الفصل الثاني

١

يظهر «ماجد» أفندي في مدخل الدكان. يرتدي بزةً كاملةً دون معطف. البزة مكوية جيدًا. يلمع وجهه في ضوء المصباح الكهربائي. جبهته غائرة يعلوها شعر أسود مصفف في عناية. أذناه بارزتان. يرحب به الجميع. يصيح «عبد العليم»: أهلًا بالعريس. يبتسم العريس في زهو. يسأله أبي: اتجوزت جِنِّية صحيح؟ يجذبني من يدي لأترك الكرسي. أقف بين ساقيه ويجلس «ماجد» أفندي مكاني.

تتعلَّق به أنظار الجالسين: الشيخ المعمم في الجبة والقفطان و«رأفت» أفندي بجريدة «المصري» المطوية في يده. يواصل أبي: وإزي الحال؟ يفكر «ماجد» أفندي لحظةً ثم يقول: زي أي جواز. يصيح «عبد العليم»: معقول؟ احكيلنا. تشرب إيه الأول؟ – حلبة باللبن. ينادي «عبد العليم» على «عباس» الواقف عند عتبة الدكان ويطلب منه إحضار الحلبة.

يقول «ماجد» أفندي إنها هي التي طلبَت الزواج منه واشترطت عليه ألَّا يتزوَّج عليها وألَّا يتناول الثوم أو البصل في طعام العشاء. يعلق أبي: معها حق. يواصل «ماجد» أفندي: إنه لا ينكر محاسنها؛ فهي تمده بالأموال التي يحتاجها وعند عودته من الخارج يجد الطعام جاهزًا مع جميع أنواع الفاكهة في غير أوانها، كما يجد البيت نظيفًا والملابس مغسولة.

– طيب وأنت زعلان من إيه؟

يقول إنه لا يستطيع السيطرة عليها؛ فهي تحضر فورًا بمجرد التفكير فيها وتنصرف وقتما تشاء. وهي تقرأ أفكاره أولًا بأول فلا يستطيع الاحتفاظ بأي أسرار.

تأتي الحلبة ويتناول منها رشفة. يميل عليه «عبد العليم» ويهمس في أذنه. يقول «جمعة» أفندي: فوق ما تتصور. يخاطب الجميع قائلًا إنها تبذل كل شيءٍ لإسعاده وطرد الملل عن نفسه. وفي بعض الليالي تسأله عن شكل المرأة التي يرغب فيها، وتتشكل في الحال على هيئتها. مرة خواجاية بشعرٍ أصفر ولابسة مايوه. ومرة راقصة شبه «تحية كاريوكا». ومرة في جونلة قصيرة كأنها تلميذة راجعة من المدرسة.

يرين الصمت على الجميع. تدخل امرأة في ملاءة سوداء. تُعطينا ظهرها وتطلب من «سليم» خمسين درهم حلاوة. تتجه إليها أنظار الجميع. تضم الملاءة حول جسدها فينكشف جزءٌ من ساقها. تستقر عينا أبي على باطن ساقها الممتلئ. يُزيح أبي سترتَه ويضع يدَه في جيب الصديري مكان الساعة. يرفع يده اليسرى إلى فمه ويمر بإصبعه فوق شاربه وهو يتبادل نظرةً باسمةً مع الحاج «عبد العليم».

يهب «ماجد» أفندي واقفًا: عن إذنكم يا جماعة، أحسن بتندهلي. يغادر الدكان مهرولًا. أستعيد مقعدي. يقول الشيخ المعمم: البنات مش لاقية جواز وهو يروح يجَّوز جنِّية؟ يبسط «رأفت» جرنال «المصري». يقلب صفحاته ثم يتوقف عند إحداها. – اسمعوا «درية شفيق» بتقول إيه. خطر العنوسة يهدد بنات مصر لأن الرجال مضربون عن الزواج. يقول الشيخ المعمم: الست دي زودتها قوي. النسوان بقوا يزاحموا الرجالة في الوظائف. وآخر بدعة تعيين بنات العائلات مضيفات في الطائرات.

يميل الحاج «عبد العليم» على أبي ويهمس بشيء. يُجيب أبي: مش نافعة. طول الوقت قاعدة جنب البلكونة وفي إيدها سيجارة «كوتاريللي». لا تعرف تطبخ ولا تنضف. تجيب كوز ميه وترميه على الأرض وخلاص. فاكرة إنها قاعدة في البلد وبترش الميه عشان التراب يهدا. يُضيف بعد لحظة: النهارده زعقت فيها. قعدت تبرطم طول اليوم من غير ما أفهم بتقول إيه.

يقترح «عبد العليم» الانتقال إلى الخارج لأن الجو دافئ. يحمل «عباس» مقاعدنا ويصُفُّها على الرصيف بجوار المدخل. ألمح الضوء المنبعث من محل الخردواتي. آخذ من أبي تعريفة وأذهب إليه. أشتري قطعة روبسوس مدورة في وسطها حمصة زرقاء.

عند عودتي أجد الدكتور «عزیز» يحتل مقعدي. له كرشٌ كبير متهدلٌ فوق حافة بنطلونه. أقف بين ساقَي أبي. يسألني الدكتور عن المدرسة. يشكو له أبي من عزوفي عن الأكل. ينصح الدكتور بأن أتناول «أوفالتين» وفيتامينات. يقول له أبي: أنا كمان تعبان، بتجيلي دوخة ومبقاش قادر أقوم من السرير. – ابقى مر عليَّ في العيادة أقيسلك الضغط.

يسأل أبي الحاج «عبد العليم» عن وعد أصحاب المنزل بفتح باب الحمام وتشغيله. يقول «عبد العليم» إنه كلمهم من غير فائدة. يُضيف: ما تروحوا الحمام البلدي في «الحسينية»؟ يهزُّ الشيخ المعمم رأسه: الشخص المحترم ميروحش الحمام البلدي. إنتو عارفين الفضايح اللي بتحصل هناك.

ينضم إلينا قسيس بدين في رداء أسود. رأسه مغطى بما يشبه الطبق الملفوف بقماش مشدود. يسأل «رأفت» أفندي: حد قرا قصيدة «العقاد» الجديدة؟ يستفسر أبي: عن إيه؟ – بيتغزل في شفايف الممثلة «كاميليا». صاحبة الفم الدافئ كما تسميها «أخبار اليوم». يقول الدكتور «عزیز» إنها أصبحت عشيقةً للملك. يقول الحاج «عبد العليم»: مسكينة الملكة «فريدة». يقول «رأفت»: إن بائع بطيخ نادى على بضاعته صائحًا: بطيخ الملك. واشترى أحد المارة واحدةً وعندما شقَّها له البائع تبين أنها قرعة، هنا صاح البائع: بطيخ الملك «فاروق». يضحك الجميع فأدرك أنها نكتة.

أغادر مكاني وألفُّ بحيث أصبح خلفه. أطل على الصحيفة في يده. صورة سيارة شرطة مكشوفة وبها عددٌ من الشبان في حراسة الجنود. السيارة تسير في منتصف الشارع. عربة «سوارس» يجرُّها حماران انتحت جانبًا. يقول «رأفت» أفندي: محاكمة «حسين توفيق» و«أنور السادات» قربت تخلص. الدور بعد كده على الشيوعيين.

يقرأ أحد العناوين الجانبية: الحكومة المصرية تتسلَّم سكة حديد القنطرة. – حيفا من الإنجليز. أبتعد برأسي عندما يطوي الصحيفة. أنظر داخل جيب سترته العلوي الذي يبرز منه منديل أبيض. هناك قلم حبر من غير غطاء وبقعة حبر كبيرة على قاعدة المنديل. يقول في لهجةٍ ساخطة: اليهود ناويين على حرب. واحنا في دنيا تانية. الحكومة بتشتي وبعدين تصيف. والزعماء بيتكلموا عن حاجة اسمها «العمل الإيجابي». ولا حد عارف إيه هو ده العمل الإيجابي.

يتنحنح الحاج «عبد العليم». يقول إن الناس فقدت ثقتها في زعماء الأحزاب وانصرفت عنهم.

يستعد «رأفت» أفندي للدفاع عن حزب «الوفد» وزعيمه «مصطفى النحاس». يخاطبه أبي قائلًا إنه كتب شكوى بشأن استبدال المعاش أرسلها إلى جريدة «الأهرام» لكنها لم تنشرها. يشرح أنه استبدل جزءًا من معاش التقاعد مقابل أن تخصم الحكومة قسطًا كل شهر. – المبلغ خلص وهي لسه بتخصم. ده أفظع من الربا. أنا بفكر أرفع قضية على الحكومة. يسأله المحامي: لما طلبت الاستبدال كنت عارف إنهم حيقعدوا يخصموا على طول؟ يقول أبي إنه كان في أشد الحاجة للنقود. يقول المحامي بلهجةٍ حاسمة: دا تعاقد بينك وبين الحكومة. وأنت وافقت على الشرط ده. العقد شريعة المتعاقدين. يضع ساقًا على ساقٍ ثم يُضيف: على العموم نقدر نطعن فيه على أساس إنه عقد إذعان.

يتحوَّل أبي إلى القسيس: قول یا مقدس، حنفتح المندل إمتى؟ يجلسون حول دائرة مرسومة على الأرض الحجرية. بها مثلثاتٌ ومربعات وكلمات غريبة. يقرأ القسيس بصوتٍ مرتفعٍ من كتابٍ وعيونهم على الأشكال. يوزِّع عليهم أبي أطباق الأرز باللبن.

يُبدي الشيخ المعمم امتعاضه. يُخاطبه الحاج «عبد العليم»: الله سخَّر الجان لسيدنا «سليمان». إحنا حنكلم الجن المسلم المؤمن. ومش طالبين حاجة وحشة. بس يرفع لنا الكنز من باطن الأرض.

يتحدث أبي عن تجربته في استدعاء خادم اسمه «لطيف». ظل يقرأ عديته كل ليلة. وفي مرةٍ سمع خبطًا في الصالة فوق البوفيه. وجاءه صوتٌ غاضب: عاوز إيه. ومن الرعب لم يرد. ولم يعد الخادم بعد ذلك.

يستأذن الدكتور «عزيز» منصرفًا. يسأله الحاج «عبد العليم»: ناوي تسمع «أم كلثوم»؟ يستفسر أبي عن الأغنية الجديدة. يقول الحاج: «غلبت أصالح في روحي.» يقول الدكتور إنه سيسمعها في بيته.

يتحدثون عن الحاج «مشعل». يقول «عبد العليم» إنه يعد أوراق البنكنوت من فئة الميت جنيه. كما يعد الناس فكة من أوراق النقد الصغيرة. يُضيف الشيخ المعمم أنه كان بائع «روبابيكيا» قبل الحرب.

يمر بائع فاكهة متجول. ينادي علی برتقال «يافاوي». يشتري أبي أقتين. يقول ﻟ «رأفت» أفندي: مين عارف حنشوفه تاني إمتى. نقوم بعد قليلٍ. مدخل المنزل مظلم كالعادة. شقتنا أيضًا. ضوء خفيف في مدخل المخزن. مثل شمعة أو مصباح زيت. يدق أبي الباب. يخرج المفتاح ويفتحه. باب غرفتنا مفتوح. الغرفة مظلمة. ينادي: «أم محمد». لا ترد. يكرِّر النداء. أتعلَّق بملابسه. ندخل الغرفة ويشعل النور. يغادرها وأنا خلفه. يطوف بأنحاء الشقة مناديًا أم «محمد». لا أثر لها. نعود إلى الغرفة. يبحث عن بقجتها فلا يجدها. يقول: الولية طفشت.

يفتِّش الدولاب. يتأكد أنها لم تسرق شيئًا. أجلس إلى المكتب. أفتح کراس الإنشاء. زيارة لحديقة الحيوان. كلب البحر «حسن». القردة «شيتا». «سيد قشطة». أمي في معطف خفيف فوق فستان مشجر. نسير فوق طرقاتٍ من الحصى الملون. نجلس في جزيرة الشاي. تقوم أمي فجأةً قائلة: لا بد أن نخرج من هنا. نرجع الوقت. يحاول أبي تهدئتها. تردِّد: حاجة وحشة حتحصل. نعود من حيث جئنا.

٢

أقول ﻟ «ماهر» إن قريبًا لي يملك سيارة. يختطف «جلال» مسدسي ويرفض إعادته لي. يجذبني من ياقة سترتي فيمزق طرفها. أتوعَّده بأن أبي سيشكوه إلى الناظر. يقول: طظ.

ننتقل إلى المدرج الكبير لنشاهد فيلم «طرزان في نيويورك». أسير بجانب «لمعي». أطول مني. وجهه متورد وفوق ساقَيه زغب أصفر. أدعوه لأن يجلس بجواري. يفضِّل الجلوس في صف آخر. أخلع نظارتي وأمسح عدستيها بالمنديل. أتابع الفيلم مبهورًا. نعود إلى الفصل. نحمل حقائبنا وننزل إلى قاعة الرسم. المدرس يرتدي سترة من الشامواه. هادئ وصموت. يرسم أي شيءٍ بسهولة وسرعة. طاولات الرسم مصفوفة في مربع من ثلاثة أضلاع. يقتصر الضلع الرابع على طاولته أسفل السبورة.

