الفن المتكامل

تطورت الموسيقى الخالصة في العصر الحديث، حتى بلغت القمة في عهد السيمفونيات الذي بدأ منذ هايدن وتقدَّم على يد موتسارت ووصل إلى عصره الذهبي عند بيتهوفن. ولقد سارت الموسيقى خلال ذلك التطور من الشكلية إلى العينية؛ فبينما كانت في أوائل عهدها، وفي معظم فترات القرن الثامن عشر، فنًّا شكليًّا إلى حد بعيد، وبينما كنا نعجز عن أن نستمد أية عاطفة واضحة المعالم من سيمفونيات هايدن وموتسارت — باستثناء العاطفة الدينية في موسيقاهما الكنسية — رأيناها تتخذ عند بيتهوفن، وخاصةً منذ سيمفونيته الثالثة، صورة عينية واضحة؛ فهي تعكس عواطف ومشاعر عديدة، وتزداد تغلغلًا في عالم الروح الباطن … ولكن هذا الاتجاه نحو العينية لا يكفي في رأي ڤاجنر‎، فما زالت العواطف التي تُعبِّر عنها الموسيقى عامةً إلى حد بعيد، بحيث نعجز عن أن نحددها ونحصرها. ومهما بلغت الموسيقى الخالصة من تقدُّم في باب التعبير، فلن تصل إلى أكثر مما وصلت إليه على يد بيتهوفن؛ أي إلى التعبير عن مشاعر عامة مبهمة لا تُحرك نفوسنا في اتجاهٍ محدَّد بعين، بل تُثير فينا أحاسيس غامضة وتترك لكلٍّ منا حق تفسيرها كما يشاء.

كذلك ظهر عجزٌ مشابهٌ في الشعر؛ فالشعر الحديث قد اتخذ لنفسه طريق «الرواية» وابتعد عن العالم الباطن ليصف وقائع وحوادث خارجية عديدة، وقلَّ تعمُّقه في النفس الإنسانية بقدر ما اهتم بوصف بيئتها الخارجية. والفرق هائل بين ما انتهت إليه هذه الصورة الأدبية في العصر الحديث، وبين ما كانت عليه عند اليونان، حين كان الشعر يصاغ في قالب «الدراما» التي تتعمق في نفس فرد واحد، لتصِف مشاعره العامة التي يشترك فيها مع الإنسانية جمعاء أدقَّ وصفٍ وتحلِّلها أصدق تحليل؛ فبُعد الشعر الحديث عن صورة الدراما هو علة قصوره وعجزه عن الوصول إلى أعماق النفس البشرية.

ولقد حاول العصر الحديث أن يسدَّ هذا النقص، فأتى بفنٍّ جديد يجمع بين الموسيقى والشعر معًا؛ هو الأوبرا. ولكن هذا الجمع كان سطحيًّا إلى حد بعيد، والتصقت الموسيقى بجانب الشعر دون أن يقوم بينهما أي امتزاج حقيقي؛ إذ إن دور الموسيقى يطغى على دور الشعر فيها حتى لا يعود هناك مجال للمقارنة بينهما، وتصبح مهمة الشاعر هي تقديم أساسٍ كلاميٍّ يبني عليه الموسيقيُّ بناءه الذي يستأثر بكل اهتمامنا. ومن جهة أخرى، قد يحدث أن يُجبر الشاعرُ الموسيقيَّ على أن يلحِّن أجزاء لا تصلح في أصلها للتلحين، ومن هنا رأينا الأوبرا حتى عهد موتسارت تتألَّف من فقرات غنائية بينها فواصل كلامية لا تُلحَّن إلا تلحينًا بسيطًا، ثم رأينا الموسيقيين التالين يحاولون ملء ذلك الفراغ بألحان لا يمكن أن تتناسب مع طبيعة الموضوع الشعري. وهكذا انعدمت الرابطة بين الشعر والموسيقى في الأوبرا، وسار كلٌّ منهما في اتجاهٍ مستقلٍّ عن اتجاه الآخر، وإن كان يجمع بينهما تلاصق سطحي لا يسمح لنا بأن نعدَّ الأوبرا فنًّا متكاملًا.

