصحبة أبي إلى كنيسة القرية، وبعد أن قرعتِ الأجراس اكتشفتْ أن أبي قد ملأ الجيب الأيسر لبنطاله بقطعٍ من الخبز المحمَّص، فقالت له إن هذا التصرف ليس حكيمًا؛ لأن جيبه سيمتلئ بالفُتات، لكنه ردَّ قائلًا:

«أحتاجها للحلاقة.»

«أوجوست، لا يمكن أن تستخدمها في الحلاقة!»

فكَّر قليلًا ثم قال:

«سأدفنها بعد ذلك في أرض الحديقة، وستنمو وتصبح شيئًا جميلًا.»

مثل تلك الردود كانت مريبة بالفعل.

قام أبي بعد ذلك وأخذ منديله بكل جدِّيَّة واعتزاز وطواه، ثم ذهب إلى الشرفة الخارجية الموجودة خلف البيت. تبعتُه، ووقفنا صامتَيْن ننظر إلى بُحيرة بودينزيه جهة الغرب حيث كانت الشمس آخذةً في الغروب ببطء، وكأن اليوم يأبى أن ينتهي. سُحبٌ خفيفة مرَّت فوق كنيسة جيبهارد أعلى الجبل وحولها كانت السماء زرقاء، وسمعنا حفيف أوراق شجرة البتول وضوضاء طريق الراين «إيه ١٤» تأتي من بعيد.

وكانت حديقة الفاكهة خلف بيت جدي، التي كنا ننظر إليها أسفل منا، تعُجُّ بالخضرة النضرة، وهناك كانت أشجار الفاكهة والمنحل تقف دون تغيُّرٍ منذ طفولتي وطفولته.

قلت له: «غدًا ستُتم عامك الثمانين.»

فسألني: «أنا؟»

«نعم، أنت يا أبي، ستبلغ الثمانين.»

رد عليَّ وهو يضحك غاضبًا: «أنت بالتأكيد لا تعنيني أنا، لكن ربما أنت.»

«أنا سأبلغ الثامنة والثلاثين يا أبي، أما أنت فستبلغ الثمانين غدًا.»

كرَّر بمرح: «بالتأكيد لست أنا، لكن ربما أنت.»

وظللنا برهة هكذا حتى سألتُهُ كيف يشعر وهو في الثمانين من عمره، فقال لي:

«لا يمكن أن أدَّعي أنه إحساس خاص.»

وبعد ساعتين جمعتُ مجددًا بعض التوت، ثم اصطحبتُ أبي إلى فراشه واستسلمت أيضًا للتعب، وسقطتُ في فراشي وأنا شبه فاقد للوعي من إرهاق الأيام الماضية ومن طول فترة قيادة السيارة.

في الصباح الباكر هنَّأتُ أبي على عيد ميلاده، وتقبَّل التهنئة بارتياح وشكرني. عندما جلس على حافة السرير في ملابسه الداخلية قلت له إن أباه لم يبلغ هذه السن، فنظر إليَّ مندهشًا ثم ابتسم ابتسامةً عابرة لم أفهم معناها. قلت له إننا نرغب في الاحتفال بعيد ميلاده في الأبرشية، فسألني: في أيها؟

فأجبته: «في أبرشِيَّة فولفورت.»

فقال لي:

«كنتُ دائمًا أحب الحياة في فولفورت وأتفاهم مع كلِّ مَن أعرفهم هنا.»

•••

كان يوم ثلاثاء، ومرَّ علينا اليوم في هدوء، أما الاحتفال فقد تم تحديد يوم الجمعة موعدًا له. أذكر أن أمي أعدَّت كعكة عيد ميلاد بالفاكهة، وأن جارةً لنا أحضرت بطاقة معايدة وقالت إن شارع أوبيرفيلد دون ابتسامة أوجوست لن يكون بنصف جماله الآن. سعدتُ جدًّا لسماع ذلك؛ لأني لم ألحظ وقتها أن سماته الشخصية لم تتأثَّر بما أصابه؛ كنت أظن أن المرض قد دمَّر شخصيته لدرجة كبيرة.

