الفصل الأول

شرح الرسالة

وزير شبل الدولة

هذه هي «رسالةُ الهناء»، وهي — كما تبدو لقارئها — رسالةٌ بعث بها «أبو العلاء» إلى بعض معاصريه من الكبراء، يهنئه فيها بقدوم وزير السلطان «شبل الدولة»١ إليه، ونزوله عليه.
وما نعلم — على التحقيق — من شأن هذين الكبيرين، أو الوزيرين، أو المشيرين، أكثر مما أفضى به إلينا «أبو العلاء» في ثَبتِ هذه الرسالة، فأدركنا من سياقه أن كليهما كان مشيرًا للسلطان «شبل الدولة»، الذي أُلِّفَتْ في عهده «رسالة الغفران»، كما ينم بذلك قول شاعرنا:

وسيدانا الأستاذان — أذلَّ الله معاندهما أخرى المنون، إذا كان السلطان «شبل الدولة» أسد النجوم، كانا — لا محالة — ذراعيه، وإن أغلق باب الرأفة فتحا مصراعيه.

فلما أفضى إلينا بالباعث له على كتابة هذه الرسالة إلى «سيديه الأستاذين» لم يزد على أن قال:

وقد كنت عزمت على الإمساك — الصمت — حتى أشار بالقول وليُّهما «أبو فلان»، وهو ممن يُوثق بعقله ودينه … إلخ.

عصر الشياطين

ومن يدري فلعل شاعرنا قد حذف الأسماء والألقاب من هذه الرسالة، بعد أن تغير العهد السياسي، فما كان أقصر عهود السلاطين والوزراء والولاة والأمراء في ذلك العصر المضطرب، المملوء بالمخاطر والأحداث والفتن والدسائس، التي أثارها شياطين العصر من السُّوَّاسِ الذين عناهم شاعرنا بقوله:

ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر — من الوالين — سلطان
من ليس يَحْفِلُ خَمْصَ الناس كُلِّهم
إن راح يشرب خمرًا، وهو مبطان

ودمغ ولاته وهداته بقوله:

فأميرهم نال الإمارة بالخنا
وتَقيُّهم — بصلاته — يتصيد

وقوله:

مُلَّ المُقامُ فكم أعاشر أمةً
أمرتْ — بغير صلاحها — أمراؤها
ظلموا الرعية، واستباحوا كيدها
وعَدَوا مصالحها، وهُم أُجراؤها

المشيران

ولولا إشاراتٌ سريعةٌ بدرت من شاعرنا في هذه الرسالة لما عرفنا من شأن صاحبيه قليلًا ولا كثيرًا.

على أنها إشاراتٌ أشبه بالرموز لما يكتنفها من غموض وخفاء، فلم يصل إلينا من النسخة المخطوطة لهذه الرسالة أكثر من إطلاقه على من كتب إليه وعلى صديقه الذي حل ضيفًا عليه: أنهما «سيداه الأستاذان»، وأنهما — لعلو منزلتيهما عند شبل الدولة — مشيران.

وأن كنية الضيف هي «أبو علي». وقد حذفت كنية المضيف الذي هنَّأه شاعرنا بقدوم صاحبه عليه — عمدًا أو اضطرارًا — واستعيض منها بكنية «أبي فلان»، ثم راح يصف هذين الرجلين: «أبا علي» و«أبا فلانٍ» بما شاءت له مجاملته ومداراته أن يضفي عليهما من باهر المزايا، ونادر الخلال، ويقرر — على عادته في مصانعة معاصريه — أنهما علَمان، لم يَجُد بمثلهما الدهر إلا فيما سبق من الزمان، من أمثال «صاعد بن مخلدٍ» و«سهل بن هارون» و«عدي بن زيدٍ العبادي» ومن إليهم من قادة الفكر، وأعيان الدهر، وأساطين البيان، وأعلام الرأي والعرفان.

كنوز مفقودة

ومن يدري فلعل ناسخ الرسالة قد حذف الأسماء عمدًا أو اضطرارًا — كما أسلفنا — أو لعله حذفها سهوًا أو استغناء، فعلم ذلك عند علام الغيوب، ولعلنا لو ظفرنا بنسخةٍ أخرى لرأينا فيها ما نتوخاه، وعرفنا من الحقائق ما جهلناه، فقد ضاعت الكنوز العلائية، ولم يبق منها — على كثرتها — إلا آحادٌ من الكتب والكراريس، ولن تزيد الخسارة بجهل تلك الأسماء، شيئًا مذكورًا بالقياس إلى الكنوز العلائية المفقودة.