فإن كانت الأوبرا الحديثة قد أخفقت في تحقيق فنٍّ جامع بين الموسيقى والشعر، فأجدر بنا أن نتطلع إلى عهدٍ تحقَّق فيه ذلك المثل الأعلى في الفن إلى حدٍّ يدعو إلى الإعجاب؛ ذلك هو عهد الدراما اليونانية؛ فالدراما لم تكن في عهد اليونان عرضًا يرمي إلى اللهو والترويح عن النفس فحسب، كما هو الحال في الأوبرا الحديثة، بل كانت فنًّا وثيق الصلة بحياة الشعب اليوناني، عميق التأثير فيها؛ إذ كانت مستمَدَّة من أساطير ذلك الشعب؛ أي معبرة عن عبقريته التلقائية تعبيرًا مباشرًا، وممثِّلة لروحه أصدق تمثيل. ومما زاد في تأثيرها على الشعب اليوناني أنها لم تكن تخاطب جانبًا واحدًا من جوانب النفس البشرية، بل كانت فنًّا جامعًا بالمعنى الصحيح؛ فهي تُطرب العقل والسمع والبصر والأفئدة معًا، وفيها يتَّحد الشعر الأسطوري بالموسيقى والرقص والحركات المسرحية في وحدة شاملة متماسكة؛ فتلك الدراما لا تدَع حاسَّة جمالية في الإنسان إلا أثارتها، ومن هنا كانت هي المثَل الذي يجب أن نقتدي به في عصرنا الحديث إن شئنا بعث نهضتنا الفنية والاجتماعية على أساس سليم. وليس معنى ذلك أن نقلِّد الدراما اليونانية في تفاصيلها؛ إذ إن تلك الدراما قامت في عصرٍ يختلف عن عصرنا كل الاختلاف، ونشأت في ظل أحوال لم تتكرر بعد ذلك؛ وإنما يكفينا أن نستمد منها فكرتها العامة، ونقتدي بها في إهابتها بالأساطير الشعبية وتأثيرها على كل جوانب النفس البشرية بفنها المتكامل.

ولقد اهتدى ڤاجنر‎ إلى رائد له في طريقه الفني الجديد، وإن لم يكن قد سار في ذلك الطريق إلى نهايته؛ ذلك هو بيتهوفن؛ ففي الفترة الأخيرة من حياة بيتهوفن، حين أدرك أنه قد بلغ من الموسيقى الخالصة غايته، وعبَّر بها عن أقصى ما يمكنها التعبير عنه؛ أدرك في لحظة عيانية رائعة أن للموسيقى الخالصة حدودًا لا تستطيع تجاوزها، وأنها مهما ارتقت وكمُلت فلن تعبِّر إلا عن مشاعر غامضة لا يمكن تحديدها، ولا تؤثِّر في النفس الإنسانية على نحو واضح، بل تترك فيها أحساسيس مبهمة فحسب؛ ولذا سعى إلى تحديدها وصبغها صبغة عيانية بفن آخر، هو الشعر. وهكذا مزج بيتهوفن في الجزء الأخير من سيمفونيته الأخيرة بين الشعر والموسيقى، وبين أنغام الآلات والصوت الإنساني، في وحدة متناسقة أسمعت الإنسانية «أنشودة الفرح» فتغلغلت في الأعماق، ونفذت إلى أغوار من الروح لم تبلُغها من قبلُ قصيدة شعر أو لحن موسيقي. هنا ظهر الفن المتكامل لأول مرة في العصر الحديث، وكشف بيتهوفن عالمًا جديدًا: لم يستطع ارتياد كل نواحيه أو كشف كل غوامضه، ولكنه نبَّه إليه وقدَّم إلينا صورة رائعة عنه، تُنير الطريق لمن يود استطلاع هذا العالم وفتح هذه الافاق الجديدة للإنسانية.

