الفصل الأول

١

يتمهَّل أبي في مدخل المنزل قبل أن نخطوَ إلى الحارة. يرفع يده إلى فمه. يتحسَّس طرفَي شاربه الرمادي الملويين إلى أعلى. يتأكَّد من أن طربوشه مائلٌ قليلًا ناحية اليسار. ينزع سيجارته السوداء المطفأة من ركن فمه. ينفض رمادها عن صدر معطفه الأسود الثقيل. يبسط أساريره لتتلاشى تجاعيد جبهته. يرسم ابتسامةً على شفتَيه. يقبض على يدي اليسرى. نتلمس طريقنا في ضوء الغروب.

نتجه يمينًا نحو الفتحة الوحيدة للحارة. ندلف إلى الشارع الذي يعجُّ بالمارة والحوانيت. بقالة الحاج «عبد العليم». شيخ الحارة يُنادينا:

– تفضَّل يا «خليل» بيه.

يجيب أبي في وقار: حنمر واحنا راجعين.

دكان الخردواتي يشعُّ بالنظافة وتتصاعد منه رائحة الفنيك. باترينة زجاجية رصت داخلها قطع الشكولاتة والحلوى. أجذب يد أبي ناحيتها فينهرني. الجزمجي، المقاعد المرتفعة وأسفلها ماسحو الأحذية. حامل الصحف في المدخل والراديو الضخم في المؤخرة. كوَّاء الطرابيش. القاعدة النحاسية المستطيلة وفوقها القوالب النحاسية الضخمة. وأخيرًا الميدان.

الأنوار باهتةٌ في لحظة أول الليل. صورة الملك مضاءة بالمصابيح. لافتات تُهنِّئه بعيد ميلاده. لوحات الإعلانات السينمائية. فيلم «الشاطر حسن» به قسم بالألوان الطبيعية. «الفارس الأسود» بسينما «میامي» والترجمة العربية على نفس الفيلم. أشعر بلسعة هواء باردةٍ أحسها في ركبتي المكشوفة بين حافة البنطلون القصير والشراب الصوفي الطويل. يدي اليسرى دافئة في قبضة أبي القوية. الترام رقم ۲۲ بعربتَيه المكشوفتَين ودككه الخشبية. أسابقه مع الأولاد من جهة اليسار لنقفز إليه ونثبت بذلك قدرتنا على التهرُّب من الكمساري. أوشك أن أقعَ تحت عجلات الترام المعاكس.

نستقلُّ العربة الثانية. يزنقني في الركن لأبدو أقل من سني. يستخرج من جيب الصديري ثمانية مليمات للتذكرة. نغادر في ميدان «السيدة» الحافل بالأضواء. عربة «سوارس» يجرُّها بغلان ضامران. يملأ الركاب دكتَين متقابلتَين ويقف بعضهم على السلم الخلفي. سوط السائق يلسع ظهر الحيوانَين. عجوز سمينة تفترش الأرض خلف صينية من أعقاب السجائر. مكان ضيق في نهايته طاولة صغيرة يعلوها حاجزٌ زجاجي. عجوز محني الظهر ذو لحية كثيفة. يُخرج أبي ساعة جيبه المستديرة من جيب صديريته. يتفحَّصها العجوز بدقة ثم يضعها جانبًا. يُعطي أبي بعض النقود.

الشارع من جديد. بائع يانصيب علَّق أوراقه على الحائط. يُخرج أبي ورقتَين من جيبه ونظارة القراءة. يقارن أرقامهما بدفاتر البائع. يكمش الورقتَين ويُلقي بهما في الطريق. يشتري ورقتَين جديدتَين؛ واحدة باللون الأزرق والثانية بالأحمر.

صفٌّ من باعة الأشياء القديمة وماسحي الأحذية. كوم من النظارات القديمة فوق جريدة على الأرض. البائع يرتدي نظارةً طبيةً مكسورةً من المنتصف وملحومة بقطعة بارزة من الصفيح. ينحني أبي ويقلِّب بين النظارات. يختار واحدة ويطلب مني أن أرتديها. أضع النظارة فوق عيني وأتطلع حولي. أجرب نظارة أخرى. ثالثة بيضاوية في إطار رفيع من معدن مذهب. أشعر بتحسُّن في الرؤية. يفاصل أبي في ثمنها. يشتريها.

أرتدي النظارة وأتبع أبي حتى دكان عطارةٍ يشتري قرفةً وفلفلًا أسود مطحونًا وقرنفلًا. أرى الآن بوضوح.

مرة أخرى في عربة الترام المكشوفة. نصعد القمرة الأخيرة المسقوفة التي تحوي دكة واحدة موضوعة بعكس الاتجاه. نمر كالسهم بمحطةٍ اختياريةٍ خالية. ينبعث الشرر من السنجة. أضع يدي على نظارتي خوفًا من أن تطير. ندلف إلى ميدان «الظاهر». سينما «فاليري» الصيفية مغلقة. أمي في فستان ملون. رأسها مغطًّى بإيشارب حريري يُحيط بوجهها. في قدمها حذاءٌ بكعب متوسط الارتفاع مقفول من الأمام. لونه أزرق مع أبيض. تجلس في مقعد بذراعَين من القش. أهمُّ بالجلوس فوق فخذَيها فتُبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقَيه. يمر بنا بائعٌ في جلبابٍ نظيف علَّق في ذراعه سبتًا مغطًّى بالقماش. يشتري أبي لكلٍّ منا سميطة بالسمسم. يُعطينا البائع معها شريحةً من الجبن الرومي فوق ورقةٍ في حجم الكف.

تتأرجح العربة يمينًا ويسارًا. يضمُّني أبي إليه ليحميَني من الهواء البارد. أنكمش في حضنه. تغمرني رائحته المشبعة بدخان التبغ. أقاوم النعاس. أود أن أقومَ لأدير يد الفرملة وأرى أثرها على دائرة التروس أسفلها. أتمنى لو أجد نفسي في الفراش، فوق مرتبةٍ على سجادة حجرة «المسافرين» إلى جوار الخادمة. الغرفة مظلمةٌ وبابها مفتوح تبدو منه الفسحة. شعاعٌ من ضوء المصباح الكهربائي لغرفة الطعام. الخادمة تغني مع الراديو: «يا أبو العيون السود.» ينطلق صوتها خافتًا قريبًا من أذني. يدها تعبث بشعري وتتحسس جلد رأسي. تنتهي الأغنية فتحكي لي قصة الشاطر حسن. تتحوَّل المقاعد القابعة في الظلام إلى جبالٍ وجيادٍ وقصور. يرضع الشاطر حسن من ثدي الغولة فتقول له: «أخدت قَطَّة من بزي اليمين بقيت زي ابني سِمَاعين، وخدت قَطَّة من بزي الشمال بقيت زي ابني سليمان.»

يبطئ الترام عندما يشرف على الميدان. نُغادره ونعبر الطريق. يتوقَّف أبي عند الجزار. ضخم الجسم ذو شاربٍ رفيع شديد السواد. يرتدي جلبابًا أبيض ملوثًا ببقع الدماء. يطلب أبي رطلًا مُشفًّى يصلح لعمل «كمونية».

يشمر الجزار كمَّي جلبابِه كاشفًا فانلةً صوفيةً يميل لونها إلى البني. ينقل البصر بين قطع اللحم المعلقة في خطاطيف. ينتزع إحداها. يلقي بها فوق «أورمة» خشبيةٍ مستديرة. ينهال عليها بساطور عريض. يستبدله بسكينٍ قصيرةٍ يفصل بها اللحم عن العظام. يرفع قطعةً من اللحم في الهواء أمام عيوننا. يطلب منه أبي إزالة الأختام والشغت. يضع القطعة في كفة الميزان النحاسي. ينقلها إلى الأورمة الخشبية. يتناول سكينًا طويلة ذات نصل لامع. يقطعها أجزاءً متساويةً.

يستفسر أبي عن صحة أبيه المعلم «نصحي». يقول إنه لم يرَه من مدة. يتحاشى الجزار النظر في عينَي أبي. يقول: الحمد لله.

أتسلَّل من جوار أبي. ألفُّ حول الأورمة. يقرِّب الجزار اللحم من حافتها. يبدأ في لفِّه بالورق الرمادي السميك. يُزيح بيده قطعةً فتسقط على الأرض. يتجاهلها. أريد أن ألفتَ انتباه أبي، لكنه يأخذ لفافة اللحم وأتبعه إلى الطريق.

أذكر له ما رأيت. يضحك ويقول إن الجزارين هكذا، ولا فائدة معهم. يكفي أنه يحصل دائمًا على القطعة التي يُريدها. يقول إنه يتعامل مع أبيه منذ عشرين سنة. يأتيه خصوصًا من المنزل الذي ولدَت به «نبيلة» في شارع «البراد».

ننتقل إلى حانوت اللبَّان. نشتري سلطانيتَيْن من المهلبية. نعبر الميدان مرةً أخرى. نتمهَّل أمام عربةٍ تحمل كومًا عاليًا من الفول الحراتي الأخضر. يسأل أبي عن الثمن. يشتري رطلًا. نتجه إلى شارعنا. دكان الخردواتي مغلق. يقول أبي إنه يغلق عادةً عند صلاة العشاء.

نلج دكان البقال. الحاج «عبد العليم» خلف مكتبٍ في نهاية الدكان تعلوه صورةٌ كبيرةٌ للملك. نحيفٌ في معطفٍ ثقيلٍ، بني اللون، فوق جلبابٍ من الصوف. حول رقبتِه كوفية بيضاء وفوق رأسِه طربوش. تصدر عنه كل لحظةٍ سعلة مبتسرة. ينهض واقفًا ليصافح أبي. يبدو أبي قصيرًا إلى جواره. يضع مشترياتِه فوق المكتب ويجلس على كرسيٍّ بجواره. أقف بين ساقَيه. أمامي على الحائط لافتة بخطِّ يدٍ ركيك: «الشكك ممنوع والزعل مرفوع».

يوجِّه أبي التحية إلى «سليم» الواقف خلف منصة البيع. يرتدي جلبابًا فوقه معطف أصفر يُشبه معاطف السُّعاة والفرَّاشين. فوق رأسه طاقية صغيرة من الصوف. وجهه شديد الشحوب. يردُّ التحية بصوتٍ خافتٍ بارد.

يقول «عبد العليم»: الواد «عباس» جاهز، تحب ينقل العفش بكرة؟

يُومئ أبي برأسه موافقًا: إياك ميكونش اتبهدل من السمنة والزبدة.

– لا، أنا كنت حاطط حاجتك على جنب.

ينادي: «عباس»، إنت رحت فين؟ إوعى يكون راح يشرب الهباب اللي بيأربعه.

يظهر رجلٌ أسود حافي القدمَين في مدخل الدكان. عيناه حمراوان. يرتدي جلابية وطاقية قذرتَين. تنبعث منه رائحة مُنفِّرة. يتحرَّك في بطء.

– تنقل باقي عفش «خليل» بيه من المخزن بكرة الصبح.

يتمتم «عباس»: مش فاضي.

يقول «عبد العليم» في حسم: دول كنبة وكرسيين وترابيزة.

يلتفت لأبي: ولقيت لك واحدة كويسة ساكنة قريب، تنضف وتطبخ وتاخد بالشهر.

– کام؟

– إديها جنيه.

يسأله أبي عن ساكن الغرفة المجاورة لنا. يُداعب «عبد العليم» شاربًا رفيعًا، يقول إنه كونستابل في البوليس.

– متجوز؟

– لأ.

يطلب أبي من «سليم» عشر بيضات وخمسين درهم جبنة وخمسين درهم حلاوة، وعلبة شاي «الشيخ الشرِّيب»، وقطعة صابون «نابلسي»، وأخرى داكنة اللون للمطبخ.

يسأله «سليم» بوقاحة: على النوتة؟

يُومئ أبي بالإيجاب.

يفتح «سليم» نوتةً طويلةً ويسجل فيها الطلبات، يُحذِّره أبي: البيض طازة ولا ممشِّش؟

– طبعًا طازة، عندنا كمان زبدة جاموسي.

يهزُّ أبي رأسه بالنفي ويطلب رطلًا من السمن البلدي.

يسأل «سليم» بنفس اللهجة: معاك حاجة تحطُّه فيها؟

– لأ.

يصيح به أخوه: حطه في برطمان قزاز.

يجمع لنا مشترياتِنا في كيسَين من الورق يضمُّهما أبي إلى صدره. نغادر الدكان. أطلب منه أن أحمل أحد الكيسَين. يرفض قائلًا إنه سيقع مني. كتاب المطالعة. «سرحان» بين البيت والغيط. يضع البيض في جيوبه فيتهشَّم. يحمل الخروف بين ساعدَيه فيعجز عن السير. يجرُّ البطة بحبلٍ فتختنق.

نتجه إلى الحارة. أسأله لماذا لم يشترِ الزبدة. أحبها بالعسل الأبيض أو الأسود. وأحب «المورتة» التي تتخلَّف عن تسييحها. يقول إن «سليم» يحشو كوز الزبدة بالملح ليغشَّ في الوزن. وإن أخاه الحاج «عبد العليم» حذَّره أكثر من مرةٍ بلا فائدة.

