علاقة اليسار بثورة يوليو بدأت قبل قيام الثورة

بقلم  فتحي خليل

حين وصلت في مقال الدكتور فؤاد زكريا، إلى قوله: أنا أرفض بشدةٍ أية محاولة من جانب اليمين لاستغلال ما أكتب من أجل تأييد قضيته التي أقف فيها ضده دون أي لبس أو غموض ومن المستحيل أن أقبل استخدام ما أكتب لصالح مدخني السيجار من أصحاب المصانع السابقين، أو لصالح أصدقاء آل صيدناوي وأفرينو … ولو حدث أن استخدم أحد ما أكتب على هذا النحو المشين …

حين وصلت إلى هذه السطور توقعتُ لوهلة أن الدكتور سيهدِّد برفع قضية على من يقترف هذا الإثم، ولكن المفاجأة التي صدمتْني أن الدكتور حول مدفعيته من اليمين نحو اليسار حين قال: فسيكون الخطأ في ذلك مرة أخرى هو خطأ اليسار!

لم يهدد الدكتور برفع قضية على اليمين بل أحال الجريمة إلى دوسيه اليسار بغير تردُّد، وتلك في الحقيقة هي قضيته.

بالمنهج الذي اتبعه صديقي وزميل دراستي الدكتور فؤاد زكريا، فأينما تولِّ وجهك في أفق السياسة المصرية المعاصرة فثَمَّ أخطاء اليسار.

ما هي خلاصة الدراسة التي رحبنا بنشرها في روز اليوسف احترامًا لحرية الرأي؟

هي بكلمات د. فؤاد «محاولة تشير إلى طريق الخلاص لليسار، في نفس الوقت الذي تكشف فيه عن أخطائه الماضية والحاضرة … وتحذير مخلص إلى اليسار بأن ينفض عن نفسه غبار تجربة فاشلة هي الناصرية.»

قبل الدخول في تناول دراسة د. فؤاد بالتعليق أحبُّ أن أوجزَ علاقة اليسار بثورة ٢٣ يوليو لأضع صاحب الدراسة والقارئ في دائرة ضوءٍ ضروريةٍ لكي تنتقل المناقشة إلى ساحة أكثر صلابة.

لم يعد سرًّا أن علاقة اليسار بثورة ٢٣ يوليو سبقت قيامها. وبالتحديد فإن تنظيمًا ماركسيًّا واسع النفوذ هو «الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني» كان على علاقة عضوية وفكرية بتنظيم الضباط الأحرار منذ النشأة حتى الاستيلاء على السلطة. ولقد كان أول بيان سياسي يؤيِّد الثورة في ساعاتها الأولى هو بيان من هذا التنظيم إلى الشعب ومنشور إلى أعضائه بالدعوة إلى تأييد الثورة كل في مجاله. وإذا كان هذا التنظيم قد تعرَّض لنكسةٍ قصيرةٍ في موقفه عن تفهُّم طبيعة الثورة فقد نجح على الدوام في كسب فصائل اليسار، الرافضة لثورة ٢٣ يوليو، إلى موقفه بدرجات متفاوتة، حين كانت تخرج بالتطرُّف إلى حدود مناوأة الثورة باعتبارها انقلابًا عسكريًّا أو فاشيًّا أو سلطة تمثِّل الرأسمالية الكبيرة أو الاحتكار المصري.

ثورة ٢٣ يوليو إذن ليست ظاهرة سياسية بعيدة عن اليسار مقطوعة الصلة به تتعامل معه بالقمع أو الاحتضان القاتل. هذا الفصل غير قائمٍ ولم يكن قائمًا، وهذه مسألة جوهرية لا اليمين يحسب حسابها في هجمته على ثورة ٢٣ يوليو، ولا الدكتور فؤاد زكريا في دراسته حسب حسابها، ولعل الخطأ الأكبر، سواء بالنسبة لعبد الناصر أو لليسار كان في غياب هذه الحقيقة عن أحدهما أو كليهما خلال مجرى الثورة في فتراتٍ تقصر أو تطول. وفي اللحظة الراهنة فإن الخطر الأكبر أيضًا سواء بالنسبة لليسار أو القوى الوطنية التي تدين بمبادئ الناصرية — في السلطة أو خارجها — هو غياب هذه الحقيقة: إن بين ثورة ٢٣ يوليو واليسار المصري علاقةً عضوية وفكرية وكفاحية.

وذلك بالتحديد هو الباب الذي نفذت منه كافة سلبيات ثورة ٢٣ يوليو، أقصد غياب حقيقة العلاقة العضوية والفكرية والكفاحية عن واحد من الطرفين أو عنهما معًا.

من هذا الباب كان يدخل التطرف العدائي من جانب بعض فصائل اليسار.

ومن هذا الباب كان يدخل انزلاق سلطة ٢٣ يوليو إلى كمائن الرجعية أحيانًا، والعزلة عن الجماهير أحيانًا، والتراخي أمام انحرافات الطبقة الجديدة في مؤسسات الدولة والحياة العامة.