والواقع أن نظرة ڤاجنر‎ إلى بيتهوفن قد تأثرت بهذه الفكرة كلَّ التأثر؛ فعبقرية بيتهوفن — في رأيه — إنما تكمن في تمهيده الطريق للدراما الموسيقية. وخير أعماله هي السيمفونيتان التاسعة والثالثة، والافتتاحيات التي لا يراها مجرَّد مقدِّمات للدراما، بل هي الدراما بأسرها في شخصياتها وحوادثها ومشاعرها. فقبل بيتهوفن، كان ما يعنى به الفنان هو الموسيقى من حيث هي موسيقى، أما هو فقد عبَّر بها عن أفكار خارجة عن نطاقها. ومنذ تلك اللحظة سار الفن الموسيقي في طريق يؤدي مباشرة إلى الدراما اﻟﭭﺎجنرية؛ أي إلى السيمفونية الغنائية بالمعنى الصحيح. وقد نرى في هذا التحليل لفن بيتهوفن بعض الصحة، ولكنه يفتقر بلا جدال إلى الروح الموضوعية المنزهة؛ ففي وسعنا أن نقول إن بيتهوفن لم يكن يهم ڤاجنر‎ إلا من حيث هو سلف له فحسب، وليس من العدل أن نقول إن بيتهوفن كان يرمي من الجزء الغنائي من سيمفونيته التاسعة إلى نظرية فنية مشابهة لنظرية ڤاجنر‎ في الفن المتكامل، أو أنه أدرك حدود الموسيقى الخالصة وحاول أن يكملها بالشعر ليكون تعبيره الفني أكمل وأدق؛ وإنما الواقع أنه حاول تلحين «أنشودة الفرح» لشيلر منذ عهدٍ مبكر، وأن تلك القطعة الشعرية كانت تستهويه في فترات مختلفة من حياته، فيلحِّنها في كل مرة على نحو مخالف للمرات الأخرى، حتى انتهى إلى خير تنفيذٍ لفكرته في النهاية، وليس من العدل كذلك أن نقول إن التعبير الدرامي كان الغاية القصوى من تطوره الفني؛ إذ كانت للموسيقى الخالصة مكانة كبرى في نفسه، وكان تقديره لرباعيته وسوناتاته — وهي الصورة الموسيقية التي يراها ڤاجنر‎ مضادة تمامًا لصورة الدراما الموسيقية عنده — لا يقل عن تقديره لسيمفونياته وافتتاحياته.

ولنتأمل دور الموسيقى في الدراما الشعرية الغنائية كما يتصورها ڤاجنر‎، فنجده يتجاوز بكثير دورها في الألحان المجردة، فليس للموسيقى أن تكتفي «بالإيعاز» و«التلميح» المبهم كما كانت تفعل في السيمفونيات؛ وإنما عليها أن تقترب من العينية بقدر طاقتها؛ حتى تستطيع عبور الهوَّة التي تفصلها عن الشعر؛ فعلى الموسيقار أن يتوغل في عالم العاطفة والشعور، ويجعل لأنغامه «محتوًى» على الدوام، ولا يدعها تدور في نطاق الصورية الخالصة؛ إذ إن الموسيقى المجردة وحدها لا تكفي — في رأي ڤاجنر‎ — لإعطاء صورة جمالية كاملة. ولا بد أن يكون للأوركسترا دوره الخاص في هذه النظرة الجديدة إلى الموسيقى؛ فبينما كان في الأوبرا التقليدية يُعيِّن اللحن الصوتي بعزف إيقاعٍ مساعد له، أو يعزف بدون الأصوات البشرية موسيقى خالصة لا تمتُّ إلى المشاعر الدرامية بصلة، أصبح على الفرقة الموسيقية أن تعبِّر عن الأحاسيس الخفية لشخصيات الدراما، وأن ترسم لنا من بعيدٍ التيارات الخفية لمشاعرها، وفي وسع الفرقة الموسيقية أن تؤدي هذا الغرض بفضل الطبيعة الغامضة للتعبير الموسيقي، الذي يرسم مشاعر عامة لا يمكن إعطاؤها صورة متحددة إلا على يد الشعر المصاحب لها؛ ولذا كان على الفرقة الموسيقية أن تختفي عن الأنظار، حتى لا يبدو منها إلا تأثيرها في النفوس فحسب، وحتى تمثِّل التيارات المختلفة التي تنتاب روح أبطال الدراما خير تمثيل، في اختفائها وإبهامها وغموضها.

