الفصل الثالث

ترجمة الرسالة

١

وهذه رسالة شاعرنا «أبي العلاء» يستهلها بالهناء، هناءٍ يقرن به نورٌ وضياء، وحسنٌ وبهاء، ورفعةٌ وسناء، وسموٌّ واعتلاء.

لا بل يستهلها بآياتٍ من التهاني يرغم لها أنف المبغض الشاني.

تتوالى تلك التهاني، ويترادف بعضها في إثر بعضٍ إلى الأستاذ طال عمره، وبقي في السعد الطالع، ما خلد جبل متالع، وهو بعض جبال البادية، يبقى ما بقيت الفانية …

تهانئ بكر — تقدم وسبق — وسميُّها — وهو مطر الربيع الأول١ — وتتابع وليها٢ — المطر بعد الوسمي.

بقدوم الأستاذ أليف النبالة، وحليف الجلالة، الأستاذ «أبي علي» لا فتئ للدهر أنفس حلي، فهو بكلا الأمرين — الهناء والتهاني — يُهنأ، خضب لونه اليرنأ، أي لونه اليرنأ وهو الحناء بحمرة الحسن، فهو بالخضاب محنًّا.

وبلون الحسن مهنأ، ويرنأ الحسن لا يعدو صنفين، ولا يتجاوز لونين، أحدهما: أحمُّ أسود، وهو لون الشباب، وثانيهما: أحمر قانئٌ، وهو لون الحسن.

وقد قالوا: «الحسن أحمر.»٣ ولا يتم الجمال في أزهر أقمر إلَّا إذا كان أحم٤ الشباب.

٢

وبعد أن مهَّد شاعرنا للتهنئة بهذه التوطئة، رأى أنه غير حري بهذه المنزلة حين أنفذ إليه — من بيانه — صحيفةً مرسلةً؛ لأن التهنئة — فيما يرى شاعرنا — يجب أن تقع بين الأكفاء، ولا يحسن تبادلها إلا بين النظراء.

ولا يقدر التعرض لها بمقادير المحبة والمِقَة، ولا يقاس بمقاييس الإخلاص والثقة، وقد قام الدليل على أن مثل الأستاذ المُرسَل إليه في العصر قليلٌ.

فليس له — في زمنه — أحدٌ من الأمثال والأكفاء، هيهات! عدم المشبهون والنظراء.

ولو جادت العصور الخالية، والأزمنة الماضية، بمثل من تولى من بدورها السنية، وذوى من ثمارها الجنية، وسمحت بعود غصونها الرطاب من أولئك الرؤساء والكتاب، أعيان اللغة وحماة آدابها، وأعلام الفصاحة وأقطابها، لكان ممن يصلح للتعرض لهذا العظيم بالخطاب من الأكفاء، وإزجاء التهنئة له من النظراء:

صاعد بن مخلدٍ، ذو المجد القديم الأتلد.

وصاحب الكتب: سهل بن هارون، ورؤساء لا يهارون؛ أي لا يعابون ولا يتهمون، ولا ترقى إليهم الشبهات والظنون، ولا يرمون بالذم ولا يتنقصون.

وإنما خص شاعرنا «صاعدًا» بالتنويه «وسهلًا»؛ إذ كانا للتكرمة أهلًا، وكان كلاهما قبل الإسلام على دين المسيح، ينظران نظر سياسةٍ وتدبيرٍ في ملكٍ للعرب فسيحٍ.

ومثلهما في هذا الشأن «عدي بن زيدٍ» الذي كان مشيرًا للنعمان فيما غبر من الزمان.

٣

وعند شاعرنا أن من الممنوع المحظور أن تجيء التهنئة من غير الكفء والنظير.

وقد اختار لتأييد ما ذهب إليه والدلالة عليه مثلًا قصصيًّا رائعًا، ورمزًا خياليًّا بارعًا.

وروى لنا حديث أسدٍ ظفر بفرس ملكٍ لا تسمو لركوبه نفس متصعلكٍ.

ثم حمل الأسد ما ظفر به من فريسته إلى موضعه من عريسته، وأخذ منه مقدار كفايته.

