الفصل السابع

في الأيام الباردة أو الممطرة في السبعينيات كنا نجلس حول الطاولة في المطبخ ونلعب «لعبة الحياة»، وهي لعبة تتكوَّن من لوح خشبي ومجموعة من القطع، ويمكن تحقيق مكسب مادي عند الفوز فيها، ومسموح للأطفال فوق العاشرة بلعبها. كانت على اللوح الخشبي رسومات ملوَّنة تتعلق بالسن ومرحلة الحياة، يقوم اللاعب بإدارة عجلة الحظ ويتبع الطريق الذي تفرضه عليه العجلة: التعليم، السفر، الزواج، النجاح، الفشل، المنازل التي كانت تُبنى وكانت تحترق بعد ذلك، الفشل في العمل، اكتشاف حقل بترول، خسائر في البورصة، اليوبيل الفضي للزواج، بلوغ سن التقاعد. لم ندرك وقتها أن الطريق الذي كان علينا قَطْعُهُ في اللعبة لا يُعتبر شيئًا مقارنةً بالحياة، كما لم نتصور مدى تعلق الفشل والنجاح بالحظ.

عندما كان أحد اللاعبين يُصاب بحادث في اللعبة أو يضطر للتوقف عن اللعب بسبب المرض، كنا نضحك في بهجة.

•••

وبدأ أبي يفقد قدرته على التوجُّه المكاني شيئًا فشيئًا؛ فكان يخرج ماشيًا في الجوار في جُنح الليل مرتديًا ملابس النوم، وخفنا أن يُصيبه مكروهٌ؛ لذا قرَّرنا توفير رعايةٍ له على مدار الساعة؛ فبدأنا في غلق الباب المؤدي إلى الدَّرَج ليلًا.

وقد استطاعت السيدات السلوفاكيات اللاتي كن يأتين إلى بيتنا لرعايته تنظيم حياته اليومية، بعد أن كان تغيُّر الأشخاص الذين يحضرون إلى غرفة نومه صباحًا يُصيبه بالحيرة. فتحسَّنت حالته في غضون فترة وجيزة، ولاحظنا كيف بدأ يستعيد نشاطه، وارتبطت بذلك حقيقةُ أن المرض كانت حدَّتُه تخِفُّ كلما تقدَّم، وبدأ بالنسبة إلى أبي العصر الذهبي لمرض ألزهايمر.

كلُّ مريضِ ألزهايمر يختلف عن الآخر، والتعميمات عادة تكون غير دقيقة، ولكن الأمر المشترك بين مرضى ألزهايمر جميعًا هو عدم إمكانية ثبر أغوارهم؛ فكل مريض حالة مفردة، له قدرات ومشاعر ومسار مختلف لمرضه.

في حالة أبي سار المرض ببطء، وبقدر عدم إدراكه لسوء حالته بقدر ما خفَّ تأثير المرض على حالته المزاجية. ورغم إدراكه المرض في البداية فإنه لم يخَفْ منه خوفًا شديدًا؛ فقد تقَبَّل قَدَره بارتياح؛ مما جعل موقفه الداخلي الإيجابي دائمًا يظهر بوضوح.

وأصبح من النادر أن يهيم على وجهه في البيت دون وجهة، ولكن ظلت هناك مواقفُ يطلب فيها الذهاب إلى البيت، إلا أن هذا الطلب لم يعد مصحوبًا بحالات الهلع التي كانت تُصيبه من قبل. كان صوته عادةً يخرج هادئًا وكأنه إنسان يعلم أن نهاية الحياة دائمًا تكون سيئة؛ ومن ثم فلا داعي للانفعال.

وعندما أصابه الملل ذات مرة من انتظار أي شخص يأخذه إلى البيت قال: «سأذهب الآن إلى البيت. هل ستأتي معي أم ستبقى هنا؟»

فأجبته: «سأبقى هنا.»

«إذن سأذهب وحدي؛ فبِمَ سيفيدني الانتظار هنا؟ من يعلم؟ ربما سأذهب إلى البيت في شهر نوفمبر، وربما اضطررت لدفع مبلغ ما؛ لذا الفرصة الوحيدة المتاحة أمامي هي التوجه إلى البيت فورًا.»

«إذن، فاذهب!»

«هل مسموح لي أن أذهب؟»

«إذا كنت تريد ذلك، فأنت حر.»

«أمرٌ آخر، هل يمكن أن آخذ معي أقربائي؟»

«بالتأكيد، خذهم معك.»