نتمهَّل في مدخل الحارة المظلمة. نخطو في بطءٍ. ضوء خفيف من خصاص الأبواب الخشبية للبلكونات. شيش بلكونة المنزل المقابل لنا مفتوح، لكن المصراع الزجاجي مغلق والستائر مسدلة خلفه. نتعثَّر في مدخل المنزل. نصعد الدرجات القليلة المتآكلة. باب شقتنا المظلمة يمين السلم المؤدي إلى الطوابق العليا. إلى اليسار فجوة غامضة تؤدي إلى مخزن البقالة. أتجنَّب النظر نحوها.

يُناولني كيسًا وهو يقول: امسكه كويس. يفك أزرار المعطف ويزيحه جانبًا. يبحث عن المفتاح في جيب سترته، يدسُّ المفتاح في قفل الباب ويُديره. يدفع الباب. أتشبَّث بمعطفه. ندخل في حذر.

يردِّد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. يُفتِّش بيده حتى يعثر على مفتاح النور. يلتمع الضوء الضعيف من مصباحٍ كهربائي متسخٍ يتدلَّى من منتصف السقف. يطلُّ المصباح على صالةٍ بها مائدة طعام مستطيلة. نقف أمام باب حجرتنا المجاور للباب الخارجي. يستخرج أبي من جيبه مفتاحًا آخر. يتقدَّمني إلى الداخل. يُضيء النور.

يضع كيسه فوق المكتب. أهمُّ بوضع كيسي بجواره فيسرع بتناوله مني. يضعه بنفسه. أجلس فوق حافة الفراش الحديدي الكبير. إلى يميني باب البلكونة الصغيرة المغلق. أمامي الدولاب الخشبي المائل. يعتمد على ثلاث كرات خشبية في حجم الرمان أسفل ثلاث زوايا. ضاعَت كرة الزاوية الرابعة أثناء النقل فوضع أبي قطعًا صغيرةً من الخشب مكانها. والنتيجة أن الضلفة اليسرى لا يمكن إغلاقها بإحكامٍ وتظل مواربة. إلى جوارها مشجبٌ خشبيٌّ ثم باب الغرفة. إلى يساري المكتب مضغوطًا بين السرير وحائط الباب.

يخلع معطفه ويُعلِّقه في أحد سواعد المشجب. يتبعه بسترة البزة. في عروتها قطعة مستديرة من البرونز كتب عليها «الجلاء». يضع طربوشه فوق قمة المشجب. ينكشف رأسه الأصلع الذي يُحيط به شعرٌ يغلب عليه اللون الأبيض. يضغط فوقه طاقية من الصوف الوبري في لون الجِمال ذات حواف عريضة مطوية إلى أعلى. يظل بالصديري الرمادي الصوفي ذي الزراير الخشبية. يرتدي روبه البني ويُزرِّره بحبلٍ رفيعٍ أحمر اللون. يلفُّ حول رقبتِه وصدرِه لفاعة عريضة من نفس قماش الطاقية.

أفكُّ رباط حذائي وأضعه بجوار الباب. ألبس قبقابي محتفظًا بالجورب. أخلع البزة وألقي بها فوق ظهر كرسي المكتب. أضم إليها القميص والبلوفر. أرتعش من البرد. أرتدي البيجامة وفوقها البلوفر. يتناول كيسًا من القماش من فوق المكتب ويستخرج منه رغيفًا من الخبز الملدن. يقفز صرصور صغير أسود من الكيس. أتراجع بعيدًا. يسألني إذا كنت أُفضِّل الجبن أو الحلاوة. عيني على المكان الذي خرج منه الصرصور. أقول إنني لست جائعًا. يلحُّ عليَّ أن آكل لأقاوم البرد. أكرر أنه لا نفس لي. يقول: أعمل لك بيض بالعجوة؟ أهزُّ رأسي نفيًا. يُعيد الرغيف إلى الكيس.

أقوم بإعداد شنطة المدرسة. أتأكَّد من وجود ورقة النشاف وزجاجة الحبر. ألحظ أنه ما زال يرتدي بنطلونه وحذاءه. أسأله: مش حتقلع؟

يقول: أشوَّح اللحمة الأول.

– متسيبها للصبح.

– بعدين تبوظ.

ينحني ويرفع ملاءة السرير. أحذية وأطباق وصناديق وأوانٍ معدنية. علبة الحقنة الشرجية الصاج. يجذب حلَّةً معدنية. يبحث عن غطائها حتى يجده. يُغادر الغرفة فأتبعه. يتناول لفافة اللحم ويفض محتوياتها في الحلة. يتجه إلى مدخل طرقةٍ مظلمة في مواجهة حجرتنا. كنيف لا ينغلق بابه وتنبعث منه رائحةٌ كريهة. حمام مغلق ثبت بابه بلوحٍ من الخشب. حوض مياه من الصاج مثبت في الحائط تطل عليه حنفية. يغسل اللحم جيدًا. يخطو إلى نهاية الطرقة حيث المطبخ. يدخله وأنا متعلِّق بملابسه من الخلف. يُخرج علبة ثقاب ويُشعل منها عودًا. يسقط الضوء على جانبٍ من الحائط مبلل بالمياه. مائدة خشبية فوقها وابور کیروسین «بريموس». يفعص بقدمه صرصورًا أحمر كبير الحجم. يضغط كباس البريموس عدة مراتٍ ثم يُشعل عود ثقابٍ ويقرِّبه من الفونية. تتوهج النار. تستوي الحلة فوق النار. ألتصق به وأغمض عيني. تدلِّي «ست الحسن» جدائل شعرها الطويل من النافذة ليرتقيها الشاطر «حسن». وعند الظهر يظهر الغول قادمًا من بعيد. كتلة ضخمة أشبه بلفائف كبيرة من الشعر يطوِّحها الهواء تجتاح الفضاء وتنثر معها الغبار والعفار. يقف تحت النافذة ويصيح ﺑ «ست الحسن»: «دلِّي شعورك الطوال، خدي الغول أحمد من حر الجبال».

الموقد يئزُّ. تتنوَّع ألوان شعلته. يقلِّب اللحم بملعقة. يرفع الحلَّة ويتخلَّص من مائها في الحوض.

أسأل: لسه؟

يقول إنه لا بد من غلي اللحم جيدًا للقضاء على الميكروبات.

يفتح برطمان السمن ويأخذ منه ملعقتَين، يضعهما في الإناء، يقلِّب اللحم عدة مرات ثم يُضيف الماء. يُلقي به نتفة من الملح وأخرى من الفلفل الأسود. يغطيه.

يصحبني إلى الكنيف المفتوح لأتبول. أشكو من الرائحة فيقول إن السيفون تالف. أردد آية «الكرسي» كما علَّمني. يدفعني في رفق لأصعد فوق قاعدة الكنيف الحجرية. أقاوم فيصعد معي ليقف بجواري. يمسكني من كتفي بينما أفك أزرار سروالي. أرفع نظري إلى الجدران. يسقط شعاع من ضوء الصالة الضعيف على بقع كبيرة سوداء. تتحرك إحدى البقع فجأةً صاعدة إلى أعلى. أتشبث بملابس أبي. يقول: متخفش، ده «أبو شبت».

نعود إلى المطبخ فيقلِّب اللحم ثم يضيف مزيدًا من الماء. ينتظر قليلًا حتى تغلي. يطفئ الموقد. يحمل الحلة إلى الصالة وأنا ملتصق به. يتركها فوق البوفيه. نعود إلى الطرقة فيغسل يديه بالصابون.

ندخل الغرفة. يغلق الباب بإحكام. يهتزُّ باب البلكونة بعنف. يقول أبي إنها رياح «أمشير أبو الزعابيب». يتناول جلبابًا قديمًا من فوق الشماعة فيسد الثغرة التي تفصل بين الباب والبلاط العاري. يضع قطعة قماش أخرى أسفل باب البلكونة. يتأمل الفراغ بين الدولاب والحائط. يركع على الأرض ويتفحص المسافة الضيقة الفاصلة بين قاعدة الدولاب والبلاط. يجذب مصراعي الدولاب ويدقِّق النظر داخله. ينحني ويرفع طرف ملاءة السرير. يلهث من المجهود. يخلع الروب ويعلِّقه في المشجب. يتلو: اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.

أرتقي السرير الحديدي المرتفع. يتبعني. أزحف إلى مكاني بجوار الحائط. ينحني ويلفُّ الأغطية حولي وهو مستمرٌّ في التلاوة. ينتهي من آية «الكرسي» فيتبعها بأخرى. يزداد صوته هدوءًا وتخفت نبراته. يمسح على وجهي بيده الدافئة. تنسدل جفوني في استسلام. يشمُّ الغول رائحة الشاطر حسن فيقول: «ريحة إنس لا منا ولا من الجنس».

يرفع يده فأفتح عينَيَّ. يعيد يده. أغلق عينَيَّ. يرفع يده من جديدٍ فأفتحهما. ينتهز الشاطر حسن وست الحسن فرصة خروج الغول للهرب. تدهن ست الحسن كل شيءٍ في القصر بالحنة وتنسى الطبل. يعود الغول وينادي على ست الحسن فتقوم الأشياء التي دهنتها بالحنة بدورها. يقول الغربال بصوت منغم جميل يوحي بحركته: «بتغربل بتغربل بتغربل.» وتقول الرحاية: «بتطحن بتطحن بتطحن.» يقول المنخل: «بتنخل بتنخل بتنخل.» لكن الطبل الذي نسته يثأر لنفسه فيصيح: «خدها الشاطر حسن وطار!»

أتابع حركاته. ينتصب واقفًا. ينحني. يدعك ركبتَيه. يخلع الشال الصوفيَّ والروب ثم الصديري. يزيح حمالتي البنطلون عن كتفَيه. يجلس على حافة السرير. يخلع الحذاء والجورب. يلبس جوربًا صوفيًّا طويلًا. يرفع ساقه اليمنى ويجذب البنطلون. يثني الساق الثانية. ينهض واقفًا. يخلع الكرافتة والقميص. يظل بالفانلة الصوفية ذات الكمين والكلسون الصوفي الطويل. يدسُّ قدمَيه في القبقاب. يُعلق ملابسه في الشماعة. ينحني مُباعدًا ما بين ساقَيه. يفكُّ رباط حزام الفتق الذي يدور بوسطه وبين فخذَيه. يجره بصعوبةٍ ويُلقيه فوق المكتب متنهدًا في ارتياح. يدعك ركبتَيه ثم يطلق جيصًا قوي الصوت.

يرتدي الجلابية الكستور المخططة. يلف الشال حول كتفَيه وصدره. يمد يده إلى فمه ويخلع أسنانه. يضعها في كوب ماء على المكتب. يشرب من قلةٍ في صينيةٍ معدنية على الأرض. يمسح فمه وشاربه بظهر يده. يصب الماء في كوبٍ به مسامير صدئة ليشرب المحلول على الريق. يرفع يدَيه إلى رأسه ويضغط الطاقية. يخطو خطوتَين ويمد يده بجوار الدولاب. يُطفئ النور. يصعد إلى جواري. يبسط البطانية واللحاف. يستدير ناحيتي ويتأكد من إحكام الغطاء فوقي. تظل يده فوقي. يقترب وجه أمي المدور. تُهدهدني مردِّدةً الأغنية المنبعثة من الراديو: «نام يا حبيب الروووح».

٢

– «في جمال الربيع عيدك أقبل. أنت أبهى من الربيع وأجمل.» نكرِّر النشيد خلف مدرس الموسيقى. يتدلَّى من جيب سترته العلوي منديلٌ كبير ملون. سيصحبنا إلى قصر «عابدين» في عيد الميلاد الملكي. يُعطونا ساندوتشات من جبن «الشيستر» الأصفر والحلاوة الطحينية. فيوم الإثنين نصف يوم. يكتب مدرس اللغة الإنجليزية التاريخ فوق السبورة. أرى المكتوب بوضوحٍ بفضل النظارة. يبدأ الهَرَج في المقاعد الخلفية. يستدير المدرس ويتجه إلى كرسيه. ملابسه غالية وأنيقة. ثنية رجلَيْ بنطلونِه عريضة حسب الموضة. منتصبتان فوق مقدمتَي حذائه دون ترهل وتغطيان نعل الحذاء من الخلف حتى نقطة تماسه بالأرض. يقول دون أن يتطلع إلى أحدٍ منا: اللي مش عاوز الدرس يتفضل بالخروج.

ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية الكبار ويغادرون الفصل. آخذ مسدسي من الدرج وأتبعهم. الردهة الخارجية المطلة على الفناء خالية. الهدوء الشامل يرين على المدرسة. الطرقة خالية. أنحني لأمرَّ أسفل نوافذ الفصل المجاور. فصل آخر. غرفة المدرسين. بابها مغلق. ألصق عيني بثقب المفتاح. طاولة مستطيلة يجلس في طرفها رجل عاري الرأس. أصلع. طربوشه أمامه فوق مجموعة من الكراسات. أتبيَّن فيه مدرس العلوم. شكله غريب بلا طربوش أو شعر. يتناول إحدى الكراسات. يتطلع في استهجان إلى ركن الطاولة. تظهر في مجال رؤيتي عدة أيدٍ تلعب الكوتشينة.

