الفصل الثامن

صوت خرير الماء المتساقط عبر المزراب رتيبٌ ومُخادع، والإنسان عاجز في مواجهة الماء والزمن.

نبَّهت أبي إلى تساقط المطر، فنظر إلى النافذة وقال:

«يا للأيام الخوالي! عندما كنتُ شابًّا كان الجو بالخارج جميلًا، والآن أصبح كئيبًا … كئيبًا.»

لم يفقد إحساسه بالزمن كليةً، لكن ساعته البيولوجية لم تعُد سليمة، والأمر المُحير هو أنه لم يفقد معرفته بضياع قدراته؛ فقد كان عادةً ما يتحدث عن ذلك، وزاد حيرتي أنه في الوقت نفسه لم يعُد قادرًا على السيطرة على مجريات يومه. لم يكن يُدرك ما إذا كان جائعًا أو عَطِشًا، وكان يرى أن تناول الطعام أو الشراب بالطريقة المعتادة «ليس بهذه السهولة». ذات مرة كان في الطبق أمامه قطعةُ خبز، فقال مُتحسِّرًا إنه لا يدري ماذا يفعل بها. طلب مني النصيحة، فقلت له:

«عليك فقط أن تقضم منها.»

لم ينفعه ذلك كثيرًا، فردَّ عليَّ متجهمًا:

«لو كنتُ أدري كيف! فكما تعلم، أنا شخص مسكين.»

أحيانًا كان يردِّد قوله أنه شخص مسكين كل عدة ساعات، غير أنه لم يكن يقولها حزينًا أو مُعترضًا، بل عادة بودٍّ وكأن عليه أن يُثبت حقيقةً مهمةً:

«أنا شخص لا يُتوقع منه شيء. الأمر ميئوس منه.»

كان مثل هذه الجُمل مُناسبًا لشخصيات روايات فرانتس كافكا أو توماس بيرنهارد، وكنت عند سماعها أفكِّر أن الشخصين المناسبين قد تقابلا: رجل مصاب بمرض ألزهايمر وأديب. يجعل الكاتب توماس بيرنهارد إحدى شخصيات روايته تقول عند إحساسها بالإحباط: أنا عاجزٌ، أنا عاجزٌ لأبعد الحدود. وفي موضع آخر: لم أعُد أفهم أي شيء.

كان أبي يكرِّر كثيرًا قوله: «لا أفهم كل ذلك!» قولٌ يُعبر عن عجزه عن فهم الآليات التي يتعامل معها. وبالطبع كانت تتبعه الجُملة القاطعة:

«لم أعُد شيئًا يُذكَر.»

كما كان أبي يُقيِّم حالته بالتفصيل، وكانت البهجة التي يعرض بها رأيه في وضعه تُصيبني بالقشعريرة.

«أنا مسكين على هامش الحياة. نعم، نعم، كانت بداياتي قوية، ولكني الآن أصبحتُ مُسنًّا … ومع التقدم في العمر أصابني شيء من اللامبالاة … لا، ليست لامبالاة … ليست لا مبالاة، هذه الكلمة غير مناسبة … بل داهمتني مشاكل.»

ثم يُحرك يدَيْه بأن يجعلهما تتقاطعان أمام بطنه عدة مرات مُشيرًا إلى أن شيئًا ما قد انتهى. قال أبي ذلك مرةً ثم قام وبحث في عدة أدراج، وبعد ذلك أغلقها. وعندما سألته عن ضالته التي يبحث عنها، عجز عن الإجابة، وقال:

«لا شيء، لا شيء يمكن متابعته أو استكماله.»

ثم أردف قائلًا:

«لقد رأيتُ شيئًا وأسعدني ذلك، ولكن كل هذه الأشياء لم تعُد تُناسب حالتي.»

«وكيف ترى حالتك يا أبي؟»

«ضعيفٌ، لا يمكنني فعل شيء إلا بمساعدة الآخرين، ولم أعُد أصلح لفعل الكثير. على أي حال، الأمر هكذا ولا يمكنني تغييره. لقد فشلت في كثير من الأمور … كثير، كان من الممكن أن تسير الأمور بصورة أفضل، ولكني لست حزينًا على ذلك، أنا لا أرثي لحالي، مع أني لم أُحقِّق الكثير في الأوقات الأخيرة. في البداية كانت الأمور تسير بطريقة مُرضية، ولكنها أخذت تزداد سوءًا، والحظ عاندني أيضًا.»