واجتمعت إليه صنوف الوحش مُهنئاتٍ، مُكِبَّاتٍ عليه منعطفاتٍ.

وقد انعقدت — من الذعر — ألسنتهن، وأشرفت كواهلهن — من الخوف — على صدورهن، وكادت تنخلع — من الرهبة — قلوبهن، فقائلٌ لا يعدو الإيجاز، وصامتٌ لا يخرج عن الإشارة والمجاز، يرهف المنصت إليهن أذنيه فلا يدرك لهن حسًّا. خشعت الأصوات منهن فلا تسمع إلا همسًا.

فلما طال سكوت الجماعة، ولم يبق في القول لقائل طماعةٌ، إذا بناطقٍ جريءٍ، ممتهنٍ قميءٍ.

واستشرفه الجمع فإذا هو فأرٌ صغيرٌ، خسيس القدر حقيرٌ.

له بالأجمة وجارٌ، كان الأسد له نعم الجار، وقد نعم قديمًا ذلك الفأر — من مولاه — بحسن الجوار.

فكان الأسد يقيه الأذى والضر، ويدفع عنه المصائب والشر.

ويحميه من أن تدركه شعوب، على يد خيطلٍ وسرعوبٍ.

والشعوب: المَنيَّة، والميتة السريعة الوحية.

والخيطل: السنور، يقتله إذا رآه على الفور.

والسرعوب: ابن عرسٍ، وفي استطاعته أن يقيده عن الحركة والحس، ويسلبه أعز ما لديه وهو النفس، وكلاهما قادرٌ على الفتك به والفَرْس.

وكان مما قاله الفأر حين تكلم بحضرة الضيغم:

بورك للملك في العطية السنية، وما بلغ من الأمنية.

فنظر الأسد إليه نظر مغيظٍ مغضبٍ، وكأنه من الحنق والغيظ على محضبٍ — والمحضب المسعر والمقلى، ينضج اللحم عليها ويُقلى.

•••

فعرف في وجهه الغضب نمرٌ، أو سرحانٌ — ذئب — وأيقن أن الأسد لم يرضَ بهذا الهذيان، فأوحى «على الفور» إلى هرٍّ أن يُنزِل بالفأر الناطق ما سمح به طبعه من الأذية والشر.

•••

فلما دنا منه وتمكَّن، جعل الفأر يصيح في مخالب الضيون — القط — يقول: ما ذنبي أوكل في جوار الجبار أسامة؟

وأخذ بعض الأجناد يوسعه تقريعًا وملامة، ويعده من أهل السفه والجهل؛ إذ أهل نفسه لخطاب الملك وليس له بأهلٍ.

•••

ثم ضرب شاعرنا الفحل مثلًا آخر لهذا بعظيم من جوارح الطير، يغدو في الصباح ثم يرجع — لفرخه — بطعامٍ وميرٍ، وذلك أنه جاء مرةً ومعه إحدى الفُور، فصمتت لهيبته ذوات الأجنحة غير العصفور.

والفور هي: الظباء، يصيد السانح منها والبارح عقابُ الجو أو عظيمٌ من الطير جارحٌ.

فخاطبه العصفور خطاب الصعلوك لأحد الأقيال والملوك، وبدأ خطابه بالدعاء، متضمنًا آيات المدح والثناء.

وكان مما قاله: قرت عينك أيها الملك من قيلٍ — زعيمٍ — لم يقنع لناهضه — الذي لم يكمل نبات ريشه — بقليل العطاء وخسيس النَّيل.

•••

فقاطعه الجارح في أول كلامه، وعمد إلى تجريحه وإيلامه، وصاح: من هو حتى يقوم حيالي في غير خوفٍ ولا حياء، ويشقشق بألفاظ المدح والإطراء؟ ظن الجاهل المعجب بشقشقته أنه خطيبٌ قام بحضرتي يهدر بشقشقته.٥
مَن هو حتى يتكلم لدي كأنه أمِن من بطشي ورَدَي؟٦

•••

ثم أشار النسر إلى بازٍ منه قريب، أن يبدأه — قبل العقوبة — بالمؤاخذة والتثريب، ثم يأخذه بالعقاب على هذا الخطاب.

