الفصل السادس

أدَّى تفريغ القناعات الدينية والاجتماعية من فحواها في العهد النازي بصورة غير مباشرة إلى المبالغة في قيمتها بعد الحرب. قال باول إن الحياة بعد الحرب كانت قاحلةً لا يملؤها سوى التديُّن والبساطة المتناهية والعمل الذي لا ينتهي؛ مما جعل الوضع فظيعًا، وخصوصًا للشباب.

لكن الوضع لم يكن بهذا السوء بالنسبة إلى أبي صاحب الأمنيات المتواضعة؛ فقد كان الأهم بالنسبة إليه هو التطلُّع إلى تجنُّب الألم أكثر من الوصول إلى السعادة، وبعودته مُجددًا إلى فولفورت أصبح بإمكانه تحقيق الحياة الحقيقية كما يراها، وأن يستعيد الإحساس بالأمان والاستقرار. لم يعُد مُستعدًّا لا للمفاجآت ولا للفرص الجديدة؛ لأن اغتنام الفرص التي يُتيحها لنا العالَم يتطلَّب التحلي بالثقة، وأبي قد فقد تلك الثقة، هذا لو افترضنا أنه كان لديه قبل الحرب قدرٌ منها. الخبرات تركت فيه ندبات لا تبرأ.

وقاده احتياجُه إلى حياة هادئة بسيطة إلى البحث عن الاحتواء في إطار عمله موظفًا، وفي اشتراكه في اتحادات مختلفة في قريته؛ فقد كان عضوًا مؤسِّسًا في اتحاد كرة القدم، حيث لعب في مركز الجناح الأيمن بإحدى الفرق، كما قاد جمعية المسرح، وقام بإخراج مسرحية نستروي الشهيرة «المُشرَّدون»، وكان يغنِّي في فرقة الكنيسة، التي كان معظم أعضائها من النساء. وكان يَعُدُّ النساء ظواهر غريبة لا تعنيه في شيء، وفي أثناء العقد التالي من حياته لم يسمع أحدٌ بأنه تعامل مع أي امرأة سوى أمه.

فربما لم يكن لديه احتياجٌ في تأكيد رجولته، وربما كان استقلالُه أهمَّ في رأيه. كذلك كان سماحُ فتاةٍ لأحدٍ أن يُقبِّلها له معنًى يختلف عن اليوم تمامًا.

وبعد سنوات قضاها في العمل مديرًا لقسم خدمات صرف الوقود لدى إدارة فورآرلبرج التابعة لحكومة الولاية، أصبح في عام ١٩٥٢ كاتب الإدارة المحلية، وكان كاتبًا بالمعنى الحرفي للكلمة؛ لأن الإدارة لم تكن لديها سكرتيرة حتى منتصف الستينيات. كان مكتب أبي في غرفة كانت فصلًا دراسيًّا فيما مضى، وكان يقع في الدور الأرضي من مدرسة القرية، في غرفة كبيرة، أكبر مما ينبغي، ذات أثاث عتيق، ودون ستائر. في الصيف كان يجلس في بنطاله الجلد وصندله، ضاربًا بإصبعين بسرعة البرق على الآلة الكاتبة، وصوتها يدوِّي في غرفة الفصل الكبيرة الفارغة. وعندما كان يعمل ونافذة المكتب مفتوحة كان صوت الكتابة يصل إلى الشارع، وكان الناس يقولون:

«أوجوست يطقطق.»

جاءت إلى المدرسة في فورآرلبرج مُعلِّمة تُدعى تيروش قادمةً من بورجينلاند، وأُعجب بها أبي، لكن جدِّي رفضها؛ لأنها نتاجُ علاقةٍ غير شرعية، وخضع أبي لرغبة أبيه، لكن القصة بقيت غير واضحة المعالم وغير مكتملة ولا يعرف إخوة أبي شيئًا عنها، كما لم يعد بإمكاني سؤاله عنها؛ لذلك فأنا أذكرها هنا وأنا غير متيقِّن منها.

الثابت هو أن أبي قد بدأ في ذلك الوقت مع نهاية الخمسينيات في بناء بيت على التل خلف حديقة الفاكهة الخاصة بوالدَيْه. وفَّر له جدِّي ذلك المكان؛ «لأن هناك بالأعلى لا تنمو الحشائش»، وبعدها كان والدي يقضي وقته في منطقة العمل تلك، التي ليست ببعيدة عن الكنيسة حيث يحمل الهواء إليه ذبذبات أجراس الكنيسة المعدنية.