حذف الأسماء

على أن رائد الأدب العلائي ليرى ظاهرتين واضحتين في أثناء درسه، فهو يرى أكثر من كتب إليهم شاعرُنا — في «سِقْطِ الزَّنْدِ» وفي رسائله — قد حُذفت أسماؤهم وكُناهم وألقابهم، فلم يبق منها إلا القليل، كما حُذفت البواعث التي حفَزت شاعرنا إلى مساجلتهم أو مراسلتهم، فلا يكاد الباحث يظفر من ذلك بغير التَّفِه اليسير الذي لا يشفي غُلَّة، وأغلب الظن أن «المعري» قد آثر هذه الخطة حين عُني بتسجيل آثاره، وإثبات رسائله وأشعاره؛ ليكون في ذلك الحذف تكفيرٌ عن إفراطه في مجاملة من تورَّط في الثناء عليه من معاصريه، بعد أن أسرف في مصانعتهم، وغلا في التودُّد إليهم، اتقاءً لما يخشاه من أذيَّتِهم، وإيثارًا لسياسة التَّقِيَّة الذي أخذ بها نفسه، ولم يَحِدْ عنها طول حياته، وقد أوجزها في قوله:

توخَّ بلطف القول ردَّ مخالف
إليك، فكم طرفٍ٢ يُسكَّن بالنَّقْر

ولقد طالما بكا مُتألِّمًا اضطراره للإسراف في مصانعة الناس ومداراتهم، فقال:

أرائيك، فليغفر لي الله زلَّتي
بذاك، ودَينُ العالمين رياء

وإنما اضطر شاعرنا إلى المصانعة؛ لأن الناس — فيما يرى، ورأيه الحق — يبغضون الصراحة، ويمقتون الصدق، ويؤثرون — بطبعهم — باطل القول على الصحيح من الأخبار:

والحق يُهمَس بينهم
ويقام للسوءات منبر

وما أسرعهم إلى تصديق ما يرفض العقل إثباته، وتكذيب ما يقرُّه المنطق من صحيح القضايا:

إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت اليقين أطلت همسي

الصدق والكذب

وللمعري في تسويغ الكذب رأيان؛ أولهما: يبديه في الكذب الذي يدعوك إليه الاضطرار، والثاني في الكذب الذي يدعوك إليه الفن، فهو يوصيك أن تتوخَّى الصدق ما حييت، فإذا عرَّضك للهلاك أوصاك بمجانبته، ولم ير عليك بأسًا إذا أسرفت في الكذب — بكل ما في وسعك — لتنقذ حياتك من التلف، فإنما مثلُك في ذلك مثل من يضطره الجوع إلى أكل الميتة، فيقبل على المحظور كارهًا، أو يضطره المرض إلى مجانبة الماء؛ توقيًا للهلاك، فيكفُّ عنه توخِّيًا للشفاء، ودفعًا للسقم، وفي ذلك يقول:

أصدُق إلى أن تظنَّ الصدق مهلكة
وبعد ذلك فاقعد كاذبًا، وقُم
فالمين جيفة مضطرٍّ ألمَّ بها
والصدق كالماء: يُجفَى خِيفَةَ السَّقم

ورُبَّما رسم لك خطته في مصانعة الظالمين، ومداراة الطغاة من الولاة الجائرين، في هذين البيتين:

يقول لك العقل الذي ميز الحِجَا
إذا أنت لم تَدرَأ عدوًا، فداره
وقبِّل يد الجاني التي لستَ قادرًا
على قطعها، وأرقب سقوطَ جداره

أسد الدولة

وقد سار شاعرنا على هذا النهج الذي قرَّره، ولم يفته أن يداري الجانين، ويصانع الباغين، فراح يتربص الدوائر بأسد الدولة «صالح بن مرداس»؛ والد «شبل الدولة»، مترقبًا سقوط جداره، حتى إذا دالَتْ دولته، لم يَفُتْ شاعرنا أن يُندِّد بظلمه حين أمكنته الفرصة من ذلك. ومن غمزاته فيه قوله:

فإني أرى الآفاق دانت لظالم
يغُرُّ بغاياها، «ويشرب خمرها»٣

الكذب الفني

أما الكذب الفني الذي يضطر إليه الخيال، فقد أبدع شاعرنا في الاعتذار عنه في مقدمة سقط الزند،٤ حين عرض لتسويغ اضطراره إلى حذف أسماء من غالى في مجاملتهم، وأسرف في تخيل المزايا الباهرة التي نحَلها إياهم في قصائده، معتذرًا عما ارتكبه من الشطط بأنه لم يَعْنِ أحدًا منهم بما قال،٥ ولم يقصد بما نظَم في رُبَّان الحَدَاثة — أول الشباب — وجن النشاط — شدة المرح — إلى غيرِ مرانة الطبع ورياضته، ثم شفع ذلك الاعتذار بآخر فقال:
ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طالبًا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحان السُّوس٦ «الطبع».
فالحمد لله الذي ستر بغُفَّةٍ٧ من قِوام العيش، ورزَق شُبْعةٌ من القناعة أوفت على جزيل الوَفْر.
ولكنه لم يلبث أن عزَف عن هذا الباطل، ونفَر طبعُه من تلك الأكاذيب، فهجر الشعر قائلًا في مقدمة «سقط الزند»: «ثم رفضته — يعني الشعر — رفض السَّقْب٨ غِرْسَه،٩ والرَّأْلِ — ولد النعام — تَرِيكَتَه — بيضته التي خرج منها وهو فرخٌ، رغبةً عن أدبٍ معظم جيِّده كذبٌ، ورديئه ينقص ويجدب — يعيب.»١٠

وهنا يقول: «وما وُجد لي من غلوٍّ، علق — في الظاهر — بآدميٍّ، وكان مما يحتمله صفات الله — عزَّ سلطانه — فهو مصروفٌ إليه.»

وقد أخذ نفسه — في قابل أيامه — بهذا العهد، فوقف تمجيده وإجلاله على خالقه وحده، كما ترى ذلك في «اللزوميات»، «ورسالة الغفران»، «والفصول والغايات».

المثل العليا

وقد أشار في تلك المقدمة النفيسة إلى مبدأ جليلٍ ما أجدر محبي الأدب العربي أن يتنبهوا إلى خطره ونفاسته، فآثر أن يوجِّه مدائحه إلى المُثُل العليا — حيثما وجدت — في أفذاذ الموهوبين، من سالف القدامى الغابرين، وقابل الذراري القادمين، فقال: «وما صلح لمخلوقٍ سلَف من قبلُ، أو لمْ يُخلق بُعد؛ فإنه ملحقٌ به.»

ثم أعلن براءته مما جمح به طبعه، فقال مستغفرًا نادمًا: «وما كان من محض المَيْن لا جهة له، فأستقبل الله العثرة فيه.»

ثم وصل إلى ذروة التوفيق في تعليل الكذب الفني وتسويغه، فقال: «والشعر للخَلَد — للنفس أو القلب — مثلُ الصورة لليد: يُمثِّل الصانع ما لا حقيقة له، ويقول: الخاطر — القلب — ما لو طولب به لأنكره.»

ثم لخَّص دستور الشعراء ومن لفَّ لفَّهُم من رجال الفنون، فقال:
ومطلقٌ — في حُكم النظم — دَعوى الجبان: أنه شجيعٌ، ولبس العِزْهاة ثيابَ الزير،١١ وتحلى العاجز بحلية الشَّهْم الزَّميع — النشيط الجريء.

أسماء الممدوحين

ولو أخذنا برأي المعري واهتدينا بهديه في فهم قصائد الفحول الأفذاذ من الشعراء؛ «كالمتنبي»، و«ابن الرومي»، و«أبي تمام»، و«البحتري»، و«ابن زيدون»، و«مهيار» ومن إليهم، متغاضين عن كثيرٍ من أسماء مَن ظفر بمدائحهم أو مُني بأهاجيهم، لما خسرت ألواحهم الفنية شيئًا، بل لعل الفائدة منها تعظم إذا تمثلنا تلك الصور الرائعة موجهةً إلى أهداف أُخر، أسمى وأنبل من الأغراض التي قصد إليها مُنشِئوها، فما أكثر ما تغنى هؤلاء الفحول بالمثل العليا في أشعارهم، ثم وقفت أسماء الممدوحين غصةً في حلق المعجبين، ووصمةً في جبين تلك الآيات التي أبدعها الأفذاذ من فحولنا الموهوبين.

إسرافه في المجاملة

وبقدر ما ترى من إغفال شاعرنا لأسماء معاصريه، ترى عنايته بشرح ما غمض من ألفاظه، وتجلية ما استَسرَّ من معانيه — سواء في ذلك شعره ونثره، ورسائله وكتبه — وما أكثر ما نراه يمهد لشروحه بألوانٍ بارعةٍ من الاعتذار لمن يختصهم بشرحه، فهو قد يُنحِي علي نفسه باللائمة، أو يرمي نفسه بالغفلة، كما ترى قوله في «رسالة الهناء» هذه، معتذرًا لمن بعث بها إليه، حتى لا يجرح كرامته، ملتمسًا منه الصفح لتهجُّمه على مقامه في الكتابة إليه أولًا، وفي شرح ما كتبه إليه ثانيًا، فيقول:

وقد أتبعت هذا الإطناب بتبيين ألفاظٍ فيه؛ ليكون الهذيان كاملًا، والمَرَضُ لفضوله شاملًا.

