الفصل الثالث

١

تبسط الملاءات والمخدات فوق سور البلكونة. يصيح فيها: المرتبة الأول. تزيح الملاءات والمخدات جانبًا. تدخل الغرفة وتميل فوق المرتبة. يعاونها على حملها فوق رأسها. يترنَّح جسمها النحيل. تلقي بها فوق السور. تنهال بالمنفضة البوص فوقها. يتصاعد تراب كثيف. تنفض البطاطين والمخدات. تلهث من المجهود ويحمر وجهها الشاحب.

تزيح السرير بعيدًا عن الحائط. تشعل موقد الجاز. تحمله في يدها وتنحني فوق الملة الحديدية. تضم فتحة جلبابها التي أوشكت أن تكشف ثدييها. يرتدي أبي نظارته. يقول لها: هاتي. يأخذ منها الموقد ويقرفص بجوار قائم السرير. يضع الوابور تحت الثقب الذي تثبت فيه الملة. أنحني بجواره. أتأمل يديه القويتين اللتين تمسكان بالوابور في ثبات. ألمح عدة بقات متلاصقة. تلمسها النيران فتتفحم وتتساقط على الأرض. أشير بيدي إلى بقة هاربة. يلحقها بالنار. يدور بالوابور أسفل جوانب السرير الأخرى. تحضر له زجاجة جاز فيصب منها فوق أماكن الحرق. يطلب منا أن نتفحَّص جوانب المرتبة وثنايا المخدات.

– هاتيلي قلة.

تُحضر قلة ماء من الصالة. يكرع منها. يمسح شفتيه بكُم الجلابية. يقول: سخنة. حطيها فوق البوفيه في التيار. تقول: أروح أجيب تلج یا سیدي؟ يكشف فمها عن أسنان صفراء. يُجيب: لا، مش الوقت. بائع الثلج عند الباب. يحمل نصف لوحٍ ملفوفًا في الخيش. يضعه فوق مائدة الطعام. تحمله أمي إلى المطبخ. تكسر قطعةً بيد الهون الخشبية. تدقُّها إلى قطع أصغر. تغسلها بالماء. تنثرها فوق أطباق «البالوظة» البيضاء المرصوصة فوق سطح البوفيه. نأكلُها في مجلسنا عند النافذة.

يجرُّ كرسي المكتب ويقف فوقه. يجذب ساعة الحائط برفقٍ. يناولها ﻟ «فاطمة» وهو يقول: على مهلك، خدي بالك. تضع الساعة فوق ملة السرير. تُحضر قطعة قماش وتبلِّلها بالجاز. تهمُّ بتنظيف الساعة فينهاها. يترجَّل. يتناول منها القماش. يمسح بها الجوانب الخارجية للساعة. يفتح بابها الزجاجي. يمسح الجوانب المحيطة بالعدة. يطلب منها زجاجة البنزين وقطعة قماش أخرى. تناوله جوربًا قديمًا من الصوف. يبلِّله بالبنزين. يخلع رقَّاص الساعة ويدعكه جيدًا. يمسح في رفقٍ الأرقام الرومانية. يتناول علبةً صغيرة في حجم الكف لها بزبوز رفيع. يضع البزبوز أسفل عدة الساعة. يُميله ليصبَّ محتوياته. يصب منه في فتحتين وسط دائرة الأرقام. يمسح مفتاحًا قصيرًا من النحاس اللامع. يدسُّه في إحدى الفتحتَين ويديره برفق. ينتقل إلى الفتحة الأخرى. يُدير المفتاح عدة مراتٍ حتى يستعصيَ على التحريك.

يحمل الساعة إلى الصالة ويضعها فوق المائدة. يدير عینيه بين الجدران. يستقر على مكانٍ بين باب المنور وباب حجرة الضيوف. تجر «فاطمة» أحد مقاعد المائدة وتضعه أسفل المكان الذي عيَّنه. يرتقي المقعد. يطلب مني إحضار الشاكوش ومسمار متوسط الحجم. أجري إلى الحجرة. أنحني فوق ركبتي أمام السرير. أجذب الشاكوش وصندوقًا من الكرتون. يمتلئ بالمسامير وقطع الأسلاك الكهربائية والدبابيس وأجزاء من دوايا المصابيح. أنتقي مسمارَين مختلفَي الحجم. أجري عائدًا. يمد أبي يده إليَّ. تختطف «فاطمة» الشاكوش والمسمارَين من يدي. تناولهم له. يختار أحد المسمارَين. يدقُّه في الحائط. ضرباته قوية ثابتة.

أقترب من باب غرفة الكونستابل و«ماما تحية». أتطلَّع من ثقب المفتاح. لا يوجد أثرٌ للسرير والشوفينيرة. أخذا كل عفشهما عندما انتقلا إلى مسكنٍ آخر. يصيح بي أبي: إنت فين؟ أهرع إليه. يمد يده بالشاكوش فتسبقني «فاطمة» إلى أخذه. يوشك الشاكوش أن يقع فيخاطبني: إنت مش نافع في حاجة. يطلب منها أن تُناوله الساعة في رفق. تحملها إليه. يعلِّقها في المسمار. يتناوَل منها الرفاص ويُثبته تحت العدة. يهزُّه فيواصل الحركة من تلقاء نفسه. يُغلق باب الساعة. يهبط.

نعود إلى الغرفة. يطلب منها إنزال الصور المؤطرة. تصعد فوق المقعد. تتعلَّق طرحتها بحافة الدولاب. تفكُّها وتربطها من جديدٍ فوق شعرها الخشن. ينحشر جلبابها بين فلقتيها. تمد يدها وتعدله. عين أبي على مؤخرتها الصغيرة. تجذب صورة وتناوله إياها. كبيرة بإطار عريض من الخشب. تضم صور وجوهٍ صغيرةٍ بيضاوية الشكل في صفوفٍ متلاصقة. أعرف مكان صورة أبي في الصفِّ الثاني من أسفل. أزالها «عزمي» ابن طباخة ماما «بسيمة». ينفضها أبي بخرقة ويضعها فوق الملَّة.

تناوله صورة أخرى. تهتز في يدها. يصرخ فيها: إنت إيديك سايبة. الصورة له جالسًا في المنتصف بين عددٍ من ضباط الجيش. باسم في ملابس أنيقة. حذاؤه لامع ومدبب الطرف. المنشة في يده مستقرةٌ فوق فخذَيه. شاربه مرفوعٌ إلى أعلى کشارب الملك «فؤاد».

صورة ثالثة ذات إطار خشبي رفيع ينتهي في الأركان الأربعة بما يشبه الصليب. واقف بين ضابطَين أحدهما في بنطلون منفوخٍ يبرز من حذاء مرتفع حتى الركبة. فوق أكتافهما السيوف المعدنية الصغيرة التي تميز كبار الضباط. يمسك الصورة في يده ويتطلَّع إلى الحائط كأنما يبحث عن مكانٍ لتعليقها. أقول له: مش نحطلها قزاز الأول؟ يهزُّ رأسه في أسًى: ربنا ينتقم منهم. تخرج «ماما بسيمة» غاضبة برفقة «عزمي» وتتركنا مع أمه. نبدأ في جَمْع حاجياتنا في أكياس من القماش. يضع الصور الكبيرة المؤطرة في كيس مخدة ويربطها بالدوبار. نكوم حاجياتنا إلى جوار الباب. نرتدي ملابسنا ونستعد للخروج. أدخل الحمام لأتبوَّل. أتعثَّر في جردل مياه فيندلق. تصيح بي: إنت أعمى. يصرخ فيها: اخرسي. تهرع إلى الباب. تفتحه. تحمل أحد الأكياس. تقذفه من فوق سور السلم. تتبعه بكيس آخر. نهرول نازلين. يلحق بنا کیس الصور. يصطدم بالقاع. أسمع صوت تكسير الزجاج.

تعيد «فاطمة» الصور إلى مكانها فوق الدولاب. يُشير إلى مظروفٍ أصفر. يطلب منها إحضاره. يلقي به فوق المكتب. تهبط. تقوم بإدخال الفرش.