يذكر روبيرت هاريسون في كتابه «سطوة الموت» أن الفلسفة الغربية تنطوي على قاعدة فكرية قديمة تتلخص في أن معرفة الأشياء هي الشرط للقيام بها؛ أي إن من يريد بناء بيت يجب أن يعرف أولًا ما هو البيت، وأبي كان يعرف ذلك على وجه التقريب؛ لذا فقد وضع تصميم كل شيء بنفسه، ووضع القرميد بنفسه، وقام بعمل توصيلات الكهرباء والتشطيبات بنفسه. قال إنه كان يحب القيام بالتشطيبات بنفسه. وكان فعلًا ماهرًا في مثل هذه الأشياء.

وقف البناء الجديد صلبًا أعلى حديقة الفاكهة، وكان بناءً حديثًا متألِّقًا بدهاناته الجديدة، وعلى يمينه الجبال السويسرية وبجانبها منطقة أبنزيل، وأمامه القرية وبريجينتس، وإلى يساره جبل جيبهارد وإحدى قمم جبال الألب الشاهقة. أضفى المنظر طابعًا خاصًّا على المكان، بل ورونقًا خاصًّا، وعندما سألت أبي بعد سنوات عن سبب وجود البيت على تلك الحالة، أخبرني أنه بنى البيت في اتجاه جبل جيبهارد وليس في اتجاه الشمس.

•••

تزوَّج أبي عام ١٩٦٣ وهو في سن السابعة والثلاثين. وقف في الكنيسة ومعه عروسه، مُعلِّمة من مدينة سانت بولتين، اعتبر — حسب معاييره — أنها ليست لديها بيت عائلة بالمعنى الذي يعرفه؛ فقد كان أبوها يعمل وقَّادًا في هيئة السكك الحديدية، ومات في الحرب، ونشأت هي في ظروف مادية صعبة، وكانت أمها تعمل مربِّيةً في دار لرعاية الأطفال في يوبس، فضلًا عن قيامها بأعمال حياكة هنا وهناك، وبعد زواجها للمرة الثانية أرسلت ابنتها إلى جدَّيْها في فورآرلبرج، حيث درست لتصبح مُعلمةً، وكان أول مكان عملت فيه هو مدرسة فولفورت الإلزامية في المبنى القديم.

جاءت أمي من إقليمٍ بعيدٍ إلى إقليمٍ أبعدَ، وفي أعماقه ارتكبت خطأً حسب قولها.

«ما يعجز العقل عنه عند اتخاذ قرار الزواج يدفع ثمنه غاليًا في أثنائه.»

كان والداي أبعد ما يكونان عن الرؤية العملية للزواج؛ إذ لم يشهدا هذه الخبرة في بيت آبائهما؛ لذا فقد أسَّسا حياتهما الزوجية على جهل، وكما يحدث كثيرًا لم ينتبها إلى عَرَضٍ جانبي خطير؛ ألا وهو أن أحدهما لا يمكن أن يغير الآخر؛ فالطبع أقوى من الإرادة.

أخطأ والداي خطأً فادحًا في تقييم مدى ملاءمة أحدهما للآخر، ولا أجد ما أقوله في هذا الشأن أفضل مما قاله ليو تولستوي على لسان الدوقة في روايته «أنَّا كارنينا»: إن ترك قرار اختيار الزوج في يد الشباب يُشبه ادعاء أن السلاح المحشو بالذخيرة لعبة مناسبة للأطفال في سن الخامسة.

لم يخطر ببال والدَيَّ قبل الزواج التفكير فيما سيحدث عندما يصطدم تصوران مختلفان عن السعادة أحدهما بالآخر. دخل كلٌّ منهما في هذه الزيجة ولديه مقومات السعادة، ولكن إذا أمعنا النظر فسنجد أن تلك المقومات كانت لنوعين مختلفين من السعادة، نوعين متضادين. وأصبح كلٌّ منهما تعيسًا على طريقته في التعاسة.

