بين التفاؤل والتشاؤم

أفكار ڤاجنر‎ الفلسفية

عهدُنا بالفنان أنه تلقائي يَصدر عنه الإبداع الفني دون أن يتكلف مشقة الموازنة والمقارنة بينه وبين غيره، ودون أن يضع لنفسه أساسًا نظريًّا يشرح به وجهة نظره ويدافع عنها، والحق أن الفنان غالبًا ما يجهل وجهة نظره هذه، ولا يعلم عنها شيئًا؛ وكل ما في الأمر أنه يُنتج، وأن هذا الإنتاج يبدو له في نظر نقاده النظريين عيوب ومزايا، وتتكشف لهم نواحي التجديد فيه، حتى إذا تقادم به العهد واجتاز اختبار الزمن بنجاح، أصبحت له في تاريخ الفن مكانة معيَّنة تحدد موضعه بالنسبة إلى مَن سبقه وما تلاه، وصيغت تجديداته صياغة نظرية واحتلَّت مكانها بين قواعد الفن الموروثة.

أما ڤاجنر‎ فقد شذ عن هذه القاعدة، ووضع لإنتاجه الفني أساسًا نظريًّا اعتمد عليه كلُّ من حاولوا تحليل فنه. وليس معنى ذلك أننا نحاول أن ننتقص من قدر مَلكة العيان الفني لديه، أو نقلل من دور الإلهام المبدع فيما أنتج؛ وإنما ننبِّه إلى تلك الصفة التي انفرد بها دون بقية موسيقيي القرن التاسع عشر، وهي قدرته على التحليل الدقيق، والشرح النظري العميق، والتبرير المنطقي المقنِع. ومن الصعب تعليل هذه الظاهرة تعليلًا شافيًا؛ فلسنا ندري أكان ڤاجنر‎ يجمع إلى حاسته الفنية المرهفة قدرةً على التفكير المنطقي الدقيق يستغلها خلال أوقات صحوه من أحلامه الإبداعية، أم أنه قد اضطر إلى ذلك التبرير النظري اضطرارًا، بدافع رغبته في شرح وجهة نظره وإفهامها لمن استعصى عليه فهمها، وهم كثيرون. والأغلب أن السببين مجتمعان معًا؛ فقد كان ڤاجنر‎ فنانًا تشعبت أطراف نشاطه وتعددت المظاهر التي تبدَّت عليها طاقته الروحية، وتوفرت له من الثقافة الكلاسيكية والحديثة ما لم يتوفر إلا للقلائل من الفنانين، وخاصةً الموسيقيين منهم. وكان من جهة أخرى يواجه جمهورًا معاديًا في معظم فترات حياته؛ إذ كان انقلابه الفني من الجِدَّة بحيث ذهل له البعض، وسخِر منه غيرهم، وتجنَّبه آخرون، وظلت هناك أقلية ضئيلة هي التي تفهَّمته واستوعبته. وهكذا كان ڤاجنر‎ في حاجة إلى «دفاع» عن وجهة نظره في الفن، وإلى تبرير انقلابه وبيان الأسس النظرية التي يستند إليها؛ حتى يضمن — على الأقل — أنه سيلقى جمهورًا لا يبدؤه بالعداء، ولا يتحكم في تذوقه لإنتاجه تحاملٌ سابِق.

تقلَّبت أفكار ڤاجنر‎ الفلسفية بين الثورة العنيفة على التقاليد وبين الاستسلام الديني الصامت. والفرق واضح بين الحالتين ولكن لندرس الأساس الذي قامت عليه ثورته، والسبب الذي ألجأه إلى الاستسلام والتشاؤم، فربما وجدنا بعد هذه الدراسة ما يُعيننا على تصوُّر الرابطة التي جمعت بين كل فترات تفكيره.