نترك لها الغرفة لتكنسها وتمسحها. يحمل أبي المظروف الأصفر. يجلس إلى مائدة الصالة في مواجهة باب الغرفة. أقف إلى جواره. يفض محتويات المظروف. صور بلا أطرٍ بعضها في حجم الكارت بوستال. يتناول واحدة ويتأملها. أنحني فوق كتفه. تنزلق نظارتي فوق أنفي فأعيدها مكانها. أبي بين عمتي وزوجة عمي. الثلاثة في جلاليب بيضاء. وحده أبي الذي غطَّى رأسه بطاقية بيضاء. شعر عمتي وزوجة عمي أسود فاحم. قصير ومرسل حول وجهيهما. «نبيلة» بين ساقَي أبي. خلفهم حائط من البوص وأمامهم شاطئ البحر. أسأله: فين دي؟ يقول: قدام عشة «راس البر».

يضع الصورة جانبًا ويتناول صورة أخرى. شاطئ مزدحم. أبي بوجه ضاحكٍ في بزةٍ بيضاء وطربوش وکرافتة. يمسك سيجارة عادية. إلى جواره أشخاص لا أعرفهم بينهم أخي في بُرنُس حمام.

ينهض واقفًا ويذهب إلى مدخل الغرفة. يتابع «فاطمة» وهي منحنية فوق الممسحة. تكومها بيدها. يُشير إليها أن تبسطها ثم تطويها طيَّةً واحدةً مستقيمة. تنتهي من تنظيف الغرفة. تجلس على حافة السرير لتُغيِّر أكياس المخدات المعروقة. أنتظر في ضيقٍ حتى تنهض وتبتعد عن السرير. يهش أبي الذباب بفوطة. تقول إن زوجها اشترى للدكان من محطة البنزين علبة «موبيلتوكس» لإبادة الحشرات. يقول أبي: وعرفتي کمان «الموبيلتوكس»؟ تقول: هو اني عشان فلاحة أبقى جاهلة؟ تجلب السجادة المنشورة فوق سور البلكونة. تسأل أبي: أفرشها يا سيدي؟ يجيب: لا، الدنيا حر، طبقيها وحطيها تحت السرير.

يرتفع في الخارج صوت بائع بطيخ. يخرج أبي إلى البلكونة. يُناديه: ع السكين؟ – أيوه يا بيه. يتناول البائع بطيخةً ويدق عليها بكفه. يضعها ويتناول واحدة أخرى. يكرِّر الدق. يهمُّ أبي بالكلام فيطعنها بالسكين. يُحدث فتحة مربعة في جانبها. يميلها ويستقبل بيده قطعةً شديدة الحمرة. يعيدها إلى الفتحة. يضعها جانبًا ويتناول بطيخة أخرى. يصيح به أبي: كفاية واحدة. ينحني ويتناول منه البطيخة المفتوحة. يُعطيه ثمنها. يحملها إلى الحوض ويغسل سطحها محاذرًا أن تسقط المياه في فتحتها. يضعها في صينية فوق البوفيه. يجلب من الدولاب قطعة من الشاش يبسطها فوقها.

نستعد لتناول طعام الغداء. يكتشف أبي أن «البامية» حامضة. تقول إنها نسيت غليها بالأمس. أترقب في لهفة ثورة أبي لكنه لا يفوه بشيء. يرسلها لشراء لحمة رأس من مسمط «الحسينية». أقول: أروح أنا. يقول لا. تذهب إلى المخزن. تعود متسربلة بالملاءة اللف السوداء. يعطيها نقودًا. يكرر عليها: جبهة وجوهرة ومخ وكرشة. يلحق بها على السلم قائلًا: متنسيش الطرشي والجرجير.

يحمل مظروف الصور إلى الغرفة ويلقي به فوق المكتب. ألتقط منه صورةً لشخصٍ مجهولٍ في معطفٍ ضخمٍ متهدلٍ يصل إلى قرب حذائه. الطربوش يغطِّي جبهته ويكاد يصل إلى عينَيه. شاربه الصغير مبرومٌ إلى أعلى. يده اليمنى خلف ظهرِه وقبضته اليسرى فوق مائدة. فازة كبيرة على الأرض يعلوها طرف من ستارة. الصورة بالية وظرفها مقطوع. أقلب ظهر الصورة. لا شيء. أريها لأبي: مين ده؟ يتناولها ويتأمَّلها طويلًا. يقول: أنا.

– إنت؟

– أيوه لما كان عندي ۱۸ سنة.

أريه صورة ثانية لرجل في بزة شتوية. الطربوش على نفس المسافة من العينين والشنب مبروم إلى أعلى. جالس في مقعد مرفقه الأيسر فوق مسند ينتهي برأس أسد. إبهام يده مستند إلى خده. اليد الأخرى تمسك بمبسم سيجارةٍ بين الإبهام والسبابة. يبدو منها كم قميص مطوي بزرار عند الرسغ. يقول: أنا كمان بعد ما اتجوزت «أم نبيلة». كان عندي حوالي سبعة وعشرين سنة. أقلب الصورة وأقرأ اسم أبي الكامل بقلم رصاص أحمر اللون. الخط لأمي.

أتعرف عليه بسهولة في صورة أخرى. في بزةٍ أنيقة معتمدًا بيدِه على مقبض عصًا. مستندًا بظهرِه إلى سورٍ حجري. يبدو شديد الوسامة. إلى جواره صبي جميل في بزةٍ بصفَّي زراير. يتدلَّى منديل مطوي من جيب سترته العلوي. البنطلون قصير ينتهي أسفل الركبة عند حافتَي جورب. أقلب الصورة فأقرأ: «حضرة المحترم «خليل» أفندي مع نجله في عيد سنة ۱۹۲۸». أسفل ذلك إمضاء باسم أخي.

الصورة الأخيرة تشبهه كما هو الآن. جالسًا يقرأ في بزته الكاملة. طربوشه منزاح إلى الخلف. النظارة منحدرة فوق أنفه. أوداجه متهدلة فوق حافة قميصِه. على ظهر الصورة بخط يده: «سنة ١٩٤٥».

تعود «فاطمة» بلفافة لحم الرأس. تضعها في طبقٍ فوق المائدة. تحمل الجرجير إلى المطبخ. يصيح فيها أبي: اغسليه كويس. يُشير إليها أن تجلس لتأكلَ معنا. أمتعض وأفكر في عدم الأكل لو فعلت. تقول إنها يجب أن تعد طعام الغداء لزوجها. يضع لها قطعة من اللحم في نصف رغيف. تأخذها شاكرة.

أغادر مقعدي وأجره إلى الطاولة. ألمح صورةً صغيرة الحجم فوق الأرض. لا بد وقعت من الظرف. طفلة ترتدي فستانًا بنصف كم. وجهها مستدير وشعرها أكرت. في قدميها بوت قصير. تضم يدها إلى بطنها واليسرى فوق سور حجري. في عينيها نظرة غريبة. خائفة؟ متوجسة؟ غاضبة؟ أتعرف على خط أبي الجميل في ظهر الصورة: «منتصف ۱۹۲۱». أناولها لأبي متسائلًا: صورة مین دي؟

يقول باقتضاب: أمك. أقف في بيجامتي البيضاء الصيفية ذات الكمَّيْن القصيرين فوق مقعد. أستند بمرفقي على حافة النافذة. أتفرج على المارة. تقترب الشمس من حافة النافذة. أهبط إلى الأرض وأخرج إلى الصالة. صوت أمي يأتي من المطبخ. تغني: «نويت أداري آلامي.»

٢

نترك الترام في ميدان «لاظوغلي». أتأمَّل رأس التمثال الذي تُحيط به عمامة كبيرة. نمر من أمام مقهى كبير تغطي المرايا اللامعة جدرانه. المقهى على ناصيتَي شارعَين يصبان في الميدان. اثنان من أصدقاء أبي يلوِّحان له ويدعوانه للانضمام إليهما. يُشير إليهما أنه ذاهبٌ إلى المبنى المقابل. وأنه سيمرُّ عليهما عند العودة.