وهنا نرى لزامًا علينا أن نُجري مقارنة بين فكرة ڤاجنر‎ عن الموسيقى كما عرضناها، وبين الدور الذي أولاه إياها شوبنهور في فلسفته؛ فعلى الرغم من اقتداء ڤاجنر‎ بشوبنهور وتأثره الواضح بآرائه الفلسفية، وعلى الرغم من إعجابه التام بفكرته عن الموسيقى من حيث هي معبرة عن الماهية العميقة للعالم، نجد بينهما اختلافًا دقيقًا في الرأي حول مقدرة الموسيقى والمدى الذي يمكنها الوصول إليه؛ فقد رأينا ڤاجنر‎ لا يرى الموسيقى الخالصة قادرة على بلوغ المستوى التعبيري الكامل الذي ينشده؛ وإنما يؤكد ضرورة إكمالها بفنٍّ آخر هو الشعر الذي يُكسب تعبيراتها دقة وتحددًا. أما شوبنهور فجعل للموسيقى الخالصة مكانةً تسمو على الموسيقى الغنائية إلى أبعد حد، وأكد أن تلك الموسيقى المجرَّدة على الرغم من شمول تعبيرها وعموميته، متحددة متميزة إلى أدق حدود التحدد والتميز، وجعل لهاتين الصفتين في الموسيقى طبيعة خاصة تقرِّبها من طبيعة الأشكال الرياضية؛ ففي كتابه الأكبر «العالم إرادة وتمثلًا» يصفها بقوله: «إن الموسيقى من حيث هي تعبير عن العالم، هي لغة عامة إلى أبعد حد … ولكن عموميتها ليست خاوية ناشئة عن التجريد؛ وإنما هي من نوع يختلف عن ذلك تمامًا؛ فهي متحددة متميزة كل التميز. وهي في ذلك الجمع بين العمومية والتميز تشبه الأشكال الهندسية والأعداد، التي هي أشكال عامة لكل الموضوعات الممكنة للتجربة … ولكنها مع ذلك ليست مجردة؛ وإنما عينية ومتحددة كل التحدد؛ فكل المشاعر والنوازع والعواطف التي تنتاب الإرادة، وكل ما يجري في باطن الإنسان مما يطلِق عليه العقل سلبيًّا اسم «الشعور Gefühl» — كل هذا يجد خير تعبير عنه في الألحان التي لا تتناهى إمكانياتها، ولكن لذلك التعبير تعميم الصورة الخالصة التي خلَت من كل مادة، فهو يعبِّر عن الشيء في ذاته، لا عن الظواهر وحدها … ومن تلك الصلة الوثيقة بين الموسيقى وبين الماهية الحقيقية لكل شيء، يتضح لنا أنه إذا عبَّرت الموسيقى تعبيرًا مناسبًا عن أي منظر أو فعل أو حادث أو بيئة، فإن كلًّا من هؤلاء يتضح لنا معناه الباطن، وبهذا تكون الموسيقى خير شارح له، كذلك يبدو لمن استجاب لتأثير سيمفونية أنه يرى كل أحداث الحياة والعالم في ذاتها، مع أنه لو فكر في الأمر تفكيرًا منطقيًّا لما وجد أي وجه للتشابه بين صوت الأنغام وبين الأشياء التي تحيط به؛ ذلك بأن الموسيقى تختلف عن كل ما عداها من الفنون في أنها ليست صورة مقلدة للظواهر، أو على الأصح لموضوعية الإرادة، بل هي صورة مباشرة للإرادة ذاتها، تعرض المعنى الميتافيزيقي لكلِّ ما يوجد في هذا العالم الطبيعي، وتوضح الشيء في ذاته، الذي يكمن وراء كل ظاهرة؛ وعلى ذلك، فكما يمكن تسمية العالم إرادة متجسدة، يمكننا أن نسميه موسيقى متجسدة.»