ألقي بحقيبتي فوق الأرض. أجلس إلى إحدى الطاولات. أضع الكراسة على سطحها المائل. يكتب المدرِّس على السبورة: «شاهدت موكب المحمل في شهر أكتوبر الماضي.» يجلس إلى طاولته. يفتح كراسًا عريضًا من الورق السميك. ينهمك في الرسم.

أخرج القلم الرصاص والبراية وأفتح کراستي. ننحدر في الطريق حتى بائع الورد ثم ندلف إلى الميدان. نعبره ونقف على الرصيف بین الحشود في انتظار موكب المحمل. ولو كنا محظوظين سنرى الملك في سيارته الحمراء.

أرسم جَملًا. يشبه الحمار. أزيله بممحاتي. يتبقى أثره واضحًا في الصفحة. أتطلع بحثًا عن «ماهر» فلا أجده. المدرس منهمك في الرسم. لا يبدو عليه أنه يشعر بوجودنا. يقترب منه أحد التلاميذ طالبًا مساعدته. يستجيب ويملأ له الصفحة بخطوطٍ سريعة. يعود التلميذ إلى مقعده. يضع الكراسة في حقيبته. يحملها ويتجه إلى باب القاعة. يتسلَّل خارجًا.

أضع البراية في طرف القلم وأُديرها عدة مرات. يبرز السن ثم ينكسر. أبري القلم مرةً ثانية. يلجأ تلميذٌ آخر إلى المدرس. يتبعه واحد ثالث. رابع وخامس. يغادرون القاعة بعد أن يرسم لهم. يتضاءَل عددنا بالتدريج. أجد نفسي وحيدًا. أحمل كرَّاستي وأذهب إليه. أضعها أمامه دون كلمة. لا ينظر إليَّ أو يكلمني. يرسم لي جملًا باركًا بجرة واحدة من القلم. أختلس النظر إلى کراسته. بيوت ريفية متلاصقة. واجهاتها دقيقة التفاصيل. أعود إلى مقعدي. أضع الكراسة في حقيبتي. أحملها وأتجه إلى الباب. ألتفت خلفي. منهمك في الرسم.

نتفرَّق أمام باب المدرسة. السماء غائمة تُنذر بالمطر. رائحة جميلة في الهواء. رصيف الحصى الملون. جدار مدرسة اليهود. إعلان ملون عن فيلم «العقل في أجازة». «محمد فوزي»، «ليلى فوزي»، «بشارة واكيم»، «عبد السلام النابلسي». فيلم «بلبل أفندي» في سينما «الكورسال». «صباح» و«فريد الأطرش».

أدور مع جدار المدرسة عند الناصية. النوافذ الطويلة مفتوحة. أطلُّ على موائد صُفَّت بغير نظامٍ وتناثرَت فوقها بقايا حبات قمح. رائحة غريبة. خطوات وأصبح في مواجهة منزلنا القديم. تتراجع السحب وتظهر شمس باهتة. الباب الحديدي مغلق. النوافذ مغلقة. تنهض أمي وتنصرف إلى رضاعة أختي. يرتدي أبي روبًا فوق جلبابه ويستبدل الطاقية بالطربوش. يصحبني معه إلى الطريق. نتمشَّى في الشارع الساكن. نلتقي براهبٍ في ملابس بيضاء. وجهه أبيض شديد الحمرة. يُومئ أبي له مُحييًا ويُتمتم بالفرنسية: كومنتاليه فو؟ نصعد في الشارع حتى منتصفه ثم نعود. أقترب من سور حديقة مدرسة الراهبات المكون من أشجارٍ كثيفة. أتلصَّص النظر داخلها. يتوقف أبي في انتظاري. أعرف أنه يراقبني. أتظاهر بالانهماك في الفرجة. يبدأ ضوء الغروب في الانحسار. يُناديني بصوته الآمر.

أعبر الطريق. أقف تحت إحدى النافذتَين. واحدة لغرفة النوم والأخرى لمائدة الطعام. بجوارها الحارة التي تطل عليها نافذة حجرة الضيوف ونافذة المطبخ المسورة بالقضبان الحديدية. تنتهي الحارة بمخزن لقدور العسل الأسود؛ لهذا تتجمَّع به الزنابير ذات الأشرطة الصفراء. أحد الأولاد ينجح في اصطياد أحدها. يربط زبانه بفتلة.

تقترب سيارةٌ ملاكي ذات سقفٍ مقوَّس صاعدة من طرف الشارع المؤدي إلى الميدان. تدلف في الشارع الجانبي الذي يؤدي إلى منطقة العشش. تقف أمام الفيلا التي تبعد عن منزلنا بعدة بيوت. ينزل منها رجلٌ ممتلئ في ملابس ريفية أسفل عباءة سوداء فضفاضة. الرجل نفسه في جاكت أبيض وبنطلون أزرق وحذاء أبيض بصحبة امرأة رائعة الجمال في فستان أخضر. بقعة غائرة في جبهتها بجوار أذنها. يقول أبي إنه من أثر وشمٍ أخضر. يخرجان من باب الفيلَّا. أقف أنا والأولاد على الرصيف المقابل. نختلس النظر داخل الفيلَّا. حديقة صغيرة دائرية ترتفع منها نباتات صبار.

تختفي الشمس. يمر ثلاثة رهبان سمان في أرديةٍ بنيَّةٍ سابغة. حول وسط كلٍّ منهم حبل طويل يتدلَّى طرفاه من الأمام. عربة كارو محملة ببوبينات الورق. راهبتان سمینتان في ملابس بيضاء. عربة حنطور. نجري خلفها صائحين بالسائق: أبو لبن. فيرفع سوطه في الهواء ويحاول إصابتنا وهو يسبُّ آباءنا. نلمح شابًّا وفتاةً يتمشيان تحت الأشجار. نصيح بهما: سیب النعجة يا خروف.

أعرف أني تأخَّرت وسأجد أبي ينتظرني غاضبًا في البلكونة. سيُعنفني على تمزُّق ياقة سترتي. ثم نأكل طبيخًا بايتًا. وينشغل أبي في المطبخ. وأبقى وحدي خلف المكتب. ولا يلبث الظلام أن يحلَّ ولا أجد الوقت الكافي لإنجاز واجباتي.

أستأنف السير في غير حماس. أخرج إلى الميدان. أعبر. أتوقَّف أمام إعلانٍ عن حفلةٍ خاصَّةٍ للطلبة لفيلم «فتح مصر» بسينما «كوزمو». «الصيت ولا الغنى» في سينما «ماجستيك» «محمد عبد المطلب» و«علي الكسار» و«هاجر حمدي» و«عبد الفتاح القصري» و«إسماعيل ياسين».

أدخل الحارة. ألمح أبي واقفًا أمام باب المنزل المقابل يتحدَّث مع البواب. يُشير إليَّ أن أدخلَ منزلنا. «عباس» يجلس على درجات المدخل وبجواره زجاجة السبرتو الأحمر التي لا تُفارقُه. أعبر بجواره في حذرٍ مُتجنبًا رائحته العفنة. ألج المنزل. صوت الراديو: «عبد الوهاب» يغنِّي: «القمح الليلة ليلة عيده.» الصوت ينبعث من داخل الشقة. الباب مفتوح. مصباح الصالة مضاء. حبال الغسيل ممتدة بين باب غرفة الكونستابل وباب غرفة الصالون. امرأة قصيرة بيضاء عارية الذراعين تنشر الملابس وهي تغني مع الراديو. الصالة نظيفة. مفرش المائدة مغسول. سطح البوفيه يلمع. باب غرفتنا موارب. أدخل وأضع الشنطة فوق المكتب. أذهب إلى زجاج البلكونة. ما زال أبي يتحدث مع البواب. يتركه ويتجه إلى منزلنا. أسمع صوت خطواتِه المتمهلة على السلم. يغلق باب الشقة خلفه. يدخل الغرفة. يغلق الباب. أسأله عن المرأة التي تنشر الغسيل. يقول إنها زوجة الكونستابل.

يقترب من البلكونة. يقف إلى جواري. يتأمَّل المنزل المقابل. يشعل سيجارته. يتمشى حتى باب الغرفة. يعود إلى باب البلكونة. يظهر البواب بعد قليل في مدخل المنزل المقابل. يعبر الحارة متجهًا إلى منزلنا. يمضي أبي إلى باب الغرفة. يواربه. ينتظر حتى يسمع دقًّا على باب الشقة. يخرج ليفتحه. أتقدَّم من الباب الموارب. أمدُّ رأسي محاذرًا أن يراني. أراه يتحدَّث همسًا مع البواب. يُعطيه نقودًا ويتحوَّل عائدًا. أهرع مسرعًا إلى مكتبي. يدخل أبي ويقول إن جيراننا في البلكونة المقابلة يُريدون رؤيتي.

أغادر الشقة. أعبر الحارة. مدخل المنزل المقابل مظلم. يشير البواب إلى باب الشقة المطلة على السلم. أطرقه. تفتح لي «حكمت». طويلة ممتلئة ترتدي روبًا ورديًّا خفيفًا فوق قميص النوم. شعرها طويل. وجهها باسم. شفتاها ملونتان بالروج. تحتضنني وتجذبني إلى الداخل. صوت صفق باب. أخوها أم أختها الصغيرة؟ صالة ضيقة مكدسة بالأثاث. تُجلسني فوق فوتيه مغطى بقماش أبيض. رادیو متوسط الحجم فوق بوفيه. صوت «أسمهان»: «دخلت مرة جنينة. أشم ريحة الزهور».

تجلس مقابلي. تسألني عن اسمي وعن سني وعن المدرسة. أجيبها. تسألني عن أمي. لا أرد. تسألني عما إذا كان لي إخوة وأخوات. أقول: أختين وأخ. تسألني عن الأختين. أقول إن الكبيرة متزوجة.

– والصغيرة؟

– ماتت من زمان.

– وأخوك؟

– كبير.

– هو فين؟

– في بيته. أصله متجوز.

تُقدِّم لي بومبوني. تسألني إذا كنت أحب أن آكل شيئًا. أهزُّ رأسي نفيًا. تُحضر لي بسكوتًا. تصر أن آكلَه. تتأمَّلني باسمة. أنتهي من أكل البسكوت وأقوم واقفًا. تطلب مني البقاء. أقول لها إن عندي واجبات. أتجه إلى الباب. تسألني كيف سأقضي يوم «شم النسيم». يمتلئ البيت بالخس والملانة. يعلِّق أبي ربطةً من البصل الأخضر فوق قائم الفراش. يوقظنا في الصباح بالبصل وهو يدعكه في أنوفنا.

تعرض عليَّ أن أذهب معها هي وأخويها إلى حديقة الحيوان. أقول: معرفش، حاسأل بابا.

٣

يحاول إقناعي بأن آكل قطعةً أخرى من محشي الكرمب. لا أحبه. أبعد فمي عن يده التي حملت قطعة. يقول: فاضل صباع. كُلْ عشان نرجَّع الطبق. تخصص لنا زوجة الكونستابل جانبًا ممَّا تطهوه مقابل مبلغ شهري. أرفض. يأكل هو الإصبع المتبقي. يحمل الطبق إلى المطبخ. يعود بعد أن يغسله. ينفض الماء عنه في الأرض. يجففه بالفوطة. يناولنيه قائلًا: إوعى يقع منك. آخذه وأخرج إلى الصالة. أطرق باب الكونستابل. نور المصباح الكهربائي يبدو أسفله. أطرقه مرة أخرى ثم أصيح: أنا یا ست «تحية».

تفتح لي باسمة. ترتدي روبًا أبيض حريريًّا مثبتًا بزرار في خصرها. رائحة السجائر. أتلصص بعيني خلفها. لا أحد. الفراش الضيق متناثر الأغطية. هل يسعها هي والكونستابل؟ شوفينيرة على اليمين من عدة أدراج استقرَّت فوقها مرآة كبيرة الحجم معتمدة على الحائط. هناك شرخ في أعلاها. تتناول مني الطبق. الدماء تندفع إلى وجهي.

أعود جريًا إلى غرفتنا. أجلس إلى المكتب وأبدأ في حل واجب الحساب. أشعر بسخونة وبصعوبة في البلع. يجس أبي جبهتي. يُحضر كوبًا من الماء. أدير وجهي بعيدًا لكنه يأمرني في حزمٍ أن أفتح فمي. أبتلع قرص «الأسبيرين». يلفُّ منديلًا حول عنقي فوق اللوزتَين الملتهبتَين. يصحبني إلى الكنيف لأتبول. باب غرفة الكونستابل مغلق. صوت الراديو ينبعث من خلفه. نعود إلى الغرفة. يُساعدني على ارتقاء الفراش. يُحكم الغطاء من حولي. يُطمئنني أنه سيحل لي الواجب.

أغفو وأستيقظ. أراه في مواجهتي مستندًا بظهره إلى قائم السرير. النظَّارة منحدرة فوق أنفِه وكراسة الحساب في يده. فوق رأسه طاقية بيضاء مربعة. أغفو مرةً أخرى.