كانت فترة الثورة عند ڤاجنر‎ هي تلك التي أعقبت الانقلاب الأوروبي المشهور في عام ١٨٤٨م، وظلت مبادئها راسخة في ذهنه حتى وقع في يده كتاب شوبنهور في عام ١٨٥٤م، وعندئذٍ اتخذ تفكيره مجرًى آخر. وطبيعي أن تستهوي الثورة السياسية روحًا كان موقفها من الفن المعاصر هو الثورة منذ البداية. وارتبط الانقلابان في ذهنه ارتباطًا وثيقًا، حتى بات يهاجم الملكية المستبدة في بلاده بنفس القوة التي كان يهاجم بها التقاليد الفنية الشائعة التي ثار عليها، وحدث في تلك الأثناء أمرٌ تكرَّر أكثر من مرةٍ في حياته؛ فقد تصادف أن قرأ مؤلفات «فويرباخ»، وتأثَّر بها كل التأثر … ولم يكن ذلك التأثر راجعًا إلى عمق الفلسفة التي قرأها، بقدر ما كان راجعًا إلى ملاءمتها لحالته الذهنية في ذلك الحين. والحق أن تأثُّر ڤاجنر‎ بأي مفكر لم يكن سلبيًّا على الإطلاق، بل كان دائمًا لا يستهويه من المفكرين إلا من عبرت أفكاره بوضوح عن آمال مشابهة لآماله، أو على الأقل يرى هو فيها هذا التشابه. وهكذا كان معيار إعجابه بالمفكرين هو انطباق آرائهم على الحالة الذهنية التي تتملكه في وقت قراءته لهم.

ولقد كان «فويرباخ» ملائمًا له في تلك الفترة إلى حد بعيد، ووجه التشابه بينهما هو الثورة على التقاليد. فكل فيلسوف مادي ثائر بالضرورة؛ إذ إن الإنسانية لم تتخذ — في أي عهد من عهودها حتى ذلك الحين — من المادية أساسًا فكريًّا تعيش عليه. وقد نرى الناس في فترة من الفترات ماديين في سلوكهم العملي إلى أقصى حد، وقد نرى حضارة صناعية ضخمة لا تقوم إلا على الماديات، ومع ذلك فالأساس العقلي «الرسمي» لكل هذه الحضارات قد ظل حتى عصره روحيًّا. وهكذا صادف فويرباخ هوًى في نفس ڤاجنر‎، واندفع معه في ثورته المادية، فإذا به يدعو إلى تحطيم كل الأصنام، وبلغ به الأمر حدًّا جعله يعبِّر عن أفكار لم نعهدها فيه طوال حياته، سواء قبل تلك الفترة أو بعدها؛ إذ يرى في الدين أسطورة، ويحمل على المسيحية خاصةً، ويسْخر من تقييدها لإرادة الإنسان في هذا العالم ومكافأتها لمن يُنكِر ذاته بسعادة خاملة في عالم آخر. ولم تكن تلك السعادة هي التي يراها ڤاجنر‎ خليقة بالإنسان؛ وإنما كان يؤمن بحق الإنسان في حريته، وفي سعادة تامة في «هذا» العالم. والطريق الطبيعي لنَيل هذه الحقوق هو الثورة؛ فالثورة كانت — كما يراها في تلك الفترة — هي الطريق الطبيعي الذي ينتقل به المجتمع من صورته الفاسدة الحالية إلى الحالة المثلى التي ترجى له المستقبل — تلك الحالة التي لم يحددها ڤاجنر‎ بدقة، وإن كان قد لمَّح إليها، ودعا إلى الثورة لتدفع الإنسانية نحوها الدفعة الأولى. أما ما سيتلو ذلك فهذا ما لم يشأ أن يحدده؛ فقد رأى في ذلك التحديد تقييدًا لحرية الإنسان، وهو يريد هذه الحرية وحدها ويدعو إليها، وهي بعد هذا كفيلة بأن تحقق كل أهداف الإنسانية.

وكما استمع ڤاجنر‎ إلى نداء فويرباخ في فترة كانت كل ملكاته مهيأة فيها لتلقِّي هذا النداء، فإنه استجاب لدعوة شوبنهور في وقت كان كل شيء يدعوه إلى اليأس وإلى التشاؤم؛ فقد تضافرت الظروف السيئة لتدعوه بإلحاح إلى الفرار من هذا العالم والزهد فيه، وذلك خلال هذا الوقت العصيب من حياته، وفي نفس ذلك الوقت قرأ فلسفة شوبنهور. وهنا وجد ڤاجنر‎ التعبير الفلسفي عن تشاؤمه، والصياغة المنطقية لما كان يفكر فيه خلال لحظات ألمه، فكتب إلى صديقه «لِيست» يقول عن شوبنهور: «إن فكرته الكبرى، وهي النفي التام لإرادة الحياة، فيها عبوس مخيف، ولكنها هي وحدها الكفيلة بالخلاص. وهي ولا شك لم تكن جديدة عليَّ، وليس في وسع مخلوق أن يفهمها ما لم يكن يعانيها حية في ذاته. ولكن ذلك الفيلسوف هو الذي أوضحها لي بجلاء لأول مرة.»