ألحق بالتلاميذ على السلم. نتسلَّل إلى الفناء الخلفي حيث يجري بناء ملحق للمدرسة. يتوزعون خلف أكوام الرمال والتراب. يبسطون مناديلهم ويضعونها فوق أنوفهم ثم يربطونها خلف رءوسهم. أخلع النظارة التي ألصقت بي اسم «غاندي» وأربط منديلًا فوق أنفي ثم أرتديها من جديد. أقرفص خلف كومٍ من الحجارة ومسدسي في يدي. فناء المدرسة السابقة تُحيط به صفائح عريضة سوداء تحجب الرؤية. أشتري البطاطا والشطة من فتحةٍ صغيرةٍ في جانبها. نعثر على سلمٍ ضيقٍ بدرجاتٍ متآكلةٍ تؤدي إلى أسفل. يقول تلميذ إن المبنى أصله قصر أمير، وإن في أعماقه بئرًا مسحورًا. نهبط خائفين. نُصادف سحلية. تقول أمي إنها أميرة متخفية.

أظل في مكاني خلف كوم الحجارة دون أن يناديني أحد. يدق الجرس. نصعد إلى حصة اللغة العربية بخطوات متثاقلة. المدرس قصير القامة نحيفها. له رقبة طويلة ملفوفة بكوفية ثقيلة. يتحرَّك كتفاه باستمرارٍ داخل بزته. نعرف أنه لم يتخلَّ عن الجبة والعمامة إلا هذا العام.

أتبادل مكاني مع «فتحي» لأجلس إلى جوار «ماهر». لديه سلسلة مفاتيح وقلم حبر جاف ماركة «بيرو» وقلم أبنوس ماركة «ووترمان» وممحاة سمينة وطرية. يصُفُّهم أمامه على سطح القمطر. يشرح المدرس قواعد المجرد والمزيد والإعلال والإبدال وهو جالس. يتجنَّب الوقوف أمام السبورة بسبب قصر قامته. يطلب من أحد التلاميذ طوال القامة أن يكتب عليها «أمير الشعراء يخاطب الشباب». نفتح كتاب «المطالعة المختارة». نقرأ معه قصيدة «أحمد شوقي». يُعنِّفنا على جهلنا. أكتب معاني الكلمات في كراستي. أخطئ في هجاء كلمة. أحاول إزالتها بممحاتي الرخيصة المتحجرة. أقترض ممحاة «ماهر» الطرية.

يدق الجرس. أرفع غطاء القمطر. آخذ الكتب والكراسات التي أحتاجها لواجبات الغد. أضعها في حقيبتي «الفيبر». أُعيد الغطاء إلى مكانِه وأثبِّته بالقفل والمفتاح.

يلفحني الهواء البارد بمجرد أن أخرج إلى الطريق. أدفن عنقي في الكوفية وأنكمش في ملابسي. أجر قدمي في صعوبة. أمضي فوق رصيف المدرسة وأؤجل عبور الشارع الرئيسي حتى الميدان. ألمح قطعة مستطيلة من الحديد. أهمُّ بشوطها بقدمي. أتذكر تحذيرات أبي من القنابل التي تنفجر بمجرد لمسها، وتكون على شكل علبة دواء أو قلم أبنوس أو لعبة. أتأمَّل القطعة جيدًا ثم أبتعد عنها.

رصيف من الحصى الملون. فيلا مسورة بالقضبان الحديدية. أتلصص النظر من بين القضبان. مائدة خشبية ومقعدين في جانبٍ من الحديقة. الباب الداخلي مغلق. أواصل السير. مدرسة اليهود مبنية من الطوب الوردي اللون. لا يُحيط بها سور خارجي مثل مدرستنا. ملصق يدعو إلى إغاثة اللاجئين الفلسطينيين. عبارة بطلاءٍ أسود تقول: «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء.» أخرى: «شُرم بُرم». نوافذ المدرسة في مستوى الشارع. تظهر منها قاعات كبيرة صفت بها موائد الطعام. التلاميذ يأكلون في ضوضاء. أواصل السير حتى الناصية ثم أستدير يسارًا. أمضي بجوار جدار المدرسة. يبدأ الطريق في الصعود تحفُّ به الأشجار. تتفتَّح زهورها الحمراء والصفراء في بداية الصيف ثم تتساقط وتغطِّي الرصيف في الخريف. نهاجمها بالنبال لنصید العصافير دون أن ننجح ولا مرة.

أصبح في مواجهة منزلنا السابق. من الطوب الوردي اللون هو الآخر. يتصدَّره باب حديدي. بجواره منازل قديمة متهالكة. أمامه منخفض أحدثته قنبلة أسقطتها طائرة ألمانية. أضع حقيبتي على الأرض وأستند إلى جدار المدرسة.

يقع المنزل عند مفترق شارعَين تفصل بينهما أرض فضاء مهملة مسيجة بقضبان معدنية. كانت في السابق مخزنًا للترام. ترتبط قضبان السياج من أسفل بقضيبٍ عرضي مرتفع عن الأرض بمقدار شبر. نقف على القضيب ونحشر أنفسنا بين الأعمدة ثم نصفِّر ونسوق.

يتجه الشارع الأول إلى منطقة من العشش والثاني إلى مصنع طرابيش والساحة التي يقام بها المولد النبوي. عند نقطة الملتقى تصطفُّ عربات الكارو ورءوس جيادها مدفونة في أجولة التبن. يتوحَّد الشارعان في واحدٍ تنحدر أرضه قليلًا بعد منزلنا حتى تلتقي بالشارع المؤدي إلى الميدان. عند الناصية مشتل يبيع الورد.

يشغل مسكننا الطابق الأول وتطل نافذتان له على الشارع؛ إحداهما مغلقة الشيش والأخرى بالزجاج فقط. تنعكس عليه الأشجار والسماء الزرقاء. أخط بإصبعي اسمي واسمَي أبي وأمي في البخار الذي يغطي زجاج النافذة المغلقة. أتأمل العمال المسرعين في اتجاه المصنع وقد حمل كلٌّ منهم غذاءه في منديل. بينهم أولاد صغار. تدوِّي صفارة المصنع الصباحية فأغادر المنزل. تستقبلني رائحة دخان المواقد والأفران. أرفع رأسي إلى النافذة فأری أبي بطاقيته البيضاء المستديرة يتابعني من خلف الزجاج. أعبر الطريق إلى رصيف مدرسة اليهود. أمُرُّ بعجوزٍ ذي عمامة حمراء كبيرة يعتمد على عصًا في يده ويستند بظهره إلى جدار المدرسة. أعطيه مليمَين كما علمني أبي. ألتفت إلى النافذة لأراه لآخر مرة. أعدل وضع شنطتي على ظهري وأدس يدَيَّ الباردتَين في جيبَي سترتي. أشقُّ طريقي بين التلاميذ اليهود المتدافعين. صبيان وبنات بملابس زرقاء. أدلف إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى مدرستي. تلفني الشبورة التي أحبها.

أحمل حقيبتي وأستدير متابعًا طريقي. أخترق ممرًّا صغيرًا. دكان تخديم. ساتر من الخشب يترك فتحة صغيرة. تبدو دكة عليها فتيات. واحدة معصوبة الرأس ترتدي جلابية. بجوارها واحدة في ملابس الفلاحات. أصبح في شارع «فاروق». أنتظر إشارة عسكري المرور. أسير من أمام مخبز «عبد الملاك» وأجزخانة «السبيل». أقرأ لافتتها: «المدير المسئول حلمي روفائيل». بضع خطوات ثم أدخل شارع «النزهة» المؤدِّي إلى منزلنا الجديد.

٣

يرتدي أبي الروب. يفتح باب البلكونة الزجاجي. يدفع المصراع الخشبي إلى الخارج. يثبته في الجدار بالشنكل. يتسلل ضوء الصباح الضعيف إلى الغرفة. يغلق المصراع الزجاجي وهو يتأمل البلكونة المقابلة.

أسعل وأشكو من التهاب حلقي. يجسُّ جبهتي. يتحسَّس أسفل صدغي متلمسًا اللوزتَين. يغادر الغرفة وينهمك في إعداد طبقٍ من الفول المدمس بالزيت الحار.

يضع الطبق على الطاولة الخشبية المستديرة التي أحضرها «عباس» من المخزن. الطاولة في مستوى الفراش وتتسع بالكاد لطبق الفول وقطعة الجبن الأبيض في ورقتها ورغيف الخبز والليمونة المشقوقة. يستخرج بصلة صغيرة من تحت الفراش ويضعها في الحيز الفاصل بين باب الغرفة والحائط دون أن ينزع قشرتها. يجذب الباب إلى الداخل ويضغط قليلًا. يعيد الباب إلى مكانه ويلتقط البصلة قبل أن تسقط فوق الأرض. ينتزع قلبها الذي برز خارجها ويلقي الأجزاء الخارجية جانبًا. يقول إنها أفضل طريقة للمحافظة على فائدة البصل وطعمه.

يتربَّع فوق الفراش. أجرُّ كرسي المكتب وأجلس أمامه. يعصر فص ليمون فوق الفول. أغمس لقمةً صغيرة. وأقضم طرفًا منها بغير حماس. أقول إني لا أحب الفول. يقول إنه كان يفطر وهو تلميذ من حلة الطبيخ البايت دون تسخين. تنادي عليه أمه من الطابق العلوي كل صباح: «عندك حلة الطبيخ في المنور».

ننتهي من الإفطار. نخرج إلى الصالة. نغتسل من حنفية الحوض. يدق جرس الباب. يفتحه لبائع اللبن. يحضر له حلة صغيرة ويأخذ رطلًا. يشعل الموقد ويضع الحلة فوقه إلى أن يغلي اللبن. يضع إبريقًا من الصاج مكانه ليعد القرفة. أظلُّ واقفًا بجواره إلى أن تغلي القرفة عدة مرات. يصب لي کوبًا ويضيف إليه اللبن. أرفع الكوب إلى فمي. أشم رائحة الجاز. أعيده إليه. يغضب ويشرب من كوبه في صمت.

يدق الجرس مرة أخرى. أهرع إلى الباب وأفتحه. تدخل «أم نظيرة». نحيلة وقصيرة. رأسها ملفوفٌ بمنديل أسود اللون معقود فوق جبهتها تتدلَّى من حافته خصلات بيضاء. وجهها شاحب وعيناها غائرتان. تترك صندلها الأسود بجوار الباب. تضع كيس الخضار على مائدة الطعام. تلقي ملاءتها السوداء فوق ظهر أحد المقاعد. تقول إنها تأخرت لأن متطوعات الكوليرا أوقفنها في الطريق وأخذنها لمركز التطعيم.

يعطيها أبي ما تبقى من إفطارنا. تهم بالجلوس على الأرض فيدعوها لأن تجلس على أحد مقاعد المائدة. يسألها عن أولادها وزوجها. يحسب معها ثمن الخضار الذي أحضرته. يعد لنفسه القهوة في كنكة صغيرةٍ فوق موقد السبرتو. يفرغها في فنجان من الصيني المزخرف. يحمله في طبقه. أتبعه إلى الغرفة. يجلس متربعًا فوق الفراش. يحتسي القهوة في بطء. أعيد الكرسي إلى مكانه خلف المكتب. أجلس وأفتح كراسة الحساب.

أبدأ حل الواجب. أتوقَّف حائرًا أمام إحدى المسائل. أتطلع إليه. يجمع ويطرح ويضرب ويقسم دون أن يستخدم القلم والورقة. تقطيبة وجهه لا تشجعني على طلب مساعدته. يُشعل سيجارته السوداء. أفكِّر في طريقة. أتذكَّر درس اللغة العربية عن المفردات اللغوية. أسأله عن صفة منزلنا بين أنواع المنازل. أعدِّدها له على أصابعي: القصر، الصرح، الصومعة، السرداب، النجيرة. يهزُّ رأسه قائلًا إن منزلنا نسيج وحده. أعرض عليه مسألة الحساب فيحلها.

أرتدي نظارتي وأغادر الغرفة إلى الصالة. «أم نظيرة» تصفُّ الأواني التي غسلتها فوق رخامة البوفيه. أتوقَّف أمام باب غرفة الكونستابل. أتلصص النظر من ثقب الباب فلا أرى غير طرف سرير منكوش الأغطية. أضع أذني على الثقب. لا أسمع حركة.

ألفُّ من خلف مائدة الطعام. أبتعد عن الباب الزجاجي الذي يؤدي إلى المنور ويأتي منه الهواء البارد. ألفُّ مرة أخرى وأتوقَّف أمام الحجرة الثالثة. أدير مقبض الباب وأدخل. أرض خشبية مهترئة مليئة بالحفر. أثاثنا القديم: كرسي هزاز من القش المخرم تمزق جانب منه. فوتيان وكنبة. أحد الفوتيين بقاعدة غائرة.