أنتبه لصوتٍ جهوري. «علي صفا» صديق أبي. يحمل في يده عصًا خشبيةً قصيرةً ذات لونٍ بنيٍّ لامعٍ تنتهي بقطعةٍ من الجلد. يرتدي بزة بُنِّية اللون. تبدو من حافة طربوشِه خصلات شعرٍ ناصعة البياض. يصيح: هو ده «خليل» بتاع زمان؟ مش معقول. قوم يا راجل نخرج. فيه بارتيتة «بوكر» حلوة. يقول أبي: هس. الولد نايم وعنده حرارة.

يجرُّ «علي صفا» كرسي المكتب أمام السرير. يجلس أبي أمامه فوق السرير مدليًا ساقَيه. يجيل «علي صفا» نظراته في أنحاء الغرفة. يهزُّ رأسه متعجبًا. يوشك أن يقول شيئًا ثم يلزم الصمت.

يقول بعد لحظة: سمعت آخر فضائح الملك؟ عجبته مراة واحد ضابط. أمر قائده يحجزه في القشلاق. الفار لعب في عب الضابط فهرب وراح بيته. لقى مراته مع الملك في السرير. الملك رفع طبنجته وضربه بالرصاص. وتاني يوم أنعم على أبوه بالباشوية. مش عارف الشعب حيفضل ساكت لإمتى؟ يقول أبي: وحيعمل إيه الشعب؟ خليها على الله. يتساءل «علي صفا»: يا تری الإخوان المسلمين ناويين يقتلوا مين بعد وكيل محكمة الاستئناف؟

أجاهد حتى أظل مستيقظًا. يتلاشى صوته. أتبيَّن أنه يتحدث همسًا. أرهف السمع: … عمرها ١٦ سنة. أبوها مات وعايشة مع أمها لوحدهم. كانوا واقفين على البسطة بيفاصلوا بياعة زبدة. أمها عملت مكسوفة واستخبت ورا الباب. البنت فضلت واقفة. كانت لابسة قميص نوم بفتحة صدر واسعة. حاطة روج خفيف في شفايفها. لأول مرة آخذ بالي إنها كبرت. كنت أقابلها دايمًا على السلم من غير ما أهتم بيها. لما وطت على مشنة الزبدة شفت بزازها. اللهم صلي على النبي. عملت زي ما أكون ناوي أشتري. سألت عن سعر الزبدة. كانت بتبتسم مكسوفة. ولاحظت إنها بتدعك شفايفها ببعض. يمكن عشان تحمرهم زيادة.

يشعل أبي سيجارته ويعلق: البنات بتكبر بسرعة. يواصل «علي صفا»: بعد كام يوم سمعتها بتصرخ متوجعة. خبطت على بابهم. فتحت وهي تعرج. قالت لي: ركبتي یا عمو. يقاطعه أبي ضاحكًا: ركبتي یا عمو.

يستطرد «علي صفا»: ما لها ركبتك يا حبيبتي؟ قالت اتخبطت. سألتها إنت لوحدك؟ قالت لي ماما خرجت. قلت لها وريني، فين بالضبط؟ سندت رجلها على كرسي ورفعت قميص النوم لحد ركبتها. سبحان الخالق المبدع. تقول مرمر؟ سمانة متينة ومنحوتة نحت. كان نفسي ساعتها أركع وأحط شفايفي عليها. قلت لها ادعكيها وهي تخف، ولَّا أقولك تدهنيها بمرهم. سبتها واقفة وحاطة رجلها على الكرسي ودخلت جبت مرهم الروماتزم اللي بادهن بيه مفاصلي. اديتها الأنبوبة وقلتلها تدهني بيها. كان نفسي تطلب مني أدهن لها. لكنها نزلت رجلها وخدت الأنبوبة وقالتلي متشكرة يا عمو.

تبدأ رقبة أبي في الالتفات نحوي. أغلق عیني فورًا. أصيخ السمع: بعد أسبوع كنت راكب التروماي، لقيتها راجعة من المدرسة، التروماي كان زحمة، قربت مني فوقفتها بين رجليَّ، انتصبت جامد. يعلق أبي: يا بختك. يقول «علي صفا»: لازم تكون حست بيَّ.

أسعل وتهاجمني نوبة سعال. يساعدني أبي على الجلوس. يغادر الغرفة ويأتي بكوبٍ من الماء. أشرب. يُحضر زجاجة «البلمونكس» وملعقة صغيرة. يملؤها ويقرِّبها من فمي. أشرب متأففًا. يطلب مني أن أنتظر قليلًا قبل أن أستلقي.

يقول «علي صفا»: سمعت آخر نوادر الدكتور «إبراهيم ناجي»؟ كان ماشي في الشارع، شاف راجل أنيق، افتكر إنه من زباينه القدام، قاله: سلامات، إيه الغيبة الطويلة دي، من زمان يا «محمد» بيه، باين صحتك أحسن والحمد لله، بس شكلك اتغير، سمنت كتير واسمريت. الراجل قال له: لكن أنا مش «محمد» بيه. يقوم «إبراهيم ناجي» يقولَّه: الله! وكمان اسمك تغير يا «محمد» بيه؟

أستلقي ويضغط أبي الأغطية من حولي. أنقلب على جانبي الأيسر. أغلق عيني متظاهرًا بالنوم. أفتحهما بعد لحظة. يرفع أبي ساقَيه ويتربع فوق الفراش.

يروي «علي صفا» تفاصيل مذبحة قرية «دير ياسين». دخلها الصهاينة تتقدمهم سيارة مصفحة عليها میکروفون. وطلبوا من السكان أن يخرجوا من بيوتهم ليُنقذوا أنفسهم. صدق البعض وخرجوا فأطلقوا عليهم الرصاص وقتلوهم. ثم ألقوا القنابل على من بقي في البيوت من النساء والأطفال والشيوخ فقتلوهم عن آخرهم.

يهب واقفًا وهو يقول: الدنيا كتمة. منفتح البلكونة. يقول أبي: أنا خايف ع الواد من تيار الهوا.

يجلس «علي صفا» ويستأنف الحديث بصوت خافت: من ساعة التروماي وأنا مش قادر أبعدها عن دماغي، أتخيل إنها وحدها وتخبط عليَّ بالليل، تقول إنها خايفة، سمعت صوت حرامي، أو شافت فار. أي حاجة. أقترح عليها تبات عندي مع بناتي. أفرش لهم مرتبة على الأرض. وأنام معاهم علشان يتطمنوا. تروح في النوم. يمكن تكون رمت دراعها عليَّ زي ما بتعمل مع أمها. تدَّوَّر وتديني ضهرها. لو الدنيا حر حترمي الغطا. ولو برد يكون أجمل. أدَّوَّر عشان يبقى ضهرها في صدري. تلزق فيَّ. أكون منتصب زي الحديد. تتحرك وأتحرك وراها. قلبي بيدق. يا ترى صحيت؟ يا ترى حاسة باللي بيحصل؟ أكيد. يمكن يتهيأ لها إنها بتحلم. الكلسون بتاعها مبلول. تتنهد. وبعدين تروح في النوم. كل ده في الخيال طبعًا!

يصمت. يرتفع صوته بعد لحظة: مش قادر أشيلها من دماغي. فكرت أطلب إيدها من أمها، إيه رأيك يا حكيم الزمان؟

– وبناتك يقولوا إيه؟

– وهم مالهم. بكره يتجوزوا ويسيبوني.

– وتخلف تاني؟

– شوف مين بيتكلم.

يلتفت أبي نحوي فأغلق عيني. يقول: المرَّة الأولانية مخدتش بالي.

– والتانية؟

– الكبود اتقطع.

يضحك «علي صفا» بصوت مرتفع. يتوقَّف مرة واحدة. يقول: الله يرحمها. أنقلب على ظهري. يقول له أبي: موتها أثر في «روحية» جامد.

– كان عندها كام سنة لما اتجوزتها؟

– «روحية»؟ ستاشر برضه.

يقول «علي صفا» بلهجة المنتصر: شفت؟

أفتح عيني على سعتهما. يرد أبي في صوت هادئ: أنا حبيتها. مصباح الصالة يضيء سطح المائدة. مزدحمة على غير العادة. رائحة كبدة محمرة. زيتون. فستق. زجاجة صغيرة بها سائل في لون الماء. صوتها يأتي من غرفة النوم. تُردِّد أغنية «أسمهان»: «إمتی حتعرف إمتى. إني باحبك إنتَ.» ضحكات. صوتها مرة أخرى بنبرةٍ مختلفة: «يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي.» صوت أبي ببقية الأغنية: «غرامي هالكني».

– إنت عرفتها إزاي؟

يسكت أبي أسمعه يشعل سيجارته.

– جابها لنا الدكتور لما «أم نبيلة» الله يرحمها قعدت في السرير. كانت بتشتغل عنده في العيادة. تنضف وتقابل الزباين. معاها الابتدائية. الدم بيفط من خدودها. أبوها صاحب ورشة. متجوز على أمها. الأم صفرا وقاسية مبترحمش. دايمًا تضربها … «نبيلة» وأخوها كانوا اتجوزوا وسابوا البيت. لقيت حد يتكلم معايا. كانت بتقرا الجرايد وتكلمني في السياسة. وتتنبأ بحاجات كتير. قالت لي «هتلر» نهايته وحشة و«غاندي» حيتقتل. لحست عقلي. ولأول مرة في حياتي أحب. تصور؟ واحد عنده ٥٥ سنة ويحب؟ قلت لها نتجوز. وافقت. أبوها قال فرق السن كبير. قالت له: وما له. أنا باحبه. اتجوزتها في السر.

أنصت مبهورًا. يستطرد أبي: أجرت شقة قريبة. اللي أنت عارفها قدام مدرسة اليهود. راعيت الله في كل شيء. أنام جنب «أم نبيلة» كل ليلة. أقوم الصبح على الديوان. الضهر أجري على الشقة الثانية. يظهر عند باب الشقة في بزته البيضاء الكاملة وطربوشه. المظلة البيضاء في يده اليمنى. يضم ذراعه الأيسر علی كیس فاكهة من الورق. وجهه الأسمر متهلل. ينحني عليَّ ويحتويني بين ساعدَيه.

– أول ما الدنيا تليِّل ألبس عشان أروح البيت الأولاني. تمسك فيَّ. تترجاني أقعد لغاية ما تنام. تقول إنها بتخاف تبقى لوحدها. تقفل الشبابيك وتولع أنوار الشقة. تنكمش في السرير. تقعد تقرا قرآن لغاية ما تنعس. تقوم مفزوعة في نص الليل. تسمع أصوات بتنده عليها بشويش. تلزق في السرير. تسد ودانها لغاية ما النهار يطلع.

ألمح بقة تقترب من رأسي. لا أريد أن أتحرك كي لا يكتشف أبي أني مستيقظ. أعرف أنها ستقرصني عندما ينطفئ النور وتحرمني من النوم. أتابعها ببصري لأرى أين ستختفي.

– أخيرًا ماتت «أم نبيلة». خلصنا الميتم فقالت لي «نبيلة» تيجي عندي بأه يا بابا. قلت لها إني متجوز وعندي بيت تاني. زعلت وأخوها اتنرفز عليَّ وقال لي إنت حتقعد تزرب لنا. نقلت على الشقة التانية. وبدأت أدوق معنى السعادة.

يسكت. يشعل سيجارته مرة أخرى: لما خلفت «نبيلة» وأخوها كنت لسه شاب وأغلب الوقت بره البيت. المرة دي اتمتعت بالخلفة. خصوصًا بعد ما طلعت المعاش. يلتفت نحوي فأغمض عيني. – عمري ما حانسی منظره وهو بيحبي ويفتح الأدراج ويقطَّع الكتب. كان كل ما يشوف حاجة يشاور عليها ويسألني: ده؟ وبعدين بقت: إيه ده؟ يحاول يوريني إنه بيفهم. لا يمكن أنسی منظره لما وقف على رجليه أول مرة. مشي خطوتين وبص لي وصقَّف. حس إنه عمل حاجة كبيرة.

أنعس وأستيقظ على أزيز بعوضةٍ بجوار أذني. أدعو الله ألَّا تقرصني. صوت «علي صفا»: حتجنن. بالليل أتقلب وأنا نفسي إنه يكون فيه جسم طري في حضني. مش ضروري أعمل حاجة.

يقول أبي: وتعمل إيه يا خَيْ؟ مفضلش غير البص.

– على رأيك. وأنا جاي لعندك شفت واحدة بتجري في الشارع. بزازها بيترجرجوا. أتهيألي إني سامع صوت فلقتيها وهما بيخبطوا في بعض. كل حاجة الوقت تفكرني باللي كان. ملاية لف محبكة على طيز مقلوظة. شفتين تخان من البرقع. دراع مربرب في نص كم أو كتف عريان من بلوزة جابونيز.

يرين الصمت على الاثنين. صوت الراديو من غرفة الكونستابل. «فريد الأطرش». ألمح بقة مسرعة على الحائط. تُريد أن تختفي من النور. أمد إصبعي وأفعصها. أكتم تنفسي كي لا أشم رائحتها الكريهة.