«أي سوء حظٍّ تعني؟»

«لقد أصبحتْ يداي عاجزتَيْن، وفقَدَتِ الأشياءُ قيمتها فجأة. لا أريد اتهام الآخرين بالمسئولية عن ذلك، أشيائي هي التي أصبحت ضعيفة، لم أعُد مناسبًا، لم أعِشْ لحظات ازدهار في آخر … ماذا أقول؟ … أشهر! ربما كانت الفترة أطول.»

«متى كانت لحظات الازدهار في حياتك؟»

«لم أعُد أفكِّر فيها. عشتُ أوقاتًا جميلة، وسعِدتُ كثيرًا، ولكن، ولكن، ولكن، مضت تلك الأوقات. لقد تلفت بعض الأشياء لديَّ، أعرف ذلك، لكني لم أعُد أحتاجها.»

ثم ذهب إلى الباب، وعاد بعد خمس ثوانٍ. غنَّى قليلًا ونظر في الإناء على الموقد، وبعدها خرج إلى الحديقة، وعندما رجع سألته:

«هل يوجد جديد؟»

«بالنسبة إليَّ لا شيء، لا شيء جديدًا لديَّ، دائمًا هكذا، وأنا سعيد بذلك. كما تعلم، لا يوجد أي جديد لديَّ، أنا ضعيف، غير قادر على الإنجاز، أصبح الأمر هكذا.» ثم غنَّى مُجددًا بعض المقاطع، وقال: «وقريبًا … سأرقد!»

«ماذا؟»

«لن أفعل شيئًا … كما تعلم، لا توجد لديَّ أمورٌ مُهمة، أشعر بذلك، لا أستطيع البرهنة على ذلك، لكني أشعر به. نعم، هكذا الحال، وما يجب القيام به، يجب على الآخرين فعله.»

«لا تشغل بالك بالأمر. دعه لي.»

ضحك وأمسك بيدي وقال:

«شكرًا، أود فقط أن أشكرك. أنا إنسان مسكين، كنتُ قديمًا … أشكرك على أنك لا تجعل من عجزي مأساة.»

«أبي، كل شيء على ما يُرام، وتحت السيطرة. بدأت الشمس في المغيب.»

«أتعتقد ذلك؟»

«أنا أعرف ذلك.»

«أشكرك لإخباري، أنا أصبحتُ للأسف إنسانًا خاملًا.»

ثم جلس بجانبي إلى الطاولة مُسنِدًا رأسه بين يديه.

•••

كان دائمًا يحمل همَّ أن يكون هناك شيءٌ لم يتم إنجازه. عندما نزلتُ ذات يوم من الطابق العلوي وجدته واقفًا مع مشرفة كانت تُدعى لودميلا، كانت تحاول إقناعه بالخلود إلى النوم، ولكنه كان قلقًا؛ لأنه لم يتم أداء كل الأعمال، ولأن هناك مَن ينتظره. فطلبتُ منه أن يكتفي بما تم إنجازه هذا اليوم؛ لأن الجميع سيخلد إلى النوم، ولكنه سأل باهتمام:

«ولكن مَن سيصطحب الناس إلى الخارج؟!»

ربَّتُّ على يده قليلًا، وقلت له:

«أنا سأفعل، يمكنهم الآن أن يُغادروا البيت.»

ومن وراء حيرته بدت ابتسامة خفيَّة، ثم غمز لي بعينه وقال:

«أنت أعز أصدقائي.»

•••

أصبح التعامل اليومي معه عادةً يُشبه الحياة في الخيال؛ إذ كُنا نملأ فجوات الذاكرة بتصوراتٍ خيالية، ونبني جسورًا لتساعده على فهم ما يستعصي عليه فهمه، وتُعينه على مقاومة الهلاوس. المكان الوحيد الذي تبقَّى للتعايش بيننا كان العالم الذي يُدركه والدي، وكثيرًا كُنا نُكرِّرُ قول الأشياء التي تدعم وجهة نظره وتُسعده قدر استطاعتنا. وتعلَّمنا أن القداسة المُصطنعة التي نُضفيها على الحقيقة هي أسوأ الأشياء؛ فهي لم تساعدنا على إحراز أي تقدم، بل أضرَّت بالجميع. إن محاولة إعطاء مريض ألزهايمر إجابات سليمة تبعًا للأعراف المعهودة دون مراعاة حالته يُعتبر بمثابة محاولة إجباره على فهم عالمٍ ليس بعالمه.