فحقر البازي شأن العصفور، ورأى أنه بالاختطاف غير جدير.

فأومأ إلى باشقٍ أن يعجِّل بإتلافه، ويسرع إلى اختطافه، فاختطفه مختارًا معتامًا، وترك أفراخه يتامى.

•••

ولا ننسى أن أبا العلاء في فاتحة هذه الرسالة طامَنَ من قدره، وأنكر نفسه — كما أسلفنا القول في [الفصل السادس: تهنئة العصفور] — ووضعها في منزلةٍ لا يستأهل معها أن يخاطِب المُرسَل إليه، ويعرض تهنئته عليه.

وضرب لمنزلته الوضيعة مع منزلة مُخاطَبه السامية الرفيعة مثلين:

مثل الفأر مع الأسد، ومثل العصفور مع جارحٍ من جوارح الطير عظيم.

وصوَّر بُعْد ما بين المنزلتين بهاتين الصورتين المتقابلتين.

وبعد أن أحكم تصويرهما، وأبدع تحبيرهما، وظفر بموفور التوفيق في عرضهما عرضًا حسنًا بديعًا.

أراد أن ينكر مع إنكار ذاته أن يكون له أقرانٌ يدانون ممدوحه في مرتبته السنية، ويشاركونه في منزلته العلية، فقال: وأما أقراني فحَمَلة عِصِي، يجلسون في المكان القصي، يستعينون بتلك العصي على الحركة والمشي، ويحملونها عند الابتغاء والسعي، ويجلس العجزة منهم والضعفاء حيث لا يجلس الأسرياء والشرفاء، وليس الخامل القصي كالنابه السري.

وشتان بين النكرات من حملة العكازات، وبين السروات من حملة الشارات وأهل الرياسات والمشورات.

فإن أخطأت من هذا الصنف من الناس قِرْني، وفقدت بينهم صاحبي وخِدْني، فقرني بعد فقدهم ضلُّ بنُ ضل، أو هيُّ بن بي.٧

ويقال للشيء ضل بن ضل إذا كان لا يوقف له على أثرٍ، ولا يعرف إن كان من البشر أو غير البشر.

ومثله في التعبير عن المفقود، والتمثيل لغير الموجود هيُّ بنُ بي، فكلاهما ليس بشيء.

•••

وإلى هنا ينتهي أبو العلاء من وصف أقرانه، وحديث إخوانه.

ثم أتى بمثالين من الطراز الأول لأقران ممدوحه الذي اختصه برسالته، وبعث إليه بتهنئته، قال: فأما الأستاذان الجليلان إلى آخر ما وصفهما به.

حيث دعا لهما أولًا بأن يزيد الله الأيام ببقائهما ضياءً، والأنام بوجودهما رفعةً وسناء، ثم وصفهما ثانيًا بأنهما لا يعدل بهما الأصفران، ولا يساويهما في القيمة والنفعِ الذهبُ والزعفران.

والأصفران وإن كان أحدهما طيبًا يشم وينشق، والآخر حليةً تُقتَنَى ومالًا يُنفَق، إلا أن الأستاذين لا يقصران عليهما في الشبه والمثلية، والقيمة الطبية، والنفاسة الذهبية؛ فهما أثمن قيمةً وأغلى، وأرفع درجةً وأعلى، بل هما في الهداية مثل القمرين، وعهدهما — في العدل والإنصاف — كعهد العمرين.

وإذا بلغا مبلغ الشمس والقمر في الهداية، فتلك غايةٌ ليس وراءها غاية.

وإذا كان أوانهما كأوان «عمر بن الخطاب» و«عمر بن عبد العزيز» في العدل، فكيف يدانيهما شبيهٌ في الفضل، أو يحاكيهما مثيلٌ في النبل؟

إذا ذكر في الحسب رَوْقا فزارة، أيقنت أنهما رَيِّقا نبأ يذكر عن الوزارة، وروقا فزارة هما: عمر بن جابرٍ، وبدر بن عمرو، ويقال للسيد: روقٌ، والرَّيْق والرَّيِّق: أول الشباب، والمراد ما يَرُوع الخاطر ويَحسُن في السمع من أنبائهما.