صوت أبي: أول الشهر رحت أقبض المعاش. كان فيه واحد عجوز لابس جاكتة كاروهات وقميص غامق وكرافتة دايبة. حرف طربوشه مسود من العرق. كان واقف مسنود على عصاية. لابس نضارة مقعرة. متعرفش بيبص فین. دوره جه متحرکش. فضل واقف ساكت زي ما يكون سرحان ومستعد يفضل مستني لتاني يوم. موظف الخزينة يعرفني. بياخد مني البواقي. مد لي إيده ياخد السركي. قمت شاورت للعجوز يسبقني. قال حاجة بصوت مش واضح. الموظف أشار له على شباك تاني. بدأ يتحرك بصعوبة. ساعدته يوصل للشباك التاني. لا شكرني ولا بص لي. كأني مش هنا. لما خرجت لقيته واقف مسنود على عمود النور. فضل واقف مدة طويلة باصص قدامه. زي ما يكون نسي هو فين. مقدرتش أقرب منه. كلها سنتين تلاتة وأبقى زيُّه.

يقول «علي صفا»: يا راجل تف من بقك، لسه بدري. أشعر بأبي يهز رأسه: أنا الوقت بتكعبل وأنا ماشي، عيني بتزغلل، ومعدتش بأسمع كويس، ضرسي وجعني ورحت للدكتور، قاللي اللحم بيکش. يقول «صفا»: المهم العصب. يأتيني صوت أبي كأنه من بعيد: عصب إيه؟ دول بقوا نقطتين. راح الرشاش بتاع زمان.

٤

ينهض تلاميذ الصفوف الخلفية الكبار واقفين. صيحات في الحوش. نحمل حقائبنا ونغادر الفصل. ننضم إلى تلاميذ الفصول الأخرى. يردد الجميع: «اليوم حرام فيه العلم.» نتجمع في الفناء. الناظر يقف عند باب المدرسة المغلق. أصوات مظاهرة في الخارج. ينهال الطوب على باب المدرسة. ينسحب الناظر ويفتح البواب الباب. نتدفَّق إلى الشارع وننضم إلى تلاميذ المدارس المجاورة. تنطلق المظاهرة في اتجاه الشارع الرئيسي. نردِّد خلف التلاميذ المحمولين على الأعناق: «الله أكبر ولله الحمد.» «عاش الكفاح المشترك لشعوب وادي النيل.» «الجلاء بالدماء.» «النحاس زعيم الأمة.» ينتظرنا البوليس في نهاية الشارع. يسدون الطريق بصف من الجياد. يتقدمون نحونا فنجري.

أهرب من حارة جانبية. أقف أمام بائع صحف. أتأمل صور الممثلات فوق أغلفة مجلات «الكواكب» و«الاثنين» و«مسامرات الجيب». أتناول واحدةً عليها صورة «طرزان». ينهرني البائع ويجذبها من يدي. أشتري کراسة أغاني بخمسة مليمات. أواصل السير. أعبث بقدمي في التراب. ألمح قطعة حديدٍ مستديرة. أبتعد عنها. أتحاشَی المرور أمام دكان شيخ الحارة. أبلغ المنزل. أدق الجرس. لا يستجيب أبي. أدق الجرس مرة أخرى. تفتح لي ست «تحية». تقول: «أبوك خرج. اقفل الباب وراك.» تتركني وتتجه إلى المطبخ. أغلق الباب الخارجي. أدفع باب الغرفة فأجده مغلقًا. معي المفتاح. أدخل وأضع الشنطة فوق المكتب. أخلع ملابسي وأرتدي البيجامة ذات الزراير الصفيح. أعود إلى الباب. أقف في فتحته منصتًا. أخرج إلى الصالة.

صوت وابور «البريموس» في المطبخ. أخطو في خفةٍ نحو الطرقة. أتحاشى النظر إلى فتحة الكنيف. أقترب من باب المطبخ. ألتصق بالحائط. أمد رأسي في حذر. تجلس فوق مقعد المطبخ الواطئ. تقشر فصوص ثوم. بجوارها طبق فول مدمس. أتراجع نحو الصالة. أدور حول المائدة حتى باب غرفتها. مفتوح. أقترب منه. فوق السرير فستان أزرق مشجر وعلى الأرض حذاء أبيض بكعب عالٍ. على الحائط صورة كبيرة في إطار مذهب للكونستابل في ملابسه العسكرية. وجهه باسم. طربوشه طويل ومائل ناحية اليسار. شوفينيرة على اليمين فوقها مرآة كبيرة في إطارٍ معدني باهت اللون. المرآة مائلة مستندة على سطح الشوفينيرة. بها شق في أعلى زجاجها. فوق الشوفينيرة أشياء كثيرة بينها صندوق شكولاتة. هل تكتشف الأمر إذا أخذت قطعة؟ أرهف السمع. تغني في المطبخ: «يوم ما اتقابلنا إحنا الاتنين.» يقترب صوتها.

أبتعد عن باب الغرفة. أقف إلى جوار باب المنور. أتطلع إلى نافذة «أم زكية». مغلقة ومظلمة. تلج الصالة. في يدها كوب من الشاي. تتجه إلى غرفتها. تُشير إليَّ أن أتبعها. تضع الكوب فوق الشوفينيرة. تفتح صندوق الشكولاتة وتتناول قطعةً ملفوفةً في ورق أصفر اللون. تقدمها إليَّ. تستفسر عن أمي. يحمرُّ وجهي ولا أجيب. جالسة في مقعد وسط الصالة وقد تهدَّل شعرها الغزير على كتفَيها. تولول: آه یا دماغي. وجهها متألم. يناولها أبي قطعًا من الثلج. تضعها فوق رأسها وتضغطها بيدها.

تشعل سيجارة. تنحني أمام المرآة المائلة. تمشط شعرها وتتفرس في ملامحها. تلف خصلة فوق جبينها. تمر بإصبع الروج على شفتَيها الممتلئتين. لأول مرة أشهد عملية وضع الألوان لأن أمي لم تكن تستخدمها. شفتها السفلى الممتلئة مشقوقة تنز منها الدماء.

أرقبها مبهورًا. وجهها يزداد جمالًا لحظةً بعد أخرى. تلتقي عيناي بعينيها في المرآة. يتضرج وجهي. أندفع نحوها بغتةً قائلًا: ماما «تحية»، إنتِ حلوة قوي. تحتويني بين ساعديها وتضمني إلى صدرها. تتسلَّل إلى أنفي رائحتها النظيفة المختلطة برائحة صابون «اللوكس». تملأ وجهي بالقُبل فوق عيني وخدي وفمي قائلة: وانت كمان حلو. تُبعدني عن صدرها وتتأمَّلني. تمد إصبعها إلى فمي فتفصل شفتيَّ عن بعضهما ثم تجذب السفلى في رقَّةٍ كأنها تُداعِب طفلًا صغيرًا. تبدو في عينَيها ابتسامة ساهمة. تضمُّني من جديد. تقول في صوتٍ خافت: أنا عندي ابن أصغر منك بسنتين. أسألها: هو فين؟ تقول: مع أبوه. تدمع عيناها. وفجأةً تنفرج أساريرها وتضحك.

تبعدني عنها وتشير إلى خدي وشفتي: وِشَّك اتملى أحمر. شوف. أقترب من الشوفينيرة. أتطلَّع في المرآة. تجذبني نحوها وتجلس فوق حافة السرير. تأخذني بين ساقَيها. تتناول فوطةً رطبةً وتنظِّف لي وجهي. تتخلَّل شعر رأسي بأصابعها. تفليه لي وهي تغني. أُقبلها في ساعدها الطري وفي رقبتها. أطلب منها أن تحكيَ لي حكاية.

تُفكِّر قليلًا ثم تقول: كان فيه راجل عجوز فقير وابنه. أنظر إليها في ارتياب. تواصل: كانوا قاعدين في شقة أول دور. أُدرك أنها تقصدنا أنا وأبي. أتضايق لأنها تصفنا بالفقراء. أقرر أن أشكو لأبي عند عودته. أبتعد عنها. تحتضنني وهي تضحك: ما تزعلش. أتخلَّص من ذراعيها غاضبًا. تربت عليَّ وتصالحني. تقول يلَّا نخرج. أقول: وبابا؟

– راجع متأخر. اخرج علشان ألبس.

أذهب إلى غرفتنا. تُنادي عليَّ بعد قليل. أقول إني أرتدي ملابس الخروج. تقول: مش ضروري، خليك بالبيجامة. – طب الجزمة؟

– خليك بالشبشب. أذهب إلى غرفتها. أجدها قد ارتدَت الفستان المشجر والحذاء الأبيض. تلفُّ نفسها بملاءةٍ سوداء. تسوي طرفها فوق رأسها لتغطِّيَ شعرها. تحبك لَفَّها حول وسطها. تتأمَّل نفسها في المرآة تستدير قليلًا لترى ظهرها. أقترح أن تكتب ورقة لأبي تُخبره بخروجنا. تقول: اكتبها إنت. أنا معرفش أكتب. أمي تبري القلم الرصاص. ينكسر السن. تُعطيه لأبي مع البراية. يضع البراية جانبًا. يحضر الموس ويبري القلم بعناية. لا ينكسر منه السن أبدًا. تفتح صفحةً جديدةً في دفترها الكبير.

أكتب الورقة وأضعها فوق فراشنا. أغلق باب الحجرة. أضع المفتاح في جيبي. نغادر المنزل. نبلغ الشارع فنتجه يسارًا. المقلة والمكوجي. الرءوس تستدير نحونا. العيون تُتابعنا. أحد الجالسين أمام دکان فسخاني يصيح: «يا باشا.» أدرك أن صيحته موجهةٌ إلينا. أنظر إلى الأرض. تسير في ثباتٍ دون أن تعبأ. دکان منجد أمامه أكياس القطن. يعمل في لحاف مفروش وسط الدكان. يجلس في الصالة. يضرب القطن بسلكٍ مثبتٍ في عصًا كبيرة. تفتح أمي شباك المنور لتطردَ الغبار. يفرش قماش المرتبة. أخفي عنه المقص. يبحث عنه في لهوجة.

نعبر شارعًا فسيحًا. نمرُّ من أمام كنيسة. ندلف إلى حارةٍ مظلمة. حارة أخرى. حانوت تصطفُّ أمامه براميل الطرشي. مدخل قذر ومظلم. نصعد سلمًا ضيقًا. رائحة عفن. أتعثَّر في إحدى الدرجات. تلحقني بيدِها وتضمُّني إليها. نتوقَّف أمام باب شقة. تدقُّ الباب. تفتح لنا فتاةٌ صغيرة. تحمل مصباح زيت. تقودنا إلى صالةٍ خاليةٍ من الأثاث. غرفة مفتوحة بها فراش عريض. امرأة ممدَّدة تحت الأغطية. في عمر ماما «تحية» أو أكبر قليلًا. هناك منديل حول عنقها. تقول ماما «تحية»: ما لك يا «صباح»؟ تُجيب في صوتٍ مبحوح: شوية برد. تنظر إليَّ مبتسمة.

– ابنه؟

تضحك «ماما تحية»: لا إبني أنا.

– لا يا شيخة.

– ابن الجيران.

تخلع الملاءة وتضعها فوق كرسي. تتأمَّل «صباح» فستانها. تسألها «ماما تحية»: إيه عاجبك؟ – قوي. هو اللي جابهولي. تجلس على حافة الفراش وأجلس إلى جوارها. تلتقط مجلةً مصورةً من فوق الأغطية. تفتحها على صفحة أزياء. تُشير إلى فستانٍ حريريٍّ تُزيِّنه الورود فوق كرانيش كبيرةٍ متكررةٍ من أعلى إلى أسفل. بجواره حقيبة يدٍ من الخوص. تقول: أنا نفسي في فستان زي ده. تقول «ماما تحية»: يجنن. تضع «صباح» المجلة جانبًا وتسأل عن الكونستابل. تقول «ماما تحية»: نقلوه الصعيد. – ليه؟ – عشان إضراب البوليس. – وهُمَّ أضربوا ليه؟ – عاوزين يتساووا في المعاملة والرواتب مع الجيش.

تقول «صباح»: الممرضين مُضربين همَّ كمان. بياخدوا أربعة ولَّا خمسة جنيه. يعملوا إيه دول؟ – أهم بيكمِّلوا من العيانين. تقول «صباح» إن زوج أختها أُصيبَ في رأسِه عندما اقتحم البوليس مستشفى القصر العيني. – وبعدين؟ – ولا قبلين. اتفصل فوق ألف ممرض. وعينوا ممرضات بدلهم.

تُزيح عنها الأغطية. تُغادر الفراش. عليها جلباب کستور بكمَّين طويلَين. القماش أبيض تتخلَّلُه ورودٌ صغيرة. تنحني فوق موقد «بريموس» بجوار الحائط. تُشعله وتضع فوقه كنكة القهوة. تنظر إليَّ: أبعت أجيبلك كازوزة؟ تقول «ماما تحية»: لأ إحنا ماشيين على طول. تُعطيني بومبونة. تقول «ماما تحية»: سمعت إنهم ناويين يقفلوا البيوت. قال مخالفة للشرع.