لطف الاعتذار

على أنه قد أفصح — في مقامٍ آخر — عن البواعث الحق في عنايته بشرح ما يكتب، وجَلَا — في ثنايا اعتذاره لصاحبه «ابن القارح» — حقيقة ما يهدف إليه ويتوخَّاه من تفسير ما صعب من لفظه، وتجلية ما خفي من معناه، فقال في «رسالة الغفران» التي بعث بها إليه:
وهو — آنس الله الإقليم بقُربه — أجلُّ من أن يُشرح له مثل ذلك، وإنما أفرَق من وقوع هذه الرسالة في يد غلامٍ مترعرع — ناشئٍ١٢ — ليس إلى الفهم بمُتسرِّعٍ، فتستَعجِم — تستغلق — عليه اللفظة، فيظل معها في مثل القيد، لا يقدر على العَجَل ولا الرُّوَيد.١٣

عنايته بالتوضيح

وقريبٌ من هذا قوله في مقدمة لزومياته حين عرض لأسماء القافية: «وسأذكر منها شيئًا مخافة أن يقع هذا الكتاب إلى قليل المعرفة بتلك الأسماء.»

وقوله في مكانٍ آخر منها:

فبَيِّنْ إذا حاولت إفهام سامعٍ
فإن بيانًا من قضاءٍ مُعدَّل
تقول: «حميدٌ قال» والمرءُ ما درى:
«حُميدُ بن ثورٍ»١٤ أم «حُميد بن بحدَل؟»١٥
وهو يطالب غيره بالشرح كما يطالب به نفسه، فيعاتب من يقصر في ذلك متبرمًا بالغموض المُضلِّ، والإيجاز المخل،١٦ فيقول:
لم تُبْد لي عنك: إلا مُجْملًا خبرًا
وقد شرحت لغيري مُوضِحًا جُمَلك

أمثلةٌ من شروحه

وهو لا يكتفي بشرح منثوره — وقد قبسنا كثيرًا من شروحه في مواضعه من هذا الكتاب، وجعلناه بين الأقواس المربعة — بل يتعدى ذلك إلى شعره، فهو يتوخى إفهام السامع ما وسعه ذلك، فيقول مثلًا:

وفوائد الأسفار [جمع السِّفْر] في الدُّ
نيا تفُوق فوائد الأسفار

أو يقول:

مر لي بإميليسيةٍ [أعني بها:
وَجْناء١٧ تقطع في الدُّجَى الإمليسا]١٨

أو يقول:

راعتك دنياك [من ريع الفؤاد] وما
راعتك في العيش [من حسن المراعاة]

أو يقول:

فلا يُمسِ فخَّارًا [من الفَخْر] عائدٌ
إلى صَنْعة الفخَّار للنَّفع يُضرَب
لعل إناءً منه يُصنع مرةً،
فيأكل فيه من أراد ويشرب
وينقل من أرضٍ لأخرى، وما درى
فواهًا له! بعد البِلَى يتغرَّب

أو يقول:

الصبر يوجد [إن باءٌ له كُسرت]
لكنه [بسكون الباء] مفقود١٩

أو يقول:

أسنيت [من مر السنين] ولم أُرد:
أسنيت [من ضوء السَّنَا البهَّار]

أو يقول:

نوديت «ألوَيتَ» فانزِلْ [لا يُراد: أتى
سَيرى لِوَى الرَّمْل] بل [للنَّبْت إلواءُ]٢٠

أو يقول:

أيا ظبَيَات الإنس: [لستُ مناديًا
وحوشًا]، ولكن [غانياتٍ مع الإنس]٢١

أو يقول:

غفرنا [وما أعني اغتفارًا، وإنما
عنيت انتكاس البرء، لا كَرَم الغَفْر]٢٢

أو يقول:

والدار تَدْمُر من كلٍّ [وما غرضي
كونٌ ﺑ «تدمر»، لكنْ منزلٌ دَمَرَا]٢٣

أو يقول:

ما زال ربك ثابتًا في ملكه
يَنمِي إليه للعباد جُؤَار٢٤
وأتت على الأكوار [جمع الكُور]٢٥ والـ
ـكور المُسرَّح٢٦ هذه الأكوار٢٧

أو يقول:

ساحليون [لم أُرد ساحِلَ البحـ
ـر، ولكنْ نسبًا لأقمَرَ ساحِل]٢٨

أو يقول:

متى ما تحاول فارسًا [من فَراسةٍ]
فإني من «زيد» و«بسطام» أفرَس٢٩

أو يقول:

إن قلت: «صفوًا» بإلغازٍ — [فمعتمدي
صفُّوا — من الصفِّ لا صفوًا من الكَدَر]

وهذا البيت يذكرنا بقوله:

صوفيةٌ، ما ارتضَوا للصُّوف نسبتُهم،
حتى ادَّعوا أنهم — من طاعةٍ — صوفوا

أو يقول:

شجَر الخِلاف قلوبهم، ويحٌ لها
[غرَضي: خِلاف الحقِّ لا الصفصاف]٣٠

على أنه قد يُطلق اللقب أو الكنية دون توضيحٍ أو تفسيرٍ، مكتفيًا بدلالة المقام على صاحبها، فيجتزئ بلقب «الكوفيِّ» مرة، وهو واثقٌ من أن القارئ لن يخطئ صاحبه، ولن يطيل تفكيره، وهو لا بد مهتدٍ باللمحة العاجلة إلى أن شاعرنا يعني به في البيت التالي الإمام «أبا حنيفة»، حين يقول:

زَكوا — على مذهب الكوفي — أرضَكم
وجانبوا رأيه في مسكرٍ طُبخا

ثم يُطلق هذا اللقب في بيتٍ آخر، فلا يحتاج إلى مَن يُخبرُك أنه لا يعني به غير الشاعر المعروف «أبي العتاهية»، الذي فاض شعره بالزهد، كما فاض شعر البصري «أبي نواس» بأوصاف الخمر. وإليك النص:

أمَا قاله «الكوفي» في الزهد، مثلما
تغنَّى به «البصري» في صفة الخمر؟

وقد يَشفَع الاسم بوصفٍ موجزٍ يُعيِّن مراده، فهو يصف «جريرًا» بأنه: «أخو القول»، فنعلم أنه يعني الشاعر الإسلامي المعروف «جرير بن عطية الثقفي»، فيقول:

والمنايا كالأسد تفترس الأحْـ
ـياء جمعًا، ولا تعاف الكليبا
مثل ما قيل في «جريرٍ» [أخي القَو
ل]: «يصيد الكُرْكيَّ والعندليبا»٣١