وهكذا سرنا في طريق يحيد عن الواقع الملموس ثم يعود إليه عبر تعرُّجات كثيرة. فعندما كان أبي يطلب العودة إلى البيت كنت أقول له: سأرى ما يمكنني فعله، أظن أن باستطاعتي مساعدتك. وعندما كان يستعلم عن أمه، كنت أوحي إليه بأني أعتقد أيضًا أنها لا تزال حية، وكنت أؤكد له أنها على علمٍ بكل شيءٍ وتعتني به. كان يسعده سماع ذلك؛ فيُشرق وجهه ويهزُّ رأسه راضيًا. وإشراق وجهه وهز رأسه كانا دليلين على إحساسه بالرجوع إلى الواقع في تلك اللحظة.

عادةً ما كانت الحقيقة الموضوعية لا تأخذ حظها، ولم أكن آبه لذلك؛ فقد كانت عديمة الجدوى، وفي نفس الوقت كانت سعادتي تزداد كلما أوغلت تفسيراتي في بحر الخيال أكثر؛ فقد كان لديَّ معيار واحد لها: كلما كان تأثيرها مُهدِّئًا لأبي كانت أفضل.

كثيرٌ من أمور الحياة اليومية يتوقف على آلية التعامل معها، والمطلوب منا كان شديد التعقيد، وبقدر ما كان أبي حزينًا لفقدان قدراته العقلية، بقدر ما كانت الأمور الغريبة تشحذ فكر ذويه. كما كان الحديث معه تدريبًا جيدًا لمقاومة صدأ عقولنا؛ إذ كان يتطلَّب درجة عالية من الحساسية والخيال، وكان بإمكان كلمة واحدة مناسبة وحركة واحدة سليمة في أفضل الأحوال أن تُهدِّئ من روعه لفترة. كتب فيليكس هارتلاوب في هذا السياق ما مفاده: «أن المرء يمكن أن ينجح في هذه الحالة فقط إذا كان راقصًا ماهرًا على الحبال.»

قالت دانيلا عن خبراتها مع أبي إن إقناعه بالذهاب إلى النوم والاستيقاظ لا يكون مهمةً صعبةً إذا سألتُ

«هل أنت مُتعَب؟»

«نعم.»

«أتريد أن تخلد إلى النوم؟»

«نعم.»

يجب جعله عن طريق تلك الأسئلة يطلب ما نريده نحن أن يفعله، بهذه الطريقة أمكن تحقيق بعض النظام في عالمه غير المنتظم، أما إعطاء الأوامر فيفشل دائمًا؛ فعندما كانت تقول:

«أوجوست، عليك الخلود إلى النوم الآن.»

فكان يسأل:

«لماذا؟»

وفي مرةٍ كانت دانيلا تكوي الملابس، فشعر أبي بالملل وقال إنه سيذهب إلى البيت، وأن هذا قرار نهائي، وإنه لن يرضى بغير ذلك، فنظرت إليه مصدومةً وقالت:

«أوجوست، لن أبقى هنا وحدي. إذا ذهبت فسأذهب أنا أيضًا، ولكن يجب أن أنتهي من الكيِّ أولًا.»

فتفهَّم الموقف وشكرته على ذلك.

ذكرت دانيلا أنها تشكره دائمًا حتى عندما تقدِّم هي له خدمة؛ لأن هذا يُشجِّعه ويُشعره بالرضا، ويجعله يتعلق بها إلى حدٍّ ما، حتى إنه أصبح يبحث عنها طوال اليوم ويتبعها في كل مكان؛ لأنه يحتاج إلى الشعور بالأمان، وعندها فقط يشعر بالارتياح، وهو يعرف جيدًا أنه يحتاج إلى الآخرين حتى لا يضيع. قال لها أبي ذات مرة:

«أنا أسكن هذا البيت الذي بنيتُهُ وحدي، ولا يوجد حاليًّا أيٌّ من أفراد عائلتي هنا. أنا هنا وحدي مع المشرفات على رعايتي.»

وفي مرة سألني: «مَن غيرنا في البيت؟» فأجبته أنه لا أحد غيرنا هناك، وأننا وحدنا الآن، فبدا عليه القلق لسماع ذلك وقال:

«هذا سيئ، أنا أحتاج إلى رعايةٍ، ودونها أضيع!»

