مجرد واحد في الألف

قال «أحمد»: ما المشكلة؟

قائد الطائرة: نعم … جهاز اللاسلكي محطَّم … ولن نستطيع تفسير دخولنا المجال الجوي للجزائر … ولن نستطيع أيضًا الاتِّصال بأي مطار ليستقبلنا، فالهبوط يحتاج إلى معلومات عن حالة المطار … والممرِّ الذي سننزل عليه … وسرعة الرياح … وغيرها من المسائل الفنية!

أحمد: ماذا سيَحدث بالضبط؟

قائد الطائرة: في الأغلب ستصعد بعض الطائرات الحربية خلفنا.

ولم يكد القائد ينتهي من جملته حتى التفَتَ خارج الطائرة قائلًا: هذا ما توقعتُه، انظر!

ونظر «أحمد» إلى حيث يشير فشاهد طائرة تَطير على مقربة من الجناح الأيمن وهي تطلق إشارات ضوئية معينة.

قال قائد الطائرة: إنها تطلب منا النزول، وسأُعطيها إشارة تعني القبول.

وأخذت الطائرة تهبط تدريجيًّا، وطائرتان حربيتان تحيطان بها من كلا الجانبَين، وقال الطيار: في الأغلب سوف نَهبط في مطار حربي!

دارت الطائرة فوق مطار صغير كانت أضواؤه بادية … على الأرض … ثم أخذت تقترب من الأرض وهي تخفض سرعتها، ثم صدمة خفيفة على العجلات، ومضت تجري حتى نهاية المطار ثم توقفت مكانها.

فتح «أحمد» الباب. ولم يُدهش عندما وجد الشرطة العسكرية تحيط بالطائرة، وأخذ يهبط، وبعده هبط بقية من كان في الطائرة وتَقدم ضابط شابٌّ من «أحمد» وقال: ما هذا … لماذا لم تردُّوا على حديثنا إليكم باللاسلكي؟ … ألا تعرفون أنه ممنوع دخول المجال الجوي لأي بلد إلا بإذن؟

قال «أحمد»: أعتقد أن قائد الطائرة أقدر على الإجابة على هذه الأسئلة، فإنني مجرد راكب … ومبدئيًّا فإن الطائرة كانت مخطوفة … وأرجو لأسباب كثيرة عدم إذاعة خبر نزولها إلى الجزائر الآن!

ونظر «أحمد» إلى ساعته … كانت العاشرة ليلًا … ثم قال: أرجو أن أتحدث تليفونيًّا فورًا مع صديق جزائري هنا للأهمية!

أشار الضابط إلى أحد الجنود ليأخذ «أحمد» إلى مكان التليفون. بينما تَقدم قائد الطائرة للحديث مع الضابط ومن اجتمع حولهم من ضباط وجنود.

رفع «أحمد» سماعة التليفون وأدار رقمًا معينًا، وعلى الطرف الآخر كان «بو عمير» أو العضو رقم «٥» في مجموعة الشياطين اﻟ ١٣.

قال «أحمد»: رقم «١» من «ش. ك. س» يتحدث.

بو عمير: رقم «٥» من «ش. ك. س» يستمع.

أحمد: كيف حالُكَ يا «بو عمير»؟

بو عمير: كيف حالك أنت يا «أحمد» … لقد وصلني تقرير من «رقم صفر» بخطف الطائرة التي كنت عليها أنت و«إلهام» و«فهد» ولم أكن أتوقع مطلقًا أن تصلوا الجزائر.

أحمد: إننا في مطار حربي جزائري … أرجو أن تتصل بالجهات المسئولة بالشفرة التي عندك لتسهيل مهمَّتنا وعدم تعطيلنا، وأرجو أن يظلَّ خبر نزول الطائرة سرًّا لفترة من الوقت!

بو عمير: سأقوم بهذا فورًا!