وبينما كان في وسع الموسيقى الخالصة، على الرغم من شمول تعبيرها وعموميته، أن تنفذ إلى قلب العالم وقرار الإرادة في رأي شوبنهور، كان ڤاجنر‎ أكثر واقعية في تفكيره؛ فهو لا يُحسن الظن إلى هذا الحد بقدرة الخيال الإنساني، ولا يعتقد أن في وسع ذلك الخيال الوصول إلى ماهية الأشياء إن أثارته الموسيقى الخالصة وحدها؛ إذ إن ذلك الخيال في حاجة إلى مزيد من العينية والتحدد ليزداد تأثره قوة وعمقًا؛ فنحن بوصفنا موجودات متناهية فانية، لا نحس بمشاعر أو نوازع إرادية إلا إذا تمثَّلت لنا معها صور محددة؛ ولا يمكن أن تُثار فينا أحاسيس منطلقة مجردة عن الصور. كذلك لا بد للموسيقى، من حيث هي فن إنساني متناهٍ بدورها، من أن ترتبط بصورٍ معينة تحددها في أذهاننا؛ وعلى ذلك فالموسيقى الخالصة تظل على الدوام هائمة في بيداء الإبداع المطلق الخالص والخلق المعتم الغامض الذي يُخيم عليه الضباب والظلام. أما التأثير الفني الكامل فلا يصدر عن الموسيقى المطلقة، بل عن الدراما الكاملة، التي ترتبط موسيقاها بالشعر كما يرتبط الجانب العقلي التصوري في الإنسان بالجانب الإرادي فيه، ويكوِّنان معًا مُركَّبًا عضويًّا واحدًا.

ولننتقل إلى بيان مهمة الشعر في الدراما الموسيقية. وهنا لا بد أن نلاحظ أن الشعر الدرامي يجب أن يكون أسطوريًّا على الدوام؛ إذ إن الإنسانية لم تعبِّر عن مشاعرها الغريزية تعبيرًا صادقًا إلا بالأسطورة؛ ولا نعني بذلك أن يعود إنسان العصر الحديث إلى الحالة البدائية التي كان يخلط فيها بين الأسطورة وبين الواقع؛ وإنما كل ما نعنيه هو أن نلجأ إلى الأسطورة لأنها التعبير الصحيح عن المشاعر الإنسانية الصادقة، ونقتبس منها الشكل فحسب، أما المحتوى فمن الممكن تغيُّره من عصر إلى عصر. وفي وسعنا أن نملأ الإطار الأسطوري الرمزي بمادة تستمد من عصرنا الحالي، ونعالج بها مشاكل تعترضنا في أيامنا هذه. وهذا بالضبط ما فعله ڤاجنر‎ بوجه خاص في دراما «النيبلونجن»، التي اتخذت شكلًا أسطوريًّا وعالجت مشكلات لا تمتُّ إلى عالم الأساطير بأية صلة تنتمي إلى صميم حياتنا الواقعية الحالية.