هكذا وجدت نفسه اليائسة في فيلسوف التشاؤم رفيقًا مواسيًا، ومنذ ذلك الحين تعلَّق ڤاجنر‎ بشوبنهور، ولم يتخلَّ عن آرائه لحظة واحدة؛ على أنه قرَّب بين شوبنهور وبين المسيحية وجمع بينهما في مركَّب واحد، فرأى في مبدأ الزهد في الحياة، وإماتة الرغبات الحيوية أساسًا مشتركًا بين دينه وبين تلك الفلسفة التي استهوته، ورأى في فرار المسيحية من العالم معبرًا يؤدي بالضرورة إلى تأمُّل الكون تأملًا سلبيًّا خالصًا؛ أي النظر إليه بعين الفنان لا بعين الرجل العملي، وامتصاص عنصر الألم منه ليخرج الخيال إنتاجًا فنيًّا يعكس طبيعة الكون الباطنة على مرآة الذهن الإنساني. ولست أدري كيف وفَّق ڤاجنر‎ بين نظرة المسيحية إلى الوجود على أنه كمال من الكمالات، وإلى الخلق على أنه نعمة، وبين نظرة شوبنهور إلى الوجود على أنه خطيئة، وإلى الخلق على أنه نقمة، ولكن الأغلب أنه تجاهل الجانب المسيحي من هذه الفكرة ليُخْلي الطريق لتشاؤم شوبنهور.

ولكن كيف تم الانتقال من النقيض إلى النقيض، وكيف تحوَّل ڤاجنر‎ من الثورة إلى التشاؤم والسكون؟ الواقع أن التناقض بين الموقفين يزول إذا فهمنا تعلُّقه بشوبنهور على أنه تعبير عن سخطه على العالم الحاضر، ذلك السخط الذي كان يبلغ في أحيان قليلة حد اليأس التام من كل إصلاح، ولكنه في أغلب الأحيان يقترن بأملٍ قوي في النهضة والبعث. وإذن فلم يكن التشاؤم متشابهًا من كل نواحيه عند الرجلين؛ وإنما كان عند شوبنهور غاية وحدًّا نهائيًّا تهدف فلسفته إلى الوقوف عنده. أما عند ڤاجنر‎ فكان دليل تذمُّره على ما يسود الإنسانية الحالية من مبادئ فاسدة؛ والتذمر أولى مراحل الإصلاح.

وليس معنى ذلك أن ڤاجنر‎ كان يهدف من تشاؤمه إلى غاية متفائلة في كل الأحيان؛ فقد رأيناه في «تريستان» يستسلم للتشاؤم ويجعله غاية قصوى، ويؤثِر الموت على الحياة، ويراه خير حل لما يكتنف هذا العالم الأرضي من مشاكل، ولكن لنذكر أن تلك الدراما هي أوغل ما أنتج في باب التشاؤم، وقد اقترن تأليفه إياها بتجربة خاصة يائسة جعلته يربط بين الحب والموت، ويرى في الموت الوسيلة الوحيدة لعبور الهوَّة بين ما هو بشري وما هو إلهي، وبين شوق الحب واستحالة تحققه بعد ما وضعه المجتمع في سبيله من عوائق. وإذن ففي هذا الإنتاج وحده، ونتيجةً للتجربة الخاصة التي صاحبته، بلغ التشاؤم قمَّته وأصبح غاية، أما في بقية درامات ڤاجنر‎، فما كان التشاؤم إلا وسيلةً لهدفٍ أسمى، هو «الخلاص».