– وكانوا فين من زمان؟

– حتعملي إيه؟

تقول «صباح»: العمل عمل ربنا. مبيسيبش حد من عبيده. تصب القهوة في فنجانين. يرتشفانها في صمت. تُشعل «صباح» سيجارة «هوليوود». تُعطي واحدةً ﻟ «ماما تحية». تسألها: ناوي يتجوزك؟ تُجيب «ماما تحية» وهي تنفث دخان السيجارة: مش عارفة.

٥

أبلغ الميدان فأتجه يمينًا. أتخطَّى شارعَي «قمر» و«أحمد سعيد». أمضي مع الترام في شارع «الظاهر» حتى منتصفه. أعبر الشارع جريًا أمام مقلة اليهودي. أشتري بمليمَين لب «جرنة». أصغر حجمًا من اللب الأسمر لكنه مشقوقٌ وله طعم مميز. أضع القرطاس في جيب البيجامة.

أعود في اتجاه الميدان. أتوقَّف أمام دکان الدخاخني عند الناصية. أشتري علبة سجائر لأبي. يُعطيني البائع علبةً خضراء بدلًا من الصفراء التي طلبتها. أعود إلى المنزل. أتعثَّر في بركة مياه. يُغطِّي الطين شبشبي الكاوتشوك المصنوع من إطار سيارة. أحكُّ الشبشب في درجات السلم مُحاولًا إزالته. أُدير المفتاح في باب الشقة. نور مصباح الصالة مضاءٌ كما تركته. غرفة الكونستابل مغلقة. ينبعث منها صوت الراديو. باب غرفتنا أيضًا مغلق. أضع علبة السجائر فوق البوفيه. أتقدَّم من حوض المياه. أخلع الشبشب وأغسله.

أحمل علبة السجائر وأدخل غرفتنا. أبي متربعٌ فوق السرير. عيناه حمراوان ووجهه متجهم. شأنه دائمًا عندما يقوم من نوم القيلولة. أقدِّم إليه علبة السجائر. ينفجر غاضبًا: أنا مش قلتلك «توسكاني»، تقوم تجيب «توسكانيللي». أقول إن البائع هو الذي أعطاني العلبة. – وانتَ ملكش لسان؟ إنت مش نافع في حاجة أبدًا. أعرض عليه أن أعود إلى البائع وأستبدل العلبة. تهدأ ثورته ويقول: لأ. يمكن معندوش. اعمل لي قهوة.

أخرج إلى الصالة. أقف أمام البوفيه. أتناول كنكة القهوة. أضع ملعقة بنٍّ ونصف ملعقة سكر في الكنكة. أصبُّ فيها الماء من القلة. أُقلِّب المحتويات بالملعقة. موقد السبرتو في مستوى رأسي. أرفع غطاء شعلته النحاسي. أقرب منها عود كبريت. أضع الكنكة فوق الشعلة. ما يزال باب «ماما تحية» مغلقًا وصوت الراديو يتردَّد خلفه.

أخطو ناحية باب المنور. نافذة «أم زكية» مغلقة. أعود بسرعةٍ إلى القهوة. أنتظر في صبرٍ حتى تبدأ في الغليان. أبعد الكنكة عن النار قبل أن تفور. أعيدها إلى النار عدة مرات. أضع الغطاء النحاسي فوق الشعلة فتنطفئ. أصب محتويات الكنكة بعنايةٍ في فنجان. أحمله وأعود إلى الغرفة. أمشي في حذرٍ کي لا تهتز محتويات الفنجان ويزول وش القهوة. يتناول مني الفنجان. أحضر له قلة الماء. يجرع منها بصوت مسموع. أمي ترفع القلة في الهواء وتصب منها في فمها دون أن تلمس حافتها. أحاول تقليدها فأبلل ملابسي.

يشعل سيجارة. أجلس إلى مكتبي. أفرغ قرطاس اللب أمامي. أفتح كتاب القراءة الإنجليزية. ينتهي من شرب القهوة. يغادر الفراش. يلقي الفوطة فوق كتفه. يشعل النور. يغادر الغرفة ليتوضأ. يعود ويفرش سجادة الصلاة على الأرض. يصلِّي المغرب. يجذب المصراع الزجاجي للبلكونة. يدفع مصراعها الخشبي إلى الخارج. يجرُّ كرسي المكتب إلى البلكونة الضيقة. يجلس. يضع ساعده الأيمن فوق سورها الحديدي. أقف إلى جواره. تأتي أمي بالقهوة وهي تغني: «أنا أهوى وَاسْقيك بإيدي قهوة.» يشفط أبي القهوة بصوت مسموع. يشعل سيجارته السوداء. نجلس بجوار النافذة المفتوحة. يترك سيجارته في المنفضة. ينهض ليصلِّيَ المغرب. يعود ويشعل سيجارته. يظهر عامل الغاز عند أول الشارع. يسند سلمه إلى عمود النور. يصعد فوقه. يجذب المصراع الزجاجي. يُشعل المصباح. يُغلق المصراع. يهبط. ويحمل السلم على كتفه. ينتقل إلى العمود التالي.

البلكونة المقابلة مغلقةٌ ومظلمة. النافذة المجاورة لها مفتوحةٌ ومضاءة. نعرف أنها غرفة «المسافرين» ولا تُفتح إلا للضيوف. ستائرها مسدلة. نور ضعيف في شقة الطابق الثاني التي يقطنها تاجر الحديد مع زوجتَيه. النور في غرفة الزوجة الأولى. ينطفئ ويظهر في غرفة الزوجة الثانية. صوت «أم صفوت» تصرخ في ابنها. يظهر «أبو وديع» قادمًا من مدخل الحارة. يرتدي بزة سوداء. يحمل أكياسًا بين ساعدَيه. يقف أمام باب منزلنا ويصيح ككل ليلة: «وديع». يتبادل تحية المساء مع أبي. ترد عليه زوجته من شقةٍ فوقنا. يقول لها ككل ليلة: السبَت. تدليه له فيضع فيه الأكياس. يرتفع السبَت في بطء. يلج المنزل.

يميل أبي برأسه ليتمكن من رؤية نافذة «صبري» أفندي. ابنته الكبرى «سهام» في قميص نوم عاري الذراعين. مستندة بصدرها إلى حافة النافذة. خلفها ضجة من صنع إخوتها. عيناها على مدخل الحارة. تتراجع إلى الوراء عندما يظهر الشاب الذي يسكن غرفة فوق السطح. طالب هندسة وسيم. أبيض البشرة مثل الخواجات بنظارة مذهبة الإطار.

يعود أبي برأسه إلى الخلف. يتأمَّل النافذة المجاورة للبلكونة المقابلة. يزيح الهواء ستائرها. مقعد بمسندَين يجلس فوقه رجل في بزة كاملة داكنة اللون. أمامه طاولة واطئة صُفَّت فوق سطحها بنظام أجسامٍ صغيرةٍ سوداء متماثلة. يُديرها بين أصابعه ثم يعيدها إلى مكانها في حرص.

يقول: يا ترى ده العريس؟ نعرف أن «حکمت» يجري الاحتفال بخطبتها اليوم. يأمرني أبي بإطفاء النور. نجلس في الظلام وعيوننا على النافذة المقابلة. يقترب «أبو زكية» قادمًا من مدخل الحارة. أسمر نحيف بشعر رمادي. له عين مغلقة تمامًا. يمشي ببطءٍ كأنه متعب. هادئ الطبع ولا يُسمع له صوت. لا يرانا ويلج المنزل المجاور. يقول أبي: سبحان اللي وفَّق. يقصد أن زوجته بيضاء وأصغر منه في السن.

يمدُّ رأسه إلى الأمام. يدقِّق النظر: إيه الحاجات دي؟ أمعن النظر بدوري. كئوس شربات؟ لا أحد يقترب منها. لا يظهر أثرٌ لشخصٍ آخر كما لو أن الحجرة لا تضمُّ غير هذا الرجل. ليست هناك زغاريد أو ضجة ما. يقول أبي: يمكن حجر جوزة حشيش؟ يضيف بعد لحظة: غريبة. بص كويس.

أعدل وضع نظارتي وأضيق من حدقتَي عينَي لكني لا أميز تلك الأشياء السوداء. يقترح أبي أن ألمع زجاج نظارتي. أدخل الغرفة وأدعكها في ملاءة السرير. أعود إلى البلكونة. الرجل ما زال جالسًا يتأمل الأشياء الصغيرة. يمد أبي يده إليَّ دون أن يلتفت نحوي. يهمس: وريني نضارتك. أخلعها وأعطيها له. يقرِّبها من عينَيه دون أن يرتديها. يهزُّ رأسه. يعيد إليَّ النظارة قائلًا: مفيش فايدة.

٦

يصلي العصر. يُجلسني أمامه فوق السرير. يضع نظارته فوق أنفه. يشرح لي من كتاب الجغرافيا الفرق بين البوغاز والخليج والبرزخ. يُوبِّخني لأني أنسی. ضيق الصدر. يُعطيني واجبًا للحفظ. يرتدي ملابسه ويخرج. أسمعه يرجو «ماما تحية» أن تأخذ بالها مني. يقول إنه ربما يتأخر في العودة.

أنصت لوَقْع خطواته على السلم. أنتظر حتى يخرج إلى الحارة. أغادر الغرفة. «ماما تحية» تنشر غسيلها على الحبال الممدودة بين باب حجرة الصالون وباب غرفتها. تُحضر جردل مياه. تُنظِّف الغرفة وتغسل بابها بالصابون. أناولها أكواز ماء من الحنفية. تمسح أرض الصالة. تُغني: «حاقابله بكره وبعد بكره.» تُحضر موقد البريموس ومقعد المطبخ الخشبي الصغير الذي يعلو شبرًا عن الأرض. تضعهما وسط حجرة الضيوف بجوار حوض الزنك. تجلب نصف كوب سكر من غرفتها. تُضيف إليه نصف كوب من الماء. تقلِّبهما جيدًا. تصب الخليط في حلةٍ معدنيةٍ صغيرة. تضعها على النار. تجمع رداءها بين ساقَيها. تجلس على كرسي المطبخ. ضوء الشمس الغاربة يأتي من نافذة المنور. يقع على ركبتَيها العاريتَين.

أدخل وأجلس على الكنبة. تبدأ المياه المسكرة في الغليان. تعصر فوقها ليمونة. وتواصل التقليب. أسألها ماذا تصنع؟ تقول: حلاوة. تعطيني «أم إبراهيم» قطعة ثم تحمل الإناء إلى أمي في الحمام. يغلقان الباب عليهما.

تواصل التقليب حتى يصبح الخليط عجينةً شفافةً لينة. ترفع الإناء من فوق الموقد وتضعه على الأرض. تُغادر الغرفة وأنا خلفها. تملأ صفيحة المياه وتحملها عائدة. تضعها فوق الموقد. تجسُّ حرارة العجينة. تناولني نتفة منها. أضعها في فمي وأستحلبها. تطوي العجينة وتشدُّها بيدَيْها الاثنتَيْن. تكرِّر ذلك حتى تزداد العجينة لينًا ويعتم لونها. تبسطها. تقتطع قطعةً صغيرةً وتفردها فوق ساعدها عند الكتف ثم تشدها بقوةٍ مرةً واحدة. تضغط عليها بين أصابعها لتلينها. تكرر ذلك حتى تصل إلى يدها. ترمي القطعة جانبًا وتتناول قطعة أخرى. ترفع ساعدها إلى أعلى وتضعها فوق إبطها. تجذبها في قوة. تكرِّر ذلك حتى يصبح إبطها أبيض ناعمًا. تنتقل إلى ذراعها الآخر.

يدقُّ جرس الباب الخارجي. أقف خلف الباب وأزعق: مين؟ يرد عليَّ صوتٌ أنثوي: أنا «عطيات»، «تحية» هنا؟ أجري عائدًا إلى الغرفة لأخبر «ماما تحية». تقول لي: افتح لها، دي بنت خالتي.

أفتح الباب. سمراء طويلة في الملاءة اللف. تتبعني إلى الصالون. تخبط على صدرها قائلة: يا خبر. قدام الواد؟ ترد عليها «ماما تحية» في غير مبالاة وهي تمر بيدها في خفة فوق ذراعها العارية: وإيه يعني؟! تجلس. تسأل عن موعد عودة الكونستابل. تقول «ماما تحية»: يمكن بكره. ابعتيلي الأولاد يباتوا معايا الليلة. خلي «راجي» يجيب الطبلة معاه. تقف «عطيات» وتضمُّ الملاءة حولها. تنقل البصر بيني وبين «ماما تحية». تنصرف.

تنتقل «ماما تحية» إلى الإبط الثاني. تُدير رأسها لتتأمَّله. تتحسسه بأصابعها. تنهض واقفة. تقول لي وهي تُمسکني برقة من أذني: على أوضتك، تقعد فيها متخرجش منها. أمسك بيدها في رجاء: لا والنبي يا ماما بلاش لوحدي. تتأمَّلني باسمة: طيب تقعد في الصالة بشرط متبصش عليَّ. تُشعل النور. أحضر كتاب الجغرافيا. أجلس إلى المائدة قرب الباب الخارجي.