ومن شأن هذا الطابع الأسطوري للدراما الموسيقية أن يتخذ قالبًا فلسفيًّا بالضرورة؛ إذ إن الأسطورة لا ترمي إلى التعبير عن تجربة فرد بعينه، بل تجعل أفرادها مجرد رموز لحقائق عامة شاملة تسري على الجنس البشري بأكمله، ولا تتحدث إلا عن «الإنسان» بوجه عام. وذلك التعميم والشمول هما أخصُّ صفات التفكير الفلسفي، ومن هنا كانت تلك الدراما فلسفية؛ ولكنها ليست فلسفية بالمعنى المجرد، الذي اعتدناه لدى الفلاسفة الموغلين في المنطق الخالص، والذين لا تدور أفكارهم إلا حول تصورات عقلية تتعامل مع نفسها؛ بل هي ذات طابع «فلسفي عيني» إن جاز هذا التعبير؛ فالفلسفة التي ينطوي عليها شعر الدراما تتغلغل في صميم المشاعر الإنسانية، وتتعمق في باطن النفس البشرية دون أن تحاول العلو عليها أو تجريدها وإحالتها إلى تصورات خالصة غاضت منها دماء الحياة، والأفكار العامة في ذلك الشعر إنسانية خالصة؛ كمشكلة الحب، والموت، والخلاص. وهكذا لم يكن ڤاجنر‎ يسعى من أساطيره إلا إلى البحث عن القانون الخالد الذي يكمن من وراء كل عاطفة إنسانية جزئية.

وإذا كنا قد عرضنا دور الموسيقى ودور الشعر في الدراما الموسيقية على حدة، فعلينا الآن أن نوضح مدى العلاقة بينهما في هذه الدراما، وننظر إليهما من خلال الوحدة الشاملة التي تجمع بينهما؛ فكلٌّ من الموسيقى والشعر يُكمل الآخر؛ إذ إن لكلٍّ منهما ميدانًا خاصًّا لا يكفي وحده لإحداث الأثر الدرامي الكامل في النفس الإنسانية؛ وإنما لا بد من الجمع بين الميدانين؛ فالشعر في تعبيره عن العواطف والمشاعر الباطنة في الإنسان، لا يعبِّر تعبيرًا مباشرًا؛ إذ إن وسيلته في نقل المشاعر، وهي الكلمات، تُثير معاني عقلية بالضرورة، بحيث إن استجابتنا العاطفية لكلمات الشعر لا يمكن أن تكون صادرة عن الشعور العاطفي sentiment وحده، بل لا بد أن يصاحبها قدر من الاستجابة العقلية. وأما الموسيقى، فليست في حاجة إلى واسطة لتؤدي أثرها في النفس؛ وإنما تتغلغل فيها بطريقة مباشرة لا نعلم بالضبط كيف تتم؛ وإنما نستطيع أن نؤكد على الدوام أنها تنفذ إلى العاطفة والشعور مباشرةً دون أدنى إهابة بالعقل. ومن جهة أخرى فالمجال العاطفي الذي تقتصر عليه الموسيقى يظل مبهمًا غامضًا مهما بلغت قوة الإيحاء والتصوير في الأنغام، أما الشعر فبفضل كلماته التي تتخذ كلٌّ منها معنًى معيَّنًا، يستطيع تحديد المعنى العام الذي يرمي إليه بسهولة، ووصف نوع العاطفة التي ستُثار. وهكذا تُكمل الموسيقى الشعر إذ تُضفي عليه مزيدًا من العاطفية وتنفذ به مباشرةً إلى النفس الإنسانية، ويُكمل الشعر الموسيقى إذ يحدد المشاعر العامة التي تعبر عنها، ويجعل لها في ذهن الإنسان صورة عينية واضحة.