فعلى الرغم من كل ما طرأ على تفكير ڤاجنر‎ من تغيرات داخلية؛ فقد ظلت هناك أفكار ثابتة من وراء ذلك السطح المتغير، أهمها فكرة الخلاص عن طريق الزهد والتضحية والعزوف؛ ففي كل عمل فني له نراه يبحث جادًّا وراء السعادة الحقة، ويجدها في منقذ أو مخلِّص يُرشِد إلى الطريق القويم، أو يضحِّي بنفسه ليجلبها إلى من يسعى إليها؛ ففي «الهولندي» كانت المخلِّصة هي سنتا التي أنقذت تضحيتها ذلك الملاح التعس من المصير المؤلم الذي قدِّر له، وخلَّصته من لعنة الشيطان الأبدية. وفي «تانهويزر» يكتسي الخلاص ثوبًا دينيًّا رومانتيكيًّا، فيكفل عزوف إليزابيث الطاهرة الخلاص للفارس التعس، الذي تذبذبت روحه بين الحس والحب الروحي. وكان «لوهنجرين» ذاته مخلِّصًا، فأنقذ إلزا من أعدائها ومما رُميت به من تهم ظالمة، وإن اضطر في النهاية إلى الزهد في السعادة الأرضية التي لم تستطع إلزا منحه إياها. وفي «النيبلونجن» نُقلت فكرة الخلاص نقلًا شبه صريح إلى المجال الاجتماعي؛ فالعامل يستغلُّه صاحب رأس مال فظٌّ بلا رحمة (يمثله النيبلونجن إزاء ألبيريش)، وليس لمالك الثروة من هدف سوى ملء خزائنه وتكديس أمواله، ثم السهر حارسًا عليها (فافنر)، ووسيلة الخلاص هي القضاء على الأنانية قضاءً تامًّا، وعندئذٍ فقط يمكن أن يسود الحب بين كائنات حرة في عالم مطمئن، لا يعود فيه آلهة ولا قوانين مقدسة مزعومة، وكل هذا يتم على يد الإنسان الحر في المستقبل (زيجفريد). وفي «أفول الآلهة» وهي آخر السلسلة الرباعية التي اتخذت وجهة مخالفة لوجهة الحلقات الثلاث الأولى، نرى فكرة الخلاص واضحة وإن ازدادت تشاؤمًا؛ فبعد أن زهد فوتان في كل رغبة في القوة وكل إرادة للحياة، ينتظر في صمت واستسلام نهاية العالم الذي دب فيه الفساد. وهذه النهاية تتم على يد «برنهيلدة» إذ يحين وقت أفول الآلهة حين تزهد برنهيلدة عن إرادة واختيار في «الخاتم»، وترده إلى بنات الرين، وبهذا تقضي على سبب التطاحن والرغبة الأنانية في القوة … ورغم الطابع المرح الذي تتميز به «أساطين الطرب»، نراها لا تخلو بدورها من زهد وعزوف؛ إذ يزهد هانزساكس، الشيخ الحكيم، في حب إيفا، ويدعها للشاعر الشاب، ويلقنِّه التعاليم التي تكفُل له الفوز، وبذا خلَّصه بتضحيته. وأخيرًا ففي بارسيفال يقوم البطل بسلسلة من أفعال الزهد والتضحية، يعود بفضلها إلى مملكته «جرال» نقاؤها وطهارتها، ويبرأ جرح أمفورتاس الدامي إلى الأبد، ويمكِّن «كوندري» — شبيهه الهولندي في حيرته الأبدية — من أن تجد السلام والتوبة في النهاية، ويخلِّص بتضحيته العالم بأَسْره.

وهنا نلاحظ أن فكرة الخلاص هذه، التي احتلت هذه المكانة الكبرى في إنتاج ڤاجنر‎، هي فكرة مسيحية معروفة، فهل كان معنى ذلك أن ڤاجنر‎ قد تأثر بالمسيحية طوال حياته الفنية، وأن إنتاجه كله قد بُني على فكرة واحدة استمدَّها مباشرةً من المسيحية؟

الواقع أن نظرة ڤاجنر‎ الحقيقية إلى المسيحية يشوبها كثير من الغموض؛ ففي دراماته، خاصة الدراما الرباعية الكبرى، ما يوحي بأنه ملحدٌ عنيد يدعو إلى زوال حكم الآلهة والمناداة بعهد الإنسانية الحرة. وفي بارسيفال ما يقطع بأنه كان مسيحيًّا مخلِصًا يرى في السخرية من آلام المسيح علة عذاب «كندري»، ويجعل الزهد والعزوف شرطين ضروريين لخلاص هذا العالم. فهل كان ڤاجنر‎ إذن ملحدًا أم متدينًا؟ … الأمر الذي لا يمكن إنكاره، هو أن ڤاجنر‎ كان أقرب إلى التدين، وإن اصطبغ تديُّنه بصبغة إلحادية في كثير من الأحيان.