نعبر الشارع. مبنى قديم. ندخل من بابٍ مفتوح. نسير في ممرٍّ طويلٍ مزدحمٍ برجالٍ كبار. عجوز في بزةٍ كاملة. أقصر من أبي. يعتمد على عصًا ويسير بصعوبة. وجهه شديد البياض. يظهر شعر أبيض من حافة طربوشه. نقترب منه. نهمُّ بتجاوزه. يستوقف العجوز أبي. يتطلَّع إليه أبي مُفاجَأً. يقول العجوز بصوتٍ متهدج: «خليل» أفندي؟ أنا «رفقي». يُصافحه أبي في حرجٍ قائلًا: إزيك يا «رفقي» بيه؟ – زي ما أنت شايف. يقول أبي: ربنا يديك الصحة. ينظر العجوز إليَّ ويسأل: حفيدك؟ – لا إبني. – ما شاء الله. عمل إيه في الامتحان؟ ناجح إن شاء الله؟ يقول أبي: عنده ملحق إنجليزي.

نتركه ونواصل السير. خطوات أبي تبطئ. تختفي الابتسامة التي يرسمها على شفتَيه عندما نخرج. نقف في طابورٍ ينتهي بنافذةٍ من الزجاج كُتب فوقها بخط نسخ في شبه دائرة: الخزينة وتحتها كلمة أجنبية.

يقترب منا رجلٌ ذو وجهٍ سمينٍ ضاحك. يُصافح أبي بحرارة. يسأله لماذا لم يأتِ إلى اجتماعات الرابطة. يعتذر أبي بمشغوليات الحياة. يسأل عن مصير الشكوى الخاصة بموضوع الاستبدال. يهزُّ الرجل رأسَه أسفًا: الظاهر مفيش فايدة، الحكومة مصممة تسرقنا. – والحل؟ – لازم نوكِّل محامي كبير.

يتحرك الطابور. نصبح أمام النافذة. يُخرج أبي «سرکي المعاش» من جيب سترته. يعطيه للموظف الجالس وراء النافذة. يناوله الموظف بضعة جنيهات. يوقع أبي بالاستلام.

نغادر المبنى. نعبر الشارع. أتوقع أن يذهب إلى المقهى، لكنه يتجنبه. يخترق حارة صغيرة في مواجهتنا. نصبح في شارع الترام. نقف على رصيف المحطة. نركب. ننزل في «العتبة». أعرف الميدان من مبنى المطافئ الأبيض الذي تقف في مدخله سيارات الحريق الحمراء.

نعبر الميدان إلى العمارة الضخمة المقابلة. تعلوها قبة مستديرة. أقول إني عطشان. يعترضنا بائع عرقسوس يدق صاجاته. أجُرُّ أحد مقاعد السفرة إلى النافذة وأرتقيه. يخرج بائع العرقسوس من الحارة الجانبية. ملابسه بيضاء نظيفة. إناء العرقسوس الزجاجي مستند إلى بطنه. في فوهته كتلة من القش تبرز منها قطعة ثلج. ظهره مائل إلى الخلف. الصاجات في يده. أنتظر حتى يدقها في إيقاع لطيف ويصيح: «شفا يا عرقسوس حلاوة.»

يعرف أبي أني لا أحب شراب العرقسوس. ندور حول المبنى. نتوقَّف أمام حانوت «ويلسون». تتصدره منصة فوقها ثلاث أوانٍ زجاجية مستديرة؛ واحدة لمشروب الشعير الأبيض والثانية للتمر هندي والثالثة لشربات أحمر اللون.

يطلب أبي لي كوبًا من عصير القصب. يضع العامل ثلاثة أعواد من القصب بين أسطوانتين خشبيتين. يدفع العجلة التي تحركهما. يسيل العصير في مجری معدني. يلقي بقطع من الثلج في دورق زجاجي. يضعه أسفل نهاية المجرى. يرفعه عندما يمتلئ. يصب لي كوبًا. أشربه في استمتاع.

نعود إلى الميدان. نلج ممرًّا ضيقًا داخل العمارة الضخمة. حديقة صغيرة. صالة واسعة بها موائد ومقاعد. نجلس في أحد الأركان. يقترب منا جرسون يوناني في قميص أبيض وبنطلون أسود. تزين رقبته ربطة عنق سوداء على هيئة فراشة. يخاطب أبي قائلًا: بونجور يا إكسلانس. يحضر صينية فوق فوطة بيضاء نظيفة. ينقل منها إلى المائدة أطباقًا صغيرة. طحينة وقطع من خبز الفينو على شكل أهلَّه. زيتون أسود. فول سوداني. يمضي إلى منصة عالية في نهاية الصالة. أمامها مقاعد عالية. في طرفها برميل من الخشب مائل على جانبه. يضع كوبًا زجاجية أسفل حنفية صغيرة في طرف البرميل. ينتظر حتى تمتلئ وتسيل الرغوة البيضاء على جوانبها. يرفع الكوب ويجفف جوانبها بالفوطة. يحملها إلينا.

يخلع أبي طربوشه. يمسح العرق عن صلعته بمنديل. يحتسي رشفة من كوب البيرة ثم يُشعل سيجارته. أتناول قطعة خبز. أغمسها في الطحينة وألتهمها. ألتقط حبات الفول السوداني. يقترب منا بائع بجلابية يحمل سبتًا صغيرًا به جمبري مسلوق. يهزُّ أبي رأسه نفيًا. يتبعه بائع أوراق اليانصيب. يتناول أبي منه دفترًا به جداول من الأرقام. يخرج من سترته ورقة يانصيب. يراجع رقمها على الدفتر. ثم يعيدها للبائع وعلى وجهه ابتسامة أسف. يتناول منه عدة أوراق. يختار منها واحدة. يدفع له قرشًا. يقترب منا ماسح أحذية. يُقعي عند قدمَي أبي. يضع أبي قدمه اليمنى على مسند المسح.

أتأمل المنصة العالية التي تحلَّق حولها عددٌ من الرجال. خلفها رفوف من الزجاجات الملونة. ألمح عجوزًا ذا ملامح أجنبية في ملابس أنيقة ممددًا على الأرض بجوار المنصة. يردد كلمات يضحك لها الواقفون. لا يعبأ أحدٌ بمساعدته على النهوض. الزجاجة الصغيرة فوق سطح المائدة. حولها أطباق عديدة. رائحة كبدة محمرة. الغرفة خالية. يأتي صوت أمي من غرفة النوم: «یا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي.» صوت أبي ببقية الأغنية: «غرامي هالكني».

ينتهي الماسح من فردة الحذاء اليمنى فيدق صندوقه الخشبي. يُنزل أبي قدمه ويضع القدم اليسرى. أتناول قطعة الخبز الباقية. أمسح بها طبق الطحينة. ينتهي مسح الحذاء. يعطي أبي الماسح تعريفة. يرفع كوب البيرة إلى شفتيه. يجرع ثمالته على مهل. يأتي الجرسون ويسأل إذا كان أبي يريد شيئًا. يهزُّ رأسه نفيًا. يدفع ونغادر المكان.

نستقل الترام. نركب العربة المغلقة. نجد مقعدًا خاليًا إلى جوار رجل في قفطان ولبدة رأس ريفية. أجلس فوق ركبتَي أبي. ظهر المقعد التالي أمامي. تحتلُّه امرأة في ملاءة سوداء وبجوارها فتاة في بلوزة وجونلة. الأولى جالسة لصق الممر الفاصل بين المقاعد. فخذها بارز قليلًا خارج المقعد. يقترب رجل في بزة وطربوش. يقف إلى جانب مقعدها. يستند بيده على حافة المقعد. ركبته قريبة من الجزء الخلفي من فخذ المرأة.