«حسنًا، شكرًا لك.»

نظر حوله وكأنه يريد تذكُّر ما يريد أخذه معه، ثم قال راضيًا:

«لم يعُد هذا أمرًا يعنيني شخصيًّا.»

وبعدها جاء إليَّ مرةً أخرى عند الطاولة وبدا على وجهه الإحراج من هذا الموقف، تردَّد قليلًا ولكنه تكلَّم في النهاية.

«هل يمكن أن تعطيني عنوانًا أو أي إرشادات أخرى؟ مثلًا أن تقول لي سِر حتى نهاية الشارع العلوي حتى ترى البيت.»

شعرتُ بشفقة كبيرة عليه للطريقة التي طلب بها المساعدة، فقلت له:

«لقد فكَّرتُ وسآتي معك؛ فإذا انتظرتني نصف ساعة حتى أنتهي من الكتابة، فسنذهب معًا.»

سألني: «إلى أين؟»

فقلت: «إلى البيت، أنا أيضًا أريد الذهاب إلى البيت.»

«حقًّا؟»

«نعم، ولكن قبل أن نذهب عليك أن تستريح قليلًا وتجمع طاقتك.»

«هل المكان بعيد؟»

«قليلًا، ولكن يمكننا قطع الطريق دفعةً واحدة.»

«وستذهب فعلًا معي؟»

«نعم، بكل تأكيد.»

«ستفعل هذا حقًّا؟»

ربَّتُّ في حنان على يده وقلت له:

«نعم، وبكل سرور.»

أعجبه الرد كثيرًا، فأشرق وجهه وأخذ بيدي وقال:

شكرًا لك.

ثم جلس معي إلى الطاولة وقضينا أمسيةً هادئةً إلى حدٍّ ما، حتى جاءت المشرفة على رعايته وأخذته إلى سريره.

•••

كثيرًا ما كان يظُنني أخاه باول، وكان هذا سواءً بالنسبة إليَّ؛ فأهم شيء أنه يعتبرني من العائلة. وكنتُ أرضى كذلك عندما يُحيِّيني في الصباح مُنشدًا أغنية:

حيَّاك الرب يا أخي الجميل.

وأحيانًا كان يغير مسار كلامه في وسط الجملة ويقدِّمني على أنني أخوه باول — حارس الغابة — ويضيف:

«إنه شاعر ومفكر.»

لم يعُد أبي يترك البيت وحده تقريبًا قط. في بعض الأحيان كان يجلس على السور أمام البيت، أو يقف في الشرفة الخارجية ناظرًا إلى القرية أسفل منه. في تلك اللحظات كنت أتوقع أن يكون قد برأ من مرضه، فيستدير إليَّ ويُجري معي حديثًا عاديًّا عابرًا. لم يكن يوبخني ولا يسدي إلى النصائح؛ فلا أذكر أنه ألقى عليَّ محاضرةً تربوية مهمة؛ فقد كان يُفضِّل إبداء الملاحظات عن الطقس وتغيُّرات الطبيعة.

مَن يراه في ذلك الحين واقفًا في ظل الأشجار سيعتقد بالتأكيد أن كل شيء فيه ما زال على ما يُرام.

ظننت وقتها أن ما بقي من الوقت قليلٌ، وأخذت أفكِّر فيما سيحمله لنا العام القادم، ثم الذي يليه، سنتان أو ثلاث. هذه المدة تقريبًا التي أعمل فيها على كتابة رواية. ثلاثة أعوام كانت تقريبًا المدة التي اعتقدتُ أني سأتمكَّن من التواصل مع أبي خلالها؛ لذلك كنتُ أحضر إلى فورآرلبرج كلما استطعت، وكنت أعفي المشرفات على رعايته من العمل مساءً لأقضي معه الوقت وحدي.

كانت الأيام تمرُّ في سلام تام، حتى إنني كنت أعتقد أحيانًا أن هناك مشكلةً في أُذُنَيَّ؛ لأني لم أعتَدْ هذا الهدوء. عندما كنت أعمل كان أبي يجلس إلى طاولة المطبخ في مواجهتي ساعات طوال. كان يمسح بيده على الطاولة ويتنفَّس أحيانًا بسرعة وبإيقاع منتظم، أو يقف لفترة طويلة أمام حامل الصُّحُف، عدا ذلك كان يتصرف بهدوء. وأحيانًا كان يطرح سؤالًا ثم نتجاذب أطراف الحديث بعض الوقت، أو ينظر إلى ما أكتب على الكمبيوتر المحمول الخاص بي ويقرؤه، وسألته إذا كان يهتم بما أكتب، فقال:

«نعم، ربما أهتم به قليلًا.»