الغرفة باردة. دهان الحوائط متآكل يكشف عن رقع من المصيص. بعضها تغطيه أوراق ملونة. أقترب منها. صفحات من مجلة مصورة خضراء اللون مثبتة بالدبابيس. صورة الملك «فاروق» وهو صبي جميل بالبنطلون القصير والطربوش. صورة أخرى له في سيارة مفتوحة مع شقيقاته الثلاث الجميلات. صورة ثالثة له بجوار أبيه الملك «فؤاد» ذي الشارب المدبب الطرفين المرفوعين إلى أعلى. أتحسس بيدي سطح الصور المصقول. يتساقط المصيص من خلفها. تناديني «أم نظيرة» لأخرج كي تكنس الغرفة.

أبي فوق الفراش والمسبحة في يده. شيش البلكونة المقابلة مفتوح لكن ستارة من الدانتلا المخرمة مسدلة خلف مصراعه الزجاجي. البلكونة صغيرة وضيقة مثل بلكونتنا وبلكونات الطوابق الأولى. فوقها بلكونتان كبيرتان متجاورتان في شقة واحدة. يسكنها موظف متزوج من امرأتَين لكل منهما بلكونة. واحدة مفتوحة والأغطية منشورة فوق سورها. الثانية مغلقة. معنى ذلك أنه قضى الليلة فيها. سيأتي الدور اليوم على البلكونة الأخرى.

أقف خلف الزجاج. ألصق وجنتي بسطحه لأتمكَّن من رؤية المنزل الواقع على الناصية. نافذة «صبري» أفندي مفتوحة. تظهر زوجته لحظة ثم تختفي. قصيرة سمينة. يمتلئ وجهها بحبوب الحمونيل. أولادها أيضًا: البنت الكبيرة «سهام» والوسطى «سها» والصغيرة «سلمى» و«سمير» الأصغر منها.

تنادي علينا «أم نظيرة» لنغادر الغرفة كي تكنسها وتمسحها. يترجل أبي من فوق الفراش. يضع قدمَيه في القبقاب. تفتح باب البلكونة وتجر السجادة وتبسطها فوق السور. تكنس الأرض. نرقبها من مدخل الغرفة. يخشى أن تمد يدها إلى ملابسه المعلقة بالمشجب.

تنتهي من الكنس فتضع الخيشة في جردل الماء. ترفعها وتوزع المياه في أنحاء الغرفة. تركع لتمسح البلاط. يكشف جلبابها عن عظام ركبتيها البارزة. تعصر الممسحة في الجردل. تجفف الأرض. تنتصب واقفة وهي تلهث.

تحمل الجردل وتهم بالانصراف. يستوقفها أبي. يُشير بيده إلى منطقة مبللةٍ قرب البلكونة. تقول إنها لا ترى البلل، وإنه على أي حال سيجفُّ بعد قليلٍ لو تركنا باب البلكونة مفتوحًا. يزعق فيها: اعملي زي ما بقولك. تنصاع غاضبة.

يخطو أبي إلى الداخل ويغلق باب البلكونة. يظل عندها وعينه على البلكونة المقابلة.

تصيح «أم نظيرة» من الصالة: المية سخنت. أحمل ملابس نظيفة ولوفة وأغادر الغرفة. يتبعني أبي حاملًا جريدة قديمة. يغلق الباب بالمفتاح ويضعه في جيب الروب. نتجه إلى غرفة الضيوف. حوض الغسيل الصاج في الوسط. وابور الجاز يعلوه إناء مياه يتصاعد منه البخار. صفيحة من المياه الباردة. يخلع أبي روبه. يقرفص. يخلط المياه الباردة بالساخنة في الحوض ويقيس حرارتها بيده. أحاول أن أتذكر ما قاله مدرس العلوم عن كيفية تعيين نقطة الغليان. المياه تغلي فوق وابور الجاز. تملأ أمي كوزًا معدنيًّا بالماء المغلي. وتضيف إليه مياه الصنبور ثم تصبه فوق جسدي العاري. تملأ كوز المياه الساخنة مرة أخرى. تنسى أن تخفِّفه بالمياه الباردة وتصبه فوقي. أصرخ. يهرع أبي إليَّ. يحملني إلى غرفة النوم. يجفِّف جسدي برقة. يرش فوقي مسحوقًا أبيض. يلبسني ملابسي ويصحبني معه إلى المسجد.

أخلع ملابسي وأغطس في مياه الحوض. يدعك شعر رأسي بالصابونة النابلسي. يدعك جسدي باللوفة. يطلب مني أن أقف ليشطفني بالمياه النظيفة. يجففني. أتطلَّع إلى صور الملك على الحائط. يلفُّ صدري بورق الصحف. أرتدي ملابسي فوقها. ينادي على «أم نظيرة» لترمي المياه الوسخة وتملأ الصفيحة من جديد.

نذهب إلى حجرتنا. يخلع الروب والجلابية. يُعطيني ظهره ويرفع فانلته الصوفية كاشفًا عن ظهره. يطلب مني أن أهرش له. أرتدي نظارتي. أتجنب البثور الزرقاء الثلاثة الموزعة على ظهره. جسمه أبيض على خلاف وجهه وساعديه حتى المرفقين. يطلب مني أن أبحث عن القمل في أنحاء الفانلة. يشير لي أن أدقق في ثنيتي الحياكة على جانبيها. أعثر على واحدة سمينة بيضاء. في ظهرها نقطة سوداء. أفضلها على النوع الأسود الرفيع. أضعها فوق ظفر إبهامي الأيسر. أضغط بظفر الإبهام الأيمن. أسمع طقتها. يسدل الفانلة قائلًا: كفاية.

ينتقي ملابس نظيفة من الدولاب. يقول بصوتٍ خافت: خلي بالك من «أم نظيرة». أتبعه حتى باب الغرفة. «أم نظيرة» جالسة إلى مائدة الصالة. تقشر حبات القلقاس.

أجلس إلى مكتبي. أقوم أتلصص على «أم نظيرة» من فتحة الباب. تعمل السكين في حبة قلقاس. تقطعها إلى مكعبات صغيرة.

يخرج أبي من غرفة الضيوف مرتديًا جلبابًا نظيفًا. يطلب من «أم نظيرة» أن ترمي المياه الوسخة وتجفِّف أرضية الغرفة.

تقول: لما أخلص اللي في إيدي.

يقول إن المياه يجب أن تجفَّف الآن قبل أن تتجمع في فتحات الأرضية الخشبية. تنهض ممتعضةً وتمضي إلى المطبخ. تحضر الممسحة والجردل وتدخل غرفة الضيوف. تخرج بعد لحظةٍ بالجردل. تذهب إلى المطبخ. تعود وتهمُّ بالجلوس. يطلب منها أن تغسل يدَيها أولًا. تذهب لغسلها. أقول له بصوتٍ خافتٍ إنها لم تغسل القلقاس بعد تقشيره. تعود وتجلس. تستأنف تقطيع القلقاس. يسألها عما إذا كانت غسلته بعد التقشير. تقول إنها ستفعل بعد أن تنتهي من تقطيعه. يزعق فيها قائلًا: أنا مش قُلتلك تغسليه الأول وبعدين تنشفيه بالفوطة؟

تقول: مفيش فرق.

يقول: تعملي زي ما أقولك.

تزم شفتَيها. تُواصِل تقطيع القلقاس في صمت.

يستخرج موسًا من علبة الحلاقة. صندوق صغير للسجائر من الكرتون. يفك غلاف الموس الذي يحمل صورة التمساح. يضع قدمه اليمنى فوق حافة السرير. ينحني ويكشط الكالو من إصبعه الصغير. يقول إنه ناتجٌ من الأحذية المدببة التي كان يرتديها في شبابه حسب الموضة. يكشط الكالو من القدم اليسرى. يُعيد الموس إلى غلافه. يضعه في العلبة الكرتون. يستخرج منها مقصًّا صغيرًا. يقص الأظافر المتصلبة في أصابع قدمَيه بصعوبة. يغادر الغرفة ليغسلَ يدَيه. يعود يرتدي جوربًا من الصوف.

يأتي صوت خطبة الجمعة من راديو «أم زكية». تسكن الطابق الأول في المنزل المجاور وتطل نافذتها على المنور. يرتقي أبي الفراشَ وينتصب واقفًا. يقترب من الحائط. يلمسه براحتَيه ثم يرفعهما إلى وجهه ويمسحه بهما وهو يُتمتم بالدعوات. ينتهي من التيمُّم فيستعد للصلاة. أقف بسيارتي الحمراء عند باب حجرة الطعام ويدي على الدركسيون أنتظر بفارغ صبرٍ وعيني على وجهه المتجهم. عزائي أني أشبه سائقي السيارات الذين تحتجزهم إشارات المرور. يصل خطيب الجمعة إلى نهاية الخطبة ويبدأ الدعاء للملك. يبسط أبي سجادة الصلاة في غرفة المسافرين. أنتظر ملولًا وأنا أعد ركعاته. يلوي عنقه ناحية اليمين ليسلم على ملاك الكتف الأيمن ثم يفعل المثل مع الملاك الأيسر. وقبل أن ينهض واقفًا وهو يطوي السجادة أكون قد انطلقت.

يركع فوق الفراش. أخرج إلى الصالة. أتناول طبقًا من فوق البوفيه. أصب فيه من برطمان العسل الأسود. أتفحصه جيدًا لأتأكد من عدم وجود نمل. أضيف قليلًا من برطمان الطحينة. أتناول رغيف خبز. أوازنه في صعوبة مع الطبق. يهتزُّ الطبق في يدي وتسيل قطراتٌ منه على الأرض. أضع الطبق فوق المائدة. ألعق نقطة عسلٍ فوق إصبعي. تلمح «أم نظيرة» نقاط العسل فوق الأرض. تقول غاضبة: أنا مش حامسح تاني.

تنتهي الصلاة ويظهر أبي عند الباب. يسألها عن سبب زعيقها. يقول لها في غضبٍ إنه لا يسمح لها برفع صوتها عليَّ. يأمرها بأن تمسح بقعة العسل. تنصاع متجهمة. ينتظر حتى تنتهي وتشرع في العودة إلى المائدة فيأمرها بأن تغسل يدَيها بالصابون.

نعود إلى الغرفة. أنتظر أن يعنفني لكنه لا يفعل. أحتل مكاني خلف المكتب وأفتح كراسة الحساب. يطلب مني أن أراقب «أم نظيرة» حتى لا تشرب السمن. يتربَّع فوق الفراش. يتناول المسبحة الطويلة ذات الحبيبات الخشبية الداكنة. يبدأ في العدِّ عليها متمتمًا باسم «لطيف».

أتلصص على «أم نظيرة» من فتحة الباب. أراها تحمل إناء القلقاس وتذهب إلى المطبخ. أتبعها. أتجنَّب النظر إلى الكنيف. أقترب من باب المطبخ في خفة. أقف لصق الحائط. أمد رأسي قليلًا محاذرًا أن تراني.

تضع الحلة فوق وابور الجاز بعد أن تُضيف إليها المياه. تقشر الثوم وتقطعه بالسكين إلى أجزاء دقيقة. تضعه مع السلق في قلاية معدنية بمقبض طويل. تتناول برطمان السمن. تأخذ منه ملعقة. تُضيف محتوياتها إلى السلق والثوم. أحبس أنفاسي عندما تُعيد الملعقة إلى البرطمان. تملؤها للمرة الثانية. هل ستشرب السمن؟ أرقب يدها وهي تتجه إلى القلَّاية.

أشعر بحركةٍ خلفي. يقترب أبي في حذر. يضع يده على كتفي. يمد رأسه ليرقبها. تمسك حلة القلقاس بفوطة وترفعها عن النار. تضعها على المائدة. تضع المقلاة فوق النار. تقلب الخليط بالملعقة. تقترب برأسها لتدقِّق النظر. تتجه بالملعقة إلى برطمان السمن. يميل أبي برأسه ليتبيَّن ما تفعل. تلتفت فجأةً فتلمحه. تصرخ. تفلت يدها مقبض الإناء. تسيل محتوياته على الأرض. تخبط صدرها بيدها: خضتني، حرام عليك.

يلج أبي المطبخ ويزعق: حرمت عليكِ عيشتك، مش تاخدي بالك.

تصيح: دي مش شغلانة دي.

– لِمِّي اللي وقع.

تندفع خارجة: ابقى شوف اللي يلمه لك، أنا مش قاعدة.

يصيح أبي خلفها: في داهية.

٤

نسير خلف امرأةٍ متسربلةٍ بملاءة اللف السوداء. تغطِّي وجهها بالبرقع الذي يكشف العينَين ويستند إلى أسطوانةٍ لامعةٍ من النحاس فوق الأنف ثم يغطي الفم بنسيج شبكي. تسير بخطواتٍ سريعةٍ وهي تضم ملاءتها حول جسدها. أتابع بركن عيني نظرات أبي إلى مؤخرتها الممتلئة المترجرجة. أتعثَّر في طوبةٍ فيعنفني: خلي بالك.