فلم يستطع أيٌّ منهما الوفاء بتطلعات شريكه، حتى طريقة التعبير عن المشاعر كانت مختلفة تمامًا. استعصت الفجوة الثقافية بين جيلَيْهما وظروف نشأتَيْهما على محاولات تخطيها؛ فأبي من أسرة ريفية كبيرة، وأمي من عائلة عاملة مكافحة. نشأ أبي في حقبة ما قبل الحرب، وأمي فيما بعدها. هو متأثر بالحرب والاعتقال، وهي بالفقر وتصورات الوطن الرومانسية. توقعات مختلفة، قِيَم مختلفة، انطباعات ومشاعر مختلفة، هو بحبِّه للأمور البسيطة والمقتضبة، وهي بحبها للأمور الحسية والدافئة، هو بحبه للأمور الاجتماعية، وهي بحبها للثقافة؛ أثبت أبي في مواقف كثيرة عدم قدرته على مواكبة الحياة الثقافية.

في اليوم التالي لزواجهما قال الناس ساخرين:

«لقد نام أوجوست في الفصل الأول.»

كان الأمر بمثابة تنافر مثالي بين أحلام حياة مختلفة، فعدا الزواج وإنجاب الأطفال لم تجمعهما سوى حياة كانت تسير يومًا بيوم، وكأن شخصَيْن في بُرج بابل يحاولان في حيرة أن يتحدثا معًا كلٌّ بلغته، ويشكوان قائلين: «أنت لا تفهمني!»

عندما سألتُ أبي لماذا تزوَّج أمي، أجابني أنه أحبَّها كثيرًا وأراد أن يوفر لها حياة أسرية. وهنا تظهر مجددًا موضوعاته الأساسية: البيت والأمان والاحتواء؛ فقد كانت أهم الأمور في نظره. ربما فكَّر في أن الوقوع في الحب شيء جميل، ولكن الأجمل أن يكون لك مكان تنتمي إليه.

أما أمي فلم تكن تبحث عن الأمان والاحتواء، وإنما عن الإثارة؛ فقد كانت منفتحةً على العالم، ولديها فضول لمعرفة الجديد. كان القيام برحلة في شهر العسل مستبعدًا لعدم توافر المال اللازم، وكانت صدمة أمي كبيرة عندما طلبتْ منه القيام بنزهة واعتبارها رحلةَ شهر العسل، ولكنه رفض. وربما اعتبر أبي أن الميزة الوحيدة في كون العالم فسيحًا وجميلًا هو أن الناس لا يهرعون إلى فولفورت.

كانت أمي تردِّد شكواها كثيرًا وهي غاضبة: «ولا نزهة في الغابة أيضًا!» وبالفعل لم يكن هذا الرفض من أفضل أمجاد أبي؛ لم يُرِد والدي أن يخرج عن عاداته ولو ليوم واحد، وكان يعتبر كلَّ ما يعكر صفو حياته اليومية المملة أمرًا سلبيًّا، وإن كان نزهةً قصيرة يوم سبت بعد زواجه.

الخطة التي وضعها لحياته كانت تحمل شعار: الانطلاق في خطوط مستقيمة وليست متعرجة.

•••

أشعر وأنا أَصِف زيجةً فاشلة وكأني أقوم بكنس قشٍّ مُبتلٍّ، ولكن يبدو أن والدَيَّ قد نجحا لفترة في التوصل إلى حلول وسطى لتحقيق بعض السلام الروحي؛ إذ لم يعودا يتعاركان، وعندما رُزقا بالأطفال أصبح هناك شيء من التوازن في العلاقة رغم كل التوترات. كانت أمي سعيدة بالأطفال الذين جاءوا على التوالي، وتطوَّرت محاولات أبي أن يكون زوجًا جيدًا إلى بذل جهدٍ كبيرٍ كي يُصبح أبًا جيدًا، وتكلَّل جهده بالنجاح، وأمكنهما تقاسم السعادة مع الأطفال، إلا أن وجود الحب بينهما في هذه الزيجة كان أمرًا مستحيلًا، وأبعدت المشاعر المختلفة كلًّا منهما عن الآخر وكأنهما يزدادان تماديًا في موقفهما العنيد. عندما يفكر الناس بصورة متباينة تمامًا إلى هذا الحد تأتي لحظة يصل فيها المرء إلى قناعةٍ بعدم جدوى النقاش أو تقديم التنازلات.