ثم جلس وبدا وكأنه غارقٌ في الأحلام. عندما كان يجلس تائه الفكر، كنت أراه على حالته القديمة، وأحيانًا كان يلعب بأصابعه وكأنه لا يوجد شيء مهم آخر يجب القيام به، أو كان يطلب مني إخباره إذا كان باستطاعته مساعدتي.

ثم يضيف: «أعرف، للأسف، أن نتائج ما أقوم به لم تَعُد جيدةً ومُعدَّل إنجازي ضعيف جدًّا. الأمر صعب، لن أستطيع مساعدتك.»

«أنت أكثر شخص يساعدني يا أبي.»

«لا تقُل ذلك!»

«بالتأكيد، فأنت بالفعل أكثر شخص يساعدني.»

«لطيف منك أن تقول ذلك.»

«هذه حقيقة.»

فكَّر قليلًا ثم قال:

«إذن فسأضع ذلك في الاعتبار حاليًّا.»

عندما كان يجلس وحده في الغرفة، كان يُغنِّي، وكثيرًا بصوت مرتفع. فكَّرتُ في أنه لو استمر على ذلك فسيبلغ التسعين. عاش أبي بطريقة صحية؛ إذ دأب على تناول وجبات منتظمة يوميًّا، فضلًا عن قيامه بكثير من الغناء والتنزه والنوم الطويل. كذلك كان يُقدَّم له اللحم كل يوم عدا يوم الجُمُعة، وكانت المشرفات السلوفاكيات يحرصن على الالتزام بمثل تلك الأمور. كذلك كُنَّ يصحبنه يوم الأحد إلى الكنيسة، عندما يكون بيتر والأسرة قد سبقوه في المساء إلى هناك.

وكان أبي يُغيِّر كلمات الأغاني ممازحًا وهو يُنشدها. كذلك زادت إبداعاته اللغوية وهو يتحدث أيضًا؛ فقد عادت روح المرح إليه مُجددًا، وكأن حديقةً جميلة مهجورة عاد شيء من جمالها للظهور.

قال ذات مرة: «كنت أشارك في تلك الأمور إلى حدٍّ ما.» ثم استدرك قائلًا: «ولكن عليك أن تفهم قولي «إلى حدٍّ ما» على أنه حدٌّ قريب وليس بعيدًا.»

أدهشتني كثيرًا طريقة تعبيره، وكنت أشعر عند سماعه بأنني أقترب من نبع الكلمات السحرية. قال جيمس جويس، متحدثًا عن نفسه، إنه لا يمتلك مخيلةً واسعةً، ولكنه يترك العنان للُّغة. وهكذا بدا لي أبي؛ فقد كان يُغيِّر الكلمات؛ فمثلًا بدل كلمة «مُستقبل» كان يقول «مُستقفل»، وبدلًا من قول «هذه غاية علمي» كان يقول: «هذه نهاية حياتي.» أيضًا كان يُشدِّد على نطق الحروف لإظهار المقاطع المختلفة في الكلمات المتشابهة؛ مثل: «عاجل» و«عَجول»، أو «أسرِع» و«بسرعة». وكان يستخدم أيضًا عبارات قديمة لم أسمعها منذ زمن؛ مثل:

«هذا طول المفرش الكتان وعرضه، ولن يُجدي جذبه من أطرافه وشدُّه.»

«مَن يُجِدِ التعَثُّر لا يقع.»

«كُفَّ عن التظاهر وكأنك وجدت مسامير الحذاء في صحن الحساء.»

وعندما كان ينسى كلمةً كان يقول:

«لا أدري كيف يمكن أن أُسمِّيها.»

كانت الكلمات تنساب من فمه ببساطة، وكان يقول بهدوءٍ ما يخطر بباله، وعادةً كان ما يقوله ليس مُبتكَرًا فحسب، بل عميق أيضًا، حتى إنني كنت أتساءل كيف أعجزُ عن قول مثله! أدهشتني دقَّته في التعبير وقدرته على إيجاد اللهجة المناسبة ومهارته في اختيار الكلمات. فقد قال لي:

«أنت وأنا، سيجعل كلٌّ منا حياة الآخر أفضل ما يمكن، وإذا فشلنا في ذلك، فعلى الأقل سيخرج أحدنا صفر اليدين.»