أضع الكتاب أمامي. أفتحه على كراسة الأغاني المدسوسة بين صفحاته. تنتقل بنشاطٍ بین غرفتها وغرفة الصالون حاملة بعض الملابس على ساعدها. في يدها صابونة لوکس وليفة ومرآة في حجم الكف. تملأ صفيحة من الحوض وتحملها بالماء إلى الغرفة. تعود إلى باب حجرتها فتُغلقه. تقول لي وهي تهزُّ إصبعها محذرة: متقومش من مكانك لغاية ما أخلَّص.

– ولو الباب خبَّط؟

تقول وهي تلج الصالون: ما تردش.

– طب لو جت طنط «عطيات»؟

تُغلق الباب وراءها قائلة: اطمن. مش جاية.

– وبابا؟

– معاه المفتاح.

– طب لو النور انقطع؟

– ساعتها أقولك تعمل إيه.

أفتح كراسة الأغاني. أبحث عن أغنية «أنا أهوى أسقيك بإيدي قهوة.» أضع الكراسة جانبًا. أقف في حذر. أتسلَّل من مكاني دون أن أحرِّك الكرسي. النور يتضاءل حتى يوشك أن يختفي ثم يعود ضعيفًا.

أدير مقبض باب غرفتها. أدفع الباب وأدخل. النور مضاء. أقترب من الشوفينيرة. صورة مدسوسة بين الإطار المعدني للمرآة وسطحها. هي بجوار الكونستابل في شارعٍ مزدحم. ترتدي فستانًا بلا أكمام وحذاء بكعب مرتفع وهو في قميص وبنطلون. سطح الشوفنيرة مغطًّى بأشياء كثيرة؛ زجاجة ريحة ماركة «الغزالة». مسامير. إبر خياطة. بكرة خيط. قلم حواجب مكسور. کستبان قديم. إصبع روج علا الصدأ قاعدته النحاسية. علبة بودرة اسودَّ صفارها. مشابك شعر. أوراق من كوتشينة ممزقة. صورة قديمة لها تمزَّق جزءٌ منها وبقي من الجزء الممزق جانب من ساقٍ في حذاء رجالي. علبة سجائر «هوليوود» من النوع الذي يضم خمس سجائر. شريط «أسبرو». ليمونة متحجرة. فرشاة أسنان. زجاجة زيت الأناضول للشعر. فلاية حديدية. تمثال من المعدن لامرأة عارية. مطفأة سجائر من الصفيح انثنى طرفها.

أجذب أحد الأدراج. قطع ملابس مرتبة في نظام. أعيد الدرج إلى مكانه وأجذب الدرج الذي يتلوه. برطمان مربی. علبة لقطع الجبن المثلثة. علب سجائر كبيرة من الصفيح. أغلق الدرج. أغادر الغرفة. أجذب الباب خلفي في رفق.

أقترب في خفةٍ من باب غرفة الضيوف. ألصق عيني بثقب المفتاح. أراها جالسةً فوق مقعد المطبخ. جانبها الأيمن ناحيتي فلا أرى وجهها. منحنية فوق ساقها اليمنى المثنية. تضع قطعة حلاوة أعلى القدم. ترفعها وتلينها. تضعها على منتصف الساق. تكرِّر العملية مقتربةً من فخذها. تلتفت نحو الباب فأبتعد بسرعة. أسرع إلى مقعدي. أجلس وأفتح كراسة الأغاني. أقلب صفحاتها. أتوقَّف عند أغاني «أسمهان». أنصت. صوت الموقد.

أغادر مقعدي وأخطو نحو الباب في حذر. أتطلَّع من ثقب المفتاح. ظهرها لي. تتناول قطعة حلاوة وتضعها بين ساقَيها ثم تشدها. تهمس: «آه». تتناول آخر قطعة من الحلاوة. تضعها بين ساقَيها ثم تجذبها بقوة. تُكرِّر العملية عدة مرات. تتنهد. تلتقط قطعة حجر في حجم برتقال «يافا». تدعك بها كعبَيها. تلتفت نحو الموقد. البخار يتصاعَد من الصفيحة. تصبُّ المياه الساخنة بالكوز في حوض الزنك. تهمُّ واقفةً وتمد يدها لتخلع جلبابها. يغطِّي البخار عدستَي نظارتي. أخلعها وأمسحها في بيجامتي. ماما بسيمة عارية فوق مقعد الحمام. شعرها مدهون بالحنة. أقف بين ساقَيها الضخمتَين. تصب الماء على جسمي وهي تتأمَّل حمامتي.

صوت قدمَين على السلم. أُسرع إلى مقعدي. أفتح كتاب الجغرافيا. تتوقَّف القدمان عند الباب. تواصلان الصعود إلى أعلى. أهمُّ بالقيام فأسمع صوت إطفاء الموقد. أجلس.

يُفتح باب غرفة الضيوف. تخرج «ماما تحية». ترتدي قميص نوم بحمالتين. شعرها ملفوف بفوطة كبيرة. تسألني: خفت؟ أهزُّ رأسي نفيًا. أحمل كتاب الجغرافيا وكراسة الأغاني وأتبعها إلى غرفتها.

تجذب الكرسي وتجلس. تخلع القبقاب. تضع قدمَيها على حافة السرير. تتأمَّل كعبَيها. يتوهجان بالحمرة. تلتمع ساقاها في الضوء. تخفض قدمَيها وتقف. تستدير نحو المرآة. تفك الفوطة. تتناول مشطًا وترفع ذراعها إلى أعلى. يلتمع إبطها الناعم. تمشط شعرها الطويل الذي يتساقط منه الماء. أجلس على السرير. تميل على المرآة وهي تجذب شعرها أمام عينَيها. تتركه منسابًا على جانبَي وجهها. أقول لها: اعمليه «بوكل». تلم شعرها وتصنع دائرةً منه فوق جبهتها. تتناول إصبع الروج وتلون شفتَيها. تلتفت إليَّ: حلوة؟ يحمر وجهي.

يدق جرس الباب فأسرع لفتحه. ولدان في سني؛ أحدهما له شعر ناعم مفروق من جهة اليسار، الثاني شديد السمرة يحمل طبلةً صغيرةً تحت إبطه. أتقدمهما إلى الحجرة. نترك شباشبنا عند الباب. نجلس نحن الثلاثة فوق حافة الفراش. الولدان يتجاهلاني. تعطي لكل واحدٍ منا قطعة جبن «نستله» وبسكوتة ثم قطعة شكولاتة.

أسمع صوت أبي يُناديني. أترك كراسة الأغاني فوق السرير وأحمل كتاب الجغرافيا. أخرج إلى الصالة. واقف في مدخل حجرتنا وطربوشه في يده. يتقدَّمني إلى الداخل. يسألني إذا كنت ذاكرت. أحلف له أني فعلت. يصحبني إلى الكنيف لأتبول. يطلب مني أن أستعدَّ للنوم. أتوسَّل إليه أن يتركني ألعب عند «ماما تحية». يقول إن الوقت تأخر. أقول: بكره الجمعة.

– والعشا؟

– اتعشيت.

يوافق. أجري إليها. ترتدي روبها الأبيض. تقول لي: اسأل أبوك إذا كان يحب يشرب شاي. تُغادر الغرفة إلى المطبخ. أهرع إليه وأخاطبه من خلف الباب. يقول لأ. أهتف لها من مدخل الطرقة: لا، مش عايز. أتجه إلى غرفتها. الولد ذو الشعر المفروق أمام الشوفينيرة. يمسك بإصبع الروج. يدهن شفتيه ويتأمل وجهه في المرآة. تحضر «ماما تحية» الشاي. تضحك عندما ترى منظره. تقول له: يخرب عقلك يا واد يا «عفت». دا انت كده بقيت بنت زي القمر. نجلس على الأرض. تصب لنا الشاي في أكواب صغيرة. تستخرج من تحت سريرها رِقًّا ثبتت في جوانبه صاجات نحاسية. تهز الرق فتشخلل الصاجات. تعطيه للولد.

تغني ﻟ «عبد الوهاب»: «ليلنا خمر وأشواق تغني حولنا. يا حبيبي هذه ليلة حبي.» يبدأ الولد الآخر في الدق على الطبلة. يقول لها: ارقصي يا أبلة. تخلع الروب وتتحزم بفوطة بيضاء حول وسطها. تغني: «إنت إنت ومنتش داري.» تحرك جسمها على إيقاع الطبلة والرق. تتأمل خفقان نهديها في افتتان. تمد ساعديها أمامها. تلصق كفيها ببعض. تطرقع بإبهاميها. تقف على أطراف أصابع قدميها. تهزُّ خصرها هزَّات سريعة متتابعة. تنظر إليَّ باسمة. تندفع الدماء إلى وجهي.

تكفُّ عن الرقص وهي تلهث من المجهود. تجذب بطانيتَين من فوق السرير. تطويهما وتبسطهما على الأرض. نتربع فوقهما. تحضر الكوتشينة. نلعب «الكومي» ثم تقترح أن نلعب «الشايب». تستبعد ثلاث ورقات برسم العجوز. تفنط الورق. تقول: اللي يفضل معاه «الشايب» ينفذ اللي نحكم بيه.

توزِّع الورق. أسحب ورقة. سبعة قلْب. لديَّ سبعة أخرى. أضعهما معًا على الأرض. الولدان يلعبان بسرعة وتمكُّن. نتطلع إلى وجوه بعضنا البعض. نريد أن نخمن من معه «الشايب». أسحب فيخرج لي. يتناقص الورق بسرعةٍ في أيدينا. يتجمَّع كله على الأرض. تتبقَّى معي ورقة «الشايب». نرسم «الحجلة» على الأسفلت بالطباشير. ستة أنهر عرضية واسعة في نهايتها نصف دائرة. أقف على ساقٍ واحدة. أزيح الطوبة فتعبر الخط. أنتقل بنجاح من نهر إلى آخر. يرقبني أبي من النافذة. أبلغ نصف الدائرة وأعلن انتصاري.

تقول: نحكم عليك بإيه؟

يقول «عفت»: يركع على الأرض ويلف حوالينا وهو بيهوهو.

تنظر إليَّ. تتردد لحظة ثم تقول: لا، يغنيلنا. أقول: معرفش اغنِّي.

– وماله. غنِّي «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي.»

أردد الأغنية دون أن أنجح في تقليد نغمتها.

نواصل اللعب. أشعر بثقل جفني.

أقاوم النعاس بصعوبة. تقول: كفاية كده. تنظر إليَّ: استأذن من أبوك تبات معانا. أجده جالسًا فوق السرير مستندًا بظهره إلى القائم. يقرأ في كتاب. أتوسَّل إليه أن يتركني أبيت معهم. يوافق. أعود إلى الغرفة.

تصحبنا إلى دورة المياه. تقف في مدخل الطرقة بينما نتبول. يغسل الولدان قدميهما في الحوض. نعود إلى الغرفة. تبسط البطانيتين المطويتين وتفرشهما على الأرض. تشير للولدين أن يستلقيا فوقهما. تعطيهما وسادةً طويلة. تغطيهما ببطانية. تقول لي: نام جنب الحيطة عشان متقعش.

أضع نظارتي على الشوفينيرة. أرتقي السرير. أتمدد إلى جوار الحائط. تخلع الروب. تطفئ النور. تستلقي بجواري. تضمني إلى صدرها. يستقر رأسي فوق نهدَيها. أشم رائحتها النظيفة. تفلتني وتستدير معطيةً ظهرها لي. تقول: تصبحوا على خير يا ولاد. يرد الولدان في نفَسٍ واحد: وانت بخير يا أبلة. أقول: وانت بخير يا ماما. تبسط بطانية فوقنا. أروح في النوم. أستيقظ فجأة. لا أستطيع الحركة. أكتشف أنني في حضنها وساقيَّ بين فخذيها. أسمعها تتنهد. تضمني بقوة. أقول لها: ماما، عاوزة حاجة؟ لا ترد عليَّ. أجذب ساقي من بين فخذيها لكنها تتشبث بي. تفلتني بعد لحظة. يتصاعد شخيرها.

٧

يقترب الوجه الأسود ذو العينين الحمراوين في بطءٍ من خلف القضبان الحديدية التي تسد النافذة. أتعرف على «عباس». ينفرج الباب ويظهر مصباح زيت بزجاجة رفيعة مستطيلة. يقترب المصباح. تستطيل شعلته. يطل من خلفه وجه «ماما تحية» الأبيض المدور. «بوكل» الشعر فوق جبينها. الروج في شفتيها. الكونستابل خلفها. يحاول ضمها لكنها تقاوم. تضرب صدره بقبضتيها في قوة محاولة التخلص من ساعديه. تصيح: ده ابنك. ابنك يا كداب يا نصاب. يدهشني أنها لا تتعرف عليَّ. أفتح فمي لأقول لها من أنا. لكن وجهها يتبدل بوجه أمي. الدماء تسيل من شق شفتها السفلى. يتقلَّص وجهها ويلتوي. يختفي. يظهر مكانه ذراعان كبيران مليئان بالشعر. يقتربان مني. أريد أن أصرخ لكن الصوت لا يخرج من فمي.