أتى في المساء كلٌّ من هيلجا وفيرنر، وأكلنا الكعكة وشربنا النبيذ، وشاهدتُ مع فيرنر مباراة كرة قدم في نصف نهائي كأس العالم. وجلس أبي معنا ولكنه لم يبدُ مهتمًّا كثيرًا بالمباراة بين ألمانيا وإيطاليا، التي تميزت بالتوتر التكتيكي وليس بالهجمات الواضحة. وردَّد أبي السؤال عدة مرات:

«مَن يلعب هنا؟ فولفورت ضد مَن؟»

كرَّرت مرارًا: «فريق كانيلباخ.»

هزَّ أبي رأسه وكأنه كان سيعرف ذلك من تلقاء نفسه، ثم قال متجهمًا:

«هكذا يلعبون دائمًا!»

عندما سجَّل فابيو جروسو هدفًا، قال أبي:

«مهلًا مهلًا، هذا اللاعب ليس من فولفورت.»

ضحكتُ أنا وفيرنر بشدة، وكانت تلك اللحظات بحق أهم ما في المباراة، في حين نسينا بقية أحداثها.

•••

وما زلتُ أذكر جيدًا عيد ميلاده الخمسين أيضًا، عندما كنتُ في الثامنة من عمري، وكنت أتشارك مع أخي فيرنر نفس الحجرة. وقفنا في نافذتها ننظر باهتمام إلى ضيوف الحفلة في الشرفة الخارجية للمنزل. كان هذا اليوم الذي أقلع فيه والدي عن التدخين بعد ثلاثين عامًا.

كانت الألعاب النارية تُضيء السماء فوق بريجينتس، فقد وافق الرابع من يوليو ١٩٧٦ عيد الاستقلال المائتين لأمريكا. وأضفى بعض الأمريكيين الذين يسكنون في المنطقة بألعابهم النارية مزيدًا من الرونق والبريق الذي انصبَّ في أعيننا ونحن أطفال على أبينا، كذلك قفز بعض زملاء أبي من النافذة إلى حمام السباحة.

•••

أما في عيد ميلاده الثمانين، فقد وقف يهنِّئ صفَّ المدعوين الطويل وهو يربِّت بكلتا يديه على يد كلٍّ منهم ويقول: «أتمنى لك كل الخير والسعادة والصحة.» وكان يبدو يقظًا ومستمتعًا بوضوح بهذا المشهد، ولم يبدُ كشخص يؤدي واجبًا عليه. وطلب من العمدة — الذي عرَّفه والدي مجريات العمل قُبيل خروجه إلى المعاش — ألَّا يتكلم كثيرًا وأن يُنشد له أغنية، وهو ما أضحك الحضور.

وأعدَّ إخوتي عرضًا تفاعليًّا يقدم لقطات من حياته الطويلة، وكنت جالسًا إلى طاولة مع بعض إخوته؛ لذا لم ألحظ تأثير تلك الصور عليه، ولكن على ما يبدو أنه كان مندمجًا مع تعليقات وضحكات الضيوف، ولكن عندما عُرضت صورة لجدي، الحداد، يرتدي مريلته الجلد ويضع مطرقة ثقيلة على كتفه، بدأ أبي يتكلَّم عن نقاط ضعفه:

«لم أعُد أصلح لأي شيء أيها السادة، لا يهم، فهذا الأمر لن يُزلزل العالم.»

وأضاءت الشاشة البيضاء بصورٍ من بدايات الخمسينيات؛ «أدولف وتريزيا جايجر» وحولهما أبناؤهما التسعة الذين كانوا لا يزالون يسكنون معهم نفس البيت، وذلك قبل وفاة إيما، إحدى البنات الثلاث، إثر انفجار الزائدة الدودية. أدهشني كم كان يبدو جدَّاي كبيرين في السن في ذلك الوقت؛ كانا يبدوان على أعتاب الشيخوخة، مع أن جدتي عاشت أربعين سنة بعد ذلك ولم يتغيَّر شكلها كثيرًا؛ سيدة أنهكها العمل، قصيرة وذات شعر رمادي وتجاعيد عميقة.