حوارٍ ضيقة مزدحمة. بوابات قديمة ومصاطب حجرية أمام الدكاكين. روائح الطين والعفن ومعاصر الزيوت. تتوقف حتى تمر عربة خضار يجرها جواد. تحكم لف الملاءة السوداء حول جسدها مبرزة تفاصيله. ينبعث منها عطرٌ جميل. أخرج إلى الصالة. أبحث عن أمي. يأتي صوت الموقد المزعج من المطبخ. أتسلَّل إلى غرفة نومهما. مُرَتَّبة. فوق السرير غطاء من الدانتلا المخرمة. أتناول زجاجة العطر الزرقاء من فوق التسريحة وأتشمَّم حافتها.

تبتعد ثم تختفي. حارة مظلمة. سلم ضيق بدرجاتٍ متآكلة. يُشعل أبي عود كبريت. نصعد عدة طوابق. نتوقَّف أمام بابٍ ذي شرَّاعتَين من الزجاج. إحداهما مغطاةٌ بلوحٍ من الكرتون. يدقُّ الباب فيتردَّد صوت غاضب: مين؟ يدق مرة أخرى. تفتح عجوز تحمل مصباح زيت. ترفع المصباح إلى أعلى لترانا. يسقط الضوء فوق وجه شاحب متجهم. عين تالفة اختفَت حدقتها تحت جفن منتفخ. الشيخ «عفيفي» موجود؟

تفسح الطريق في صمت. أثاث مكدس قديم. باب يفتحه عجوز ضئيل الحجم. متسربل بقفطان من قماشٍ لامعٍ مخطط. يُرحب بأبي ويقوده إلى مائدةٍ فوقها مصباح زيتي. يمشي بصعوبةٍ ويترنَّح موشكًا على السقوط. يضم القفطان حول جسده ويجلس إلى المائدة فوق مقعد. يجلس أبي أمامه وأقف إلى جواره. يتناول زجاجتَين ويعد خليطًا من سائلَين. أحدهما له رائحة المسك. يغمس به قلمًا من البوص. يجذب صحنًا من الصيني الأبيض. يقرِّب منه عينيه. ينقش عليه مربعات وحروفًا غامضة. يسقط ضوء المصباح على وجهه الحليق الضامر وعينيه اللتين ترمشان بصورة متواصلة. عينا أبي متعلقتان بالقلم. على الجدران إطارات لآيات قرآنية. إعلان عن «الكوكاكولا» يقول إنها تروي العطش في الشتاء أيضًا. مقاعد باليةٌ مغطاةٌ بقماشٍ متسخ. أحدها بقاعدةٍ متهاوية توشك أن تلمس الأرض.

أتحرَّك مبتعدًا عن أبي. أقترب من الباب الموارب. أضع عيني على فتحته. تواجهني مباشرة دائرة زرقاء ذات سطح بارز. أتبيَّن فيها العين التالفة للعجوز التي فتحت لنا. راكعة على ركبتيها تتنصت. أتراجع ملتجئًا إلى أبي. ألتصق به. مائل برأسه ينصت إلى كلمات الشيخ. شفته السفلى ممتلئة ومتهدلة. يقول لأبي: إيه رأيك تشوف لي الطالع؟

يقول أبي مندهشًا: أنا؟

– أيوه أنت. أعلِّمك. الحكاية سهلة جدًّا.

– طب اعملها لنفسك.

– يا ريت. ما ينفعش.

– وعاوز تعرف إيه؟

– ما بقي من العمر.

يتنهد أبي قائلًا: فات الكتير وما بقي إلا القليل.

يُعطيه عملةً فضية. يسأله عن واحدة كويسة تُنظف وتطبخ. يقول إنه مستعدٌّ لأن يتزوجها إذا كانت بنت ناس.

نغادر المنزل ونستقل الترام. أسأله عن العمر الذي سيعيشه. يقول إنه سيعيش حتى المائة. نمر من أمام الخردواتي. مغلق على غير العادة. يتجه أبي إلى عربة يد عليها كتلة ضخمة من العجوة مغطاة بقماشٍ شفافٍ أبيض. يسقط عليها الضوء من كلوب مثبت وسطها. يشتري رطلًا. يُنادي علينا الحاج «عبد العليم». ندخل الدكان. الحاج خلف مكتبه. بجواره شيخ معمم يخلو فمه من الأسنان. في يده جريدة «أخبار اليوم». يقول أبي ﻟ «سليم» إن بيضة من التي اشتراها منه قبل يومَين ممشِّشة. يجلس أبي على كرسي وأجلس إلى جواره على آخَر. يقول «عبد العليم» وهو يتنحنح إن الخردواتي باع كراسة بسعر يزيد مليمَين عن التسعيرة الجبرية فحوکم بستة أشهر وغرامة مائة جنيه.

يسأل أبي عن «جمعة» أفندي. يقول شيخ الحارة: مع «زراکش».

– «زراکش» مين؟

– هو إنت متعرفش؟ الجِنِّية اللي اتجوزها.

يسأل أبي في اهتمام: اتجوز جِنِّية؟ إزاي؟

يقول «عبد العليم» إن قطةً بيضاء اللون لزقت له وصارت تشاركه الفراش. وفي يوم رآها تقف على ساقَيها الخلفيتَين ويأخذ طولها بالتمدد ثم خلعت فراءها فكشفت عن فتاة غاية في الجمال. سألها عن اسمها فقالت إنه «زراکش». شرعت ترقص له ثم طلبت أن تتزوجه قائلة إنها مسلمة مثله.

يستفسر أبي عن الجزار المختفي. يقول «عبد العليم» إنه تزوَّج على امرأته. يسأل أبي: بنت بنوت؟ لا. مطلقة تزوَّجت من قبله ثلاثة رجال. ترك الدكان لابنه وانتقل من الحي. يقول إن «أم نظيرة» جاءتْه اليوم وتوسَّلت إليه. هي مستعدةٌ تُقبِّل جزمته لتعود. يقول أبي في حسم: لا. مش عايزها. يستفسر «عبد العليم»: جربت مكتب التخديم؟ يقول أبي إنه لا يطمئن إلى بناته. ثم إن صاحب المكتب يأخذ عمولة كبيرة.

يدخل الدكان رجلٌ أسمر أنيقٌ بقميصه الأبيض ياقة منشاة وفوق رأسه طربوش مائل ناحية اليسار. يرحِّب به شيخ الحارة: أهلًا «رأفت» أفندي. يأخذني أبي فوق ركبتَيه ليجلس «رأفت» مكاني. يقول إنه دافع اليوم عن امرأةٍ مهددة بالإعدام. عمرها ثلاث وعشرون سنة ومتزوجة من عجوز تجاوَز الستين. نقلوه إلى المستشفى في حالة قيء.

يسأل «عبد العليم»: كوليرا؟

يهزُّ المحامي رأسه: لا، الكوليرا الوقت في إجازة لغاية الصيف.

– أمال إيه؟

يقول المحامي إن العجوز اتهم زوجته بمحاولة تسميمه لتتخلَّص منه وتتزوَّج بشابٍّ في سنها. وأثبت الطبيب الشرعي أن الشيخ تناول كميةً من الويسكي ممزوجة بزيت الكافور.

يتوقَّف المحامي ويقول: كل الأدلَّة ضد البنت. وكانت حتروح أونطة لولا إني سألت العجوز ثلاثة أسئلة.

يردِّدون جميعًا في صوتٍ واحدٍ عدا أبي: إيه هي؟

يقول: سألته إذا كانت عادته أن يدهن ساقه بزيت الكافور قبل النوم. الراجل قال أيوه. سألته عن مكان قزازة الكافور. قال على الكوميدينو جنب السرير. سألته: وفين كانت قزازة الويسكي؟ قال: جنب الكافور.

يتطلَّع إلينا مزهوًّا: المحكمة استدلت إن الراجل لما سكر صب من الكافور بدل الويسكي.

يعلِّق الشيخ المعمم وهو ينظر إلى أبي: ده نتيجة جوازه من بنت في عمر بنته. يتجهم وجه أبي. يتدخل شيخ الحارة عارضًا على أبي أن يشترك مع بقية الشلة في شراء «الأهرام». يدفع كل واحدٍ قرش صاغ ويقرأ الجرنال طول الشهر. يقول أبي إنه يقرأ الجرنال عند الجزمجي. وعلى العموم أخبار النهارده زي إمبارح.

يقول «رأفت» أفندي: على رأيك. شوف خبر النهارده عن يهود «اليمن» وازاي «إنجلترا» بتهربهم «فلسطين». من ساعة التقسيم والمراكب رايحة جاية تلمهم من كل حتة.

يضيف بصوتٍ خافت إن طلبة الجامعة مزقوا صورة الملك ولقبوه بملك «مصر والسودان وسامية جمال». يقول الشيخ «فضل» إن الملك ترك «سامية جمال» من مدة واستبدلها ﺑ «أم كلثوم». يقول المحامي إنها وضعت جهاز تكييف في فيلتها.

يقول الشيخ المعمم إن ابنه حصل على البكالوريا بالمجانية في الجامعة فعمل في مديرية «قنا» بستة جنيهات درجة تاسعة. يقول المحامي إن «لطفي السيد» باشا رئيس المجمع اللغوي يأخذ ٩ جنيه شهريًّا وعلاوة غلاء ٣ جنيهات. وكان يأخذ ٤ جنيهات في الشهر عندما توظف في النيابة من خمسين سنة. يقول الشيخ: أقة السكر بالكوبون ٧٥ مليمًا وثمنها في السوق السوداء ٢٠٠ مليم.

يسأل الحاج «عبد العليم»: قريتم «فكري أباظة»؟ بيطالب بفرض الضرائب التصاعدية وتحديد الملكية وتوزيع الأراضي ومحاربة الغلاء. يعلق الشيخ بأن الدعوة إلى تحديد الملكية تُخالف الدين، وأن شيخ الأزهر أفتى بذلك. يقول شيخ الحارة: سيبونا بأه من السياسة، تسمعوا آخر نكتة؟ يقول إن مترو «مصر الجديدة» له خطان، واحد يتوقف في محطة «منشية الصدر» والثاني يتوقف في محطة «منشية البكري»، وذات يوم صعدت فتاة ذات صدر بارز وسألت الكمساري عما إذا سيتوقف في محطة «منشية البكري»، قال وهو يتطلع إلى صدرها: لأ. رايحين «منشية الصدر» ونقف هناك.

يضحك الجميع عدا أبي. ينهض واقفًا ويستأذن منصرفًا. أسأله ونحن ندخل الحارة عن معنى النكتة ولماذا ضحك الجميع. لا يرد. أسأله: هو شيخ الحارة بيعمل إيه؟

– يقعد ساعة كل يوم في قسم البوليس. يمضي الشهادات والأوراق الشخصية لأهل الحتة.

– وياخد كام ماهية؟

– ملوش ماهية. بياخد من الناس. بيطلع بقرشين كويسين.

أسأل ونحن نلج منزلنا: هي ماما عندها كم سنة؟

يرد في اقتضاب: ستة وعشرين.

٥

نترك ترام رقم ۳ عند نهايته في ميدان «العباسية». نستقل الترام الأبيض الذاهب إلى «مصر الجديدة». ننطلق بحذاء ثكنات الجيش الإنجليزي. الطريق تحفُّ به الأشجار. ضوء النهار يوشك أن يتلاشى. مستشفى عسكري: شرفات خشبية في مبانٍ من طابقٍ واحد.

نغادر الترام في محطته الأخيرة بميدان «الإسماعيلية». مقهى محاط بالزجاج. عجوز أرمني يدير صندوق بيانولا. صالة باتيناج. شارع مظلم به منازل ذات حدائق مسورة. روائح الياسمين. باب حديدي مغلق تتوسَّطه سلسلة بقفل. ندخل من بابٍ جانبي. ممر مرصوف ببلاطٍ ملون. درجات رخامية عريضة. الباب المطلُّ على السلم مغلق. لا يستعمل إلا في الصيف. نطرق الباب المجاور. تفتحه «سعدية» زوجة البواب. ضئيلة الجسم شاحبة الوجه. يُرحِّب بنا عمو «فهمي» زوج أختي: أهلًا أهلًا، البيت نور. طويل وعريض في روب من الصوف السميك الكاروهات. سيجارته في يده. يعمل محاسبًا في شركة أجنبية. يتقدمنا بنشاطٍ إلى غرفة التَّرَسينة القبلية. أرضها من الخشب. يخلع أبي معطفه. يتناوله منه عمو «فهمي». نجلس فوق كنبةٍ في مواجهة الباب. أمامنا مائدةٌ معدنيةٌ فوقها صندوق «طاولة» مغلق.