أحمد: وأرجو أن تنضم إلينا … وأن تُدبِّر لنا طائرة هليوكبتر، في خلال ساعة على الأكثر … وسأروي لك كل شيء عندما تصل …!

بو عمير: سأقوم بهذا فورًا!

أحمد: شكرًا «بو عمير».

وأغلق «أحمد» سماعة التليفون، ثم تبع الجندي إلى حيث كان بقية ركاب الطائرة يَجلسُون في استراحة المطار البسيطة يتحدَّثون مع الضباط ويُدلون بأقوالهم.

تناول الجميع وجبة ساخنة، تبعَها كوب الشاي العربي، ومضت نحو عشر دقائق … ثم دق جرس التليفون، وردَّ أحد الضباط، وأخذ يَستمِع باهتمام شديد، وبعد أن انتهى من المكالمة عاد إلى الأصدقاء قائلًا: لقد صدرت إلينا أوامر من جهات عليا بأن نكونَ في خدمتكم.

قال «أحمد»: شكرًا، سيصل صديقٌ لنا يُدعى «بو عمير» بعد نحو ساعة، فأرجو أن نراه بمجرد وصوله.

قام قائد الطائرة ومساعدُه والمضيفة والمضيف للذهاب إلى مدينة الجزائر للراحة وسلَّموا جميعًا على «أحمد» و«إلهام» و«فهد» بحرارة مودِّعين، وعاد «أحمد» يقول لقائد الطائرة: أرجو أن يظلَّ أمر نزول الطائرة سرًّا حتى الصباح على الأقل.

ترك الضابط «أحمد» و«إلهام» و«فهد» وحدهم في الاستراحة فتمدَّد كلٌّ منهم على كنبةٍ التماسًا لبعض الراحة، وقال «فهد»: هل في ذهنك خطة معيَّنة يا «أحمد»؟!

أحمد: إنها تدور في رأسي منذ كنا في الطائرة، وبعد قليل من الراحة ووصول «بو عمير» سوف أحدثكم عنها!

استسلم الأصدقاء الثلاثة للنوم على الفور خاصةً بعد وجبة الطعام الشهية، وعندما وصل «بو عمير» وجدهم نائمين، ولكنه في الموعد المحدد أيقظهم جميعًا، فتبادلوا التحيات الحارة … ثم روى «أحمد» ﻟ «بو عمير» بإيجاز شديد ما مرَّ بهم منذ تعليمات «رقم صفر» بمراقبة «بوزيل» حتى وصولهم إلى الجزائر … وكان «بو عمير»، وهو من أحسن الشياطين اﻟ ١٣ في استخدام الخناجر، يستمع باهتمام وهو يَعبث بخنجر مربوط إلى ذراعه تحت الكُم بحيث ينزلق عند الحاجة … وقال بعد أن انتهى «أحمد» من حديثه: وخطتُكَ يا «أحمد»؟

قال «أحمد»: لقد تعلَّمنا طبعًا أنك كي تَهزم عدوَّك فيجب أن تعرف كيف يُفكر … وما هي الاحتمالات التي يمكن أن يُقدِم عليها!

إلهام: ذلك درس محفوظ!

أحمد: إذَن فقد فكَّرت أن خطة العصابة بالنزول بالباراشوت في مكانٍ بعيد عن الأعين تمامًا أنهم يَنوُون الاختفاء فترة من الوقت قبل أن يتحرَّكوا مرةً أخرى. إنهم، أو بعضهم على الأقل، معروف لرجال الشرطة في جميع أنحاء العالم بعد حادث الاختطاف، وهم يَنوُون الاختفاء فترة طويلة تكفي لإسدال ستار النسيان على حادث الاختطاف … ثم يتسلَّلون مرةً أخرى إلى العالم.

فهد: وهل هم خارج العالم الآن؟

أحمد: هذا ما أعتقدُه … إنهم على سفينة مجهولة في البحر المتوسط … ومهما كانت حمولة السفينة من الوقود أو الطعام فلن تكفيَهم بضعة شهور … وهي المدة التي أعتقد أنهم يُريدون أن يظلوا مُختفين خلالها.