سارت الأمور في البداية بين جَنبات البيت الكبير على التل في مسارها العادي إلى حدٍّ بعيد، وعشنا وكأننا أسرة عادية، فقد كنا نمضي ساعات طويلة يوميًّا في عزف الموسيقى، وبعد الغداء كان الأطفال الذين أصبحوا قادرين على التعرف على ورق اللعب يلعبون لنصف ساعة لعبة «الكنستة» مع والدَيْهم. وقبل الغداء كان الأطفال يذهبون إلى ميدان الكنيسة أسفل التل لينتظروا هناك أباهم القادم من المكتب ليقضي ساعتين في البيت، وحينها كانت القرية كلها تبدو ألطف وأرقَّ، ورائحة الطعام تتخلَّل الحدائق والشوارع؛ لأن الطعام كان يُقدَّم تقريبًا في كل البيوت في وقت الظهيرة تمامًا، وكان أبي يُجلِس أحد الأطفال في صندوق الحقائب وآخر على الدرَّاجة وبقية الأطفال كانوا يمشون بجوارها. وبعد ظهر أيام السبت كان يأخذ الأطفال معه إلى ملعب كرة القدم، كذلك كان يخرج للتنزه معهم أيام الأحد.

ومن ملجأ الأطفال في مدينة بريجينتس، كان الفتى توني يأتي ليقضي عندنا العطلات كلها. وكان أبي يُشرف على حديقة خضراوات وحديقة توت، وكان يصنع المشروبات. وعندما قالت أمي إنها لم تعد قادرةً على الإشراف على أربعة أطفال وهم يسبحون في نفس الوقت في البحيرة، وإن على أبي أن يصحبها المرة القادمة، قام أبي ببناء حمام سباحة في حديقة البيت.

في البداية فكَّر في خطة متهورة؛ وهي بناء حمام السباحة فوق سطح مرأب السيارات، وأن يصل بينه وبين الشرفة الخارجية للمنزل بجسر مُعلَّق. وكان عنده من مثل هذه الأفكار دائمًا ما يكفي.

بالرغم من فارق السن بين والدَيَّ لم يكن أبي يقوم بدور السيد والمدير في البيت، بل كان يسعد كثيرًا عندما لا يُسأل عن رأيه؛ لم يكن ذا شخصية حازمة وصارمة. كانت أعمال البيت هي الشيء الوحيد الذي لم يكن يساعد فيه، مع أن زوجته عادت سريعًا إلى وظيفتها؛ وذلك لأنه كان مقتنعًا تمام الاقتناع بأن هناك — بموجب الدين والقانون — عملًا للرجال وآخر للنساء. فالتنظيف كان عمل النساء، عدا تنظيف الحديقة، والطَّرْق بالمطرقة عمل الرجال، عدا الطَّرْق على اللحم لترقيقه.

وكان البيت منطقة عمل دائمة بسبب عمليات الإضافة أو التغيير المستمرة؛ إذ لم يتوقف أبي قط عن التفكير في التحسينات الممكن إدخالها على البيت أو الحديقة، وكان بوسعنا أن نحصل على كل ما نريد فيما يتعلق بهذا الجانب. إذا كان يحتاج أحدنا إلى غرفة إضافية، فلا ضير في ذلك؛ فهكذا ينشأ مكان إضافي للمعيشة، ومساحة إضافية ليقوم بأعمال التشطيبات اللازمة لها.

ودفع الشغفُ باكتشاف «العالم» أمِّي إلى تأجير غرفٍ في بيتنا كل صيف، مع تفضيل الضيوف الألمان والهولنديين الذين يتمتعون بذكاء استراتيجي جعلهم يختارون هذا المكان بين بحيرة بودينزيه وغابة بريجينتس لقضاء عطلتهم. بعدما استكمل أبي بناء سطح بيتنا أصبحنا نؤجِّر غرفًا على مدار العام كله؛ سواء لمعلمات زميلات لأمي، أو لشباب ليست لديهم متطلبات عالية.