وكم أحرزا قصب السبق في ميدان العدالة والحق، وجاءا في الحلبة مُجَلِّيَيْنِ! وكَمْ كانا في القدوة للسادة القادة إمامين! وفي الهداية للسارين فرقدي ليلٍ! ولا يصفهما الواصف بسابقي خيلٍ؛ لسبقهما في مجال الفضل والأريحية، لا في ميدان الرهان والفروسية.

إذا أطراهما مادحٌ بقوله: «هما الحُرَّان» فلا يعني بالحرين نقيضي عبدين، ولا الحرين اللذين ذكرهما الأخطل بسُكر بردين، فقال:

عفا واسطٌ من أهل «رضوى» ﻓ «نبتل»
ﻓ «مجتمع الحرين»، فالصبر أجمل

وقصد بالبردين، الغداة والعشي، وبالحرين في قوله: «فمجتمع الحرين»: كثيبي رملٍ، ثم دعا لهما باجتماع الشمل.

•••

ثم أخبر أنه ليس غرض المقرِّظ — أي المادح — بالحرين: حُرَّي معد اللذَين ذكرهما «ابن مَعدِيكَرِب» في قوله:

ما لم يلقني حرَّاها وعبداها.

يعني بالحرين: «عتيبة بن الحارث اليربوعي»، «وعامر بن مالك الكلابي».

وبالعبدين: السُّليك بن السُّلكة، وعنترة.

وليس معتمدَ من أثنى٨ ومدح الحرَّان، اللذان هما: «حرٌّ» و«أبيٌّ»، بتغليب حرٍّ في التثنية على «أبي»؛ لخفة الأول وثقل الثاني.

لم يقصد المادح أن يشبههما بشيءٍ مما تقدم، وإنما قصد أن يشبههما بالحرين اللذين هما كوكبان.

يرى المدلج أن الفرق بينهما دان، قال:

ولما بدا الحران والليل دامسٌ
ذكرت خليطًا نازلًا بأبان

ثم استمر في الثناء على الأستاذين وإطرائهما، وتقريظهما ومدحهما، ودعا لهما أن يرعى الله ذاتهما بالحراسة والحفظ، وأن يبقيا ما بقي الدهر ربيعي ثمرٍ وزهرٍ.

إذ كانت أيامهما في الخصب والجمال كأيام الربيع، مصدر بهجةٍ وحياةٍ للجميع.

وما عنى بشهري ربيع ربيعي الشهور المعروفين بهلالهما، بل ربيعي الأزمنة المشهورين بخصبهما وجمالهما.

وهما ربيعان يجيئان الأنام في كل عامٍ بضروب الحسن وصنوف الإنعام.

في أولهما يدرك الثمر، ويجني الشجر، وفي ثانيهما ينير النَّوْر، ويسني الزَّهَر؛ لذلك نبه على أنه ما عنى شهرين يقعان بعد صفرٍ، بل أراد نيسان وأخاه. وهذا ما قصده وعناه.

•••

ثم شفع الدعاء الأول بدعاءٍ ثانٍ، طلب فيه لهما من الله ألا يبرحا لساكني الديار أنفع من الحنتفين، وأن يغلوا على كل كذبٍ ومينٍ، ويشرفا شرفًا لا يمين فيه كاسبه، ولا يكذب صاحبه.

ولا ينبني على الرهق والأبس، كما كان شرف الزهدمين٩ في بني عبس.

بل ينبني على نفع العباد، وعز البلاد.

والحنتفان تثنيةٌ غلب فيها أحد الاسمين على الآخر، والمراد بهما: «الحنتف» و«أوسٌ» ابنا «سيف بن حميري بن تميم»، وكذلك الزهدمان تثنيةٌ داخلةٌ في باب التغليب، والمراد: «زهدمٌ» و«قيسٌ»، أو «زهدمٌ» و«كردمٌ»، وهما من بني عبسٍ، ولا يبعد أن يكونا قد بنيا شرفهما على الرَّهق والأبس.

والرهق: الظلم وارتكاب الشرور، والأبس: التصغير والتحقير.