في مثل تلك المواقف كنت أشعر وكأنه يخرج من بيت المرض ليتنسَّم الهواء النقي؛ للحظات كان يعود لذاته. عشنا أوقاتًا سعيدة، أجمل ما فيها أنها كانت تأتي رغم أنف المرض.

وفي يوم آخر قال: «أشعرُ حسب تقييمي للوضع أني بخير؛ فأنا رجلٌ مُسِنٌّ، ويجب أن أفعل الآن ما يحلو لي، ثم أرى إلامَ سيؤدي.»

«ماذا تريد أن تفعل يا أبي؟»

«لا شيء، هذا أجمل ما في الموضوع. كما تعلم، يجب أن يكون الإنسان قادرًا على ذلك.»

•••

إما أن يكون أبي قد فقد القدرة على إدراك مأساته، أو توقَّف عن الشعور بمدى مأساويتها. حتى عندما اكتشفنا وجود ورم في المثانة عنده بعد أن نزف كثيرًا في أثناء التبول، لم يتوتر أبي كثيرًا؛ ظل محتفظًا بهدوئه، ولكنه تعجَّب قليلًا، إلا أنه بعد إجراء العملية ظل فترة مُشوَّشًا بسبب التخدير والمكان الغريب عليه. فرح الجميع عندما سمح الأطباء له بالعودة إلى البيت، وهناك تحسَّنت حالته بسرعة، وعرف على الفور أنه في البيت. وكان لذلك دلالته.

وعندما كان في المستشفى شكا للمشرفة على رعايته دانيلا آلامًا يعانيها، ولكنها أجابت بأنها لا تستطيع أن تفعل له شيئًا، ولكنها ستبقى بجانبه. عندها قال:

«عندما تكونين بجانبي، فإن هذا يساعدني كثيرًا.»

اكتشفنا أيضًا إصابة أبي بمرض السكري الذي يُصيب غالبًا كبار السن. وأثبت أبي قدرة فائقة في ابتلاع أقراص الأدوية مهما كان حجمها، دون الاستعانة بأي سوائل، كل صباح، بينما كان يعلو وجهَهُ تعبيرٌ عجيب، ولم يكن يشرب إلا بعد أن يستقر الدواء في معدته.

منذ فترة لم يعُد قادرًا على إدراك الفرق بين الواقع وما يراه في التليفزيون. كان يسأل كيف يمكن أن تظهر هناك — حيث ينظر — غرفةٌ لا يعرفها، وبعدها بلحظة تظهر سيارة؟!

«من أين أتت السيارة؟»

وصل الأمر إلى ذروته عندما نهض ذات مرة من فوق الأريكة حاملًا كعك عيد الميلاد ليقدِّم منه لمذيع الأخبار في التليفزيون. وعندما لم يستجِب المذيع لدعوة أبي، أخذ قطعة وقرَّبها من فمه في التليفزيون واقترح عليه أن يُجرِّبها. تضايق أبي لما أبداه المذيع من تصرف غير لائق، وأصابنا المشهد بصدمة، بالرغم مما فيه من فكاهة. كان الأمر مرعبًا.

في الواقع، كان المرض يؤدي إلى ظهور أعراض غريبة عليه، عادةً ما كانت تستمر لفترات قصيرة، وعادةً كانت تدل على أن أبي لا يشعر بأنه في حال جيدة، ولكن حالته كانت تتحسَّن بصورة سريعة جدًّا تبعًا لدرجة الرعاية التي يتلقَّاها.

كان أبي يشعر بارتياح وانسجام كبيرين مع بعض المشرفات، في حين كانت أخريات يفشلن في إعطائه الإحساس بالرعاية والاهتمام؛ لذلك كان معهن مشوَّشًا وخائفًا ومتوترًا ويشعر بأنه في مشكلة حقيقية.

صرخ أبي يومًا: «يوجد إطلاق نيران، يجب أن نختبئ! السويسريون يطلقون النار مجددًا.»

•••

تصاعدت سحابةُ دخان رمادية مُشربة بلون بني فاتح من بيت جدي؛ إذ كان عمي روبيرت يُحضِّر العَرَق، وكان عمي إيريش قد خرج فيما بعد الظهيرة ومعه دلو وجاروف صغير ماشيًا عبر الحقل إلى أعلى التل لتقليم أشجار البلوط الصغيرة التي لا تتوقف عن النمو. وأصبح الدخان المتصاعد من الفرن شبه شفاف، ربما يكون العَرَق في آخر مراحل النضج. رأيت من غرفة مكتبي شجرة الجوز وهي تتوارى وتختفي خلف الدخان.