فليس في وسع المرء أن يتجاهل تيار الزهد الذي لازم إنتاجه من بدايته إلى نهايته؛ وإنما لا بد أن يعترف بأن تديُّن ڤاجنر‎ قد دفعه إلى أن يدعو في دراماته إلى صفات قد يفتقر هو ذاته إليها، كالتضحية التامة وإنكار إرادة الحياة. ومن المُحال أن تتردد هذه الأفكار الرئيسية في رأس ملحد. ولكن بعض العناصر اللادينية، أو على الأصح: اللامسيحية، تتردد في إنتاجه؛ ففي عهد الثورة، وفي فترة الإلحاد القصيرة التي مر بها، رأيناه يرسم للإنسانية الظافرة صورة تامة التحرر، فإذا بزيجفريد يتحدى الآلهة وينتصر عليها، ويستلهم الطبيعة في كل ما يعمل، ولا يحس إلا بمشاعر إنسانية خالصة — وتلك كلها صفات تذكِّرنا «بالإنسان الأرقى» عند نيتشه. ومن الغريب أن يجمع «بارسيفال» من هذه الصفات الشيء الكثير؛ فنراه مثل زيجفريد ساذجًا تلقائيًّا يستلهم الطبيعة في أعماله؛ غير أنه أقل منه حيوية وأبعد عن مشاعر الإنسانية الأرضية. وعلى أية حال فصورة «بارسيفال» ليست صورة مسيحية خالصة. وفي وجود هذا العنصر الغريب في أكثر إنتاجه تديُّنًا ما يوحي إلينا بحل المشكلة؛ ڧڤاجنر‎ كان «مؤمنًا» على الدوام، ولكنه لم يكن «مسيحيًّا» دائمًا. كان يقبل من العقيدة روحها، ويثور في كثير من الأحيان على شكلها ونصها. وهكذا كان من ذلك النوع من المفكرين الذين يتملَّك الإيمان كل حواسهم، ويحسون به إحساسًا طبيعيًّا لا يداخله شك، وإن عبَّر إنتاجهم عن تعارضٍ ظاهري مع «محتوى» ذلك الإيمان.

وعلى أساس هذا الحل نستطيع أن نقول إن تطور ڤاجنر‎ بين الإلحاد والتدين لم يكن حادًّا مفاجئًا؛ وإنما كان لتفكيره أساس روحي ظل دائمًا كما هو، وإن اختلف ظاهر البناء القائم على ذلك الأساس اختلافًا يرجع إلى أحداث خارجية مرَّت به وفرضت تأثيرها عليه، أكثر مما يرجع إلى اختلاف جوهري في روحه، ونستطيع أن نقول أخيرًا إن ما بدا من إلحاد له إنما كان تعبيرًا عن خروجه على «تعاليم» الأديان ونصوصها الحرفية، بينما كان الإيمان السائد في إنتاجه تعبيرًا عن قبول «روح» الأديان وتأثر نفسه المرهفة بجوِّها المسكِّن المهدِّئ.

•••

وإذن؛ فقد عبَّر ڤاجنر‎ عن روح المسيحية بفكرة «الخلاص»، ولكنه قبِل الفكرة فحسب، وكان عليه أن يبحث عن وسائله الخاصة التي يتم بها ذلك الخلاص، ويتحقق للإنسانية بعثها من جديد على أساس قويم صالح.

وأصل الفساد — في رأي ڤاجنر‎ — هو قيام المجتمع على أساس مادي صرف. وهنا نجِد الفرق واضحًا بينه وبين نيتشه؛ فبينما يعيب هذا على الحضارة الحديثة روحيتها الكاذبة ويدعو إلى مزيد من الواقعية والعودة إلى الطبيعة، رأى ڤاجنر‎ في الحضارة الأوروبية، وخاصةً في عهدها الأخير، نزعة مادية قوية تُنذر بالقضاء على كل المقومات الروحية للبشر، وتهدِّد بحرمان الحياة من كل عنصر فني جمالي.