في عام ١٩٧٧ جاء «العالَمُ» إلى أمي. كان لدينا مُستأجر اسمه بيش، وكان اسمه الذي يعني سوء الحظ مناسبًا له، كان شعره أسود، وكان يحب ارتداء اللون الأسود، ولم يعرف أحدٌ عمله على وجه التحديد، ولكنه كان لطيفًا وودودًا. وكنا نحن الأطفال نأكل سكَّر الشعير الخاص به كلما تركه. عندما كنا نذهب إلى القُداس ويُطلب منا إحضار مجلات قديمة كان الآخرون يُحضرون مجلة «فرنزيه تسايتونج» أو مجلة «شتادت جوتيس»، وكنا نُحضر مجلَّتَي «شتيرن» و«شبيجل» الألمانيتين؛ حيث كان السيد بيش يلقي بهما تحت الدَّرَج مع الأوراق القديمة، وكنا نعود ومعنا المجلات من الكنيسة.

ذات يوم نزل بيش من غرفته أعلى المنزل وقال إنه سيضطر إلى الانتقال إلى سكن آخر، وأنه لا يملك ما يكفي لدفع قيمة آخر إيجار؛ لذا سيترك لنا المذياع والموقد. وافق أبي على العرض، وغادر المستأجر، وبعد أيام حضرت الشرطة للسؤال عنه للاشتباه في انتمائه لمنظمة «الجيش الأحمر» الإرهابية، فأخبرناهم بأنه قد رحل.

في نفس هذا الوقت قام أعضاء في «حركة ٢ يونيو» باختطاف السيد بالمرز صاحب مصنع الجوارب، وقام رجلٌ منهم — كانت لهجته توضح بسهولة أنه من فورآرلبرج — بعمل الاتصالات الهاتفية اللازمة لطلب الفدية. ونشرت الصحف رقمًا هاتفيًّا ليتصل الناس به ويستمعوا إلى تسجيلٍ لصوت الرجل المطلوب عسى أن يتعرَّف أحدٌ على صوت ذلك المجرم. كنت في التاسعة من عمري، وطلبت سرًّا ذلك الرقم عدة مرات، وبدت لي الشعارات التي كان يرددها مخيفة وغريبة، ولكني على أي حال لم أفهم شيئًا. وبلغت الإثارة ذروتها عندما أثبتوا أن المُتصل كان شابًّا من فولفورت؛ هو السيد بيش، الذي كان تلميذًا عند أمي في المدرسة قبل ذلك، وذكرت أمي أنه كان فتًى هادئًا جدًّا ولطيفًا، وأنها كانت تشعر تجاهه بالود.

ولم نسمع شيئًا عن السيد بيش لسنوات طويلة. وشعرنا نحن الأطفال بعد ذلك بسعادة كبيرة؛ لأننا كنا نؤوي إرهابيًّا مطلوبًا للعدالة، وكنا نأكل سكر الشعير الخاص به، واعتقدنا أن فولفورت هي المعقل السري لمنظمة «الجيش الأحمر» الإرهابية. وذات يوم فوجئنا بالسيد بيش واقفًا أمام باب بيتنا في زيارة قصيرة، وأصابنا ذلك بشيءٍ من الذهول. سأله أبي لماذا كانت الشرطة تبحث عنه، فأشاح بيده وقال إنهم وجدوه بسرعة وأخلوا سبيله بسرعة، وأن الأمر كله كان بسبب الهستيريا التي سادت عام ١٩٧٧.

فظهر على أبي الارتياح، ولكني أُصِبت بخيبة الأمل.

كانت طفولتي تنتهي بالتدريج، وكان أبي حتى ذلك الوقت أبًا جيدًا وسعيدًا، حتى جاءت اللحظة التي كان عليه أن يأخذ بزمام المبادرة فيها. لم يكن يحب الأطفال وهم في سن المراهقة، وهو ليس الوحيد في ذلك. كان عليه العمل على كسب هؤلاء الشباب وتحميسهم لعمل شيء مفيد، ولكن لم يكن من طبيعته المبادرة بالتواصل مع الآخرين؛ لذا فضَّل أن ينسحب من المشهد، وأن يتصلَّب في قالب عادات كيانه الريفي.

سمعتُ يومًا أن كلمة الوطن وكلمة العادات في اللغة اليونانية تنتميان إلى نفس الأصل اللغوي.

عندما كان جرس الهاتف يرن، لم يكن أبي يتحرك من مكانه؛ لأنه لم يكن يتصور أن أحدًا يحتاج إليه في شيء.

فكان يقول: «هذا بالتأكيد ليس لي.»