كان يومًا باردًا وسُحُبه خفيفة. خلف بيتي بحث سربٌ من العصافير عن طعام بين أشجار التوت.

عندما رن جرس هاتفي المحمول كنت أعمل منذ ساعة على وضع تصوُّر لرواية «كل شيء عن سالي»، وأشرب قهوة من فنجان قديم جزءٌ منه مكسور، وكانت المتصلة ماريا، إحدى المشرفات على رعاية أبي. حاولتْ أن تُقنع أبي بالاستحمام ولكنه رفض وحبس نفسه في الحمام عندما خرجت للحظة، ورفض الخروج.

صعدتُ إليهما في الطابق العلوي لعلاج المشكلة. وبعد إلحاحي في الرجاء فتح أبي الباب. كان يجلس على مقعد الحمام مرتديًا بنطالًا طويلًا وفانلة بيضاء دون أكمام، وجلده متدلٍّ عند أعلى ذراعيه بعد أن أنهكه توتر الموقف. كان متوشِّحًا باثنتين من فوط الاستحمام وكأنه مُحارب قديم، وفي إحدى يديه أمسك بفرشاةِ ظهرٍ طويلة ممدودة للأمام، وفي الأخرى مبرد الأظافر شاهرًا إياه كسلاح له. كان يبدو فعلًا مثل ملك، بصولجانه وسيفه، ولكن وجهه كان يحمل خاتم الجنون.

سألتُه إذا كان يريد مشاهدة التليفزيون معي.

فلم ينظر إليَّ، وعبس وجهه، وكأنه عازمٌ على تصعيد الأمر. أخذ يهذي وينظر مرارًا إلى صنبور الاستحمام، وسألني عما يجب عليه فعله مع «الآخرين».

وبدأ يلوِّح بالفرشاة الكبيرة ومبرد الأظافر؛ مما أفقدني تركيزي. وبدلًا من أن أُطمئنه بادِّعاء أني سأَحمِيه منهم وأبعدهم عنه، حاولت أن أصرف انتباهه، ولكن دون جدوى. استمر إحساسه بالتهديد وهو ينظر يمينًا ويسارًا في وضع الاستعداد ورأسه ممدود للأمام.

عندما أردتُ أخذ الفرشاة منه لوَّح بالفرشاة في وجهي، ففزعت وقلت له:

«هل جُننت؟! أنت كاتب محترم في الإدارة المحلية! كيف تفعل شيئًا كهذا؟ مَن علَّمك مثل هذا التصرف؟ بالتأكيد ليست أمي! وأنت لم تعلِّمنا نحن أولادك مثل هذه الأفعال!»

انهلتُ عليه بهذا الكلام وأنا أعرف أن بعضه سيعني الكثير بالنسبة إليه. والجميل هو أن هذه الخطبة العصماء أثَّرت فيه. نظر إليَّ متحيرًا وكأنه خجل مما فعل، وترك الفرشاة ورضي أن آخذ منه المبرد. وهكذا تخطَّينا الجزء الأسوأ. ألبسته قميصًا واحتلتُ الحيل حتى أجلسته أمام التليفزيون. ثم هدأ روعه وأصبح مرحًا بطريقة مبالغ فيها، في حين كانت ماريا في حجرتها تبكي بعد أن حاولت معه لمدة ساعة وهدَّدها عدة مرات بالفرشاة.

اتصلتُ بهيلجا التي واجهت معه مثل هذه المواقف المتأزِّمة من قبل، طلبتُ منها القدوم للاعتناء بماريا، أما أنا فقضيت المساء مع أبي الذي كان لأول مرة عنيفًا إلى هذه الدرجة. كان مرحًا ولطيفًا جدًّا وكأنه يعرف كم أقلقني، وكأنه يريد أن تذهب صفحة ما حدث طيَّ النسيان. هذه المرة اكتفت نار الجحيم بأن مسَّتنا.

ولكني لم أدرِ كيف ستصير الأمور بعد ذلك؛ فستكون مشكلة كبيرة إذا تكرَّر مثل هذه الأحداث. والمشرفات كُن يتفاعلن بحساسية شديدة مع المواقف المتأزِّمة. لقد أخافني أنا نفسي، وتملَّكتني خيالات بأنه أصبح مريضًا عقليًّا عنيفًا.