ولقد كان بين الموسيقى والشعر تأثير متبادل في تجربة ڤاجنر‎ الدرامية الخاصة؛ إذ كان تعمُّقه في باب التعبير الموسيقي باعثًا له على إجادة التعبير الشعري والتفرغ له؛ ذلك لأن المرء — كما لاحظ ڤاجنر‎ — إذا كان بصدد تعلُّم لغة غريبة، كان «الشكل» هو المشكلة الكبرى التي تواجهه، فلا يُعنى عندئذٍ بمحتوى أفكاره بقدر ما يُعنى بطريقة التعبير عنها. وهكذا لا يكون في وسعه التعبير عن كل عواطفه وإحساساته، بل يظل مقيَّدًا بعجزه «الشكلي». أما بالنسبة إلى لغة المرء الأصلية، فلا يعنيه الشكل على الإطلاق، بل إن كل فكرة تأتيه تجد عنها تعبيرًا مباشرًا دون أي عناء، ويصبح اختيار المحتوى الفكري هو الأمر الذي يعنيه. ولقد بلغ ڤاجنر‎ في تفهُّم دقائق لغة الموسيقى أقصى ما يمكن أن يبلغه فنان، ولم تكن مشكلة التعبير تعنيه على الإطلاق، بل كان كل همِّه موجَّهًا إلى الأفكار والإحساسات التي يعبِّر عنها، بعد أن أصبحت الموسيقى لغته الأصلية، وقضت خبرته الواسعة على مشكلة «الشكل» قضاءً تامًّا. ومن هنا نرى إلى أي حد أثرت الموسيقى على اتجاهه الشعري في الدراما؛ فقد تفرَّغ ڤاجنر‎ للمحتوى الشعري الذي تمتلئ به الدراما، ولم يقف عاجزًا إزاء تحدُّد مقدرته الموسيقية أو ضيق مجالها.

وفي مقابل ذلك نرى للشعر في الدراما أثارًا واضحة على موسيقاها؛ ففي حداثة عهد ڤاجنر‎ بالموسيقى لم يكن يبغض «اللحن melodie» ولكن عندما نضجت موهبته الشعرية تخلَّى — منذ تأليف «الهولندي» — عن التعصب للَّحن، وأصبح يرى أن اللحن لا يجب أن يُطلب لذاته؛ وإنما من أجل ما يُثيره من مشاعر فحسب. فإن اقتضى الموضوع الشعري لحنًا فليأت به، أما إذا كانت وحدة الموضوع لا تستدعي لحنًا قصيرًا منفصلًا، فلا بد من التخلي عن اللحن في سبيل الوحدة، وعندئذٍ يجد في الأنغام العديدة المتناسقة ما يُغني عن السطح الظاهري الذي يعبِّر عنه اللحن، وما يبعث في الدراما عمقًا ويكفل الوحدة التامة بين أجزائها.
ولقد ابتدع ڤاجنر‎ وسيلة جديدة للربط بين مختلف الأجزاء المتشابهة في الدراما؛ إذ كان لزامًا على الموسيقى أن تبرز كل شخصية من الشخصيات على نحو مستقل وتجعل لها طبيعتها الخاصة المنفصلة عما عداها. وبينما كانت الأوبرا القديمة مفككة مهلهلة بقطعها المنفصلة التي لا ترتبط بالجموع إلا ربطًا متكلَّفًا، نرى ڤاجنر‎ يهدف قبل كل شيء إلى رسم خطوط الشخصيات والحوادث متسقة لا يعوق وحدتها شيء. وهكذا ابتدع ڤاجنر‎ طريقة التعبير باللحن المميز Leitmotiv؛ فكما أن لكل شخصية ولكل عاطفة طابعًا خاصًّا يسعى الشعر إلى إبرازه، فكذلك ترمي الموسيقى عنده إلى إيضاح تلك الصفة الأساسية في كل موقف، بحيث يمكن بناء هيكل عام للدراما من بضعة «الألحان المميزة» الرئيسية التي تسودها، والتي تكفي لإعطاء مجمل معبِّر عن العمل الفني بأسره. وما دام هدف ڤاجنر‎ هو التعبير عن الشخصية أو العاطفة التي تصورها الدراما تعبيرًا صحيحًا؛ فقد عمل على أن يكرر تلك الألحان الرئيسية كلما عرض ذلك الشخص أو أثيرت تلك العاطفة، وبهذا كفل للدراما وحدتها وتماسكها، ومزج بين الشعر والموسيقى مزجًا عبقريًّا يهدف في النهاية إلى تحقيق فكرته الكبرى، وهي التأثير على أكبر قدر ممكن من الملكات النفسية، والإهابة بعقل الإنسان وقلبه وخياله عن طريق الفن الدرامي المتكامل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