كذلك لم يعد ينتظر ساعي البريد، ولِمَ عساه ينتظره وهو لا ينتظر ولا يتوقع أن يأتيه بخطاب؟

وتحوَّل أبي في عيني بالتدريج إلى إنسان لا يربطني به شيء، ولأنه كان من المستحيل أن أوجِّه ثورة الشباب ضد السلطة الأبوية (علمًا بأنه لم يحاول قط فرض سيطرته على أحد) فقد بحثت عن بديلٍ، وثرتُ في وجه التجاهل الأبوي؛ فعادة نجد أن رعاية والدَيْنا لنا إما أقل أو أكثر مما يجب. واتهمتُهُ بعدم الاكتراث بأمورنا، ولكنه لم يكن يرد على مثل تلك الاتهامات؛ مما زاد غضبي عليه، فلم أكن أفهم ذلك الوضع؛ ومن ثم لم يكن بوسعي التصالح معه، حتى إني أسقطته يومًا من حساباتي واعتبرته شخصًا لا يعنيني. كان لديَّ ما يكفي من المشاكل، ومع أن هذا كان صحيحًا فإنه كان مجرد محاولة فرار؛ لأن اهتماماتي قد تغيَّرت بما يتواكب مع سنِّي.

ربما وصل تأزُّم الوضع بيننا إلى درجةٍ لا يمكنني أن أدَّعي معها رغبتي في رأب الصدع بيني وبينه في ذاك الوقت؛ إذ لم يكن له وقتها أهمية خاصة في حياتي، وفي بعض الأحيان كان وجوده ليس مهمًّا بالنسبة إليَّ.

لفت انتباهي منذ صغري رويَّتُه في تقييم الآخرين؛ فلم يكن يتسرَّع في إصدار الأحكام ضدهم أو يتكلم عنهم بالسوء. وثمَّنتُ ذلك فيه وأنا أقف منه على مسافة تزداد بُعدًا.

أصبح أبي يقضي فترات طويلة في القبو، تحديدًا في الورشة؛ حيث كان يمكنه أن يغزل حبائل أفكاره أو أن يهيم معها على غير هدًى، وكان بوسعه هناك أن يُخلِّص حياته من أي تأثيرات خارجية؛ فقد كانت الورشة بمثابة الملجأ والوطن له، وما زِلتُ أدهش للنظام الذي كانت عليه الورشة. قام في السبعينيات بتثبيت لوح خشبي في السقف المنخفض، ثم ثبَّت فيه بانتظام أغطية برطمانات أغذية الأطفال، وبعد ذلك وضع الأشياء الصغيرة مثل المسامير والأزرار في تلك البرطمانات، ثم ثبَّتها في أغطيتها لتصبح متدليةً من اللوح الخشبي، وما زالت العشرات منها مُعلَّقةً من سقف الورشة حتى اليوم بانتظام مُلفت، حتى إن زوجته وأولاده كانوا يجدون ما يبحثون عنه دون عناء.

عندما كان أحدنا يسأل:

«أين أبي؟»

كان الرد يأتي عادةً:

«في الورشة على ما أظن.»

«ماذا يفعل هناك؟»

«بالتأكيد شيئًا سخيفًا آخر.»

•••

تطفو في ذكرياتي مواقفُ مشابهة كثيرة من تلك الفترة فوق السطح. لم يرغب أحدٌ من أعضاء الأسرة في أن يَخرج أبي، الذي يعيش على هامش حياتنا الأسرية، عن عزلته ويقوم بإزعاج الأسرة في حياتها المعتادة (حتى ولو ظل المثقاب الكهربي في القبو يؤثر على صورة التليفزيون، وظل الطَّرْق والضوضاء المتواصلين من جانب البيت هذا أو ذاك يضايقان الأطفال في الوقت الذي يجب عليهم الاستذكار فيه أو يرغبون في القراءة). حتى مشاعري عند بداية مرض أبي تبعت نفس النموذج. ظننت أني لا أريد أن يتسبَّب المرض في جعل أبي ينعزل عن حياتي وأن يؤثر عليها سلبًا حتى وهو في عزلته. إذا أمعنَّا النظر فإن أبي عاش في بداية مرضه نفس حياته الرتيبة التي تشبه حياة الشخصية الروائية روبنسون كروزو، وكانت الأسرة تُمثل له خلفية القصة؛ فهي البحر والريح والغابة والماعز وخادمه فرايداي.