كان مثل هذه الاستنتاجات يهُزُّ أعماقي؛ لأني لم أكن أظنه قادرًا على تقييم الأمور بطريقة سليمة؛ لذلك قلت له بسرعة:

«أنا هنا، وأنا سأعتني بك.»

فأشرق وجهه مُجدَّدًا وقال:

«أُقدِّر لك أنك توفر وقتًا لذلك.»

في يوم آخر قال:

«لم يُسدِ إليَّ أحدٌ صنيعًا أبدًا، ولكن ربما تكون قد قمتَ أنت بهذا.»

«نعم، ربما أحيانًا.»

ولكنه عارضني بحسرةٍ قائلًا:

«أنت لم تفعل أبدًا شيئًا من أجلي.»

كانت دانيلا أفضل من تتفاهم معه من المشرفات على رعايته، وكانا منسجمَيْن لدرجة تُثير العجب. ذات مرة كانت تُريه صور زوجها، فقال أبي إنه يعرفه، ولكنها قالت إن ذلك مستحيل؛ لأنه يعيش في سلوفاكيا. فقال أبي: «أرى أنك إنسانة لطيفة حتى وإن كنتُ لا أُصدِّق ما تقولين.»

فأصرَّت على أن زوجها لم يحضر أبدًا إلى فورآرلبرج ولا يعرف حتى كلمة واحدة بالألمانية، وكررتها «حتى كلمة»، فقال أبي:

«أنت امرأة لطيفة، ولن أزيد على ذلك.»

وحسب كلامها لم يكن البقاءُ معه مشكلةً؛ فكلُّ ما يحتاجه المرء هو الصبر. فعندما كان يرفض الاستيقاظ كانت تُعطيه وقتًا وتنتظر، وعندما يرفض حلاقة ذقنه لم تكن هذه أيضًا مشكلة، فبعد نصف ساعة كان ينسى أنه رفض الحلاقة قبل قليل. كانت تقول إن لديها أربعًا وعشرين ساعة لتنتظر.

أما باقي المشرفات فلم يكُنَّ يتفاهمن معه بنفس القدر؛ فعندما كان يرفض الانصياع كُنَّ يتضايقن، وكان أبي يتلقَّى ضيقهن بحساسية شديدة، وعندها كان لا يشعر بقيمة أي رعاية تُقدَّم له. وكانت المواقف المُحبطة تزيد من الشعور المتبادل بالإزعاج، ومع أننا كنا نزيد من دعم أفراد الأسرة في مثل تلك المواقف، فإن وتيرة الأيام التي كُنا نُصاب جميعًا في نهايتها بالجنون كانت تتسارع. كُنتُ أشعر أحيانًا وأنا أغتسل برغبةٍ في الهرولة هروبًا من البيت، ومرة أخرى وأنا أمُرُّ بجوار خزانة الملابس راودتني رغبة في الجلوس بداخلها، وعندما كنت أجلس في الليل مُرهقًا وغير قادر على النوم كُنت أتذكَّر المقولة اللاتينية: يا لها من ليلةٍ لا تنتهي!

•••

من وقت لآخر كانت بوارق ما يُشبه الأمل تلوح في الأُفق، إلا أن الفترات بين كل موقف مُحتدم وآخر كانت تتقارب، ولم تنفع أي محاولات لتوجيه الدفَّة إلى غير وُجهة التصادم. وفي مثل هذه الأجواء المُبهمة كان التوتر يبلُغ حدًّا غير مُحتمل؛ كان فظيعًا أن نرى هذه المُعاناة التي ألمَّت بالجميع. وكلما كانت علاقته بإحدى المشرفات تسوء، كانت حالته تزداد سوءًا. فقد كُنَّ يصلن إلى أقصى حدود قدرتهن على التحمل؛ مما كان يعود بالسلب على والدي، وبدأتْ دوامة الانهيار.

كانت الأزمة تبدأ مع الصباح، عندما يعجز الجميع عن إرضائه، وفي تلك الأوقات كان أول ما يقوله أبي:

«لو تعرف كم تُساء مُعاملتي هنا!»

ولم تكن هذه اللهجة تتغيَّر بقية اليوم، وكان مثلًا يتحمَّل صوت الموسيقى بالكاد، ولا يُعجبه مذاق طعام الغداء:

«لا أظن أن بإمكاني تناول هذا الطعام.»