هوامش

(١) تملك «أبو كامل نصر بن صالح بن مرداس» مدينة «حلب» من سنة ٤٢٠ إلى ٤٢٩ﻫ. وقد أشار إليه المعري في «رسالة الغفران» التي كتبها سنة ٤٢٤ﻫ، حين تمثل صاحبه «ابن القارح» يستنجد بعلي بن أبي طالب — يوم القيامة — متوسلًا إليه أن يخاطب النبي في شأنه ليتشفع له، وتمثل «عليًّا» يسأله عن صحيفة حسناته، فيبحث «ابن القارح» عنها فلا يظفر بطائل، وكان سبب فقدانها: «أنه رأى في المحشر شيخًا كان يدرس له النحو في الدار العاجلة يعرف «بأبي علي الفارسي»، ورأى جماعة من الشعراء يأخذون بتلابيب الشيخ ويُخطِّئونه فيما رواه من أشعارهم، ويتمرسون به صاخبين، ويقولون له غاضبين: «تأوَّلت علينا وظلمتنا.» فلم يكد الأستاذ يرى تلميذه «ابن القارح» حتى أشار إليه بيده مستنجدًا، فخفَّ التلميذ إلى نجدة أستاذه، وهب للدفاع عنه قائلًا: «يا قوم، إن هذه أمور هينة، فلا تعنتوا هذا الشيخ».» إلى أن قال: «وإنه ما سفك لكم دمًا، ولا احتجن عنكم مالًا.»
قال: «فتفرقوا عنه، وشغلت بخطابهم والنظر في حويرهم — مناقشتهم — فسقط مني الكتاب الذي فيه ذكر التوبة، فرجعت أطلبه فما وجدته، فأظهرت الوله والجزع، فقال أمير المؤمنين: «لا عليك! ألك شاهد بالتوبة؟» فقلت: «نعم، قاضي حلب وعدولها.» فقال: «بمن يعرف ذلك الرجل؟» فأقول: «بعبد المنعم بن عبد الكريم» قاضي «حلب» — حرسها الله — في أيام «شبل الدولة».»
(٢) الطرف: الأصيل من الجياد.
(٣) تملك «أسد الدولة صالح بن مرداس» مدينة حلب من سنة ٤١٤ إلى ٤٢٠ﻫ، وهي السنة التي قتل فيها، ونجا ولده شبل الدولة هاربًا إلى «حلب»، وقد حاصر «صالح بن مرداس» «معرة النعمان» — موطن «أبي العلاء» — ونصب عليها المجانيق سنة ٤١٧ﻫ.
قالوا: واشتد صالح في الحصار لأهلها، فجاء أهل المعرة إلى الشيخ «أبي العلاء» لعجزهم عن مقاومته؛ لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا «أبا العلاء» أن يتداركهم بالخروج إلى «صالح» بنفسه، وتدبير الأمر برأيه؛ إما بأموال يبذلونها، أو طاعة يعطونها.
فخرج ويده في يد قائده، وفُتح له باب من أبواب المعرة وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو «أبو العلاء»؛ فجيئوني به.
فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال: «الأمير — أطال الله بقاءه — كالنهار الماتع (المرتفع قبل الزوال والضحى) قاظ وسطه، وطال أبْرَداه — وهما الغداة والعشي.
أو كالسيف القاطع؛ لان متنه، وخشن حدَّاه.
«خذ العفو، وأمر بالمعروف، وأعرض عن الجاهلين».»
فقال صالح: «لا تثريب عليكم اليوم، قد وهبت لك «المعرة» وأهلها.» وأمر بتقويض الخيام، فقُوِّضت ورحل، وشاعرنا يقول:
نجى «المعرة» من براثن «صالح»
ربٌّ يعافي كل داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألحفهم جناح تفضل
وقد أشار «أبو العلاء» إلى هذا الحادث في لزومياته، فقال:
تغيبت في منزلي برهة
ستير العيون فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
وحمَّ لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعًا إلى «صالح»
وذاك — من القوم — رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق
فكم نفَّقت محنة ما كسد
أما السبب الذي حفز «صالح بن مرداس» إلى محاصرة المعرة، وأغراه بالانتقام من أهلها؛ فهو يتلخص في أن امرأة من «معرة النعمان» استغاثت بالمُصلِّين في يوم الجمعة؛ لأن ماجنًا صاحب ماخورٍ حاول أن يعتدي عليها ويغتصبها، وكانت المرأة حاملًا، فلم يمنعه ذلك من التعرض لها بالأذى، ولم تكد تستنجد بالمصلين حتى أسرعوا إلى نجدتها، واشتد بهم الغضب فهدموا الماخور، وأخذوا خشبه ونهبوه، وكان «صالح بن مرداس» — فيما يقولون — «في نواحي صيدا» حينئذٍ، فأغراه وزيره «تادرس بن الحسن» بالتنكيل بأهل المعرَّة، وزيَّن له ذلك؛ لأن فيه إقامة للهيبة. قالوا: فوصل «صالح» إليها واعتقل نحو سبعين رجلًا من أهلها، وشدد عليها الحصار، كما مرَّ بك.
ولقد لخص «المعري» هذه القصة في لزومياته، وأشار إلى تلك الحامل بقوله:
أتت جامع — يوم العروبة — جامعًا
تقص على الشهاد — بالمصر — أمرها
يقول: إن جامعًا؛ أي امرأة حُبْلى، قد جاءت يوم العروبة؛ أي يوم الجمعة، جامعًا؛ أي مسجدًا، تروي قصتها لمن حضر من أهل البلد:
فإن لم يقوموا ناصرين لصوتها
لخلت سماء الله تمطر جمرها
فهدوا بناءً كان يأوي فناءَه
فواجرُ، ألقت للفواحش خُمرَها
وزامرة — ليست من الربد — خضبت
يديها، ورجليها تُنفِّق زَمرَها
(٤) سقط الزند: هو اسم ديوانه الأول الذي جمع فيه ما قاله من الشعر في صدر شبابه، وهو يعني بالسِّقط ما يسقط بين الزندين قبل استحكام الوَرْي، أي قبل أن تتقد النار.
والزند: العود الذي يقدح به النار، وجمعه زناد، وهو يقصد بهذه التسمية إلى تشبيه طبعه بالزند الذي يقدح به النار، وتشبيه أول ما قاله من الشعر بأول ما يسقط من الزند من الشرر الذي لا يبلغ أن يكون نارًا متقدة. قالوا: «وهذا الشعر أول ما سمح به طبعُه في مَيْعة شبابه، فسمَّاه «سِقط الزند» تجوُّزًا واستعارة.
(٥) ومن بديع تنصله من الأكاذيب الفنية التي فاض بها «سقط الزند»: تعلُّلُه بأنها من ثمرات الشباب الجامح الذي يأبى إلا مجاراة الشعراء في ميادين باطلهم، حتى لا يُرمى بالقصور والعجز عن محاكاتهم والفوق عليهم، كما ترى في قوله:

إن الشعراء كأفراس تتابعن في مدًى: ما قصر منها لحق، وما وقف ذِيم وسُبق.