وقصة روبنسون كروزو هي الرواية الوحيدة التي قرأها أبي في حياته، بل وقرأها عدة مرات. وتُعد تلك الرواية من أهم أعمال الأدب العالمي، ولا يقوم الحب فيها بدور مهم؛ فأهم موضوعاتها كان تحقيق الذات. سمَّى أبي أول سيارة امتلكها، وكانت من طراز «دي كيه دبليو كابريو» موديل ١٩٣٤، «روبين»، وقد سافر بهذه السيارة لمدة يومين أو ثلاثة إلى جنوب التيرول مع بعض أصدقائه في نفس عام شرائها ١٩٥٥ قبل زواجه بفترة طويلة.

•••

ومرت أعوام الثمانينيات ولم يكن والداي أفضل مثالٍ على الزيجة السعيدة. أدَّى مرور الوقت إلى اتساع هوة الاختلاف بينهما بدلًا من رأبها. سادت البيتَ حالةٌ من الكآبة، وساعدت مراهقة الأبناء في تفكك البيت أكثر. ولأن المرء ينطلق دائمًا من أن الأسرة شيءٌ منسجم ومتجانس، بدأ كلُّ مَن في البيت يشعر بأنه جسم غريب فيه، وبعد فترة شعر الجميع بأنهم منعزلون؛ يعتمدون على أنفسهم، وينشغلون بأمور لا يأبه بها الآخرون.

قال عمي يوزيف ذات مرة: «لم تَسِر الأمور في بيتنا أيضًا كما ينبغي لها أن تسير؛ فعندما كان أحدنا يواجه مشكلةً في المدرسة لم يكن يتحدث عنها حتى مع أخيه، وإذا سعِد لأمرٍ، كان يُخفيه ويذهب إلى الغرفة العُلوية ليقفز في الهواء فرحًا.»

وشابه ذلك تقييمي للوضع في بيتنا عندما كنت شابًّا؛ إذ لم أكن أشعر أني في بيتي إلا بوضع حدود واضحة تفصلني عن الآخرين، وفي آخر الأمر كان كلٌّ منا يشعر بأن الكيل قد طفح من الآخر، أو على الأقل كان هذا إحساسي.

•••

عندما أنهيتُ دراستي الثانوية كان تمزُّق العائلة قد بدأ يؤثر بصورة ملحوظة على الحالة النفسية لأفرادها، ولكن لحسن الحظ كان تدارك ذلك ممكنًا، كما ظهر عندما تغيرت الأوضاع بعد سنوات.

كل تلك الذكريات مُحيت تمامًا من ذاكرة أبي، بينما ما زالت نبتة النسيان تنمو لديَّ ببطء. عايشتُ بعض الأمور مع والدَيَّ في أثناء فترة دراستي؛ فقد كانت أمي تعاني بصورة متزايدة من الضغوط التي تحاصرها، وعندما أفكر في الماضي لا أعجب من سوء حالتها المزاجية معظم الوقت. ففي الحفلة الخاصة باجتيازي للمرحلة الثانوية كان والداي متعاركَيْن، وضايق أمي أني كنت الوحيد من بين أقراني الذي لا يرتدي قميصًا. أخذني أبي بعيدًا وشرح لي الموضوع بطريقته الهادئة، وسألني عن رأيي في أن يشتري من أحد النُّدُل قميصه. ولكي يبرهن على جدية موقفه أخرج حافظة نقوده (وكانت الصورة لا تزال فيها) من جيب سترته الداخلي، وأخبرني أن معه ما يكفي من المال، وأن كل نادلٍ يكون لديه قميص احتياطي في خزانته تحسُّبًا للظروف، كأن ينسكب على ملابسه شيء وهو يقدِّمه للناس. وطلب مني أن أُفكر، فالأمر ليس صعبًا؛ فنظرت إلى أبي وكأنه مخلوق فضائي قادم من القمر، وأخبرته رفضي الفكرة؛ لأني لا أرغب في الوقوف هناك مرتديًا قميص النادل. واليوم يجب أن أقول إن العرض الذي قدَّمه أبي كان عرضًا جيدًا وسعيًا طيبًا منه لإيجاد حلٍّ للمشكلة.

•••

بعد أسابيع غادرت فولفورت للدراسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