إلهام: إذَن أين يذهبون؟

أحمد: لقد قال لنا الطيار إنهم عندما نزلوا كنا في نقطة فوق البحر بين إسبانيا والجزائر … وإذا حسبنا أن الطائرة قد قطعت المسافة من ذلك المكان إلى الجزائر في نصف ساعة … وأن سرعتها حوالي ٨٥٠ كيلومترًا في الساعة فمعنى ذلك أنهم نزلوا في نقطة تبعد ٤٠٠ كيلومتر من شاطئ الجزائر الشمالي. وإذا كنتم تتذكرون الخريطة جيدًا … فإنه في هذه المنطقة توجد جزر «البليار» وأكبرها جزيرة ماجوركا ومينوركا، وعلى مبعدة من الجزيرتين توجد مجموعة متناثرة من الجزر الصغيرة غير المأهولة بالسكان.

إلهام: وهم سيَلجئون إلى إحدى هذه الجزر؟

أحمد: هذا ما أعتقده!

بو عمير: نظرية معقولة.

فهد: إنها خطة شيطانية.

إلهام: وأنت تريد غزو هذه الجزيرة؟!

أحمد: ليس هذا بالضبط وإلا لطلبنا بواسطة «بو عمير» أن تتحرَّك بعض قطع الأسطول الجزائري للقبض عليهم.

إلهام: إذَن ماذا سنفعل؟

أحمد: مهمتنا البحث عنهم أولًا … فإذا أُتيحت لنا فرصة الهجوم والانتصار عليهم فعلنا … وإذا لم يكن هذا ممكنًا عدنا لطلب نجدة من حكومة الجزائر.

بو عمير: هذه أول مغامرة أشترك فيها. فدعونا نحاول المغامرة … ما هي طلباتك غير الطائرة الهليوكبتر، وهي جاهزة الآن؟

أحمد: قارب من المطاط يتَّسع لنا جميعًا، أسلحة خفيفة وقنابل … كلها مغلفة بالبلاستيك … فالأغلب أننا سنتعرَّض للبلل … وخريطة للبحر المتوسط.

بو عمير: سنذهب إلى شقتي وهي ليست قريبة من هنا … وفي مخزن الشياطين سنجد كل شيء.

أحمد: خذ «فهد» واذهبا معًا، وسأبقى هنا مع «إلهام» لمزيد من التفكير والمناقشة.

أسرع «بو عمير» و«فهد» إلى الخارج، وخرج «أحمد» و«إلهام» خلفهما.

كان المطار يقع عند سفح أحد الجبال الجميلة التي تشتهر بها الجزائر … وكانت الليلة صيفية جميلة انتشرت في نسيمها روائح الأزهار الجبلية … وأضاءها قمر صغير على وشك الاختفاء، واختار «أحمد» و«إلهام» مكانًا غطته الأزهار وتمددا ووضع كلٌّ منهما يده خلف رأسه، واتجها بوجهَيهما إلى السماء … كان كلٌّ منهما يحسُّ بوجود الآخر بجواره فتَندفِع دماء الشباب والحب إلى كل شعرة فيه … ولكن كان في قدرتهما أن يَضبطا مشاعرهما تمامًا … فاكتفى كلٌّ منهما أن مدَّ يده إلى صاحبه وتعانقت الأصابع … ولو رآهما شخص وهما مُمدَّدان هكذا لظن أنهما سيَقضيان ليلة دافئة … ولما تصور مطلقًا أنهما بعد قليل سيُواجِهان مخاطر رهيبة قد لا يَنجوان منها على الإطلاق.

لم يمضِ أكثر من نصف ساعة حتى سمعا محرِّك سيارة «بو عمير» السريعة يشق صوتُه صمتَ الصحراء الساحر … فأسرعا يقفان، ثم مدا الخطوَ إلى السيارة، وراجع «أحمد» كلَّ ما أحضره «بو عمير» … ثم قال: أنت شابٌّ عظيم!