ربما تساءل أبي: ماذا تريد هذه السيدة مني؟ الاستحمام؟ هذه بالتأكيد خدعة! لن أترك الغرباء يتحكَّمون فيَّ. إنها لا تتكلم الألمانية بطلاقة، ومع ذلك تسمح لنفسها بإعطائي أوامر وبأن تدفعني. هذا أمرٌ مُريب!

لم يكن أبي يحب تذكُّر الممرضات الروسيات في المعسكر بالقرب من براتيسلافا؛ فبدلًا من الرعاية كان يتلقى منهن الأوامر. ربما بقي شيءٌ من تلك الذكريات عالقًا في ذهنه وخرج في تلك اللحظة، لا أدري، ولكنها كانت مصادفة غريبة أن تأتي المشرفات على رعايته في فولفورت من سلوفاكيا وبعضهن رأسًا من براتيسلافا.

شاهدنا معًا في تلك الليلة الموعودة برنامج «هل تفهم الدعابة؟» وبدا أبي مهتمًّا، وعلَّق ضاحكًا على «السخافات» — كما كان يسميها — التي عرضوها، بينما كنت أدوِّن في الكمبيوتر المحمول الخاص بي ملاحظات عما حدث. أعطيت ماريا راحةً لبقية المساء، ولشدة شوقها للعودة إلى وطنها تركت العمل لدينا بعد أيام قلائل.

لا أذكر تحديدًا إذا كانت قد عُرضت في تلك الليلة في برنامج «هل تفهم الدعابة؟» الفقرة التي تعطَّل فيها مصعد أحد الفنادق وفيه مجموعة من الضيوف، وفجأة انطفأ النور وبعد ثوانٍ عاد، ولكن شابًّا من بين الموجودين كان قد اختفى وظلَّت حقيبته مُلقاةً على الأرض، ومعظم ركاب المصعد انزعجوا بشدة، عدا امرأة لم تتوقف عن الضحك؛ كانت تضحك بحقٍّ من كل قلبها.

عندما كان أبي يهذي كان الأمر في عقله بالتأكيد يشبه ذلك الموقف؛ ينطفئ النور لبرهة وفجأةً يتغير الموقف من حوله، دون أي تفسير! العقل الذي يعاني مثل هذه الأمور الغريبة يكون بالتأكيد في حالة طوارئ مستمرة.

•••

اتصلتْ بعد أسابيع قليلة العمَّةُ هدفيج، زوجة إميل، وتركت لي رسالةً مسجَّلة، فعاودتُ الاتصال بها. كان الموضوع يتعلق بكاتارينا، طفلة ابنة عمتي ماريا. عانت كاتارينا، بسبب إصابتها بحُمى، من شلل تام لعدة أسابيع لم تقدر فيها إلا على تحريك عينيها. ودوَّنت كاتارينا بعد الشفاء ما مرَّت به في هذه التجربة مع الكوابيس التي داهمتها لأيام طويلة بسبب الأدوية. تحدَّثتُ مع عمتي هدفيج أيضًا عن أبي، وأخبرتني عن رحلةٍ قام بها ابن عمي شتيفان معه، أكد أبي له خلالها أنه عاش حياة سعيدة. تعجَّبتْ عمتي لذلك؛ فقليلٌ من الناس من يعترف بشعوره بالسعادة، وكانت دهشتها تزداد كلما تذكَّرت الصورة التي أُخذت لأبي بعد إطلاق سراحه من المعتقل.

فأخبرتُها عن استيائي لضياع تلك الصورة وحافظة نقود أبي، ولكنها طمأنتني بقولها:

«يا أرنو، لديَّ نسخة منها، لا أعرف كيف وصلت إلينا، ولكن لدينا نسخة.»

«هل أنتِ متأكدة؟»

وصفتُ لها الصورة.

فقالت: «نعم، أنا متأكدة. إذا أردتَ فسأبحث عنها، يمكنك أن تأخذها غدًا.»

أخذتُ منها الصورة واستخرجتُ نسخةً من تلك النسخة، وسمحَتْ لي عمتي بالاحتفاظ بالنسخة الأصلية؛ لأنها كانت واحدةً من الأشياء التي تَعلَّق بها قلبي.

قرأتُ على ظهر الصورة أن إميل قام عام ١٩٩٥ بعمل هذه النسخة؛ وذلك بعد أن كان هو وأبي قد كبرا في السن. كان هذا في عام ١٩٩٥، حين بدأتْ كلُّ هذه المُعضلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