أردت بهذا الشرح لطبيعة العلاقة بين ثورة ٢٣ يوليو واليسار أن أوضِّح للدكتور فؤاد ابتداءً، كيف يستحيل على اليسار المصري أن ينفذ نصيحته بأن ينفض يده من تجربة فاشلة، كما يسمي ثورة ٢٣ يوليو، فليس من المعقول أن ينفض تيار سياسي يده من تجربة مهد لها بقيادته لحركة شعبية عنيفة هزَّت أركان النظام القديم، وامتدَّت في مطلع عام ١٩٤٦م حتى مطلع عام ١٩٥٢م، ثم يساهم في قيامها وإعداد أداتها بالفكر والمطبعة السرية والمنشور السياسي، وبإنجاز الدور العنيف ليلة استيلائها على السلطة، بالسيطرة على قيادة القوات المسلحة، ثم كان أول من أيَّدَها علنًا، وتعارَك مع فصائلها الأخرى — عن اعتقاد بأنه يصحِّح مسارها — عراكًا كلفه السجن والاستشهاد فيه أحيانًا، وكلفه عمر جيل بأسره من أبنائه بوجه عام.

إن بصمات اليسار المصري موجودةٌ — شاء هذا الطرف أو ذاك من فصائل الثورة أم أبى — على البرنامج السياسي للضباط الأحرار قبل تولي السلطة، موجودةٌ على المبادئ الخمسة، موجودةٌ على قوانين الإصلاح الزراعي، موجودةٌ على مبادئ باندونج، موجودةٌ على تأميماتِ المعاقل الكبرى للرأسمالية المصرية، موجودةٌ على الميثاق وبيان ٣٠ مارس، موجودةٌ على حملات النقد للتطبيق الاشتراكي، موجودةٌ على حملة تهريب الأرض حين ضبط الإقطاع متلبسًا بطعن قوانين الإصلاح الزراعي من الخلف، موجودةٌ على حملات الأقلام اليسارية لكشف السوق السوداء وكافة وسائل الانحراف بالمسار الشعبي للثورة، موجودةٌ على المحاولات الجادة الوحيدة للتصدِّي لمراكز القوى، وبتضحياتٍ لا أشك في أن الدكتور فؤاد يلمُّ ببعضها.

وإذا التزمنا بالمسار العام لحركة اليسار المصري تجاه عبد الناصر والمتجاوبين معه بالفكر في قمة السلطة، فيمكن تلخيص هذا المسار على الوجه التالي: أن عبد الناصر بدأ من منطلق وطني صرف، أو عن طريق التجربة والخطأ تبنى أفكارًا اشتراكية «غير علمية» أي أنه يسير قدمًا بفكره ونشاطه في اتجاه تقدمي، وأنه في كل مرحلة يحدِّد في وثيقةٍ سياسيةٍ مدى تقدُّمِه بأفكارِه الأولى، وأن لهذا المنهج — التجربة والخطأ — إيجابياتِه وسلبياتِه، ولقد حاول اليسار بشكل عام وباستثناء فترات الصدام العنيف، أن يضع ثقله لكي ترجح كفة الإيجابيات على كفة السلبيات مع الاهتمام بالتصدي لقوى اليمين سواء في هجومها السافر أو تسلُّلها المستور أو التفافها على حركة التقدم في الثورة.

في حدود هذا الإطار يمكن أن يحاسَب اليسار على مدى نجاحِه أو فشلِه، على تنازلاته أو ضماناته، وكذلك على موقفِه الراهن من تقييم التجربة كلها سلبًا وإيجابًا.

يطالبنا الدكتور فؤاد زكريا بأن ننزع من يد اليمين رايةَ الحكم على التجربة بالفشل، بل يطالبنا بأن ننتزع من اليمين «هذا الشرف» شرف التنديد بفشل ما يسمِّيه بالتجربة الناصرية.

لماذا؟

لأنه كصديق لنا حريص على أن نكسب المواطن المصري إلى صفنا قبل أن يخطفه اليمين.

إن الساحة المصرية أمامه تتلخص في حلبة صراع بين غول بشع هو اليمين، يريد أن يعتصر المواطن المصري كما كان يفعل قبل الثورة، وبين يسار قصير النظر يعطف الدكتور عليه وينصحه نصيحةً تضمن له كسب المواطن المصري؛ لأن الدكتور على يقينٍ من أن اليسارَ يريد بالمواطن خيرًا. ويرى الدكتور أن الغلبة في هذه الحلبة ستكون لمن يبادر بإهالة أكبر قدرٍ من التراب على تجربة ثورة ٢٣ يوليو.

وهو يعلم اليسار ويلقنه بأسلوب أستاذ الفلسفة ماذا يقول، ليس أكثر ولا أقل مما يقوله اليمين: إن الثورة لم تكن ثورة، ولكن نكسة على الإنسان المصري من جميع الوجوه، طبقة حاكمة جديدة أكثر عددًا من سابقتها في الحكم، مناظر اشتراكية ليست من الاشتراكية في شيء، انحرافات لا تقاس بها انحرافات مجتمع ما قبل الثورة، جبهة داخلية مفككة وجيش متفسخ، وتحت هذا الثقل الهائل يقف الإنسان المصري البسيط مخرب النفس والعقل مشلولًا بالسلبية مستنكرًا تمامًا كل ما وقع في وطنه عبر عشرين عامًا بشهادة رآها الدكتور دامغة كأنها استفتاء شعبي عام، هي الاستقبال الشاذ للرئيس الأمريكي نيكسون.