ومن أهم الأسباب التي أدت إلى سيادة هذه النزعة المادية، النفوذ اليهودي المسيطر على كل مرافق الحياة؛ ومن هنا كان عنف الحملة التي شنَّها على اليهود، والتي عُدَّ من أجلها «فنان النازية الأول».

والمقدمة الأولى التي استند عليها ڤاجنر‎ في حملته على اليهود كانت فكرة العنصرية؛ فهو يؤمن إيمانًا راسخًا بآراء «جوبينو Gobineau» كما شرحها في كتابه: «رسالة في تفاوت الأجناس البشرية»، ويعتقد بأن الأجناس تتفاوت مراتبها؛ ولهذا تحامل على بعضها، ورأى أن من الضروري تحكُّم الأجناس الراقية في الأجناس المنحطة؛ ومن هنا كان بغضه لليهود. ولقد كتب ڤاجنر‎ في ١٨٥٠م محذرًا من «الخطر اليهودي» في كتاب «اليهودية في الموسيقى»؛ فالعنصر اليهودي هو أخطر العناصر التي اختلطت بالجنس الأبيض، وهو العنصر الوحيد الذي أمكنه الاحتفاظ بصفاته الأصلية سليمة كاملة؛ إذ يظل اليهودي يهوديًّا مهما غيَّر موطنه ولغته وبيئته. وهو لا يتأثر بأية عقيدة روحية لأنه هو ذاته بلا عقيدة، ولا يعبد إلا المال؛ ومن هنا كان يسعى إلى أن يحوِّل كل شيء إلى مال، حتى الفن! وأول ما يُنفِّرك من اليهودي منظره الجسمي، وإذا تحدَّث كانت له دائمًا لكنة غريبة، وتراه عاجزًا عن النطق بلهجة صحيحة صادقة، مهما طال أمد تعلُّمه له، وهو لا يملك إلا أن يحاكي ويقلِّد، دون أن يأتي بجديد، سواء في الأدب أو في الفن، وهو في الموسيقى خاصةً لا يهتم إلا بالمسائل العملية، فلا مانع لديه من الاشتغال بالموسيقى ما دامت من وسائل كسب المال والنفوذ؛ ولذا ترى براعة اليهود تتجلى بوجهٍ خاص في العزف لأنه الجانب العملي المُربح من الموسيقى. أما التأليف الموسيقي فقليل مَن برعوا فيه، وإذا رأيت فيهم المؤلف فستجد موسيقاه سطحية لا تصل أبدًا إلى قرار الوجدان، ولا تُحرِّك مشاعر صادقة، بل تبهرنا بزخارفها المتكلفة فحسب. وأوضح مثل لذلك سيمفونيات مندلسون وأوبرات مايربير التي لا تهدف إلا إلى الترويح والتسرية عن نفس مكدودة مرهقة؛ فهي أداة تسلية وقتل للوقت فحسب.

وتعاليم اليهودية كلها مادية؛ فاليهودي واقعي بفطرته، يَنفر من كل دعوة ترتفع بالإنسان إلى مرتبة مثالية، وكل همه هو النجاح في هذا العالم. وهكذا يظل يعمل جاهدًا للوصول إلى غرضه، ويطرق كل الأبواب، ويقتحم ميادين لم يُخلق لها — كالفن والأدب — كل هذا في سبيل النجاح المادي والشهرة والنفوذ. وهكذا يتضح التعارض بين الروح السامية والروح الآرية؛ فبقدر ما تغرق الأولى في الواقعية والمادية، تسمو الثانية إلى أعلى مراتب المثالية. وإذا كانت وسيلة بعث الإنسانية هي إماتة روح الأنانية، فلا شك في أن اليهود هم آخِر من يستجيبون لتلك الدعوة؛ إذ إن الأنانية هي لبُّ الروح اليهودية، حتى ليُمكننا أن نقول إن اليهودي لن يصلح ويسير في ركاب المدنية الناهضة إلا إذا خرج تمامًا عن عقيدته، ولم يعد اليهودي يهوديًّا!