وقد كنت في رُبَّان الحداثة — أول الشباب — وجنِّ النشاط — شِدَّته — مائلًا في صفو القريض — خالصه وخياره — أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ.

فهو يمثل الشعراء — في هذه المقدمة — بخيل يتسابقن في الحلبة، فأيهم قصَّر في جريه، وتهاون في عدوه، لحقه غيره وسبقه، واستولى على أمد السبق دونه.
وقد جرى «أبو العلاء» — في حداثته — مع الشعراء في هذه الحلبة، وحفَزه طبعه الموهوب إلى منازعتهم قصَبَ السَّبق، ثم لم يلبث حين نضجت مداركه أن كفَّ عن الجري في ذلك الميدان، بعد أن تكشف له أنه يجري معهم في باطلهم، وأنه لا سبيل إلى رجحانه عليهم إلا إذا فاقهم في الإفك والبهتان، فإذا تورع عن المغالاة تخلف وسُبق. ورأى شاعرنا — ورأيه الصواب — أن القليل ربما أغنى عن الكثير، وأن الظمآن قد يرتوي من غير حاجة إلى شرب كل ما يحتويه الإناء من ماء، وأن الإنسان يكتفي بالثمرة الواحدة ليعرف منها مدى جودة الشجرة من غير حاجة إلى تقصي ثمرها كله، كما أن النفحة العطرة تدلُّك على زهرتها الطيبة.
(٦) تقول: «الفصاحة من سوسه»؛ أي من طبْعه.
(٧) الغُفَّة ما يتبلغ به من العيش، والعرب تسمى الفأر: غفة السنور؛ أي بُلْغَة القط؛ لأنه يتبلغ بها.
(٨) السَّقْب: ولد الناقة إذا كان ذكرًا، فإذا كان أنثى فهو حائل، وهو ساعةَ يُولد سليلٌ، قبلَ أن يُعرف أذكر هو أم أنثى.
(٩) الغرس: جلدة رقيقة تكون على الولد ساعة يولد، قال «أبو العلاء»:
وما برح الإنسان في البؤس مذ جرت
به الروح، لا مذ زال عن رأسه الغِرس
وهو يشير بذلك إلى قول ابن الرومي ويعارض رأيه حين قال:
ولما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا، فما يبكيه منها، وإنها
لأوسع مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهلَّ كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد
وللنفس حالات تريها كأنها
تشاهد فيها كل غيب ستشهد
(١٠) وقد أعاد الإشارة إلى ذلك في مقدمة اللزوميات فقال: وقد كنت قلت في كلام لي قديم: «إني رفضت الشعر رفْضَ السقب غرسه، والرأل تريكته.»
وثَمَّ أفصح عما قصد إليه فقال: «والغرض ما استُجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات.»
(١١) العِزْهاة: الزاهد في النساء: لا يحبهن ولا يتغزل فيهن، وعلى العكس منه الزير، فهو الولوع بزيارتهن، المشغوف بتتبعهن ومخادعتهن.
(١٢) يقال: صبي مترعرع؛ أي كاد يجاوز عشر سنين أو جاوزها.
(١٣) العجل: السرعة، والرويد: المهل.
(١٤) يعني «حميد بن ثور الهلالي». وقد مرت بك ترجمته في «رسالة الغفران».
(١٥) يعني «حميد بن بحدل الكلبي»، وهو من فرسان «كلب» وسادتها، قالوا: «حميد بن حريث بن بحدل: الذي قتل من قتل من فزارة.»
وقد رُفع حميد بن ثور لأن الفعل معلق عن العمل بالاستفهام المحذوف، والتقدير: وما درى أحميد بن ثور المقصود للقائل أم حميد بن بحدل، كما في قوله تعالى: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ الآية.
(١٦) على أن شروحه وتفاسيره لا تكفي الأديب العصري؛ فهي كما وصفها شارح السقط في مقدمته، فقال: «ولم يتَّفق له — يعني لديوانه سقط الزند — شرح يشفي غلة الصادي، ويحقق أمنية الشادي، سوى ضوء السقط الذي نقله «أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي» عن «أبي العلاء» — رحمهما الله — وهو غير وافٍ بالمقصود، ولا دالٍّ على الغرض المطلوب؛ لتقاصره عن بلوغ ما يجب من الإبانة والإيضاح، وقصوره على إشارات في مواضع معدودة لا تكشف الغطاء عن مشكلة، ولا تشفي ذا علة.»