تنضم إلينا «نبيلة». أختي من أبي. نحيفة مثلي وشعرها ناعم وطويل. ترتدي روبًا من الكستور وفي قدمَيها مانتوفلي وردي اللون تعلوه وردةٌ من قماش منفوش. يبدو منه جورب أبيض سميك. في يدها مقلِّم أظافر. تُقبِّل أبي في خده فيرد القبلة بصوت مسموع. تصرخ ضاحكة: شنبك بيشوك. تجلس إلى جواره من الناحية الأخرى. تواصل تقليم أظافر يدها. تحني رأسها لأن نظرها قصير.

يسأل أبي عن «شوقي» و«شيرين». تقول أختي إنهما عند «سميرة». يجلس زوجها على مقعد في مواجهتنا. يرفع غطاء صندوق الطاولة. تقول أختي: سيبه ياخد نَفَسه الأول. يبتسم في حذرٍ وهو ينظر إلى أبي بعينَين ضيقتَين. يمر بيده على شاربه القصير. يستخرج علبة سجائر معدنيةً من جيب الروب. ثلاث خمسات. يفتحها ويلتقط منها سيجارة. يُشعلها بولاعةٍ مبططة. أصابعه سمينةٌ مدورة الأطراف ومقصوصةٌ بعناية. أطرافها مكسوة بلون النيكوتين الأصفر.

يسأله أبي: ولاعة جديدة؟

– «رونسون»، تضغط عليها تولع وتنطفي من نفسها.

يدلي يده اليمنى في حذرٍ بجوار المقعد وينفض رماد السيجارة. لا تغيب هذه الحركة عن أختي فتُخاطبه في حدة: فين الطفاية؟ يقوم مسرعًا وهو يحافظ على ابتسامة متكلفة: حاضر يا ستي. يجذب منفضة السجائر من فوق مائدةٍ صغيرةٍ بسيقان رفيعة مذهبة. يضعها بجوار صندوق الطاولة. يتطلَّع إلى وجهه في مرآةٍ مستديرةٍ على الحائط المواجه. يسوي شعر رأسه الخفيف بيده اليسرى. تضع أختي المقلِّم جانبًا وتتناول مشطًا تُجريه في شعرها الناعم الطويل.

يُوجِّه عمو «فهمي» نظرةً جانبيةً حذرةً إلى أختي: أبيض ولَّا أسود يا «خليل» بيه؟ يعتدل أبي في جلسته ويُشعل سيجارتَه السوداء يسحب منها نفَسًا ثم يضعها على حافة المنفضة. يلقي بالزهر. أنحني فوقه لأرى النتيجة. يبعدني بساعده. يقول: أسود، زي حظي.

تُحضر «سعدية» صينية الشاي الأخضر. يقدم لنا عمو «فهمي» صندوقًا مستطيلًا من الصفيح. أتناول منه قطعة شكولاتة في حجم الليمونة. أفكُّ غلافها المفضض. أبسط ورقة الحظ الشفافة وأقرأ: «يا مسهرني.» يكمش أبي ورقته ويلقي بها في المنفضة. ألتقطها وأبسطها. «نجاح مؤكد فيما أنت مقدم عليه».

تقلب أختي صحيفة «الأهرام». تقول إنها تريد أن ترى «إليزابيث تايلور» في فيلم «ليدي هاميلتون».

أتسلَّل مُغادرًا الغرفة. إلى اليمين حائطٌ يفصل بين المطبخ والردهة. يأتي من خلفه صوتُ حركة «سعدية». إلى اليسار باب يؤدِّي إلى الصالة. مائدة الطعام بين بوفيهات ضخمة تعلوها مرايا مستطيلة. راديو «جروندج» كبير الحجم. أدور حول المائدة حتى غرفة المسافرين. بابها مغلق. أتطلع من ثقب المفتاح. أتبيَّن في الظلام هيكل الباب المؤدي إلى الفرانده. ألفُّ حتى غرفة النوم. أفتح بابها وأدخل. دولاب عريض تتألَّف واجهته من ثلاث مرايا متجاورة. بجواره شماعة خشبية مغطاةٌ بقماش أبيض نظيف. سرير بأعمدة نحاسية. فرش مرتَّب بغطاء من الدانتلا كالذي كان عندنا في المنزل القديم. أتجه إلى المرآة المجاورة له. أسفلها صفٌّ من زجاجات الروائح وعلب الكريمات: «شانيل ٥». «كولونيا» «أتكينسون». علبة «ماكس فاكتور». زجاجة زرقاء مثل التي كانت عند أمي. أتحسَّس الزجاجات وأشم روائحها.

أخرج وأغلق الباب في هدوء. أنتقل إلى غرفة الأولاد. أفتح بابها. سريران متواجهان بجوار كلٍّ منهما مكتب صغير. فوق كلٍّ منهما مقلمة ملونة ذات غطاء متحرك يكشف عن أماكن للأقلام والممحاة والبراية. دولاب عريض. كل شيءٍ مُرتَّب ونظيف. فوق الدولاب صندوق الكرتون الملون. تنزله أبلة «نبيلة» وتضعه فوق السجادة. تستخرج منه عددًا من القضبان الحديدية. تصلها ببعضها البعض على شكل دائرة. تضع فوقها عربات قطار. سيمافور ومزلقان ثم محطة. سلم بدرجات صغيرة. الأجزاء كلها بألوانٍ لامعة. ليس بها خدش واحد. تُدير الزنبرك فينطلق القطار ويلف الدائرة وسط الأنفاس المبهورة. ممنوع اللمس. تُدير الزنبرك مرةً أخرى. وبعد لفتَين أو ثلاثٍ تقول: كفاية. تُعيد كل شيءٍ إلى الصندوق ويختفي فوق الدولاب.

أغادر الغرفة وأغلق بابها. أخرج من باب الصالة. أعبر الردهة إلى الطرقة المجاورة للمطبخ. الثلاجة الخشبية التي تغلق في الشتاء ويوضع الثلج فوق أنابيبها في الصيف. أتجاوزها وأمر بالحمام الأفرنجي. في نهايتها الحمام البلدي. أفتح بابه. أقف فوق القدمَين الرخاميتَين البارزتَين بجوار فتحته. أتبوَّل. أغادر الحمام. أغلق بابه خلفي. أدخل الحمام الآخر الكبير. تواليت أفرنجي ودوش أعلى البلاعة. أغسل يدي وأتأمَّل محتويات رف المرآة. صابون «سلكت». علبة أمواس «جيليت». أنبوبة. «كولينوس». مرهم «زامبوك» للبشرة وإزالة الشعر. «نولين» لفرد الشعر. برطمان «بریلكريم». أنزع غطاءه. أزيل قطعةً بإصبعي. أدعك بها شعري. أعيد الغطاء مكانه. أتأمَّل شعري في المرآة. أكرت كما هو بلا تغيير. أغادر الحمام. أتوقف قرب غرفة الترسينة.

صوت أبي: بتشوفي أخوك؟ صوت أختي: قليل، وأنت؟ – لسه مقاطعني من ساعة ما ماتت المرحومة وعرف إني متجوز. – و«روحية» عاملة إيه؟ صوت أبي: زي ما هي. – والتركية؟ اسمها إيه؟ بسيمة؟ متربعة فوق كنبةٍ مغطاةٍ بقماش ملون وأنا إلى جوارها. بيضاء سمينة. ترتدي فستانًا أحمر لامعًا وتغطي رأسها بطرحة بيضاء. على الجدار صورة ضابط كبير ذي شارب ضخم فوق جواد وسيفه مرفوع في يده. تُعطيني قطعةً كبيرة الحجم من الشوكولاتة. أمزق غلافها الأحمر المذهب من جانب وأقضم قطعةً ثم أعيد الغلاف مكانه. أضعها في جيب سترتي. بعد قليلٍ أخرجها وأقضم قطعةً أخرى. همهمة أصوات في حجرة المسافرين المجاورة. أميز صوت أبي وصوت رجل آخر. السيدة السمينة تصغي للأصوات في اهتمام. تكتشف أني أرقبها. تنادي على الخادمة وتأمرها بفتح الراديو. موضوع فوق رف صغير على الحائط المواجه. مغطى بغلاف من القماش الأبيض. تسألني عن سني. أقول: تسعة. تنصت للراديو. حوار ثم موسيقى. أتجرَّأ وأسألها: إيه ده؟ تقول: فيلم. – فيلم إيه؟ – الماضي المجهول. أتعرف على صوت «ليلى مراد» تغني: «منايا في قربك أشوفك بعيني.» أنهض وأقترب من حجرة المسافرين. الباب ذو المربعات الزجاجية موارب. أنصت للحديث. صوت الرجل: الولد كبير. صوت أبي: لكن مجتهد في دروسه ويسمع الكلام. يخرج. يأخذني من يدي ونتجه نحو باب المسكن. السيدة السمينة اختفَت لكن «ليلى مراد» ما زالت تغني.

صوت أبي: بريتني وكل واحد راح لحاله.

أختي: بطل بأه يا بابا.

والله أنا اتجوزتها لما غلبت مع الخدامات والطباخات.

– إنت يا بابا محدش يقدر يتحملك.

يسأل أبي عن «سميرة» أخت عمو «فهمي». تقول إنها مشغولةٌ بتجهيز ابنتها من موبِيليات «السمري». تسأله عن عمي. تقول إنه لم يظهر منذ العيد الماضي. يتوقف الحديث ويتردد صوت الزهر وهو يصطدم بقاع الطاولة. صوت عمو «فهمي»: الظاهر إنهم حيقفلوا بيوت الدعارة. صوت أختي: والبنات تروح فين؟ – ينزلوا الشوارع بأه.

أدخل غرفة الترسينة. يتوقَّف الحديث. أقف إلى جوار أبي. يلعب بغير حماس. ينتهي الدور بانتصار زوج أختي. يُغلق أبي الطاولة قائلًا إن الدنيا ليَّلت ويتعين أن نذهب. يغادر عمو «فهمي» الغرفة ليحضر علبة سجائر جديدة. يميل أبي ناحية «نبيلة» ويهمس لها بشيء. تهز رأسها بالرفض. ينهض أبي واقفًا. يعود عمو «فهمي». يحلف علينا بالبقاء. تنضم إليه أختي: باتوا هنا. العشا جاهز. تفرش لنا مرتبة وثيرة على الأرض تغطيها ملاءة نظيفة لها رائحة مميزة. ربما زهرة الغسيل مع الديتول. المخدات طرية ونظيفة وليست متعجنة متخشبة كمخداتنا. اللحاف أيضًا نظيف ورائحته حلوة. يرتدي أبي جلبابًا مخصصًا له. أبيض زي الفل. يظل النور مضاء وتأتيني أصوات زهر الطاولة.

يصرُّ على موقفه. تحضر أختي بنطلون بيجامة صغيرًا وردي اللون. – فاكر يا بابا البيجامة دي. إنت جبتهالي وأنا في الابتدائية. كنت حارميها وبعدين قلت تنفع. تقربها مني وتقيس طولها على ساقي. تلفها في صحيفة. يأخذها أبي صامتًا. يشعل عمو «فهمي» نور السلم.

– ما تغيبش علينا يا بابا.

– تصبحوا على خير.

السلم يُضيئه مصباحٌ في كل طابق، لكن مصباح الطابق الأرضي مطفأ. نتقدَّم في الظلام حتى الباب الخارجي. أنصت لصوت الكلاب. أتعلَّق بيد أبي. نخرج إلى الشارع. رائحة الزهور من حدائق الفيلات. نقف عند محطة الترام. تمر سيارة على مهل. يميل سائقها على امرأة بجانبه ويقبلها في فمها. أضع ذراعي على ساعد أبي لألفت نظره إلى الأمر. – في إيه؟ لا أرد.

نسمع صوت الترام قبل أن يظهر. ينطلق بنا في سرعةٍ هائلة. تتأرجح العربة يمينًا ويسارًا. أبي متجهم. أسمعه يغمغم: قلبي على ابني انفطر وقلب ابني عليَّ حجر. المحطات خالية فنجتازها دون توقف.

ننتقل في «العباسية» إلى الترام الآخر. نغادره في الميدان. نعبر الشارع. نتوقف أمام مخبز «عبد الملاك» الأفرنجي. يشتري أبي كيسًا من الكعك الهش المرشوق بالسمسم. نمضي في طريق جانبي كي لا نمر على دكان البقال. الحارة مظلمة ومدخل منزلنا أيضًا. ندخل الشقة في الظلام. مصباح الصالة محترق. أتعلَّق بملابس أبي حتى يفتح باب حجرتنا ويضيء مصباحها. يعدُّ كوبًا من الماء المحلى بالسكر. نضع المائدة الصغيرة أمام السرير ونجلس حولها. نغمس البسكوت في الماء. يقول إن بيتنا أحسن مكان في الدنيا.

٦

أفتح كراسة العلوم القديمة. أتأكد من وجود ريش الطيور المثبت في الصفحات. أتوقَّف عند الهدهد الذي أحبه. يخفت ضوء المصباح الكهربائي ككل ليلة. أتناول كتاب تاريخ مصر الفرعونية ذا الغلاف الأزرق. أقلِّب صفحاته متأملًا الرسوم. «مينا» ذو التاجَين. ينتهي من صلاة العشاء فوق السرير. يترجَّل. يضغط الطاقية الصوفية فوق رأسه وحول رقبته. يُحكم روبه حول جسده. يضم قبضتَيه ثم يسندهما إلى حافتي جيبيه. يقطع الغرفة جيئةً وذهابًا. «يضرب بلطة» كما يقول. يراها ضروريةً بعد تناول العشاء.