•••

ثم شرع في مدح الأستاذ أبي فلانٍ، ودعا له ألا يبرح سوارًا في يد المملكة، وقلادةٌ يتحلى بها صدر الدولة، وأن يكون في مكانٍ من سمو الدرجة وعلوِّ المنزلة يجاور فيه الأفلاك القائمة، والنجوم السابحة.

وأخبر أن هذه الهجرة أفضل من مهاجرة أخي كندة؛١٠ لأن هذا الأخير سلك تلك المسالك إثارةً للحرب، وسعيًا في الفساد، وأما الأستاذ فمهاجرته لتأمين السَّارِينَ من غائلة الآساد، وبما أسلفه من سهرٍ على حياة المسافرين، وتأمين ليل السارين، سوف يتبين العافية، ويظفر بحسن العاقبة.

فالسعيد من عافاه الله من البلاء، ووهبه السلامة من كل داء، في الدار العاجلة، قبل الدار الآجلة.

والموفق للعمل الصالح من أمَّن سالكًا، وأنقذ من براثن الموت هالكًا، وخلص أسيرًا، وجبر كسيرًا، ومن أحيا نفسًا فكأنما صنع صنيعًا، بعث أبناء الراكدة جميعًا. والراكدة الأرض الساكنة الهامدة التي ركدت كركود الريح أو الماء بركود ساكنيها، وموت من فيها، ولا شك أن عمارتها بالحياة يوجب الزُّلفى عند الله، ويضاعف الحسنات، ويذهب السيئات؛ لقوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا.

وأي جزاءٍ يساوي هذا الجزاء أو يدانيه؟ وأي ثوابٍ يعدل ثواب من أعطاه الله من الأجر بعدد كل نفسٍ أحياها، وبمقدار كل روحٍ أنقذها واستبقاها؟

وإن الأستاذ بهذه الأعمال الصالحة، والمساعي الموفقة الناجحة، التي أعد الله له فيها — من الثواب — ما أعده للصِّدِّيقين من عباده الصالحين، حقيقٌ بما أكرم الله به أولياءه، ومنحه أصفياءه، من بالغ الكرامات، وخارق العادات.

ولو جاز أن تنشق الطامية — من البحار — لغير «موسى الكليم»، لانفرق له لجُّها، وانفصل معظم مائها غير مليمٍ،١١ وكان كل فِرقٍ كالطود العظيم، ولانحسر البحر عن قيعانه، وأبان عن حيتانه.

وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ١٢ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

ولقالت الحيتان المتفكنة المتأسفة، المتعجبة، المتلهفة، لمَّا قضي الأمر، وانحسر عن البحر ماؤه الغمر: ما حدث نضوب الماء إلا لأمرٍ نزل من السماء، فمن هذا الرجل الصالح المستديم على عمل الخير مع تعاقب العصرين،١٣ الدائب في صلاح ذات البين، فتولَّى الله عن الناس جزاءه، وحفظ له في الدارين وفاءه.

•••

وكما لا يمتنع في القدرة نقص الماء ونضوبه، أو ركود الريح وهبوبه، لا يمتنع أن يَعْذُب ببركة هذا الرجل الصالح الماء الأُجاج،١٤ فيعود كأنه من النحل مُجاج،١٥ أو تسير السفينة على اليبس، أو تطير في الهواء كأنها شعلةٌ من قبسٍ، في يد قابسٍ متعجلٍ، يعدو وشيكًا بلهبٍ مشتعل، وليس هذا بالمطلب المُحال، البعيد المنال، وما هو بخادعٍ من كاذب الآمال.

فقد يصبح — بإذن الله — حقيقة تراها العين، لا كذبٌ فيها ولا مينٌ.

•••

ويجوز أن تحملها الريح الهابة كما حمل عرش «بلقيس»، إذا مثل خبر أو قيس.

أي إذا مثلت السفينة في قصة «بلقيس» بالعرش، وقيس حملها على متن الهواء — بعد نضوب الماء — على حمْلِه إلى سليمان من اليمن، في لمحةٍ من الزمن، واستقراره عنده قبل أن يقوم من مقامه، وينتقل من مكانه.