أستيقظ فجأةً وأنا أرتجف. النور مضاء. أنادي على أبي. أهب جالسًا. أتفصد عرقًا. أدفع اللحاف. أزحف حتى حافة الفراش والدموع تتجمع في عيني. أقفز إلى الأرض. أندفع إلى باب الغرفة. أفتحه. نور الصالة مضاء. أنادي مرة أخرى: بابا، «ماما تحية». لا يرد عليَّ أحد. غرفة الكونستابل مغلقة. أتجنب النظر ناحية الكنيف. أفتح باب الشقة. أخرج إلى البسطة المظلمة. أتجنب النظر إلى ركن المخزن. أترك الباب مفتوحًا وأهبط درجات المدخل جريًا. أواصل الجري في الحارة حتى الشارع. أستدير نحو اليمين وأواصل الجري حتى دكان شيخ الحارة.

من غير نظارةٍ أتعرف على الجالسين فوق كراسي على الرصيف. الشيخ «عبد العليم» و«رأفت» أفندي والقسيس. ألمح أبي جالسًا على جانب. يستمع في اهتمام إلى شيخ معمم بنظارة. أهرع إليه. يلتفت إليَّ مكشرًا. أقف بين ساقيه. يقول لي: إيه اللي جابك؟ تعتريني نوبة سعال. يتحسس عنقي وصدري. – شوف عرقان إزاي. ينهض واقفًا وهو يقول للشيخ: عن إذنك يا فضيلة الشيخ.

يقبض على يدي في عنف. يجرُّني إلى الحارة ثم المنزل. يُغلق باب الشقة خلفنا. يدفعني داخل الحجرة: اطلع. أرتقي السرير. ينحني فوقي ويحكم الغطاء من حولي: مش قادر تفضل شوية لوحدك؟ العفاريت تاكلك؟ لازم أسحبك من إيدي مكان ما أروح؟

يبتعد عني. يهبط عن الفراش. أسعل. يختفي عن نظري في اتجاه باب البلكونة. يعود إلى الظهور. يخطو نحو باب الغرفة. – تعبت. تعبت خلاص. أنا كان مالي ومال العذاب ده. كنت عملت زي «علي صفا». هايص ولا سائل في بناته. يتحوَّل المقعد إلى ما يُشبه عربة اليد التي يبيعون عليها الخيار والبلح الأحمر. المزلاج الخشبي يحول بيني وبين الزحف على البلاط والانطلاق في أرجاء الشقة بحثًا عن أمي. تحتي فتحة فوق القصرية. أتسلى بالعبث بالدوائر الحمراء والزرقاء والصفراء المثبتة في سلكٍ متينٍ بأحد جوانب العربة.

أقاوم الرغبة في السعال. أتابعه في مرواحه ومجيئه بجوار الدولاب. يبتعد وجهه فأرفع رأسي قليلًا عن الوسادة. أراه يدور حول المكتب ويجلس مستندًا بساعديه إلى سطحه. يزيح طربوشه قليلًا إلى الخلف. شفتاه تتحركانِ بهمهمةٍ غير مفهومة. يزيح سترته ويستخرج سيجارته المطفأة من جيب الصديري. يبحث في ملابسه عن علبة الكبريت حتى يجدها. يُشعل نصف السيجارة. يضعها بين شفتَيه. ينتزعها قائلًا: معرفش أغيب خمس دقائق. هو أنا كنت قاعد ألعب؟ ما كله علشانك. ليَّ شهر أجري ورا القاضي. ستَّك عاوزة تاخدك مني. تحب تروح عندها؟ وتنام على الأرض؟ السلم العالي. باب السطح الموارب. الغرفة الضيقة. فراش في ركن وأدوات الطهو في ركن آخر. الهواء البارد عند الذهاب إلى الكنيف. وجه سِتِّي الأصفر.

يتناوَل كتابًا. يُخرج نظارته من جيب السترة العلوي. يرتديها ويبحث عن الصفحة التي توقَّف عندها. لا يجدها فيقرأ كما اتفق. يترك الكتاب. ينهض واقفًا. يتجه إلى الباب. هل سيخرج من جديد؟ يستدير عائدًا. أتابعه برکن عيني. يزفر: كان يوم أسود يوم ما شفت وشك ووش أمك. أسعل. – يا ريت ربنا ياخدك ويريحني منك. أسعل مرة أخرى. أرتعش. تصطك أسناني. أغمض عينيَّ. الملائكة يحيطون بي. أمي تحملني. النور يأتي من الصالة. يلف في دوائر.

أفتح عينيَّ. النور يلف في دوائر. رأسه مُنحنٍ فوقي. تغطيها الطاقية. لن يخرج إذن. يجس جبهتي. يرفع رأسي ويضع ملعقة «البلمونكس» في فمي. يطوي منديلًا مبللًا ويضعه فوق جبهتي. يختفي ويعود بكوبٍ من الماء. يعصر فيه ليمونتين. يُحضر زجاجة «الأسبرين». يفرغ حبتين في كفه. يذيبهما في الماء. يرفع رأسي. يُجبرني على الشرب. أزيح الكوب بيدي بعد رشفةٍ واحدة. لا أستطيع التنفُّس. أفتح فمي وأتنفس منه. ينقبض صدري وأنهج. يضمني إلى صدره. يُقرب منديلًا من أنفي. يُطالبني بأن أتمخط. أنفي مسدود. يرفع المرآة الصغيرة أمام وجهي. أرى فتحتَي أنفي ملوثتَين ببقع «المكروكروم» الحمراء.

يغادر السرير. أتابعه ببصري. يفتح الدولاب وينكش داخله. يعود بأنبوبة البول الزجاجية الرفيعة. يعتلي السرير. ينحني فوقي. يضع طرف الأنبوبة في إحدى فتحتَيْ أنفي. يشفط محتوياتها. يبصق في طبق. يضع الأنبوبة في الفتحة الثانية. يشفط. يبصق في الطبق. أتمكن من التنفس. يضع يده فوق رأسي ويتلو آية «الكرسي». السعال لا يريد أن يتوقف. يسقيني على الريق صبغة يود ممزوجة بالماء. يأخذني إلى بئر تتصاعد منه رائحة الجاز. يجلسني فوق حافته. يطلب مني أن أحني رأسي وأستنشق. البئر عميقة. ساعده القوي يحيط بي ويحول بيني وبين السقوط.

٨

أفتح الباب في حذر. أتطلع خلفي. أبي غارق في نوم القيلولة. أخرج إلى الصالة. أقترب في خفةٍ من باب حجرة الكونستابل. مغلق. أضع عیني على ثقب المفتاح. طرف السرير. أربع أقدام عارية فوقه. الأقدام متشابكة ولا تتحرك. أتقدم من المنور. أتطلع إلى شباك «أم زكية». مفتوح. يبدو جانب من ساعدها العاري. ألفُّ حول المائدة. ألمح فأرًا يجري في اتجاه دورة المياه والمطبخ. أعود إلى غرفة «ماما تحية». أسمع حركة داخلها فأسرع إلى غرفتنا.

أبي نائم على جانبه الأيسر وظهره لي. يُشخِّر. أجلس إلى المكتب. أفتح كتاب العلوم.

أسمع حركة في الصالة. أهرع إلى الباب. أتطلع من ثقب المفتاح. الكونستابل بالفانلة وبنطلون البيجامة أمام الحوض. يغتسل ثم يتجه إلى غرفته. أنتظر. «ماما تحية» في روبها الأبيض. أنتظر حتى تنتهي من الاغتسال وتستدير. أفتح الباب وأخرج إلى الصالة. تشير لي أن أتبعها إلى الغرفة.

الكونستابل مستلقٍ فوق الفراش. ما زال بالفانلة. يداه مشبوكتان خلف رأسه المستند إلى الجدار. شعر إبطيه غزير. الأغطية منكوشة. تزيحها جانبًا لتخلي لي مكانًا. تُقدم لي طبقًا من ثمرة «النبق» التي أحبها. تقول إن «كريم» أحضره معه من «أسيوط». تمشط شعرها أمام المرآة. تمرر إصبع الروج فوق شفتَيها.

أنتقي حبة سمينة برتقالية اللون. أمسحها في سترة بيجامتي. أستمتع بمذاق لحمها الجاف والحلو. ألفظ البذرة وأتلفَّت حولي حائرًا فيما أفعله بها. أضعها في جيبي. ألتقط واحدةً أخرى. مُرَّة. ألفظها وأنتقي واحدة حمراء.

أتطلَّع إلى «ماما تحية». تُرسل شعرها حول كتفَيها. عيناها تلمعان. تنظر إلى «كريم». علامات الضيق على وجهه. تبتسم. أشعر أنه ضيق بوجودي.

– أعمل شاي؟

لا تنتظر إجابةً وتُغادر الغرفة. ألمح مجلةً مصورةً ملقاةً على جانب الفراش. ألتقطها وأقلب صفحاتها. صورة الملك في اجتماعه بضباط الجيش الذاهبين إلى «فلسطين» في رداءٍ عسکريٍّ بنصف كُم. يُمسك بطرف عصًا تحت إبطه. فوق عينَيه نظارة بعوينات سوداء مستديرة. شارب كث بطرفَين رفيعَين محاذيَين لفمه. فوق رأسه «بيريه» مائل ناحية اليمين.

أسأل الكونستابل: هو إحنا حنحارب؟ يقول إنه لا مفرَّ من ذلك بعد أن أعلنت «إسرائيل» قيام دولتها. يضيف: على العموم أمريكا هددت بقطع البترول والسماد عنا لو دخلنا «فلسطين».

تعود «ماما تحية» بصينيةٍ فوقها ثلاثة أكواب من الشاي. نشربه في صمت. تنهمك في جمع أوراق الكوتشينة المتناثرة في أرجاء الغرفة. تُرتبها وتفنطها. تجلس متربعة. ينزاح روبها وتبدو ركبتاها.

تقول: يلَّا نلعب «الشايب».

تستبعد ثلاث ورقات برسم العجوز. تفنط الورق مرة أخرى. يستدير الكونستابل على جانبه الأيسر. يعتمد على كوعه الأيمن. يسحب ورقة. أتصفَّح ورقي. ألمح يده تتسلل إلى فخذَي «ماما تحية». تضحك وتبعد جسدها. يتناقص الورق بسرعةٍ في أيدينا. تتبقى ورقة واحدة معه. يكشفها فتطالعنا صورة الملك العجوز.

تصفق «ماما تحية»: نحكم عليك بإيه؟ تضيف: غطي عنيك. أبي يعلمها لعبة «البوكر». يضحك منتصرًا. تضع الورق على المائدة. تقول: اللعبة دي حرام. يقول لها: يا شيخة، إحنا بنلعب بملاليم. تقول بعناد: لا، حرام.

يستلقي على ظهره. تجذب إيشارب وتبرك فوقه. يمد يده إلى صدرها فتتهرب منه. تربط الإيشارب فوق عينيه وتعقده فوق أذنه. تشير لي أن أقترب. تهمس لي: تف في بقه. تطلب منه أن يفتح فمه. يفعل. أميل فوقه. أبصق في فمه.

ينتفض جالسًا وهو يصرخ: يا كلب يا ابن الكلب. يفك الإيشارب ويبعده عن وجهه. أقفز أنا و«ماما تحية» من السرير. تفتح الباب وتدفعني إلى الصالة. تغلق الباب خلفي. أهرع إلى غرفتنا. أسمع صوت خبطٍ وتحطم شيء. تمر لحظة سكون. يرتفع صوت «ماما تحية»: آه. أدفع بابنا وأدخل. أبي واقف في فتحة البلكونة. أناديه: بابا. إلحق. عمو بيضرب «ماما تحية».

يستدير ويخطو نحوي. نغادر الغرفة. نقترب في هدوءٍ من الغرفة الأخرى. صوت آهات متتابعة. يُنصت أبي في استغراق. يجذبني من يدي لنعود إلى حجرتنا. يغلق الباب خلفنا. يبتسم قائلًا: ده مش ضرب.

٩

يعد «سخينة» باللبن للعشاء. يغلي الحلبة. يُضيف إليها العسل الأسود. يقطع الخبز إلى لقم. يضعها في إناء. يحمرها على النار. يُضيف خليط الحلبة والعسل. يقلبها عدة مرات. يغرف لي في طبق ويصب قليلًا من اللبن. أتناولها بالملعقة وأنا جالس فوق حافة السرير. يرتفع المقعد إلى مستوى المائدة الكبيرة. أمي تُحيط صدري بمريلة تربطها خلف رأسي. تضع أمامي طبق الشوربة. تُعطيني ملعقتي الصغيرة. يجلسان حولي.

ينطفئ النور ثم يعود. يطلب مني أن أعد شنطتي وأستعد للنوم. يصحبني إلى الكنيف. باب غرفة الكونستابل موارب. يأتي منه صوت الراديو ممتزجًا بهمهمة. راديو «أم زكية» عالي الصوت. «يا مجاهد في سبيل الله. دا اليوم اللي بتتمناه.» أردِّد مع الراديو: «فن الحرب إحنا بدعناه».