وقفز الأربعة إلى الطائرة الهليوكبتر، وسرعان ما دار محركها الكبير يُدوِّي في الليل … ثم انطلقت في اتجاه الشاطئ … وبعد فترة قصيرة حلقت فوق البحر.

قال الطيار: إلى أين بالتحديد؟

وعلى الضوء الداخلي نشر «أحمد» الخريطة على ركبتِه وأشار إلى المنطقة قائلًا: في مكان ما هنا.

الطيار: ولكن هذه مساحة هائلة؟!

أحمد: إننا سنَعتمِد على الحظ!

الطيار: إنه حظ مُستحيل … إنه واحد في الألف على أحسن تقدير.

أحمد: فليكن.

ومضت الطائرة تهدر فوق البحر … والأصدقاء الأربعة صامتون … و«أحمد» يمدُّ بصره على ضوء النجوم البعيدة بعد أن غاب القمر تمامًا. كان يتذكَّر شكل القارب الكبير الذي شاهده وسط الدائرة الحمراء وكان متأكدًا أنه لو رآه لعرفه … لقد مرُّوا فوق سفن كثيرة مبحرة، ولكنها كانت جميعًا أكبر حجمًا، والأهم أنه لم تكن عليها تلك الطائرة الهليوكبتر الصغيرة التي شاهَدَها على أضواء القارب الكبير.

مضوا يشقُّون الظلمات … والبحر من تحتهم … بحر من الظلام … وليس في السماء ما يمكن أن يهديهم سوى النجوم … كان الطيران في خط مستقيم متعامد على شاطئ الجزائر. ومضت نصف ساعة وقال الطيار: وماذا بعد؟

قال «أحمد»: ما هي سرعة طائرتك؟

الطيار: ٤٠٠ كيلومتر في الساعة!

أحمد: بعد نصف ساعة أخرى نكون أقرب إلى الهدف.

ومضت الطائرة في طيرانها المجهول فوق البحر … ونظر «بو عمير» إلى «إلهام» ثم مال عليها قائلًا: أرجو ألا نعود بأيدٍ فارغة …

ردت «إلهام» مبتسمة: إنَّنا نفعل ما بوسعنا … وأُحسُّ أننا سنجدهم!

لم يظهر أيُّ ضوء فوق سطح البحر … وفجأة قال «أحمد»: انظروا!

وأشار بيده … ونظروا جميعًا إلى حيث أشار!

قال «فهد»: ولكن أليس من المُمكن أن يُطفئوا أنوار السفينة فلا نراهم في هذا الظلام؟

أحمد: لا … أولًا لأن هذا يعرضهم لخطر الاصطدام بسفينة أخرى قد لا تراهم في الظلام … ثانيًا لأنهم آمنون تمامًا … إنهم يَعتقدُون أن الطائرة انفجرت قرب شاطئ الجزائر … وأننا مِتنا طبعًا وأنهم في نظر العالم موتى أيضًا، فهم آمنون تمامًا، وسوف يمضون في طريقهم دون أي حذر أو خوف.

قال «بو عمير» مبتسمًا: ستكون مفاجأة كاملة لهم!

أحمد: وهذا ما أعتمد عليه في الهجوم!

فهد: هل ستهاجم السفينة؟

أحمد: لماذا لا؟

ومضت نصف ساعة أخرى، وقال الطيار: المفروض أننا الآن فوق المنطقة التي تتحدَّثون عنها.

أحمد: لا تنسَ أن السفينة تحركت شمالًا، وقد مضت ساعتان تقريبًا، فإذا افترض أنها تسير بسرعة ١٥ عقدة في الساعة أي ٤٠ كيلومترًا فأمامنا ٨٠ كيلومترًا أخرى … أو ربع ساعة تقريبًا.

ومضت الطائرة تشق طريقها … ومضت ربع ساعة دون أن …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