ولا يمتنع أيضًا مع نضوب الماء، وجري السفينة على اليبس، أو طيرانها في الهواء، أن تظل سواكن البحر الزاخر — بيمن الأستاذ وبركته — راتعاتٍ، وبالسلامة من الشجب — الهلاك — متمتعاتٍ؛ حيث تبقى — وإن كانت لا تعيش في غير الماء — متمتعة بالحياة مع تعرضها لحر الهواء، كأنها بعض سواكن الصحراء، تجول في مثل السَّهْب الأرحب، كخيط النعام المُخَوِّدة والربرب.

والسَّهب — بالفتح: الفلاة، وخيط النعام: الجماعة من النعام، والمخودة: المسرعة في السير، والربرب: القطيع من بقر الوحش.

•••

حتى إذا قضى لُبَانَته — إربته ورغبته — من هذه الهجرة، وأنس النُّجح واستبانه من هذه السفرة، وتمَّت على يديه تلك المعجزات، وتحققت بيُمن طالعه هذه المستحيلات، عاد الماء إلى مستقره، ورجع كل شيءٍ إلى مقرِّه، وحل الرجاء محل اليأس، فاستقامت طبائع الناس، وعزفوا عن الأكاذيب والترهات، وتجنبوا طريق الإفك والشبهات.

•••

ثم تمنى أن يقدم الأستاذ من حضرة الملك ذي التاج، بمثل ألوان الرياض من هدايا الحرير والديباج، وبما لا يحصى من الفضة واللجين؛ ليتحف الناس بالأكسية والنقدين، في العامين الأشهبين، ويفض الفضة في الأولياء، ويفرق المال لإنعاش الفقراء، وإسعاد الأشقياء.

والأشهبان هما العامان اللذان ليس بين طرفيهما خضرة، الجالبان على الناس لبياضهما الضيق والعسرة.

•••

وطلب أن يبتهل الدرب الضيق إلى الله في أن يحول ضيقه إلى اتساعٍ، لقاء ما للأستاذ القادم من مآثر ومساعٍ، وأن تكون اللصاب١٦ الضيقة، والشعاب الحرجة، كالسباسب الفيح١٧ غير اللِّصبة، حتى لا تَشرَق — لا تغَص — بالمواكب الصاخبة اللجبة، وأن تكون الحجارة الصلدة، والصخور الصلبة، في الرقة واللين، كالرق من جلد النعام، والأكمة الواسعة كالخوان، عليه ألوان الطعام، يصيب مما عليه الجائع الساغب وهو مريحٌ بعد إعيائه، أو ذو إعياءٍ لاغب …

•••

وبهذا انتهى الفصل الذي أفرده شاعرنا لمجاملة الأستاذ «أبي فلانٍ»، وخصه ببيان ما ترتب على مهاجرته من أثرٍ حميدٍ، وعملٍ مجيدٍ.

وذكر ما يجوز أن يتحول — بيمنه وبركته — من مستحيلٍ ممتنعٍ، إلى جائزٍ ممكنٍ، كانفراق البحر، وما يعرض لمائه من نقصٍ ونضوب، وانسراب حيتانه وسواكنه، وجريها فيما يشبه الصحارى والسهوب.

وعود ملحه وأجاجه، أحلى من ضرب النحل — عسله — ومجاجه.

وجري السفينة على اليبس، أو سبحها في مسابح النجوم كشعلةٍ من قبسٍ.

أو طيرانها في الفضاء، محمولة على متن الهواء، كما حمل عرش «بلقيس» من اليمن، في اللمحة اليسيرة من الزمن، وكتحويل ما في الرياض من أشجارٍ مورقةٍ، وأزهارٍ مونقةٍ، ووردٍ نضيرٍ، ونَورٍ منيرٍ، إلى أكسيةٍ من الديباج والحرير، يكسى بها الغني والفقير، إلى آخر ما ذكره عن رحلة الشيخ الصالح من مهجره إلى مقدمه.

•••

ثم انتقل إلى هذا الفصل الختامي الأخير، وفيه عاد إلى ذكر الأستاذين معًا، فدعا لهما أن يذلَّ الله معاندهما أخرى المنون،١٨ ما توالت الأيام وتتابعت السنون، ومدحهما بأن السلطان «شبل الدولة» إذا كان أسد النجوم كانا ذراعيه، وإذا أُغلق باب الرأفة فتحا مصراعيه.