أشكو من البرد. يُحضر وابور الجاز من الصالة ويُشعله ويضعه عند الباب قرب حافة السجادة. يتمزَّق غلاف كراسة. أعهد إليه بإعادة تغليفها. أُناوِله فرخ ورق التجليد الأصفر. أُحضر له المقص فيرفض استخدامه. يجلس فوق حافة الفراش يطوي الورقة ويمرُّ عليها بأصابعه عدة مرات. ثم يمزِّقها عند الثنية بعناية. ينفصل فرخ الورق إلى قسمَين متساويَين ليس بهما أثرٌ القطع. يضع أحدهما جانبًا ويضع الكتاب بين دفتي الآخر. يثني الورقة داخل الغلاف الأمامي للكتاب ثم يطوي حافتها العليا. يدسها بين الورقة والغلاف. يكرِّر الأمر عند الحافة السفلى. ثم ينتقل إلى الغلاف الخلفي ويكرر العملية.

يدق باب الغرفة. أفتحه لعمو «كريم» الكونستابل. يرتدي معطفًا عسكريًّا أسود فوق جلباب أبيض. له شارب كثيف يمتد بحذاء شفته العليا. يرحِّب به أبي ويُومئ له أن يجلس على حافة الفراش. أعود إلى مكتبي. يُصبح ظهره لي. أتشمَّم رائحة معطفه العسكري التي أحبها. يتربَّع أبي فوق السرير. يستدير بجسمه قليلًا حتى يُصبح في مواجهتنا أنا والكونستابل. يسند ظهره إلى حافة القائم الحديدي عند رأس السرير.

يُخرج الكونستابل من جيب معطفه علبة سجائر «هوليوود». يقدم واحدة إلى أبي فيعتذر. يُبرز علبة سجائره السوداء. غلافها الأصفر يتوسَّطه رأس حبشي أحمر. يشعل الكونستابل عود ثقاب. يمد يده. يحني أبي رأسه مقربًا سيجارته. يبقي طرف السيجارة في النار حتى تتوهَّج. أحمل منفضة السجائر من فوق المكتب وأضعها بينهما فوق الأغطية. يضع الكونستابل ساقًا على ساقٍ ويشبِّك يدَيه فوق ركبتَيه. تظهر ساعة ذهبية في معصمه.

يتطلع حوله. يقول: إنت معندكش رادیو ولَّا إيه؟

– الراديو بتاعنا بيتصلح.

أعرف أن هذا غير صحيح. فقد باعه أبي من زمن. يواصل الكونستابل كأنه لا يصدق أبي: فيه راديو فيلبس ب ۱۲ جنيه.

– يعني ماهية شهر.

– ده سعره بالتقسيط.

يقترح على أبي أن يلعبا الدومينو. يستخرج من جيبه كبشة قصاصات متساوية من ورقٍ سميكٍ رمادي اللون. يسوي أبي الأغطية. يجذب وسادة الرأس الطويلة فيثنيها ويضعها بينه وبين الشاب. يطلب مني أن أناوله نظارته من فوق المكتب. يضع «كريم» الأوراق فوق الوسادة. يتناول أبي إحداها ويتأملها. يقول الكونستابل إنها تذاكر القطار الذي يستقلُّه عندما يزور أمه. يخلط الأوراق بين راحتَيه مثل الكوتشينة. يضعها فوق الوسادة. يختار كلٌّ منهما ٧ ورقات. يسند أبي سيجارته إلى حافة المنفضة. يصُفُّ الورقات على راحتَي يدَيه. يقيمها على حدَّي الكفَّين بحيث يبعدهما عن نظر الآخر. يفعل الآخر المثل. يكشف ورقة ويضعها في منتصف الوسادة. يقول: دبش. التضمين من ١٠١.

يلحظ أبي أني أتابع اللعب فينهرني. يطلب مني أن أنهي واجباتي وأرتِّب حقيبتي. تسقط ورقة دومينو على الأرض فأسرع بالتقاطها. عبارة «المطرية – كوبري الليمون» مكتوبة بالأسود على أحد وجهَيها. على الوجه الآخر دوائر مرسومة ومسودة بقلم الكوبيا. في أحد جانبَيها أثر مقرض على شكل مثلث صغير.

ينتقي أبي من ورقه واحدة. يلصقها بالدبش قائلًا: دو. يضع الكونستابل ورقة. يضطر أبي للسحب من كبشة الأوراق. يروي قصة «أبو شبت» الذي رأيناه في الكنيف. يقول «كريم» إنه يتسلل إلى أماكن الجسم الدافئة خاصة بين الفخذين أو أسفل الركبة. يكمن بها حتى يشعر بالحرارة. عندئذٍ يلدغ ويقتل. يقول أبي إنه نوع من العناكب وغير مؤذٍ. يضيف: الشقة لازم تتبيض.

يقول الشاب: أو الواحد يدور على مكان تاني.

– رجلي على رجلك. إنما فين؟ كنا فاكرين السكن حيرخص بعد ما الإنجليز خرجوا من «القاهرة». لكن الدنيا بقت نار.

– سمعت حضرتك عن شقق الأوقاف؟

– أيوه. الوزارة حدَّدت إيجار الأوضة الواحدة فيها بخمسة جنيه. يعني الشقة توصل لعشرين أو تلاتين جنيه في الشهر. يعمل إيه الموظف اللي مرتبه بين ١٠ و١٥ جنيه؟

– جهار يك. أنا حاكلم الحاج «عبد الرازق».

– مين ده؟

– تاجر كبير في وكالة البلح. بيبني عمارة في آخر شارع «النزهة».

يحكي أنه في الأصل بائعٌ متجول للزجاج. وقبل الحرب تعاقد مع شركة أدوية على أن يورد لها عشرة آلاف زجاجة فارغة. الواحدة بمليمين. كان سيكسب في الصفقة كلها عشرة جنيه. وفجأة قامَت الحرب وفسخت الشركة الاتفاق. اضطر للعمل في معسكرات الجيش الإنجليزي. وبعد الحرب ارتفعت الأسعار ووصل ثمن الزجاجة الفارغة إلى ٤ قروش. فباع كل ما عنده لمصنع بيرة ﺑ ٤٠٠ جنيه وأصبح لديه رأسمال.

يقول أبي: يرزق من يشاء بغير حساب.

يهزُّ الكونستابل رأسه. يقول إن الحظَّ له عمايل. وإنه يعرف واحدًا اشترى مخلفات معسكر بريطاني ﺑ ١٠٠ ألف جنيه. ووجد فيها كمية براميل ضخمة من الصلب. وعندما فتحها وجدها محشوة بإطارات السيارات. باعها بخمسين ألف جنيه.

أسعل بشدة. يقوم أبي إلى باب البلكونة ليواربه كي تتخلَّص الغرفة من دخان السجائر. يقول «كريم» إن الناس تؤلف الآن جمعيات من عدة أفراد يدفع الواحد منهم مبلغًا كل شهرٍ ويقبض أنصبة الآخرين. يلزم أبي الصمت ولا يعلق.

يخلط الكونستابل أوراق الدومينو ويضعها على الوسادة: إذا كان عندك فائض من كوبونات السكر والكيروسين ۱۸ لتر أشتريهم. يصيح بي مدرس الحساب: مد إيديك. أبسط يدَيَّ الباردتَين وراحتَيهما إلى أسفل. يرفع المسطرة في الهواء. يُديرها ليهبط بسنها على ظهر يدي. أقول إني أحضرت كوبونات الكيروسين. يبعد المسطرة.

ضجَّة في الحارة. يتعالَى صراخ أكثر من شخص. يتلاشى بعد قليل. يقول الكونستابل: ده الراجل اللي متجوز اتنين.

يستفسر أبي عن سكان البلكونة المقابلة. يقول الكونستابل إنه طالبٌ في الطب مع أختَيه، وإنهما تقفان طول الوقت في البلكونة في انتظار العَدَل.

– والبنات اللي في أول الشارع؟

– دول ولاد «صبري» أفندي الموظف في وزارة الحقانية. أكبرهم اسمها «سهام». طول الوقت واقفة في الشباك. مستنية العَدَل هي كمان.

– والست اللي فوقينا؟

– حلوة، مش كده؟ دي ممرضة. الظاهر مطلقة أو أرملة. ساكنة وحدها مع ابنها.

يقول أبي: يا ريت ألاقي واحدة طيبة بنت ناس ترضى بشيبتي وتربیلي الولد. تعبت من الخدامات والطباخات.

– وتتجوزها؟

– آه. بس تكون مبتخلفش.

– يمكن ألاقيلك واحدة عندنا في البلد.

نتشاجر أنا وابن الطباخة. تعامله «بسيمة» كأنه ابنها. أنتظر في الصباح حتى تخرج من غرفة النوم إلى الحمام. أدخل لأشكو لأبي. واقف بجوار السرير. يثبت حزام الفتاق. وجهه متجهم. فوق كوميدينو بجوار الفراش زجاجة صغيرة عليها صورة أسد.

يغادر الكونستابل الغرفة ويعود بقطعة قماشٍ وبيجامتَين. القماش سميكٌ ذو لونٍ بنيٍّ داكن. يقول أبي وهو يفحصه: ده قماش ستاير. يقول الكونستابل: وينفع بدلة. يبسط البيجامتَين. واحدة بيضاء مخططة. لها زراير من الصفيح. يقول أبي: دي بتاعة أسرى الحرب. يطلب مني ارتداءها. أجدها على مقاسي. الأخرى لونها سمني. بزراير من الصدف. يقول إنها خفيفةٌ تصلح للصيف. يستمهله أبي حتى أول الشهر.

يقول الكونستابل: خلِّي عنك. من غير فلوس. يضع أبي القماشَ والبيجامتَين جانبًا. يقول الكونستابل: عندي کمان شرابات نایلون للستات. يضحك أبي: إنت شايف حد منهم هنا؟

٧

يضع كوبًا من الماء فوق سطح المكتب. يُخرج من الدولاب المرآة ذات الإطار المعدن «المكسور» وصندوق الكرتون الصغير الذي يحوي عدة الحلاقة. يضعهما على المكتب ويجلس خلفه. يدس الفرشاة ذات القاعدة الخشبية والطلاء المقشور في الماء. يدعكها في قطعةٍ من الصابون على شكل شمعةٍ بغلافٍ من ورقٍ مفضض. أسأله إذا كان ينوي الخروج. لا يرد عليَّ. يدهن ذقنه عدة مراتٍ حتى يصنع رغوة كبيرة. يفض غلاف الموس البنفسجي. يُحرك حافته فوق كفه السمين جيئة وذهابًا. يضعه في ماكينة الحلاقة المعدنية. يمر بها على ذقنه ثم يخلصها من الصابون في كوب الماء. يكرِّر ذلك عدة مرات. يُصبح خداه ناعمَين كالحرير. يتناول الفوطة الملونة من فوق حافة الفراش. يزيل بها آثار الصابون من وجهه. ينهض واقفًا ويبدأ في ارتداء ملابسه. يتناول البزة الزرقاء. يثبت حمالتَي البنطلون في كتفَيه. يرتدي الصدرية. من قماش البزة ولونها. ظهرها من قماشٍ حريريٍّ أسود اللون. يتدلَّى من جانبَيها طرفَا الإبزيم الذي يحبكها على الجسم. يُعطيني ظهره لأتولَّى تعشيق الطرفَين. أتوسَّل إليه أن يأخذَني معه. يرفض: لا، إنت وراك مذاكرة. يشير إلى المكتب: تقعد هنا متقومش، أنا مش حتأخر.

يمسح سطح طربوشه بكُم سترته. يطوي طرفَي شاربه داخل فتحتَي أنفه ثم يطلقهما. يبرمهما بأصابعه. يفتح مصراع البلكونة الزجاجي ويرفع شنكل الباب الخشبي. يدفعه إلى الخارج ويُثبته بالشنكلَين الجانبيَّين. يغلق المصراع الزجاجي. أطلب منه أن يُغلق باب الغرفة خلفه. أنصت إلى صوت إغلاق باب الشقة وخطواته المتمهلة على السلم.

يبتعد صوت قدمَيه. أغادر مقعد مكتبي أتخلَّص من البطانية التي أحيط بها جسدي. أجذب باب الدولاب الموارب. أبحث بين الملابس المتناثرة في غير نظام. أجذب مقعد المكتب. أقف فوقه. أرى الكتاب مدسوسًا في جانبٍ من الرف العلوي. أحضره الكونستابل وأردت أن أتصفَّحه فنهرني أبي. الكتاب صغيرُ الحجم وبلغةٍ أجنبيةٍ مطوي على صفحةٍ بها صورة تمثال لامرأة عارية. أتبين اسم «فينوس» في سطر أسفل الصورة. أقلِّب الصفحات. أعيده إلى مكانه.

