الفصل التاسع

أنهك مرض ألزهايمر أبي على مدار أكثر من عشر سنين، وتوضِّح الصورُ العقلية المُتقطعة التي يرسمها المريض في خياله حجمَ الدمار الذي ألمَّ بعقله؛ مع ذلك كان أبي يخرج من وراء أسوار مرضه للحظات كل يوم ويسأل بطريقة أو بأخرى:

«ماذا جرى لرأسي؟» ويضرب جبهته بيده مضيفًا: «لقد تَلِفَ شيءٌ ما هنا، هلَّا أخبرتني كيف عسانا نصلحه!»

وكان ينظر إليَّ مُنتظرًا المساعدة، ولكن خيبة الأمل كانت تواتيه عندما أُعطيه إجابةً غير مُقنعة؛ مثل:

«ستأتي المساعدة من بريجينتس.»

هذا ما كتبه فرانتس كافكا في يومياته، قبل عشر سنوات تقريبًا من يوم ميلاد أبي؛ أي يوم ٦ يوليو ١٩١٦. ولا شك أن شعور أبي كان مماثلًا لشعور أحد أبطال كافكا، رغم أن أبي كان يستطيع رؤية بريجينتس من نافذة منزله.

وتابع كافكا في يومياته:

«وعندما حدَّق المريض بعينَيْه المتعبتَيْن قال له الطبيب: «بريجينتس في فورآرلبرج.» فردَّ المريض قائلًا: «لكنها بعيدة».»

أيضًا بالنسبة إلى أبي كانت بريجينتس بعيدةً، على الأقل قياسًا بمدى عجزنا عن مساعدته. في لحظات اليقظة التي كانت تمر به، كان يتلوَّى شوقًا إلى عقل سليم، إلا أن التحسُّن لم يطرأ عليه. لم يُفلح ضربه بيده على جبهته كما كان يُفلح في صغري عندما كان يضرب بيده على التليفزيون كلما تشوَّشت الصورة.

في أحد أيام ربيع ٢٠٠٩ جهَّزتْ دانيلا أبي للخروج في نزهة، وارتدى حذاء الخروج والسُّترة، ووضعت القُبعة فوق رأسه وقالت:

«ها هي قبعتك.»

«كلام سليم وجميل، ولكن أين عقلي؟»

أجبتُهُ من المطبخ: «عقلك تحت قبعتك.»

رفع أبي القبعة ونظر فيها وقال:

«لو حدث هذا، فستكون معجزةً.» تردَّد قليلًا ثم سأل خجِلًا: «هل عقلي فعلًا تحت القبعة؟»

قلت له: «نعم، إنه هناك في مكانه.»

رفع حاجبَيْه وذهب ذاهلًا وراء دانيلا نحو الباب.

وتزايدت تلك المواقف السريالية التي تبدو عندما أحكيها فكاهيَّةً ومَرِحة بعض الشيء وغريبة بعض الشيء، ولكن من يُنصت جيدًا يجد فضلًا عن المرح كثيرًا من القلق والحيرة، وفي أغلب الأحوال كان المرح يغيب عن الصورة تمامًا.

ومما كان يزيد كثيرًا من المواقف صعوبةً عدمُ قدرة أبي على فهم جدوى الأمور؛ فكان يغضب لأن عليه أن يبتلع أدويةً لا يستسيغ طعمها، ولا يدري أن حالته ستسوء دون الأدوية؛ لذا كان يعترض قائلًا:

«لا يمكن أن تفعل بي هذا!»

«هذا لصالحك.»

«يمكن لأي شخص أن يَدَّعي ذلك.» جاءت إجابته بلهجةٍ حادة، ثم استكمل كلامه لي: «إياك أن تظن أني سأنخدع بشخص غير مُتزن مثلك! أعرف جميع ألاعيبك القذرة.»

كنت أُدرك بطبيعة الحال أن المرض هو الذي يتحدَّث؛ ومع ذلك كان إحساسي بأن أبي ينهرني دون ذنب بهذه الطريقة مؤلمًا، وكان وقعُ ذلك أشدَّ إيلامًا على الأشخاص الذين لا يمتلكون الخبرة التخصصية ولا يعرفون أبي جيدًا وليسوا مُلتزِمين تجاهه بشيء.

«ارحل من هنا! إن لم تتركني لحالي فسأُحضر سلاحًا وأُطلق الرصاص على مؤخرتك!»

كان يقول لي ذلك، وكنت أجده مُضحكًا؛ لأنه يذكِّرني بطفولتي عندما كُنت أُخوِّف الآخرين بأخي الكبير. لكن بعض المشرفات لم يتفهَّمن ذلك، ولم يقدرن على فهم الرسالة وراء مثل تلك التهديدات؛ ألا وهي تفضيل أبي أن يُترك في هدوء في ذلك العالم المليء بالوجوه الغريبة.