شبههما — في الرفعة والنباهة واتصالهما بالسلطان — بذراعي الأسد. والأسد: نجمٌ في السماء له من النجوم ذراعان؛ إحداهما مبسوطةٌ، والأخرى مقبوضةٌ. كما شبههما في إثارة الرحمة والحنان، في قلب السلطان، وحمله على البر برعاياه، ببابٍ يفتح — بأيديهما — مصراعاه، ثم دعا لهما أن يبقيا — لرفاهة الرعية — منعمين، وأن يكونا — في النباهة — كالسماكين أو المرزمين.

والسماكان: رجلا الأسد، وهما نجمان نيران، والمرزمان: نجمان تصحبهما الشعريان؛ إذ نشأ بهما — للعدل — عارضٌ، ينتعش منه البارض.

والعارض: السحاب، والبارض: أول ما يظهر من النبات.

•••

ثم قال: «وليس بخافٍ عني أن سكوتي عن التعرض للخطاب، ومراسلة ذلك الجناب، هو الربح والمتجر، والكاذب مسيءٌ أوجرٌ.»

والأوجر: الخائف المشفق. وكم في الناس من منكرٍ لحديثه غير مصدقٍ!

•••

«وقد كنت عزمت على الإمساك عن الكلام كيلا أتعرض للنقد والملام، حتى أشار علي بالقول وليهما أبو فلانٍ، وهو ممن يوثق بعقله ودينه، ولم يغط البادي بسدينه — أي لم يستر ما بدا من سوءته وعيبه بسدينه وثوبه.»

•••

فإن كنت — بتعرضي للمخاطبة — أسأت الأدب في المكاتبة، فوليهما المشير الناصح في الغلط شريكٌ، فقد حرَّكني إلى الكتابة وأنا عاجزٌ عن الحركة والتحريك.

وقد أسأت الأدب بذلك ثلاثًا، والتثليث مذهب المسيحية، فإن أتيت بالتربيع، تماديت في سيري السريع، حتى بلغت مدى التسبيع.

هوامش

(١) الوسمي، سمي كذلك؛ لأنه يسم الأرض بالنبات، وهو من بشائر الرخاء.
(٢) الولي: المطر يسقط بعد المطر، أو هو المطر بعد الوسمي.
(٣) أحمر: في لونه حمرة، وفي المثل: «الحسن أحمر.» والشاب الجميل من يكون لونه إلى الحمرة.
(٤) والخضاب باليرنأ؛ لأنه لونه إما أسود أو أحمر رمز للشباب والحسن معًا، أحم: أسود، والسواد علامة الشباب، وهو من لوازم الحسن.
(٥) الشقشقة — بالكسر — ما يخرجه البعير من فيه أحمر كالرئة إذا هاج، والخطبة الشقشقية العلوية من خُطب علي — كرم الله وجهه — وهي خطبة بديعة مشتملة على حكم وأنواع بلاغة، قيل لها ذلك لأنه لما قال له ابن عباس: «لو اطردت مقالتك من حيث أفضيت.»
قال له: «يا ابن عباس، هيهات، تلك شقشقة هدرت ثم قرت.»
(٦) أي رَدايَ.
(٧) انظر: [الفصل الثاني: شروح علانية].
(٨) أي وليس الحران معتمد من أثنى على الأستاذين، ولا هو مقصد من مدحهما.
(٩) انظر: [الفصل الثاني: شروح علانية].
(١٠) كندة: أبو قبيلة من العرب، أو حي من اليمن.
(١١) أي غير آتٍ ما يستحق عليه اللوم.
(١٢) الجودي: جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة «نوح».
(١٣) أي الغداة والعشي، أو نصف النهار الأول ونصفه الثاني.
(١٤) الأجاج: الملح المر.
(١٥) المُجاج: العسل.
(١٦) اللصاب جمع لِصْبٍ، وهو: الشِّعب الصغير في الجبل، أو هو مضيق الوادي.
(١٧) السبسب: المفازة أو الأرض المستوية، والفيح: جمع أفيح، والأفيح الواسع.
(١٨) يقال لا أفعله أخرى المنون؛ أي أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