ومن هذه النتيجة الأخيرة نستطيع أن نتفهم المعنى الحقيقي لحملة ڤاجنر‎ على اليهودية؛ فلم تكن تلك الحملة راجعة إلى عنصريته هو، بل إلى اعتقاده بأن اليهود ذاتهم عنصريون ومتعصبون؛ فطالما ظل اليهودي يقيم حاجزًا بينه وبين الدولة التي يعيش فيها، ويظل محتفظًا بصفات «الأمة» اليهودية، كان على الإنسانية أن تحاربه لأنه خارج ومُنشقٌّ عنها. أما صلاح اليهود فلن يكون إلا بعودتهم إلى ركاب الإنسانية وخلعهم رداء التعصب. وهكذا كان هدف ڤاجنر‎ من هذه الحملة إنسانيًّا في آخر الأمر. وليس أدلَّ على تلك النزعة الإنسانية الكامنة لديه من صداقته المتينة لكثير من اليهود، كالموسيقي العازف روبنشتين، وقائد الأوركسترا هرمان ليفي. بل إن أكثر أنصار دعوته الموسيقية الجديدة، تلك الدعوة التي أطلق عليها اسم «موسيقى المستقبل»، كانوا من اليهود، كما كان اليهود في أغلب الأحيان هم الذين يسمُّون أبناءهم «زيجفريد» و«زيجمند» بعد ظهور الدراما الرباعية. ولكن سخرية الأقدار تتم إذا تذكرنا ذلك الاحتمال القوي في أن يكون أبو ڤاجنر‎ الحقيقي هو لودفيج جاير؛ إذ كان أصل ذلك الرجل، واسمه يهوديًّا، وكان في انحناء أنف ڤاجنر‎ وتقوُّسه ما يبرِّر ذلك الرأي إلى حد بعيد!

وكما كان القضاء على روح اليهودية وسيلةً من وسائل بعث المجتمع الحالي؛ فقد كانت الروح الألمانية عاملًا قويًّا من عوامل النهضة الحديثة؛ إذ إن العنصر الجرمانيَّ كان أقل العناصر اختلاطًا وتأثرًا بالروح اليهودية. والواقع أن إيمان ڤاجنر‎ بألمانيا كان راسخًا لا يتزعزع، فهو يستمد موضوعات دراماته من الأساطير الألمانية الشعبية في العصور الوسطى؛ لأنها تعبِّر في نظره عن عبقرية ذلك الشعب خير تعبير، وتكشف عن تلقائيته وإبداعه. ولا شك أن أصلح الأساطير في نظره للتعبير عن المشاعر الإنسانية العامة هي الأساطير الألمانية؛ فالشعب الألماني أسطوري بطبيعته، تسوده نزعة صوفية عميقة، وتتغلَّب لديه العاطفة على العقل الخالص؛ وتلك بالضبط هي شروط النهضة التي يأمل ڤاجنر‎ أن يبعثها في الإنسانية. والواقع أن تلك النزعة العاطفية الصوفية ترتبط بالتعصب ارتباطًا وثيقًا؛ إذ إن الشعب المنطقي الذي يتغلب عنده جانب العقل، لا يعرف التعصب ولا يؤمن به إيمانًا راسخًا. أما الشعب العاطفي فيحس بنواحي السمو فيه ويؤمن بها إيمانًا راسخًا، ويشيد على الدوام بمزاياه الروحية الرفيعة التي تعلو في نظر أفراده على كل ما عداه من الشعوب.

ولنحاول هنا أيضًا أن نفهم تعصب ڤاجنر‎ على حقيقته؛ فلا شك في أنه لم يكن متعصبًا في بداية حياته، بل كان عالميَّ النزعة؛ ودليل ذلك أنه كتب إلى شومان في باريس يسأله معونة المجتمع الباريسي، وأنه لما رأى نفسه قد أخفق في ألمانيا، سعى إلى اكتساب عطف الفرنسيين؛ ففي ذلك الحين كانت نظرته إلى فرنسا نظرة كلها أمل ورجاء، كذلك استمدت دراماته الأولى من أدباء أجانب؛ فمن شيكسبير اقتبس «ممنوع الحب» Liebesverbot ومن ليتون B. Laytton اقتبس «رينزي» التي يدور موضوعها كله حول شخصية رومانية في مجتمع روماني بحت. وكانت تجربته الشخصية في باريس هي العامل الأكبر الذي جعل للتعصُّب طابعًا عنيفًا لديه، وجعل حبه للألمان يقترن بكراهية غيرهم.