مكثتْ دانيلا قرابة ثلاثة أعوام لدينا، وكانت تُقسم حتى آخر يوم أنها لن تجد بسهولة مكانًا يُعجبها مثل بيتنا. بالنسبة إليها كان أبي بالرغم من مرضه شخصًا ذكيًّا ومرحًا ومُستعدًّا لتقبُّل الدعابة دائمًا، ومع أن عقله يتخلى عنه تمامًا في بعض الأحيان، فإنها كانت تعرفه بما يكفي كي تُدرك أنه شخص مسكين ومسالم فعلًا.

كان علينا كل ثلاثة أسابيع أن نُحضر مشرفةً أخرى مكان دانيلا؛ حتى تزور أسرتها في سلوفاكيا. وللأسف لم تتمكن أيٌّ من زميلاتها على مدار عامين من تكوين علاقة طيبة مع أبي مثلها، ولم يكُنَّ يمكثن فترةً طويلة لدينا. مع تفهُّمي لذلك في مُعظم الأحيان.

فقد كان أبي في أغلب الأوقات يتصرَّف بعناد، ويرفض كل شيء من الصباح حتى المساء. وكان أيضًا يميل إلى طرد الأشخاص الذين يعتبرهم غرباء ويتسبَّبون في شعوره بالحيرة والقلق. مُعظم المشرفات كُنَّ يتحدثن إليه أكثر مما ينبغي، وبلهجة غير مناسبة وكأنه طفلٌ صغير. ولأن أبي كان لا يزال شخصًا مُلفتًا برأسه الكبير وتعبيرات وجهه المُعبِّرة، فقد كانت المشرفات يشعرن أحيانًا ببعض الخوف منه؛ فعندما كان يرى أنهن يضغطن عليه كان يدفعهن جانبًا.

وحينها لم تكن أي تأكيدات على أن أبي رجلٌ لطيف تُجدي. كذلك لم تنفعهن نصائحي بأن يتحاشينه عندما يكون غاضبًا.

فالكلام سهل. والمشرفات لم يكُنَّ متخصصات، ولا يملك كل إنسان بالضرورة القدرات اللازمة للتعامل مع مريض ألزهايمر، وأفضل دليل على ذلك كان إيفا أصغر حفيدة لأبي، تلك التي لم تعرف جدَّها إلا على هذه الحال. كانت المودة التي تعامله بها كبيرةً، لدرجةٍ كانت تجعله يتجاوب معها بصورة تلقائية، ولأن الصغيرة كانت خالية الذهن، فقد كان أبي في حضرتها خالي الذهن أيضًا.

وكان الأمر مُشابهًا مع دانيلا، التي تفاهمت معه من البداية بطريقة جيدة جدًّا، وكانت تعامله بأريحية شديدة، وبدا أبي وكأنه مُغرمٌ بها إلى درجة ما؛ فقد كان على أي حال يُحاول عادةً إبعادي عندما تكون هي معه. كانت قادرةً على إعطائه الإحساس بأهميته؛ فقد كانت مثلًا تعطيه سلة المشتريات ليحملها عنها، أو تتركه يدفع درَّاجتها. كذلك قام هو بتعليمها اللغة الألمانية، وأمضى ساعاتٍ في تعليمها نُطق الكلمات وقواعد النحو، في الوقت الذي كان فيه عاجزًا عن تذكُّر أسماء أبنائه الأربعة. وعندما سألتُهُ عن سبب فعله ذلك، قال إنه يقوم بكل ذلك كي تبقى معه.

كانت تلك أسبابًا كافية دفعت السيدة الشقراء القادمة من نيترا في سلوفاكيا إلى البكاء عندما أخبرناها في شهر مارس من عام ٢٠٠٩ بقرارنا أن الوقت قد حان لدخول أبي دار مسنين، في حين أن أنَّا اعتذرت عن رعايته بعد فترة قصيرة، ولم يكن هناك أي أمل في أن تعود إلى بيتنا مرةً أُخرى، بعد ما عايشته معه طوال عامٍ مضى. كانت الأيام التي صبَغَتها نوباتُ الرفض والعناد كالقشَّة التي قصمت ظهر البعير.

من الشائع أن يشعر المرء بتأنيب الضمير عندما يُقرِّر إدخال أحد أفراد الأسرة دار مسنين، وبالتأكيد يخلق مثلُ هذا القرار حالةً من الحيرة، ولكن في الوقت نفسه لا ضير من مراجعة بعض تلك الأعراف الثابتة. كانت دار المُسنين في قريتنا تمتاز بوجود عمالة مُؤهَّلة، تعمل في ظروف جيدة، ولديها فرصة لتبادل الرأي والخبرة حول المشاكل المُلحة. وهناك يعرفون أبي، حتى قبل مرضه، هناك يرون فيه الشخص والإنسان الذي له تاريخ حياة طويلة، طفولةً وشبابًا؛ إنسانًا حمل اسم أوجوست جايجر لأكثر من ثمانين عامًا وليس مع بداية المرض فحسب.