إن الدكتور فؤاد زكريا يتهم اليسار بأنه ذاب في أحضان «التجربة الناصرية» ويتهم المواطن المصري بأنه مات تحت وطأة التجربة الناصرية وهو يطالب اليسار بأن ينتزع نفسه قبل فوات الأوان من عناقه القاتل للتجربة الناصرية، ليرد الحياة إلى المواطن المصري الذي لفظ أنفاس إنسانيته تحت أقدامها.

والحقيقة أن دائرة الرؤية عند الدكتور فؤاد زكريا — بالنسبة لليسار — قد توقفت عند عدد محدود من شخصيات يسارية اقتصر دورها على الهجوم المطلق على ثورة يوليو في مرحلة، ثم انتقلت إلى الدفاع المطلق عنها وتبرير سلبياتها بعد ذلك.

قد تكون هذه العناصر مرموقةً ولكنها أيضًا محدودة وأعتقد أن دورها قد انتهى.

أما بالنسبة للمواطن المصري … فإن حدود رؤية الدكتور له قد توقفت عند نفس الحدود التي يراها اليمين.

اليمين رآها بالوهم وأحلام اليقظة، أما الدكتور فؤاد زكريا فقد رآها بالانسياق. وشخصية المواطن المصري البسيط المعادي لثورة ٢٣ يوليو الكاره لعبد الناصر وتجربته، العاقد الآمال على أمريكا. المخدوع بأبواق اليمين المصري، هي شخصية وهمية تمامًا.

لقد ظل المواطن المصري البسيط سواء قبل وفاة عبد الناصر أو بعد وفاته ينتقد السلبيات ويتصدَّى بقدر ما يطيق للانحرافات، ولكنه أبدًا لم يرفع شعار «هدم المعبد» على حد تعبير واحد من كتاب اليمين هذه الأيام. إن شخصية المواطن المصري العادي الكاره لمبدأ الاشتراكية نتيجة انحراف التطبيق، هي قضية أنصح الدكتور فؤاد زكريا أن يفحصَها بمنهج غير مكتبي، إذا أراد أن يتصدَّى للسياسة المصرية.

وسوف أضمن للدكتور فؤاد زكريا اكتشاف أن الإنسان المصري لم يعش تجربة الثورة وخرج منها «مرعوبًا سلبيًّا منافقًا فاقدًا القدرة على الرفض والاعتراض والاحتجاج، فاقدًا ملكة التفكير العقلي والحكم الصائب، مخرب العقل والنفس مسلوب الكرامة، متكلًا على غيره في الفكر والعمل معتادًا على الانكماش والوقوف موقف المتفرج غير المكترث متبلد الإحساس لا يستنكر الظلم ولا يسعى إلى محاربته.» وذلك كما صوَّر هو الإنسان المصري في دراسته.

وقد يسأل الدكتور عن موقف اليسار إذا لم يأخذ بنصيحته، وهي التنافس مع اليمين على شجب تجربة ٢٣ يوليو.

إن موقف اليسار من اليمين ليس التنافس معه على شيء، ولكن رده على أعقابه.

وموقف اليسار من أخطاء التجربة، سواء أكانت أخطاءه أو أخطاء غيره، هو تصحيحها.

وموقف اليسار من منجزات التجربة ليس هو الاكتفاء بأنها «محفوظة ومعروفة» بل حمايتها والتقدم بها؛ لأنها من عمل العمال والفلاحين وأبنائهم في مواقع الإنتاج الفكري والتكنولوجي من المثقفين، وكذلك أبناؤهم في القوات المسلحة.

هي مهام صعبة، ولكن اليسار يضع ثقته في هذا المواطن المصري البسيط الذي تصور د. فؤاد أنه فقد كل شيء، بينما يثق اليسار في أنه يملك كل شيء: الزمن والمقدرة.

وأخيرًا لقد بدأ الدكتور فؤاد زكريا دراستَه بمقدمةٍ نفى فيها عن نفسه شبهةَ الدوافع الشخصية وشبهة الرجعية وشبهة الجبن والانتهازية ثم حذر اليمين من أن يحاول الاستفادة بدراسته وعلق جريمة هذا الاحتمال أو التخوف في عنق اليسار وختم دراسته بتحذير إلى اليسار بألَّا يرد عليه بمهاترة.

اطمئن يا دكتور فؤاد، لن يتهمك اليسار بالرجعية أو الجبن أو الانتهازية أو الانطلاق من دوافع شخصية، وإذا استغل اليمين ما كتبت في لعبته فإن اليسار سيحمل وزر ذلك عن كليكما. كذلك لن تجد من اليسار مهاترة في الرد عليك. ستخرج سليمًا معافى من هذه المعركة التي أهلت فيها أكوام التراب على كل شيء، فإن أصدقاءك اليساريين يفهمون جيدًا حساسية المثقفين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