تعبر «ماما تحية» الصالة. ترتدي فستانًا حريريًّا أصفر اللون بدون أكمام. تحمل في يدها حقيبةً بيضاء اللون. فوق ساعدها بلوفر مطوي. يتبعها «كريم» في قميص أبيض وبنطلون رمادي. يبرز منديلًا منفوشًا كالزهرة من كُم قميصه أسفل راحة يده اليسرى. يوجهان التحية إلى أبي. يغادران الشقة. أستقر في الفراش. يجلس أبي في بزته الكاملة إلى مكتبي. يرتدي نظارته ويمسك كتابًا. أغالب النوم. أشعر أنه ينوي الخروج. أقرر ألَّا أغفو إلى أن يخلع ملابسه.

يرتفع صوت الحاج «عبد العليم» من الحارة: «خليل» بيه. «خليل» بيه. يفتح أبي زجاج البلكونة ويطلب منه الصعود. يفتح له الباب. يقدم له كرسي المكتب. يجلس على حافة الفراش. يتنحنح شيخ الحارة كعادته. يقول إن «عباس» تزوَّج وأحضر زوجته من البلد. وإنها بنت طيبة وخام. ويمكن أن تنظف لنا الغرفة وتطبخ أيضًا. يقول أبي: يا ريت.

يسأل «عبد العليم»: إنت مخرجتش النهارده؟ البلد مليانة مظاهرات والناس بتهتف: «أين الكساء والغذاء يا ملك النساء؟»

يقول أبي: دول زودوها خالص.

– الجرايد مسمياه «الفدائي الأول». «رأفت» أفندي كان في «بورسعيد» امبارح وبيقول الفلسطينيين ماليينها. هاربين من الصهاينة.

– أخبار «ماجد» أفندي إيه؟

يقول «عبد العليم» إن «زراکش» حملت منه وأخذته معها إلى مملكة الجان لتلد هناك. وإنها وضعت مولودها دون مساعدة من أحد وسار على قدميه من أول لحظة.

يسأل أبي في اهتمام: شاف إيه هناك؟

– مفيش عندهم لا تروماي ولا أتوبيس. ومفيش كمان طيور أو حيوانات أو حشرات ولا مقابر. والجهاز الهضمي عندهم زي موتور الأوتومبيل السيارة. الفضلات، ولا مؤاخذة، تطلع بخار من ضهرهم زي الأوتومبيل بالظبط.

– ورجع ليه؟ حقه يفضل هناك.

– حس بالخنقة من قلة الأكسجين. قالها عاوز ارجع. خلِّتُه يقف على قدمها ويحط إيده على راسها. نفخت ببقها. وهوب لقى نفسه في سريره.

– كده على طول؟ ما جرالوش حاجة؟

– عنده بس شوية صداع ومرات ميقدرش يتحكم في المشي.

يستفسر أبي عن أطفاله. يُجيب: البنت سخنت إمبارح بالليل. كلمت دكتور حميات بالتليفون. قعد يسألني عن شغلتي وساكن فين وفي الآخر طلب ۳ جنيه عشان ييجي البيت.

– يا خبر. وعملت إيه؟

– ربنا ستر. إديتها أسبرين وعملتلها كمادات. ع الصبح بقت كويسة.

يقول إنه جاء لأبي في خدمة.

– خير إنشالله.

يقول إن الحاج «مشعل» لفق له قضية مخدرات. وإنه يحتاج شهادة من أبي في المحكمة.

يقول أبي على الفور: أنا تحت أمرك. هو إيه اللي حصل؟

– خد الدكان اللي قدامي وعاوز ياخد دكاني کمان. مرضيتش أبيع.

ينهض قائلًا: لازم أفوت على الدكان. شفت الميكروفون اللي «مشعل» معلقه؟

– أيوه. جايب لهنا. مبيخلنيش أنام.

– ناوي تسهر معانا الليلة؟ «أم كلثوم» حتغني «هلت ليالي القمر.» يلتفت أبي ناحیتي ثم يقول: لما أشوف.

ينصرف «عبد العليم». أعتدل جالسًا. أقول له: بابا متسيبنيش لوحدي. يتأملني لحظة ثم يقول: طب قوم البس هدومك.

أرتدي ملابسي بسرعة. أمسح زجاج النظارة بمنديل. نخرج إلى الحارة. «سهام» في نافذتها كالعادة. نخرج إلى الشارع. نتجه إلى ميدان «السكاكيني». نجتاز عدة شوارع إلى أن نبلغ سينما «ريالتو». قاعة مزدحمة. صفير وضجيج وصياح. نصعد سلمًا قصيرًا إلى منصةٍ عالية. نجلس فوق دكةٍ خشبية. باعة اللب والسوداني والسميط يسعَوْن بين الدكك. أهم بالجلوس فوق فخذَيها فتبعدني عنها. يأخذني أبي بين ساقيه. يمر بنا بائعٌ في جلبابٍ نظيفٍ علق في ذراعه سبتًا مغطى بالقماش. يشتري لكلٍّ منا سميطة بالسمسم. يُعطينا البائع معها شريحةً من الجبن الرومي فوق ورقة في حجم الكف.

يشتري لي أبي کيسًا من اللب. فيلمان. الأول قصير عبارة عن حلقةٍ من مغامرات «جیس وجیمس». الثاني «بلبل أفندي». ﻟ «فريد الأطرش» و«صباح».

تظلم الشاشة فجأةً ويُضيء نور القاعة. تتصاعَد الصيحات. يخلع أبي طربوشه تلمع صلعته في الضوء. يشعل سيجارته. سينما «الهلال» في ميدان السيدة زينب. أنا و«عزمي» ابن خادمة «ماما بسيمة». نقف عند شباك التذاكر. البائع يرتدي بزةً كاملةً أنيقةً وطربوشًا مائلًا. ليس معنا ثمن التذاكر. يشير لنا أن نتسلل من باب الدرجة الثالثة. نقف قرب الشاشة. وجه «ليلى مراد» يملؤها.

تُظلم القاعة. يتواصل العرض. الجو خانق. يخلع أبي سترته. ينتهي الفيلم ويسطع النور. وجهه عابس. يمسح عرقه. يرسم على شفتَيه ابتسامة. ننتظر حتى يخف زحام الخارجين. يحتوي يدي في قبضته القوية. نخرج إلى الشارع. يشتري لي «بسبوسة» من محل حلواني. نمشي على مهل. الحارة غارقة في الظلام. مدخل منزلنا أيضًا. أتعلَّق بسترته. تلتفُّ ذراعاه حولي.

١٠

نتوضَّأ سويًّا. يفرش بطانيةً على الأرض. يتربَّع فوقها ممسكًا بمسبحته الطويلة. متجهم. يقرأ البسملة. يكررها وهو يعد على حبات المسبحة. يدعوها ﺑ «الألفية» لأنها من ألف حبة. يأتي صوت خطبة الجمعة من راديو «أم زكية». تنتهي الخطبة. أصلي معه. تنتهي الصلاة فيواصل عدة ركعات. يستوثق من أني طاهر. يقول إني لن أتمكَّن من دخول الحمام لمدة ساعة. يُحذِّرني من الرد لو رنَّ جرس الشقة أو طرق أحدٌ بابنا. يقول إنه اتفق مع زوجة «عباس» على أن تأتيَ بعد الظهر.

يغلق باب البلكونة بإحكام. يضع قطعة قماشٍ أسفله. قطعة أخرى أسفل باب الغرفة. يضع موقد الجاز فوق البلاط عند حافة البطانية. يُشعله. يضع فوق شعلته رقيقة من الصفيح كانَت غطاءً لعلبة سمن. يرمي فوقها حباتٍ من اللبان الدكر. وبعض أعشاب من أكياسٍ صغيرة صُفَّت فوق المكتب بجوار طبق من الصيني الأبيض. يحضر کتاب «شمس المعارف». ترتفع أدخنة البخور في الغرفة. أسعل. يغمغم بأسماء الله الحسنى. يُحضر ورقة وإبرة. يتربَّع. يُلقي مزيدًا من اللبان والأعشاب فوق النار. يقرأ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ. أتأمَّل النار. يلكزني بكوعه لأردِّد السورة خلفه. نقرؤها عدة مرات.

يُمسك بورقة ودبوس. يخزق جانبًا منها: من عين «نبيلة». من عين جوزها. من عين «تحية». من عين الكونستابل. من عين «عبد العليم». من عين «علي صفا». من عين «أم صفوت». من عين «حکمت». من عين الشيخ «عفيفي». يفكِّر لحظةً ثم يُضيف: من عين «خليل». يلقي بالورقة فوق النار فتشتعل.

أهمُّ بالقيام فيقول إننا لم ننتهِ بعد. يتناول طبق الصيني من فوق المكتب. يضعه أمامه. يُحضر زجاجة الحبر الأزرق وقلم البسْط. يفتح کتاب «شمس المعارف» على صفحةٍ معلمةٍ بورقةٍ بيضاء. يغمس قلم البسْط في زجاجة الحبر. يُمسك بالطبق ويكتب على حافته سورة «الفاتحة». يُدير الطبق في يده ويُواصل الكتابة حتى ينتهي من السورة. يتأمَّل الصفحة المعلمة في «شمس المعارف». ينقل منها مربعًا كبيرًا تتخلَّله أعمدة طولية وأخرى عرضية. يصبُّ في الطبق كوب ماء. يُضيف عدة نقاطٍ من زجاجة ماء ورد وملعقة من عسل النحل. يقدِّمه لي لأشربه. أبعد رأسي. يشخط فيَّ: اشرب.

أبتلع المزيج. يطلب مني أن أردِّد خلفه: اللهم ببركة ما شربت، أن تهوِّن عليَّ الحفظ والفهم. يقرأ سورة «العلق»: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ. يصلِّي ركعتَين وأنا معه. صوت أمي من غرفة النوم: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. يضع مرآة الحلاقة الصغيرة في يدي. يطلب مني أن أضغط بأصابعي على إطارها النحاسيِّ الذي ينخلع أحيانًا.

يفتح الكتاب على صفحة أخرى. يقول إن أسئلة الامتحان ستظهر على سطح المرآة وعليَّ أن أنتبه جيدًا. يقرأ من الكتاب بصوتٍ متهدج: اللهم سخِّر لي الملك والملكوت. لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم بك أستغيث يا مغيث أغثني. يكرِّر الدعاء أربعين مرةً وهو يعد على أصابعه. يقول: يا مُجيب أجِب دعوتي واقضِ حاجتي.

أتأمَّل سطح المرآة وأردِّد خلفه: إني أسألك ﺑ «بوقاليم» یا «شوناهيل» يا «شهرين» أسألك بحرمة «كشهيل» «برديم» «بهوائيل» «عجاجيل» «عناسيل» وأسألك بحرمة «جبرائيل» و«ميكائيل» و«إسرافيل» و«عزرائيل». اللهم إني أسألك يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. أسألُك باسمك العظيم الأعظم. يشخط فيَّ: على مهلك. يواصل: وأسألك باسمك الله الله الله اللطيف الكريم، وأسألك باسمك الواحد الماجد، وأسألك باسمك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، سبحان الله عمَّا يُشركون. ألا ما جئتم يا خدام هذه الأسماء، أجيبوا بحقِّ مَن قال للسموات والأرض ائْتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين. بحق «أعيا» «شراهيا» «إدو تاي» «أصباوت». الوحا الوحا. العجل العجل. الساعة الساعة.

يسألني: حاجة ظهرت؟

أُجيب: مش متأكِّد. فيه شخبطة في الركن.

يسأل في لهفة: إنجلیزي؟

– مش عارف.

يتناولها مني. يتأمَّلها ثم يُعيدها إليَّ قائلًا إن الشخبطة بقع صدأ. أثبت عيني على المرآة. يقرأ في الكتاب ثم يقلب صفحاته.

– حاجة ظهرت؟

أهزُّ رأسي نفيًا. يقول في أسف: مش عارف إيه اللي حصل. إنت متأكد إنك طاهر؟ أقول إني متأكد. يهزُّ رأسه في حيرة.

يقلِّب في الكتاب ثم يتوقَّف عند إحدى الصفحات. يتناوَل ورقةً ويكتب عليها بضع كلمات. يطويها ويناولها لي: خليها دايمًا في جيبك.

أهمُّ بالقيام. يستمهلني: الدعا ده تحفظه. قول معايا. يقرأ: بحق هذه الأسماء الشريفة «كهيعص» «حم. عسق». «صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون». أردِّد الدعاء خلفه. يمتحنني. يتأكد من أني حفظته. يطلب مني أن أقرأه سبعين مرةً عند دخول الامتحان الشفوي. ثم أكرِّر كلمة «كهيعص» حرفًا بحرف. ومع كل حرفٍ أعقد إصبعًا من اليد اليمنى. وعندما يأتي دوري أمام الممتحن أرفع يدي وأبسطها في وجهه. يبسط الحاوي بضاعته حول دائرةٍ كبيرة. نتجمع حول الدائرة. يُخرج سلسلة مناديل ملونة من كمِّه. يرفع زجاجة جازٍ إلى فمه. يُقرب منه قضيبًا من الحديد في نهايته شعلة نار. يفتح فمه ويطلق صاروخًا من النيران. يعدنا بأن نرى خروج الثعبان من البيضة بعد أن ندفع. يدور علينا بالرق ساحبًا القرد المربوط في سلسلةٍ خلفه. ينتهي من الدوران فيهزُّ الرق في يده. يُعلن أن ما جمعه لا يكفي. يجمع بضاعته وينصرف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