أما في البيت فلم يعُد توفير مثل هذه الرعاية ممكنًا رغم كل الدعم الذي تقدِّمه الأسرة. إن الاعتراف بالهزيمة قد يكون في بعض الأحيان انتصارًا، ولن يسعد أحدٌ إذا تضرَّر آخرون في الأسرة. لسنوات طوال كان الأبُ المريضُ المحورَ الذي يدور حوله كل شيء، ومن يُعاني مُشكلةً شخصية كان عليه أن يجد بنفسه سبيلًا لحلها؛ فقد كان الجميع مُنهكًا بالتفكير ليل نهار في أبينا، وكُنا نسأل أنفسنا طوال الوقت: تُرى ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كُنا قد تخطينا حدود التحمُّل.

وقد جعل إحساسُ أبي وهو في بيته بأنه ليس في بيته كلَّ جهودنا تذهب أدراج الرياح.

بدأ آخر يومٍ لأبي في البيت مثل أي يومٍ من سابقيه. لم يعُد يُقاوم تمامًا منذ تم تغيير أدويته، وأصبحَ يُجفِّف نفسه بنفسه بعد الاستحمام، ثم يأكل ببطءٍ ورِضًا طعامَ الإفطار. كان صباحًا دافئًا ومُشمسًا؛ لذلك أجلستْهُ أُمي على كُرسي حديقة أمام البيت، وكانت قد حضرت لرعايته بعد استسلام أنَّا. تبادل أبي من مقعده بعض الكلمات مع الجيران الذين يمرون أمام البيت، بينما كانت أُمي تحيك قطع قماش صغيرة تحمل اسمه في ملابسه، وأيضًا في مناديله.

على الغداء تناول وجبةً تقليدية من العصيدة والجبن، ثم رقد في غرفة المعيشة، وبعد دقائق قليلة نام. استيقظ في الثالثة عصرًا تقريبًا وشرب شايًا، وساعدها في حمل حقيبته إلى السيارة، ثم ركب السيارة، وأوصلته أُمي إلى دار المُسنين.

أمام البوابة كان أحد أعضاء المجلس المحلي السابقين جالسًا، فقام وأمسك لهما الباب ليدخُلا؛ فلعله كان يعرف أن الباب مُعطَّلًا ولن يفتح تلقائيًّا. لم يتعرَّف عليه أبي، ولكنه حيَّاه فقط.

في قاعة الاستقبال كانت تجلس سيدة ضعيفة البُنيان على الأريكة. رفع أبي يده وحيَّاها، ثم ذهب إليها وأخذ بيدها وتبعا أمي إلى باب قاعة الانتظار في دار المسنين. هناك حيَّته مديرة الدار وأرته حجرته وصُورةَ جدَّيْه التي كانت بالفعل مُعلَّقةً على جدرانها، فقال إنه قد رآهما قبل ذلك ولكنه لا يعرفهما. طرحت المديرة بعض الأسئلة المُتعلقة بعاداته وأدويته، ثم خرجت معه إلى الحديقة، فجلس إلى جانب بقية النُّزلاء في الظل وبدا مُستريحًا. بعد فترة ودَّعته أُمي، فلوَّح لها بيده مُودِّعًا.

•••

عندما زرتُه بعد أيام، كان جالسًا عند وصولي إلى طاولته وحده يغني. انتظرت قليلًا ثم جلست إليه. تحدَّثنا ولعبنا لعبة مصارعة الذراعَيْن، واندمج بشدة، حتى إن وجهه الجامد استطاع أن يرسم بسمةً. وكانت الفرحة ظاهرةً عليه، ولم يبدُ كإنسان مُجبرٍ على تحمُّل الحياة، وكان مَرِحًا بالرغم من حالته الصحية، وأهم شيءٍ هو أنه كان سعيدًا.

قلتُ له:

«كم أنت قوي جدًّا!»

ابتسم مُجددًا وقال:

«ربما لستُ قويًّا بما يكفي كي أدفن أحدًا في الثلج، ولكني لست هزيلًا. أردتُ أن أُريك ذلك، وإلا لما كُنتُ فعلته.»

ثم أردف قائلًا:

«ليس أمامنا إلا أن نُدافع عن أنفسنا، وإن لم نفعل فسنضيع.»

•••

لا يمكن اعتبار معاناة أبي من مرض ألزهايمر بمثابة مكسبٍ له، إلا أن أولاده وأحفاده قد تعلَّموا من خلاله الكثير، وهذا دور الآباء والأمهات أن يُعلِّموا أولادهم.

كما يُعَدُّ التقدُّم في العُمر، بوصفه آخر مراحل الحياة، شكلًا ثقافيًّا يتغيَّر بصورة دائمة ويجب إعادة تعلُّمه باستمرار. وإذا كبر الأب ولم يعُد قادرًا على تعليم أولاده شيئًا جديدًا فعلى الأقل يمكنه أن يُعلِّمهم معنى أن يكبر المرءُ ويمرض. وإذا توافرت الشروط الجيدة، فإن هذا سيعني أيضًا علاقةَ أبوَّة وبنوَّة قوية؛ إذ لا يمكن أن نتدرَّب على مقاومة الموت إلا ونحن أحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