أتفحَّص محتويات الرف. زجاجات دواء. أنبوبة زجاجية رفيعة بها ورقة حمراء: حبوب «كارتر» لعسر الهضم. «بلمونكس» للسعال. زجاجة «أسبرو». قطرة «بروتكتين». نصف ثمرة من جوزة الطيب. يضع أبي نتفة منها تحت لسانه عندما يشرب القهوة. برطمان به مسحوق بيكربونات الصودا. يُذيبه في الماء ويستنشق منه. بقايا متسخة من عروسة المولد النبوي. حبتان من ثمرة «القراصيا» السوداء. يستخدمها أبي ضد الإمساك. كتاب بغلاف ملون يحمل عنوان «رسول الملكة». الصفحة الداخلية بها إعلان عن «كرسي الظايط» وآخر عن براندي «أوتار». كاسات الهواء مرصوصة في نظام فوق بعضها. دفتر حكومي كبير يحوي مذكرات أمي. تكتب فيه بالقلم الرصاص بحروف كبيرة. ينتهي السطر فتترك السطر التالي وتواصل الكتابة. تقرأ لأبي بعض ما كتبَت. أسمع اسم «هتلر» و«غاندي» و«مایلز لامبسون».

علبة صغيرة بها بطاقات باسم أبي. ليسَت هناك كلمة «بك». يقول إنها لا تُكتب إلا إذا كانت البكوية من الدرجة الأولى أما بكويته هو فمن الدرجة الثانية. صورتان قديمتان في حجم الكارت بوستال. الأولى رمادية يتوسطها إطار بيضاوي. داخله طفل يرتدي فستانًا طويلًا مزركشًا وصندلًا أبيض. تُحيط بعنقه فوطة بيضاء تتدلَّى فوق صدره. يقف فوق درجة سلم. يده ممسكةٌ بسياجٍ حجريٍّ. تفاصيل الوجه غير واضحة. أقلِّب الكارت بوستال. في الخلف اسمي كاملًا مع اسم أبي بخط أمي.

الصورة الثانية لأبي جالسًا بالطربوش والكرافت. بين ساقَيه يقف طفل صغير في «بارباتوز» من قطعتَين. الأولى تبدأ من الرقبة والثانية تصل حتى الركبتَين. الصورة غير ملونةٍ فيما عدا ملابس الطفل. لونها أخضر بشريط أصفر حول الرسغين وحول الوسط. على ظهر الصورة اسمي واسم أبي أيضًا. الخط لأمي.

أبحث في بقية الرفوف. كتاب «طبيب العائلة». أقلِّب صفحاته. وجوه مشوهة في صفحة مصقولة. كتاب عن صلاة الجمعة به «الفاتحة» وبعض الأدعية. «بردة البوصيري». «المحاسن والأضداد» ﻟ «الجاحظ». صفحة مثنية الطرف. في رأسها عنوان «محاسن النكاح». عدد من مجلة «مسامرات الجيب». فوق الغلاف صورة ملونة لممثلةٍ أجنبيةٍ جميلة. دائرة في الركن حول ثمن المجلة: «٢٠ مليمًا». ألقي بها فوق الفراش. كتاب ضخم تتدلى من بعض صفحاته قصاصات من الورق الأبيض. أحمله وأهبط.

أرتقي الفراش وألتف بالأغطية. أقلِّب صفحات المجلة. صورة فتاة عارية الظهر إلا من كلسون صغير. أتوقف عند النكات المرسومة. أغلبها تصور رجالًا بكروش بارزة يدخنون سيجارات كبيرة. أثرياء الحرب. رسم لرجلَين بعنوان «في المعرض الزراعي الصناعي». يقول أحدهما: إنت ازاي جايب حماتك معاك في المعرض؟ يرد الثاني: قلت آخذها، ربك كريم، يمكن تتوه منا في الزحمة. واحد يقول لآخر: الأسعار مولعة. يلَّا نتدفَّی.

ألقي المجلة جانبًا وأتناول الكتاب الضخم: «شمس المعارف الكبرى». الورق أصفر اللون. الكتابة بحرف النسخ في مستطيلات وسط الصفحات وحولها من كافة الجهات الحروف صعبة القراءة. هناك دوائر ومربعات مقسمة إلى خانات تضمُّ أرقامًا وحروفًا. أفتح الصفحات التي تتدلَّى منها القصاصات. فائدة للصلح بين الرجل وزوجته. فائدة لتكثير المال. فائدة لإذهاب النسيان. فائدة لطول العمر. فائدة لإخراج الحشرات من البيوت. فائدة لتسهيل الفهم والحفظ. لرد البصر. لمنع النفس عن الشهوات. لجلب الرزق من غير تعب. للاختفاء عن أعين الناس. لقضاء الحوائج والدخول على الحكام. للبليد وإعانته على الفهم والحفظ.

أغلق الكتاب وأعيده مكانه في الدولاب هو والمجلة. أستخرج الهون النحاسي الصغير من أسفل الفراش. أصبُّ به قليلًا من السكر ونصف محتويات كيس حمص. أتربَّع على حافة السجادة قرب الباب. أضع الهون أمامي على البلاط. أدق الخليط بيد الهون. أستمر في الدق حتى يتحوَّل الخليط إلى مسحوقٍ أصفر ناعم. أزيل كتلةً منه التصقَت بيد الهون. أتذكَّر أن الملاعق كلها بالصالة. أتطلَّع إلى الباب المغلق. أحمل الهون في يدي وآكل منه بأصابعي.

أقف خلف باب البلكونة. حبة الحلبة المزروعة داخل قطنةٍ في كوب. نبت لها ساقٌ خضراء دقيقة. الهواء يهزها. البلكونة المقابلة مضاءة. الشيش مفتوح لكن الزجاج مغلق. تتطلَّع إليَّ إحدى الأختَين من خلفه. تخرج «أم صفوت» من باب المنزل. بيضاء طويلة. عارية الرأس. شعرها الناعم قصير. حول رقبتها كوفية ملونة. وجهها مغطَّى بالمساحيق. يلحق بها ابنها. في سني. يرتدي بزةً مكوية. يسير منكس الرأس. تصرخ فيه.

أنكمش من البرد. أضع الهون فوق المائدة. أتناول ثمرة يوسفندي. أقشرها وألقي بالقشر والبذر أسفل السرير. أنحني وأجذب الحقيبة الكبيرة المنبعجة الجانب. أرفع الغطاء. سطحه الداخلي مغطًّى بورق أزرق اللون. كتب ممزقة الصفحات. بعضها يحمل شخبطة بالقلم الرصاص. كتاب ذو غلافٍ ملون مرعب عنوانه «القصر المهجور». حزام عسكري رفيع من الصوف الزيتوني اللون ذو طرفٍ نحاسيٍّ يُستخدم في ربط الحقيبة عند العزال. دفتر شيكات قديم. كمامة وقاية من الغاز. قطع صغيرة من أقلام رصاص. علب ثقاب فارغة. مطفأة سجائر من الخزف. التماثيل الصغيرة خلف الباب الزجاجي لخزانةٍ مغلقةٍ دائمًا. صينية مستديرة بقاع من الخزف الملون برسومٍ يابانية. أخرى مستطيلة ذات سياجٍ معدني مخرم. أضعها أمامي على السجادة وأدفعها وأنا أنفخ مرةً كالقطار ومرة كالسيارة. أصف مقاعد السفرة في طابور. أعلق شنطة الكمساري في كتفي. دفتر التذاكر في يدي. صنعها أبي من أوراقٍ ملونةٍ وثبتها بقطعة دوبارٍ في لوحٍ من الكارتون.

أعيد الغطاء إلى مكانه. أستخرج المراكب المصنوعة من الورق. يصنعها أبي ببراعة وسهولة. أحملها إلى الفراش وأرصُّها. القوارب الصغيرة أولًا ثم البوارج الأكبر. أقسمها إلى مجموعتَين متواجهتَين. لكلٍّ منهما سفينة قيادةٍ يميزها عود كبريت في مقدمتها. تدور المعارك بين المجموعتَين وتصاب عدة مراكب فتقع على جوانبها. أملُّ بعد قليل.

فوق المائدة لفافة من الجبن الرومي وأخرى من البسطرمة. أتناول نصف رغيف من فوق المائدة. وأضع فيه شريحة بسطرمة. يتناهى إليَّ صوت الأولاد في الحارة. أهرع إلى البلكونة. أولاد في سني وأصغر يُمسكون بملابس بعضهم البعض على هيئة قطار ويلفون الحارة. تتصاعَد أصواتهم: يا وابور يا مولع حط الفحم. يكوِّنون حلقةً ويدور أحدهم من خلف ظهورهم. يصيح: الثعلب. يردون في صوتٍ واحد: فات فات. – ودیله؟ – سبع لفات. – والدبة؟ – وقعت في البير. – وصاحبها؟ – واحد خنزير. – ما فتش عليكو الديب الديب السحلاوي؟ – فات فات. يطل من النافذة بطاقيته البيضاء المربعة وسيجارته السوداء. عسكر وحرامية. ألعب بجرأة ولا أخشى الأولاد.

صوت «رجاء عبده» من راديو «أم زكية». تختفي الشمس. أشعل المصباح الكهربائي. البطانية باردة. يهزُّ الهواء باب البلكونة. أتناول كتابًا باللغة الفرنسية. من كتب «نبيلة» المدرسية. أقلِّب صفحاته. رسم لرجل تحت المطر. يتغطى بحرملة واسعة. ويرفع مظلة فوق رأسه. شارع خالٍ. قارب. أرهف السمع.

يتردد وقع خطوات متمهلة على السلم. تتوقف الخطوات أمام شقتنا. تتواصل صاعدة إلى أعلى. بابا جاي إمتى. جاي الساعة ستة. راكب ولا ماشي. راكب بسكليتة. يظهر عند باب الشقة في ملابسه الكاملة وطربوشه حاملًا کیسًا من الورق في ذراعِه الأيسر. وجهه الأسمر متهلل. ينحني فوقي. يحتويني بين ساعدَيه. يُقبِّلني في خدي ويدفن فمه في عنقي. أزيح وجهي لأتجنَّب شاربه الذي يشك. أقول له: بابا سيب. يُداعب ذقني بإصبعه قائلًا: حطه يا بطه يا دقن القطة.

أخيرًا وقع خطواته. يصعد على مهلٍ وحذاؤه يحتكُّ بالأرض. صوت المفتاح في قفل الباب الخارجي. يفتح باب الغرفة. يدخل ويستدير خلفه: ادخلي يا «أم محمد». تدخل امرأة طويلة شديدة النحافة في رداءٍ ريفيٍّ أسود. تُغطِّي رأسها بطرحةٍ سوداء. وجهها شديد السمرة مليءٌ بالتجاعيد. أنف بارز. عينان ضيقتان. تحمل بقجة كبيرة تحت إبطها. تقف وسط الحجرة. يدعوها للجلوس فوق حافة الفراش. تجلس فتستقر قدماها على الأرض. شراب أسود وحذاء أسود قديم بكعب صغير. تضع البقجة بجوارها فوق الفراش. تتجنَّب النظر إلى أيٍّ منا.

يخلع أبي معطفه ويعلقه في المشجب. يقول لها: تعالي أوريك الشقة وتغيري هدومك. تحمل بقجتها في يدها وتتبعه إلى الصالة.

– الكنيف هناك. بابه ميتقفلش. الحمام متمسمر. غيَّري في أوضة المسافرين.

يتركها ويعود. يخلع سترته. يرتدي الروب فوق الصدرية والبنطلون. ينحني أمام الفراش. يستخرج كيس الشعرية وبرطمان السكر. – تاكل شعرية باللبن؟ لا أرد. يغادر الغرفة وأسمع صوت مكبس الموقد ثم أزيز النار. طشيش السمن. يعود بعد برهة بوجه متجهم: اللبن قطع. تدخل «أم محمد» في ثوب أسود طويل. جورب أسود سميك في قدمَيها. بقجتها تحت إبطها. تضعها على السرير. تجلس على حافته. تستخرج من بقجتها علبة سجائر في حجم الكف. تلتقط منها سيجارة مبططة. يقطب أبي جبينه. يقدِّم لها علبة كبريت في صمت. تُشعل سيجارة. يُحضر أبي حلة الشعرية. تقول إنها ليست جائعة. نأكل أنا وهو الشعرية بالسكر دون لبن.

يقترح عليها أن تتمدَّد على الفراش إذا كانت متعبة. لا ترد. يقول لها: إحنا يا «أم محمد» متجوزين على سُنَّة الله ورسوله. تنهض واقفة. تصعد السرير. تستولي على مكاني بجوار الحائط. أستلقي بجوارها. تأتيني رائحة تراب أو طين. تصطدم ساقاها بقائم السرير. تثنيهما. تصطدم بي ركبتها الصلبة. أبتعد عنها مُقتربًا من حافة السرير. يُطفئ أبي النور ويَستلقي إلى جواري. ألتصق به وأحيطه بذراعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