كانت الأسرة كلُّها مجتمعةً باستثناء أحد الأبناء الذين ما زالوا على قيد الحياة؛ أشخاص من حقبة ماضية، أبناء أسرة ريفية كانوا يشحذون أقلام المدرسة على عتبة القبو؛ لأنها كانت من الحجر الرملي وكانت الأنسب لهذه المهمة. أفراد هذه العشيرة الغريبة كانوا مبتكرين بصورة مدهشة، وكانوا نشيطين بصورة غريبة، ويتمتعون بمخيلة عملية أكثر منها حالمة. غاب عنا يوزيف فقط؛ فهو الوحيد الذي انسلخ من مغناطيس العائلة وانطلق بثقة لاستكشاف العالم عندما هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الخمسينيات، وحقَّق هناك حلمه من خلال اختراع جهاز كهربي لفتح العلب.

سألتُ إخوة أبي إذا كان لدى أحدهم نسخة من الصورة التي التُقطت لأبي بعد إطلاق سراحه من المعتقل الحربي. عرف الجميع فورًا أي صورة أعني، إلا أنهم هزُّوا رءوسهم التي علاها الشيب بالنفي. قالت عمتي ميلا التي تخطَّت الثمانين من عمرها إن تلك الأوقات كانت مختلفة ولم يكن الناس يطبعون من كل صورة عدة نُسخ كما يشاءون.

حكى باول عن رحلة عودته من الحرب، وأنه رأى صورة مريعة؛ إذ ضرب إعصار حدائق الفاكهة قبل قدومه بفترة قصيرة، وسقطت أشجارٌ وتناثرت في وسط الحقول، وكان معظم الرجال القادرين على العمل غائبين في الحرب، وامتلأ المكان بالحشائش والشمندر، وأثقل العملُ في الحظائر والبيوت كاهلَ النساء. أما روبيرت الذي بلغ عند نهاية الحرب سنَّ التاسعة فقال إنه كان يعمل في الحقل عندما انقلب الطقس فجأة، فتمسَّك بشجرة وسقط الثلج على رجليه بقوة، وكادت العربة المُحمَّلة بالقش تنقلب بالقرب من الكوخ المبني من الحجر الجيري عندما كان باقي الإخوة يحاولون دفعها، وبدأَت بعض الأشجار في الازدهار في الخريف بعد أن أتت العاصفة الثلجية على ثمارها.

نسي أبي كل هذا، ولم تعُد تؤلمه تلك الذكريات، ولكنها تحوَّلت إلى سمات في شخصيته، وبقيت له تلك الشخصية؛ فالخبرات التي شكَّلت شخصيته بقيت مؤثرةً.

•••

قضيتُ في ذلك الصيف — كما في الأعوام الماضية — عدة أسابيع في بيت والدي. كان من الواضح أن المسافة الكبيرة التي نشأت في شبابي بيني وبين أبي تلاشت، وأن فقدان التواصل الذي خشيتُ أن يفرضه علينا المرضُ لم يحدث؛ فبدلًا من ذلك تصادقنا مُجددًا، وكانت هذه الصداقة بفضل المرض والنسيان غيرَ مُتكلفة؛ لذلك رحَّبت بتأثير النسيان على تلك العلاقة؛ فقد نسينا جميع خلافاتنا، ورأيت أن هذه الفرصة لن تتكرر.

في تلك الأثناء، كانت صديقتي كاتارينا التي كانت تسكن وقتها في إينسبروك تقضي أيضًا بعض الأيام في فولفورت. ضغطنا على أبي ذات يوم ليخرج معنا في نزهة، فخرج رغمًا عنه وأراد طوال الوقت الرجوع إلى البيت، مع أننا لم نغادر شارع أوبيرفيلد. ضايقني ذلك؛ لأن الأمسية كانت جميلةً وكنت أود التنزه معه بمحاذاة النهر.

وبدا الارتياح على أبي عندما دخلنا جادَّة أوبيرفيلد مرة أخرى ونظرنا إلى القرية أسفل منا؛ فقد شعر بالسعادة وامتدح هذا المنظر الجميل.

سألني: «هل تأتي كثيرًا للتنزُّه هنا؟ كثيرون يأتون للتمتع بهذا المنظر الجميل.»

عجبتُ لما قال، وقلت له:

«أنا لا آتي للتنزه هنا. لقد نشأتُ في هذا المكان.»

بدا ذلك مفاجأةً له؛ فعقد ما بين حاجبَيْه وقال:

«نعم، أفهم.»

فسألته:

«هل تعرف أساسًا من أكون؟»

أحرجه سؤالي، فاستدار إلى كاتارينا وقال مداعبًا وهو يشير بيده نحوي:

«وكأن هذا أمرٌ مهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