مثل هذه الآراء كفيلة بطبيعة الحال بأن تدمغ ڤاجنر‎ بتهمة التعصب، ومن المؤكد أنه كان كذلك بمعنًى ما. ومع ذلك فمن المؤكد أيضًا أن قوميته لم تكن عدوانية؛ فحبه لألمانيا وتأكيده لأهمية الدور الذي ستلعبه في الحضارة البشرية، لم يكن يقترن بأي ميل إلى الفتح والغزو، بل كان يتملكه شعور صوفي غريب بأن لدى الشعب الألماني من العبقرية ما هو كفيل بإنقاذ البشرية وإسعاد العالم. ولا شك في أن قِصر نظر الفنان يتجلى هنا أوضح ما يكون؛ فتمجيده لقوميته قد استُغِل فيما بعدُ أبشع الاستغلال في محاولة تحقيق الأحلام التوسعية العدوانية لحكام ألمانيا المستبدين. ولقد بدأت بوادر هذه النزعة التوسعية في الظهور أثناء حياته، في الحرب السبعينية التي شهدها ڤاجنر‎. ولا شك أن عدم قدرته على استخلاص النتائج الضرورية من هذه الحرب ترجع إلى أنها انتهت نهاية ظافرة. أما النهاية المدمِّرة التي انتهت إليها الحربان العالميتان الأولى والثانية فكانت دون شك كفيلةً بردِّه إلى صوابه لو كان قد شهدها!

ولعل مما يخفف عن ڤاجنر‎، إلى حد ما، تهمة التعصب الضيق الأفق، أنه كان يمزج على نحوٍ غريب بين حاضر الأمة الألمانية وبين تصوُّر أسطوري قديم لها؛ فقد كان يتمنى أن تعود هذه الأمة إلى العهد الذي تُصوِّره أساطير الفرسان والنبلاء في العصور الوسطى، وكان يرى في هذه العودة الوسيلة الوحيدة لخلاص هذه الأمة، ومعها العالم بأَسْره. وفضلًا عن ذلك؛ فقد أتى على ڤاجنر‎ في شبابه وقتٌ كانت نزعته فيه إنسانية بكل معاني هذه الكلمة، وذلك حين اشترك إيجابيًّا في ثورة ١٨٤٨م وتعرَّضت حياته للخطر من أجلها؛ غير أن هذه لم تكن إلا فترة قصيرة من حياته، وربما كان الدافع إليها هو أنه لم يكن لديه ما يخسره في ذلك الحين. أما حين ارتبطت حياته فيما بعدُ بالملوك، فقد نسى تمامًا نزعته الإنسانية وإيمانه بقوى الشعب، وأصبح أرستقراطيًّا متعصبًا.

•••

ومع ذلك لم يكن ڤاجنر‎ مفكرًا سياسيًّا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؛ وإنما كانت إنتاجه كله يرمي إلى تحقيق الإصلاح بوسيلة واحدة هي الفن؛ ففي رأيه أن صياغة الأفكار الاجتماعية في قالب فني هو الذي يجعل لها تأثيرًا فعالًا؛ فالفن أبلغ في نظره من أية خطبة سياسية أو موعظة دينية. وكل فكرة يُعبِّر عنها الفن تتغلغل مباشرةً في أعماق النفوس، وتصبح في النهاية جزءًا لا يتجزأ من الكيان الروحي للإنسان. وبالفن وحده نصل إلى الاندماج التام في العالم، ونتفهم مشاكله من الأعماق.

وهكذا كان ڤاجنر‎ من القائلين، على طريقته الخاصة، بارتباط الفن بالحياة، وبأن للفن وظيفة اجتماعية هي الإصلاح؛ غير أن الصفة المميزة لرأيه في هذا الصدد هي أنه رأى الفن سلاحًا «وحيدًا» في هذا الميدان، قادرًا وحده على تحطيم الفساد وإنقاذ البشر، ولم يتصور أن يكون الفن مجرد واحد من الأسلحة العديدة التي يسعى بها الناس إلى إنهاض مجتمعهم، أو أن يكون النضال الحقيقي في سبيل الإصلاح مركَّزًا في ميادين أخرى أقدر من الفن على بعث نهضة إنسانية شاملة. وهكذا كانت أنانيته الفنية دافعًا له إلى تجاهل كل ميادين الإصلاح الأخرى، فكان من الطبيعي أن يُدرِجه دعاة الإصلاح الاجتماعي الحقيقي ضمن أعدائهم الألدَّاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