خرج مرةً بعد الغداء إلى الحديقة متذمرًا وبَالَ في إناءٍ به أكبر نبتة صبار زرعها فيرنر. سمعتُ صوت البول فهرعت إليه وأخبرته أنه غير مسموح له بفعل ذلك، لكنه قال:

«بالطبع يمكنني ذلك، هذا عقابٌ على ما تفعلونه بي. حضراتكم تستحقون عقابًا أكبر كثيرًا من هذا.»

والأسوأ كانت الليالي التي يستيقظ فيها ويبدأ في البحث عن أولاده. كان هذا الموقف يتكرَّر بصورة مفاجئة وبوتيرة غير مفهومة. وفي مثل تلك الحالات كان من المستحيل مواساته؛ لأنه يُصبح بائسًا جدًّا وفي قمة الحيرة، وكأنه يبحث في الحرب بين أطلال البيوت المُدمَّرة عن أحياء. أحيانًا كُنا نُفلح في طمأنته عندما ندَّعي أن أولاده سيحضرون في الصباح، ولكنه في أحيان أخرى كان يقضي نصف الليل في البحث حتى يُسلِمه التعبُ إلى النوم. وفي الصباح كان يستأنف البحث عن أربعة أطفال صغار لم يناموا في أسرَّتهم ولم يختبئوا تحتها، ولم يجدهم في حوض الاستحمام ولا في الخزانات خلف القمصان، ويبقى حزينًا لأنه لم يجد أيًّا منهم.

وكان يقول:

«لقد تم ترحيلهم ولم يَرَهم أحدٌ منذ ذلك الوقت. لقد بحثتُ عنهم كثيرًا واتصلت بجميع الجهات المسئولة ليساعدوني، والآن لم يعُد لديَّ أملٌ في أن أراهم مُجدَّدًا.»

وعندما كنتُ أخبره أني أعتقد أنهم بخير وأنهم سيتزوجون وينجبون أطفالًا، كان يقول:

«كل ما تقوله ممكنٌ، لكني لا أظن أنه سيحدث.»

وكان يعقد ما بين حاجبيه وكأنه يريد تذكُّر شيءٍ، ويُشير بيده إلى خزانة الحُجرة ويقول إن هذا هو الاتجاه الذي أخذوا الأطفال فيه.

«أين يمكن أن يكونوا؟ لقد رحلوا، لقد أخذوهم، لقد رحلوا، لقد أخذوهم.»

كاد الأمر أن ينجح أيضًا مع المشرفة فلاستا، ولكن أمَّها مرضت واتصلت بنا وقالت كيف يُعقل أن تبقى فلاستا في النمسا لرعاية الغرباء بينما أمها في الفراش تحتاج لمن يعتني بها؟

أما المشرفة آنَّا، فلم تستطع أن تتواصل مع أبي رغم شدة ذكائها وبذلها كل ما في استطاعتها. فقد كان الأمر في غاية السوء؛ فعندما كانت تخرج معه للتنزُّه ويقابله المارَّة ويسألونه عنها كان يقول: «إن هذه البقرة الغبية تُضايقه طوال الوقت.»

أسوأ ما بدر منه تجاهها كان يومَ أشار بيده إلى عُنُقه موحيًا برغبته في قتلها، فخافت بالفعل من أن يذهب ويُحضر سكينًا من الدرج. عندما أخبرَتْني أخفيتُ صدمتي، ونصحتها ألا تأخذ ذلك على محمل الجد، ولكن، هل كنتُ واثقًا من ذلك؟ لذلك استطردت قائلًا:

«إنه رجلٌ مريض، فلا مانع من اتخاذ بعض الحيطة، وعلى أسوأ الفروض فهو ليس بالقوي ولا بالسريع.»

كلامٌ مُطمئِنٌ بالتأكيد!

وأثار دهشتنا أيضًا أنه بمجرد ترك أي مشرفة للبيت لأنها وأبي لم يتفاهما، وتولِّي دانيلا أو أمي مسئولية رعايته مجددًا، كان أبي بعد يومين أو ثلاثة يُصبح هادئًا مثل الحَمَل الوديع، ويُصبح سعيدًا ومُسالِمًا ومُراعيًا لمشاعر الآخرين، وكأنه اللطف والود شخصيًّا، وكنا نسمع منه تعليقاته الغريبة من جديد.

هل أنت راضٍ يا أوجوست؟

أنا دائمًا راضٍ، حتى عندما كنت طفلًا رضيعًا كنت راضيًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