(١٧) الوجناء: الناقة الشديدة الصلبة أو الناقة القوية العظيمة الوجنتين.
(١٨) الإمليس، والإمليسة: القفر أو المفازة ليس بها نبات.
(١٩) الصبر — بكسر الباء: عصارة شجر مر، والصبر — بسكون الباء: ترك الشكوى من البلوى.
(٢٠) ألوى القوم إلواء: صاروا إلى اللوى من الرمل، وألوى النبت إلواء: جف وهلك، والمعري يقول: ليس أول المعنيين مقصدي، بل المعنى الآخر أردت.
(٢١) يقول: لا أعني ظبيات القفر الحقيقيات، بل أعني شبيهات لهن من الغواني الإِنْسِيَّات.
(٢٢) غفر: ستر وعفا عن الذنب، وغفر: نكس وعاوده المرض بعد الشفاء، وشاعرنا يقرر أنه يقصد إلى المعنى الآخر؛ لأن نفوسنا — فيما يرى — لم تألف كرم الغفران ونيل الصفح عن المسيء.
(٢٣) الدمار: ضد العمار، وتدمر: تخلو من ساكنيها، و«تدمر»: اسم بلد قديم من بلاد الشام، يقول: إنني أعني أن الدار تدمر؛ أي تخلو من أهليها، ولا يبقى أحد فيها، ولست أعني بهذا اللفظ البقاء بمدينة «تدمر».
(٢٤) جؤار: استغاثة وضجيج وتضرع.
(٢٥) والكور — بضم الكاف: الرحل بأداته، وهو للبعير كالسرج وآلته للفرس، جمعه: أكوار.
(٢٦) والكَور — بفتح الكاف: الجماعة الكثيرة من الإبل، أو القطيع الضخم منها، أو مائة وخمسون، أو مائتان وأكثر، والمُسرَّح: الذي يخرج الغداة إلى المرعى.
(٢٧) الأجيال المتعاقبة. والكور عند المنجمين خمس وثلاثون ألف سنة. وفي «رسالة الغفران» يقول شاعرنا على لسان الجني: «ولقد نظمت الرجز والقصيد قبل أن يخلق «آدم» بكور أو كورين.» ومعنى البيت: أن الدهر يأتي على الإبل المسرحة وما عليها من الأحمال. وقريب من هذا المعنى قوله:
فواهًا، وويهًا لريب المنون
كم جر عيرًا بأحمالها
يعني كم أفنى الموت الإبل وما تحمله من الميرة.
(٢٨) يصف الناس بأنهم كالحُمُر الناهقة، فيقرر أنهم ساحليون نسبةً إلى أقمر ساحل، والأقمر: حمار الوحش، والساحل: الناهق، وقبل هذا البيت يقول:
كالسوام الأنام، هل فاز من سا
فر منهم إلى بطيء المراحل؟
يمني، وفارسي، وشامي،
وغاد — من أهل غربة — راحل
(٢٩) يعني زيد الخيل بن مهلهل، وقد سمَّاه الرسول بعد إسلامه «زيد الخير»، وبسطام هو ابن قيس بن مسعود الشيباني، وكلاهما من أشجع الفرسان.
(٣٠) الخِلاف: صنف من الصفصاف، والخلاف أيضًا المخالفة، قالوا: وهي أعم من المضادة؛ لأنك تقول مثلًا: الأبيض خلاف الأحمر والأسود، ولا تقول: ضد الأحمر، بل الأبيض ضد الأسود، فيكون الخلاف قد جرى على الاثنين جميعًا، والضد على أحدهما فقط، والمعري يقرر أن قلوب الناس لا تنبت إلا الخلاف، وأنه لا يعني بهذا اللفظ شجر الخلاف؛ أي الصفصاف، بل شجر المخالفة للحق والمجانبة للصواب. وقد وصف ابن الرومي صاحبًا له وشبَّهه بشجر الخلاف «الصفصاف» فقال:
فغدا كالخلاف يورق للعيـ
ـن ويأبى الإثمار كل الإباء
(٣١) العندليب: البلبل، والكركي: طائر معروف يقرب من الوز، أبتر الذَّنَب، رمادي اللون، في خدِّه لمعات سود، قليل اللحم، صلب العظم، يأوي الماء أحيانًا، وأراد بالكليب في البيت قبله جماعة الكلاب.
يقول شاعرنا: إن المنايا كالأسود تفترس كل ما تلقاه ما عظُم وما حقُر؛ فهي مثل جرير الشاعر يصطاد كل ما يصادفه من المعاني جليلها وحقيرها. والمعري يشير بهذه النقدة الغامزة إلى رأي بعض نقاد العرب في «جرير»، فقد شبهوه بالأعشى، وقال فيهما الناقد المعروف «أبو عمرو بن العلاء»: «إنهما كانا بازيين يصيدان العندليب والكركي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