أتطلَّع من النافذة إلى إعلانات الأفلام. يهتزُّ الترام. ألتفت أمامي. ألمح ركبة الرجل تحتك بساق المرأة. تميل على صديقتها. تبادلها حديثًا خافتًا. يحرك الرجل ركبته فوق فخذها. أرفع عيني إلى وجهه. يبادلني النظر. أتحول بعيني نحو النافذة. أتظاهر بتأمل الشارع. أراها بركن عيني تزداد میلًا على صديقتها. تصبح ركبة الرجل بين فلقتيها. أرفع عيني إلى وجهه. يتطلع إليَّ. يحدق فيَّ فأحول نظري. يتوقف الترام. تقوم المرأة مسرعة. تودع صديقتها. تتحاشی النظر إلى الرجل. تمرق بسرعة بين الواقفين. ألمح وجهها مضرجًا. تتجه إلى الباب. الملاءة مكومة بين فلقتيها. يحتل أحد الواقفين مكانها. وجه الرجل شاحب. العرق يتجمع فوق جبينه. ينحني برأسه لينظر من نافذة الترام. يعتدل واقفًا. ينظر حوله. تلتقي عيوننا. يحدق فيَّ. أحول عیني بعيدًا.

نغادر الترام في الميدان. نعبره إلى حانوت الدخاخني على ناصية شارعَي «فاروق» و«الظاهر». يشتري أبي علبة سجائره ذات الغلاف الأصفر الذي يتوسَّطه رأس حبشي. نلفُّ الميدان. نعبر الشارع المؤدي إلى منزلنا القديم. نصبح أمام سبيل «أم عباس». أحد المارة يشرب من حنفية السبيل. أتطلع إلى الشارع الصاعد إلى منزلنا القديم. بائع الورد على الناصية. رأس حصان مدفون في كيس تبن. ثلاثة من الكناسين بملابسهم الصفراء وشواربهم المدلاة ومقشاتهم الطويلة. الحواف الأمامية لأغطية رءوسهم مدارة فوق أقفيتهم. يدق عصا المكنسة في الأرض ليثبت قشها. يزيح الأتربة. ينفصل القش عن العصا مرة أخرى. يقتعد الرصيف. يدس خرقة قماش بين العصا وحزمة القش.

نعبر الشارع. نتجاوز مخبز «عبد الملاك». نتجه إلى الأجزخانة. يدفع أبي بابًا من الزجاج المغبش. يلفحنا الهواء الذي تحركه مروحة دائرية مدلاة من السقف. الصيدلي يرتدي نظارة ذات عدستين سميكتين. يستفسر أبي عن حسابه. يقلب الصيدلي صفحات دفتر. يدفع له أبي جانبًا من الحساب. يعده بأن يدفع الباقي في أول الشهر القادم. يميل عليه ويهمس بشيء. يبتسم الرجل ويقول: يا ريت. خد فيتامين ب. يشتري أبي زجاجتين صغيرتين؛ واحدة من صبغة اليود والأخرى من الميكروکروم.

نعود في اتجاه شارع «النزهة». نتوقف أمام الجزار. يشتري أبي رطلًا من الكلاوي وخصية خروف. يدفع حساب الشهر الماضي. يسأله: أخبار أبوك إيه؟

يجيب بلهجة مستنكرة: قاعد مع العروسة.

يبتسم أبي: هنياله.

– يصح راجل كبير يعمل كده؟

– يعني عنده كام سنة؟

– أهو عدى الستين.

يهزُّ أبي رأسه: ناوي يخلِّف؟

– لا. الحمد لله مبتخلفش. بس عايز يكتب الدكان باسمها.

نشتري شمامة من عربة بحصان. نعبر الشارع إلى دكان الحاج «عبد العليم». نلج الدكان. يفتح «سليم» دفتر «الشكك» بمجرد رؤية أبي. يحسب ما علينا. يطلب منه أبي قليلًا من السكر الناعم. يسأله «سليم» بلهجته الجافة: قد إيه يعني؟

– خمسين درهم. علشان الشمامة.

نتَّجه إلى الحارة. يقول لي أبي: زمان «فاطمة» عملت الفاصوليا والرز. أقول: متعرفش تعمل رز زي اللي إنت بتعمله.

٣

يتردَّد أذان العصر عاليًا من میکروفون الحاج «مشعل» المعلق في مدخل الحارة. يطل تاجر الحديد من بلكونة الزوجة الثانية. يستند بساعده إلى حافتها. علامات الغضب على وجهه. يمد يده اليمنى بطرف خرطوم من المطاط الأسود. يوجه فوهة الخرطوم نحو المنطقة التي حفرنا بها دوائر البلي الخمس. تنطلق المياه من فوهة الخرطوم. تنحدر إلى حفر البلي فتغمرها. نجمع البلي. يأخذ كل واحد ما يخصه. يصعد «صفوت» إلى شقته. أقف أنا و«سمير» حائرين. وجهه مليءٌ ببثور «الحمونيل» مثل وجه أمه. تكتسح المياه الحارة. ولا تترك لنا فرصة للعب. يناديني أبي من البلكونة. أصعد. أغسل وجهي وقدمي من صنبور الحوض. أعود إلى الغرفة فأجفف وجهي بالفوطة الملقاة فوق حافة السرير. تختفي الشمس فيستدعيني. أسرع إلى الداخل وأذهب على الفور إلى الحمام. أغسل وجهي وقدمي. ألحق به عند النافذة. يكون الظلام قد حل. نجلس في الظلام دون أن نشعل النور. الشارع ساكن ليس به أحد.

أفتح ضلفة الدولاب اليسرى. أمد يدي إلى كيس النقل. أغرف كبشة من البندق واللوز والجوز. أضعها على المكتب. أفتح الضلفة اليمنى. أتناول لفافة «قمر الدين». أقتطع قطعةً في حجم الكف. أبحث عن الكسارة حتى أجدها مدفونةً بين الملابس. أجلس إلى المكتب. أفتح كراسة أغاني «ليلى مراد». أكسر بندقتين ولوزتين وجوزة. أقضم قطعة من قمر الدين. أستحلبها في فمي ثم أضيف إليها بندقة أو لوزة. أبي يروح ويجيء بين البلكونة وباب الغرفة. يزفر متشكيًا من الحر. يردد: «اشتدي أزمة تنفرجي.» ينش الذباب للمرة الرابعة. يتردد صوت مألوف من الحارة. ««شكوكو» بقزازة.» أهرع إلى البلكونة. يتكرر النداء من صاحب عربة امتلأت بتماثيل صغيرة من الجص للمغني المشهور. ألتفت لأطلب من أبي زجاجة فارغة كي أبادلها بأحد التماثيل. لا يشجعني وجهه المقطب.

يصيح بائع من مدخل الحارة: «لوز يا أمْهَات». يُنادي أبي على «فاطمة». تظهر في مدخل الغرفة. تمسح يدَيها في جلبابها. يسألها ماذا تفعل. تقول: باخرط الملوخية يا سيدي. يلتفت إليَّ قائلًا: خد قرش صاغ من جيبي وروح هات رطل بلح. أندفع إلى سترته المعلقة على الشماعة. أبحث في جيوبها حتى أجد الفكة. أستخرجها في كفي وألتقط منها قرش صاغ. آخذ أيضًا مليمَين. أسأله: أدفع كام؟ يقول: زي ما يقولك؛ مش حتعرف تفاصل. أتجه إلى الباب. يصيح بي: خلي بالك من الميزان، إوعى يضحك عليك.

أُغادِر الشقة جريًا. أقطع الحارة حتى الشارع. بائع البلح يجلس فوق أحد ساعدَي عربة يدٍ مستندًا بساقٍ فوق المسند الآخر. قدمه حافية ومُطينة. البلح مكوم في قفصٍ مستديرٍ من الخوص. فوقه ستارة بيضاء شفافة. يزيح الستارة قليلًا. يتناول بيده كمية من البلح. يضعها في إحدى كفتَي الميزان. ألفُّ حوله لأكون قريبًا من الميزان وأتأكد من سلامته. يصنع قرطاسًا من الورق. يصب فيه محتويات كفة الميزان. يضيف إليها بلحتين. يعطيني باقي القرش. أجري حتى بائع اللب وأشتري بمليمٍ لبًّا وبمليمٍ حمصًا.

أخرج مرة أخرى قبل المغرب لشراء فولٍ مدمس للسحور. البائع خلف قدرته في مدخل الحارة. حوله زحام من الأطفال والبنات. أيديهم ممدودة بالأطباق والحلل. يتصايحون کي يلفتوا انتباهه. نتابع في لهفة خروج يده اليمنى من القدرة بكبشة الفول. أشاركهم الصياح مادًّا يدي اليمنى بالطبق واليسرى بالنقود. أصواتهم أعلى من صوتي.

أعود بطبق الفول بعد أن بدأَت تلاوةُ القرآن. تأتينا عبر الراديو من ناحيتَين؛ میکروفون الحاج «مشعل» وراديو «أم زكية». يضع أبي حبتين من البلح الإبريمي الجاف في كوب ماء. تنتهي «فاطمة» من خرط الملوخية. تضعها على النار. تبدأ في تقشير الثوم لإعداد التقلية. يحذرها أبي من طش التقلية الآن. يقول إن «أم نبيلة» — الله يرحمها — كانت تستعد لطش الملوخية عندما تسمع صوت أقدامه على السلم، ولا تطشها إلا بعد أن يجلس إلى المائدة کي تغمره الرائحة.

يتوضأ ويستعد للصلاة. يختم المقرئ ﺑ «صدق الله العظيم.» تمر لحظة صمت ونحن ننتظر في لهفة. ينطلق مدفع الإفطار من «القلعة». يتكرر صوته من الراديو والميكروفون. يتبعه أذان المغرب. يرفع أبي کوب البلح ويرتشف منه على مهل. يمضغ بلحة. يفرش سجادة الصلاة فوق البلاط. يصلي المغرب. تطش «فاطمة» الملوخية. تجلب الحلَّة إلى المائدة المستديرة. تتبعها بحلة الأرز وطبقين. – عاوزين حاجة تانية؟ يرفع أبي صوته بالتلاوة ناهرًا. تقول: طيب، أنا مروَّحة. تخرج مهرولة. ينتهي أبي من الصلاة. ضوء المغرب يتلاشى بسرعة. يضيء نور المصباح الكهربائي. يجلس على حافة السرير. أجلس أمامه فوق الكرسي. يغرف لي بالكبشة من الملوخية. يُضيف قطعةً من اللحم. أمزِّق نصف رغيفٍ إلى لقيمات. أدسها في الملوخية. يغرف لنفسه. يسود الحارة هدوء تام. صوت ملعقة تصطدم بطبق. الصوت قريب للغاية كأنه في شقتنا.

تدوي فجأة صفارة الإنذار. أصوات من الحارة: طفِّي النور. أزيح الكرسي إلى الخلف. أهرع إلى مفتاح النور. أضغطه. يسود الظلام. ينهض أبي واقفًا. ينادي عليَّ. أقول له: أنا هنا يا بابا. يمد يده فيحتضنني. نستدير ناحية البلكونة. نقترب منها. تسكت الصفارة. يسود سكون شامل. يقول: الكلاب. ده الهدنة مخلصتش. يمد يده ليغلق باب البلكونة. ثم يعود يفتحه. يقول: أحسن القزاز يكسر.

أقترب أكثر. الحارة غارقة في الظلام. أمد عنقي متطلعًا إلى أعلى. الكشافات تجوب السماء في سرعة محمومة. يتوقَّف اثنان منها فوق نقطة مضيئة. يبتعدان. تختفي الكشافات كلها مرة واحدة. يدوي صوت انفجار خافت بعيد. تقبض يده على كتفي بعنف. يقول: تعالى هنا أَأْمن.

يجذب بطانية من فوق السرير. يزحف أسفله. يزيح حقيبة السفر القديمة. يبسط البطانية فوق البلاط. أتبعه. يعتمد على ركبتيه منحنيًا إلى الأمام حتى لا يصطدم رأسه بملَّة السرير. أنكمش إلى جواره. يحتضنني بذراعه.

أزحف إلى حافة السرير مقتربًا من باب البلكونة. أخرج رأسي وأتطلع إلى الجزء الظاهر من السماء. تنساب إحدى النجوم في سرعة. تتلاقى الكشافات وتتعانق في محاولة للإمساك بها. يهمس أبي: إنت رحت فين، تعالى هنا. أعود إلى جواره. ألتصق به. ننتظر في صمت. يتناهی إلى سمعنا طنين. يزداد اقترابًا. يتوقف فجأة.

أسمع صوت انفجار. صفارة الإنذار المتقطعة. أبي يطفئ الأنوار. ترفض أمي الذهاب إلى المخبأ. يلح عليها. تصيح به: هو المخبأ يحمينا؟ فوق يا راجل لنفسك. الله هو المنجي. نجلس في الصالة. يأخذني في حضنه. أصوات مدافع بين الحين والآخر. أزيز خافت مألوف. يقترب الصوت. يزداد اقترابًا. يتوقف. تسقط القنبلة الألمانية في دويٍّ أمام المنزل. يتحطم زجاج نافذة المنور. يتحرك البوفيه إلى الأمام. تسقط المرآة التي تتصدره. بعد قليل تنطلق صفارة الأمان. ينهض أبي ليضيء النور وهو يغمغم بالشكر لله. وجه أمي شدید الشحوب.

ألتصق بأبي. يجذبني إلى حضنه. يزحف خارج السرير وأنا معه. نغادر الغرفة إلى الصالة. نتجه إلى دورة المياه. يدخل الكنيف. الماء يسيل من الحنفية في سرسوب ضئيل. يلم جلبابه وينحني إلى الأمام. يحكم إغلاق الصنبور. يخرج علبة كبريت من جيبه. يشعل عودًا. تظهر الفتحة الدائرية للكنيف. يرفع العود إلى أعلى. يرتقي القاعدة الحجرية. أتشبث بجلبابه. يمد يده إليَّ ويجذبني إلى جواره. أتحاشى النظر إلى الجدران. أغلق عيني. أتجاهل رائحة الكنيف المقززة. أدفن رأسي في جلبابه. أنصت إلى صوت تنفُّسه. تحتك أذني بقطعةٍ معدنيةٍ في حزام الفتق. تتوالى أصوات الانفجارات. يرتجف. يهتف بقوة: يا لطيف الطف.

أدرك بعد قليل أن الانفجارات توقفت. تسترخي قبضته فوق كتفي. يدوم السكون بعض الوقت. ثم تُدوِّي صفارة الأمان الطويلة. يهدأ تنفسه. نخرج إلى الطرقة. يضيء نور الصالة. ندخل الغرفة. يضيء النور. يشعل سيجارته السوداء. نتجاهل الطعام ونقف في البلكونة. يظهر أولاد الحارة بالفوانيس. «سمير» يحمل. فانوسًا ذا جوانب بيضاوية الشكل. كل جانبٍ بلونٍ مختلف. آخر يحمل فانوسًا على شكل الكرة. أدخل الغرفة. أتناول فانوسي من فوق المكتب. جوانبه الزجاجية مربعة الشكل. أفتح بابه وأشعل شمعته. أغلق الباب فينفتح مرة ثانية. أغلقه بقوة. أحمله في حذرٍ من حلقة صفيحٍ في قمته کي لا تجرحني حافة قاعدته أخرج إلى البلكونة.

أتفرج على الأولاد وهم يرددون: حالو يا حالو. رمضان جانا یا حالو. يقاطعهم «سمير» بصوته الرفيع: وحوي يا وحوي. إيوحة. يتقدمون من عمق الحارة. يصبحون أمامنا فيصيح أحدهم: يا فاطر رمضان. یا خاسر دينك. هل يقصدوني؟ يمضون إلى مدخل الحارة.

٤

يصلي العشاء. نرتدي ملابس الخروج. يلف حذاءه البني ذا المقدمة البيضاء في جريدة. يلف أيضًا قطعة القماش البني اللون التي باعها لنا الكونستابل. نغادر المنزل. نخرج إلى الشارع. نمر من أمام بقالة شيخ الحارة. ليس بها غير «سليم» خلف المنصة. نتوقف لدى الجزمجي. يناوله الحذاء. يقلبه الجزمجي في يده. يقول: النعل دايب من قدام ومن ورا.

يقول أبي: حط حديدة قدام واعمل لها نص نعل.

– اسمع كلامي واعمل نعل كامل. دي إنجليزي. مش خسارة فيها.

– زي ما بقولك. حديدة ونص نعل.

– حاضر. تعرف يا بيه الجزمة الجديدة بكام؟ فيه واحدة أمريكاني عند «ناصف» ﺑ ٦٨ قرش.

– وياريتها تعيش إنما لبستين وبس … أمريكاني.

يلتفت نحوي قائلًا: وانت جبت جزمة للعيد؟

يسبقني أبي في الرد: حاجيبله على العيد الكبير بإذن الله.

ينزع الحامل الخشبي للصحيفة. يبسطها ويقرأ العناوين. أدس رأسي بین بطنِه والجريدة. الملك بنظارته السوداء في زيارة للمستشفى العسكري يواسي الجرحى العائدين من جبهة القتال. برفقته ملك شرق الأردن. خلفهما الأميرتان «فوزية» و«فائزة» بالملابس العسكرية. تحمل الأولى لقب الفريق والثانية لقب اللواء. يقول الجزمجي إننا شاركنا في حرب لا شأن لنا بها.

نُواصل السير حتى الميدان ثم نتجه يمينًا. نلج شارع «قمر». نتوقف عند دكان الترزي. يجلس أمامها فوق كرسي مادًّا ساقه فوق أخرى. يعمل في حياكة سترة. يُناوِله أبي قطعة القماش قائلًا: عاوزين نعمل له بدلة العيد. يتفحص الترزي القماش ثم يقول: لكن ده قماش ستاير يا «خليل» بيه.

– ستاير ولَّا مش ستاير. ينفع ولَّا لأ؟

يهزُّ الترزي رأسه ممتعضًا. يأخذ مقاساتي. البنطلون قصير حتى الركبة. نتفق على أن نأتيه بعد أسبوع لعمل البروفة الأولى. نتركه ونواصل السير حتى ميدان «السكاكيني». نمر بالكنيسة. نمضي في شارع «طورسینا» حتى ملتقاه بشارع «النزهة». يتوقَّف أبي أمام فيلا صديقه اللواء «فريد». يدفع الباب الحديدي وأتبعه إلى ممر وسط حديقة. نصعد بضع درجات وهو يكحت الحذاء في الرخام لينبه بوصولنا. يدق بابًا حديديًّا. تفتح لنا خادمةٌ عجوز. يسأل: البيه هنا؟ تدعوه للدخول.

نقف في ردهة مزدحمة بالأثاث فوق سجاد سميك. تختفي ثم تعود. تفضَّل يا بيه. نتبعها إلى حجرة الضيوف. على الجدران صور ضباط كالتي عندنا. تتدلَّى من السقف نجفة ضخمة. يظهر اللواء بعد فترة. يرتدي روبًا من الحرير الملون ويعتمد على عصًا. – أهلًا «خليل» بيه. خطوة عزيزة. يجلس بجانبنا ويضع عصاه بين ساقَيه. وجهه أسمر بحفرةٍ غائرةٍ أسفل عنقه. أعرف أنها من أثر رصاصة. أسفل الروب قميص أبيض بياقة منشاة تتدلَّى أوداجه فوقها. شاربه كبيرٌ ومنفوش الطرفين. ينادي على الخادمة ويطلب منها إحضار أطباق الخشاف من الثلاجة. تحضر ثلاثة أطباق في صينية مدورة. يُعطيني أبي طبقًا ويتناول واحدًا. يُبدي استحسانه لبرودة الخشاف. ترصُّ أمي أطباقَ الخشاف الصغيرةَ فوق رخامة البوفيه. تفتِّت قطعة ثلج بقادوم خشبي. تنثرها فوق الأطباق.

يتحدثان عن الغارة. يقول أبي إننا أخطأنا بقبول الهدنة. يقول اللواء إنها كانت ضرورية بسبب فداحة خسائرنا. كما إننا محاصرون في «الفالوجا». واليهود منعوا الماء عن رجالنا فاضطروا لأن يشربوا بولهم. يسخر ممَّا نُشر في الصحف عن حديث بين «حيدر» باشا وزير الدفاع وأحد الوزراء. قال له الوزير: شيد حيلك يا باشا، عاوزين نعيِّد في «تل أبيب». يعلق اللواء: يبقى يقابلني.

ينتقل الحديث إلى أزمة المساكن. يقول أبي: تصوَّر الشقة بقت بخلو ۳۰۰ جنيه. يقول اللواء وهو يتناول مجلة مصورة: شفت الحكم على قتلة «أمين عثمان»؟ «أنور السادات» طلع براءة. يضع المجلة جانبًا ويقول: كان ضابط عندي. محبتوش أبدًا. خنيث. أتناول المجلة. أتأمل صورة «السادات». ملابسه أنيقة. عقدة ربطة العنق أصغر من المألوف. حليق شعر الرأس والذقن. الحلاقة وفقًا للموضة التي تخفف الشعر المحيط بالأذنين.

ينادي اللواء على الخادمة ويطلب منها استدعاء ولدَيه. كبيران طويلا القامة. يقفان في رهبة عند الباب. يسأل أكبرهما: حضرتك عاوز حاجة؟ يأمرهما باصطحابي. نذهب إلى غرفة ضيوفٍ أخرى. نجلس فوق سجاد سميك داكن الحمرة. تُحضر الخادمة صينية كبيرة من الياميش. أتناول الكسارة وبندقة. يستأنفان لعبة كوتشينة ثنائية سريعة لا أتمكن من متابعتها. يقترح أكبرهما رهانًا على فوز «أبو حباجة» في أوليمبياد «لندن» آخر الشهر. أسأل: «أبو حباجة» مين؟ يقول الأصغر: حد ميعرفش بطل النادي الأهلي؟ يؤكد شقيقه: أعظم لعيب كورة في العالم.

أنهض وأطوف بالغرفة. أجلس فوق أريكة. وسائدها وثيرة ملونة بألوان داكنة. على الجدار صور للولدين مع أبيهما وأقارب آخرين. أنهض. الولدان منهمكان في اللعب. أتسلل من الغرفة إلى الصالة. مظلمة. في نهايتها غرفة مضاءة. أقترب منها. أسمع صوت تلاوة القرآن. أطل بحذر. شيخ بعمامة وجبة فضفاضة متربع فوق كنبة بلدية. يده على خده. يتلو وهو يميل بجسمه يَمْنة ثم يَسْرة. تنتهي الآية فيواصل الاهتزاز صامتًا. أعود إلى الصالون الصغير. يقترح الولد الكبير أن نلعب «الكومي».

يظهر أبي عند الباب واللواء من خلفه. أتبعه إلى الخارج. نغادر الفيلا ونأخذ طريقنا إلى المنزل. نتوقف عند حانوت للأدوات المنزلية. يشتري دستة أكواب صغيرة زجاجية صغيرة لشرب الشاي تزين جوانبها نقوش ملونة. يضعها على البوفيه قائلًا إنها للعيد.

يرتفع نداء بائع الزبادي. يلتقط سلطانية فارغة من الفخار البني اللون. ندخل الغرفة ونفتح باب البلكونة. ينادي البائع ويعطيها له. يستخرج البائع واحدةً ممتلئةً من أسفل غطاءٍ من القماش الأبيض. يناولها لأبي.

يتردَّد صوت المسحراتي من بعيد: قوم يا نايم وحِّد الدايم. يقترب صوت طبلته. يلج الحارة. لا تبدو ملامحه في الظلام. يقف أمام كل منزل وينادي السكان بأسمائهم. يدقُّ على الطبلة في نهاية كل اسم. ينادي اسم أبي ثم اسمي.

٥

يعدُّ أبي طبقًا من البيض المقلي. أسأله: هي «فاطمة» فين؟ يقول: بتعيِّد.

نتناوَل الإفطار في الصالة. يجلب براد الشاي. يصبه في اثنين من الأكواب الجديدة. يضع السكر ويقلبه. أتناول كوبي فتنفصل قاعدته ويسيل الشاي الساخن على المائدة. يجرِّب كوبه فيحدث المثل. ينهض واقفًا. يترك كل شيء كما هو على المائدة. نغسل أيدينا.

يجرُّ كرسي المكتب إلى البلكونة. يشعل سيجارته. يطلب مني أن أبحث له عن ورقة وقلم. أحضر له كراسة الواجب وقلمي الرصاص. يطوي الورقة. أقف إلى جواره. أطل على ما يكتبه:

عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد
بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد

يتطلع إلى الحارة مفكرًا. أدرك أنه يحاول إكمال النَّظْم من تأليفه كعادته في كل عيد. أقول: مش حنخرج بأه؟ لا يرد. ينهض متثاقلًا بعد قليل. يحضر صندوق الحلاقة. يضعه على الطاولة. أملأ له کوبًا من الماء. يبلِّل الفرشاة ثم يدعكها بالصابون.

أتناول قميصي الجديد. أقلب الياقة وأدس «باغة» في كل من الفتحتين المخصصتين لها. أرتدي بنطلون البزة الجديدة. القماش ثقيل وخشن. يطلب مني أن أكتفي بالقميص والبنطلون لأن الجو شديد الحرارة. أنصاع متضررًا. أطمئن على وجود لفافة الأحجبة في جيب بنطلوني الخلفي. أسمع ضجة الأولاد في الحارة. أهرع إلى البلكونة. كلهم في ملابس العيد. البنات بفيونكات في شعورهن. يصيحون في نفس واحد: حِلِّ الكيس وادِّينا بقشيش يا حالو. يفجرون البمب. يحمل «سمير» شريطًا من «حرب إيطاليا». يحك حباته في الأرض فتشتعل.

أستدير وأخطو داخل الحجرة. أروح وأجيء عدة مرات إلى أن ينتهي من الحلاقة. يدعك خدَّيْه وأسفل ذقنه بإصبع «الشبة» ذي الغلاف المفضض. يترك عدة الحلاقة فوق المكتب. ينهض واقفًا. يخلع ملابسه. يرتدي القميص. يثبت الأزرار. ينقطع واحد ويتدحرج على الأرض. أحضره. يبحث في الرف العلوي للدولاب حتى يعثر على بكرة خيط وإبرة حياكة. يحاول إدخال الفتلة في فتحة الإبرة. يفشل. يعطيهما لي. أبلل طرف الفتلة بريقي. أدسها في الفتحة بسهولة.

يرتدي بنطلون البزة البيضاء. يثبت حمالتَيه. – ناولني الجزمة. أحضر له الحذاء البني ذا المقدمة البيضاء. أنظفه بقطعة قماش. يجلس فوق حافة السرير. يدس قدميه في الحذاء. يعقد رباطه. يظل جالسًا وهو يحدق في الأرض. أستعجله: يلَّا بأه. ينهض واقفًا. يرتدي سترة البزة. يتناول الطربوش من فوق الشماعة ويضعه فوق رأسه. يلوي طرفَي شاربه ويفركهما بأصابعه على الوضع المشدود إلى أعلى.

يغلق مصراعي البلكونة. يبحث عن المفتاح بين الملابس والأغطية المتناثرة فوق الفراش. يتناول المظلة البيضاء المعلقة في الشماعة. يضغط مقبضها فتنبسط ويظهر شق واضح في جانبها. يلقي بها جانبًا في سخط. ينبهني ألَّا أنسى كتاب اللغة الإنجليزية وكراسة الواجبات.

نغادر الغرفة ونغلق بابها بالمفتاح. تظهر «فاطمة» عند باب المخزن: كل سنة وانت طيب يا سیدي، تروح وتيجي بالسلامة. يُعطيها العيدية فتقبِّل يده: ربنا يخليك يا سيدي. يعترضنا المسحراتي في مدخل الحارة. لأول مرة أرى وجهه بالنهار. أسمر مليء بالتجاعيد. يقول لأبي: كل سنة وأنت طيب يا بيه. يعطيه أبي نصف فرنْك.

دكان البقال مغلق. نبلغ الميدان. المراجيح منصوبة أمام مدخل شارع «الحسينية». نستقلُّ الترام من الباب المجاور للسائق. أشرئبُّ بعنقي لأقرأ اللافتتَين الموضوعتَين فوق رأسه: «ممنوع البصق.» «ممنوع الكلام مع السائق.» نترجل في ميدان «العباسية». الترام الأبيض. نغادره في ميدان «الإسماعيلية». يُخرج أبي منديلًا ويمسح العرق عن وجهه. يدور به حول رقبته خلف ياقة القميص. يخلع طربوشه. يلف المنديل حول إصبعه ويدور به حول الحافة الجلدية الداخلية للطربوش. يضع المنديل فوق رأسه فتتدلى حوافه على جبهته. يكبس الطربوش فوقه.

نلج الشارع ونتطلع إلى واجهة المنزل في نهايته. يتساءل: يا ترى موجودين؟ الشمس حارقة وهو يحمل بطيختين. يخلع طربوشه ويمسح العرق عن رأسه الأصلع بمنديل. نوافذ الترسينة مغلقة. نعود في صمت ووجهه مكفهر.

أدقِّق النظر في النوافذ الخشبية التي تتيح الفرجة من خلال فتحاتها الضيقة. إحداها مرفوعة قليلًا إلى أعلى. أقول: لو خرجوا كانوا قفلوها.

نتوقف أمام البقالة الوحيدة. أمامها صناديق لسمك «البكلاه»، عريضة مصبوغة بلون ناصع البياض. كوم من البطيخ والشمام. عدة أقفاص من العنب والتين. يشتري أبي أقة من العنب البناتي وأخرى من التين الفيومي. يختار ثمرات التين المفتوحة ويتجنب المغلقة. يحملهما في کیسین مضمومين إلى صدره. واحد في كل ذراع. نواصل السير حتى المنزل. أمامه سيارة «سكودا» وسيارة أخرى «كرايزلر» ذات سطح مقبب. الممر ذو البلاط الملون. نصعد السلم.

ضجة العيد تأتي من الطابق الأول. تسكن به عائلة كبيرة في شقتين متصلتين. نواصل الصعود إلى الطابق الثاني. الباب المواجه للترسينة مغلق. الباب المطل على السلم مفتوح. ندخل منه. يرتمي أبي على كنبة وهو يلهث. أقف إلى جانبه. يتنهَّد في ارتياح. يخلع طربوشه ويضعه فوق وسادةٍ في منتصف الكنبة. تيار الهواء يسري بين باب السلم المفتوح وباب حجرة الضيوف المؤدية إلى الفرانده. يندفع منها «شوقي». يماثلني في العمر. أبيض وسيم بشعر أسود ناعم. يرتدي بزة جديدة كاملة. يميل لونها إلى البني وتقطعها خطوط طولية بيضاء. حذاؤه بني بكعب كريب. تتبعه أخته «شيرين» في فستانٍ ملونٍ بكمَّيْن قصيرَين. شعرها معكوصٌ في فيونكة خلف رأسها. في جبهتها أثر جرح غائر. يتعلقان بأبي. يحتضنهما ويقبِّلهما. يعطيهما العيدية.

تقترب أختي «نبيلة» قادمة من ناحية المطبخ. ترتدي فستانًا بلون داكن الحمرة بلا أكمام. وجهها ملون بالروج والبودرة. تقبِّل أبي في خده: كل سنة وانت طيب يا بابا. يهمُّ بتقبيلها فتمنعه. – بلاش يا بابا، أحسن الماكياج يبوظ، تعال في الفرانده، الطراوة هناك حلوة. يشير أبي بيده أن تصبر عليه قليلًا. يقول: الظاهر أخدت ضربة شمس. تقول: حاحط لك مية بخل. – اديني كوباية ميه الأول.

تنادي: «خضرة». تأتي الخادمة الجديدة مسرعة. سمراء أطول من أختي. لها صدر ممتلئ. سريعة الحركة في جلباب ملون. شعر رأسها ملفوف بمنديل في ألوان الجلباب. قدماها نظيفتان في صندلٍ من البلاستيك. تتجه إلى صينية القلل الموضوعة فوق البوفيه إلى جوار جهاز الراديو. ترفع الغطاء النحاسي لإحداها وتصب منها الماء في كوبٍ من الزجاج. تقدمه لأبي فوق طبق صغير من الفضة. تلتفت إليَّ: تشرب يا سيدي؟ تناولني كوبًا آخر. أجرع المياه الباردة بطعم ماء الزهر. تأمرها «نبيلة» بإحضار فنجان ماء به قليل من الخل.

يخلع أبي سترته ويلقي بها إلى جواره. ترفع «نبيلة» الطربوش والسترة. تناولهما لي: علقهم جوه. يدي اليمنى ما زالت تحمل كتاب الإنجليزية والكراسة. تقول: حطهم على ترابيزة السفرة.

أطير بالسترة والطربوش إلى حجرة النوم. أشب فوق أصابع قدمي وأعلق السترة فوق أحد سواعد الشماعة. أثبِّت فيه الطربوش. أتطلع إلى أعلى متشممًا. ترص «نبيلة» ثمرات المانجو فوق سطح الدولاب بعد جمعها من الحديقة. أمي تقدم شرائح المانجو في صينية مستديرة من الصيني مزخرفة برسوم ملونة. يحيط بها سور رفيع من المعدن. أحوِّلها أحيانًا إلى ميدان فوق السجادة تتجه إليه سياراتٌ من علب الكبريت. تتناول تانت «دولت» طبقًا صغيرًا وشوكة وسكينًا. تلتقط شريحة وتضعها أمامها في الطبق. أترقب دوري.

أعود إلى الصالة. يتمدد أبي فوق الكنبة على جانبه الأيسر معتمدًا برأسه على فوطة بيضاء فوق ذراعه. تحضر الخادمة فنجان الماء والخل. أتناوله منها قائلًا إني أعرف كيف أنقط له. أنحني فوقه. أغمس إصبعًا في المحلول. أضعه في أذنه. أكرر العملية إلى أن أسمع طشًّا. ينقلب أبي على جانبه الآخر جاذبًا الفوطة معه. أكرر التنقيط في الأذن الأخرى. ينهض جالسًا محتفظًا بالفوطة لصق أذنه. يقول: أهو كده فقت.

ينضم إلينا عمو «فهمي» بخطًى سريعة يتقدمه كرشه البارز. يميل برأسه قليلًا إلى اليمين ليرى صورته في مرآة البوفيه. تهزُّ نسمة هواء جلبابه الأبيض الخفيف. – كل سنة وانت طيب يا «خليل» بيه، الطاولة جاهزة، النهارده العيد والعشرة بريال. يبتسم أبي: أشم نَفَسي الأول. يجذب عمو «فهمي» أحد مقاعد السفرة ويديره ليجلس في مواجهة الكنبة. يشعل سيجارة. يعطيني العيدية. ورقة جديدة من فئة خمسة قروش عليها صورة الملك «فاروق» في دائرةٍ بيضاوية.

تحضر «خضرة» صينيةَ كعكٍ وغُريِّبة. تضعها فوق مائدةٍ صغيرة أمام أبي. تقدم إليَّ «نبيلة» طبقًا صغيرًا. أضع فيه قطعتين. أقضم واحدة محشوة بالملبن. يتناول أبي قطعة «غُريِّبة». يأكلها في استحسانٍ. يقول إنها معمولة جيدًا لأنها ذابت في فمه على الفور. تقول «نبيلة» في زهو: صنعة إيدي، تعليم ماما الله يرحمها. يقول لي أبي: دوق واحدة. أهزُّ رأسي نفيًا. تقول باستهجان: ما ليش نفس. ما ليش نفس. حتفضل ترفع كده لغاية ما تطير. يعلق «فهمي» باسمًا وهو يتجنب النظر إليها: شوفوا مين بيتكلم. يتناول كعكة. تلتفت إليه في حدةٍ ناظرةً إلى كرشه: مش أحسن ما أكون زي الواحدة الحِبْلة.

يتجاهلها ويخاطب أبي: والنبي قول لها تسمن شوية، جبت لها مفتقة من «الحمزاوي»، مش راضية تاكل منها. يقول لها أبي: معه حق، الراجل يحب يلاقي حاجة يمسكها. يضحكون. تأتي «خضرة» بفناجين القهوة. ينحني أبي ليفك رباط حذائه. تسرع «خضرة» إلى مساعدته. تحضر له خفًّا من القماش. يسألها عن بلدها ويعطيها العيدية. يرفع ساقه اليسرى ويطويها فوق الكنبة أسفل اليمنى. يشعل «فهمي» سيجارة ويشعل لأبي سيجارته.

– نلعب هنا ولَّا في الفرانده؟

يجيب أبي: الفرانده طبعًا. بس استنى لما عرقي ينشف.

– حق الناس في الحر ده تخرج بالقميص الاسبور والبنطلون القصير.

يقول أبي إن ابن عمه يكتفي في الصيف بقميصٍ بكمين قصيرين ويخرج من غير طربوش فيبدو كالعلوق.

أسعل عدة مرات. تقول «نبيلة» وهي تنظر إليَّ في قلق إن مرض السل آخذ في الانتشار. تقترب من السرير الذي أرقد فيه مع ولديها. تقف فوق رأسي. ترقبني أسعل. عمو «فهمي» يقول لها إنها كحة عادية لأن السعال الديكي راح. تقول: أهو بكره بابا جاي ياخده. في الصباح أجوس أرجاء الشقة الواسعة في بيجامة ابنها «شوقي». أتجنب الاقتراب من قطع الأثاث المغطاة. أسألها متى يأتي أبي. تقول بعد الظهر. عند الظهر تغلق الشبابيك وتظلم الغرف. تنهمك في إعداد الحقائب وإغلاق الدواليب كأنها ستسافر. تعد لولديها ملابس يرتدونها. لا أحد يكلمني أو يعد لي ملابسي. أسأل «شيرين»: إنتو خارجين؟ تجيب هامسة: رايحين نقعد عند خالتي. – وتاخدوني معاكم؟ – لا، حتفضل مع «سعدية» لغاية ما جدي ييجي ياخدك.

ينضم إلينا الحاج «حمدي» شقيق عمو «فهمي» الأكبر. يرتدي جلبابًا أبيض وحذاء «موكاسان». له لحية كبيرة مشذبة. يغلب عليها اللون الأبيض. يحمل في يده مسبحة فضية. يقول: سمعتم عن القنابل؟

يسأل أبي: بتاعت «بنزايون» و«جاتينيو»؟ الإخوان المسلمين زودوها خالص.

يحمل عمو «فهمي» صندوق الطاولة: يلَّا ع الفرانده. يدخلون غرفة المسافرين ومنها إلى الفرانده. أتبعهم. أتلكأ قرب بابها. يجلسون فوق كنبة بلدية تحيط بها كراسي معدنية. صوت الحاج «أحمد» يسأل عن «شوقي» و«شيرين». صوت عمو «فهمي»: بيلعبوا تحت. – عملوا إيه في الامتحان؟ صوت «نبيلة»: نجحوا الحمد لله. زي كل سنة.

يلمحني الحاج «حمدي». يسألني: وانت عملت إيه؟ أتقدم منهم وأجلس على حافة الكنبة بجوار أبي. يرد عني باقتضاب: عنده ملحق إنجليزي. هي فين «سميرة»؟ يقول عمو «فهمي»: بيصيفوا في «راس البر». حنحصلهم بعد العيد إن شاء الله.

تقول «نبيلة»: تصور يا بابا «شيرين» عاوزة تلبس شورت؟

يفتح عمو «فهمي» صندوق الطاولة. يلعب الحاج «حمدي» مع أبي دورًا ثم يستأذن منصرفًا. يحل عمو «فهمي» محله. أتابع اللعب بصعوبة. يلعبان بسرعة فائقة. يتعادلان بعد عشرتين. يقترح عمو «فهمي» عشرة ثالثة تحسم النصر.

تظهر الخادمة قائلة: الغدا جاهز. يغلق عمو «فهمي» صندوق الطاولة وينهض واقفًا. نمضي إلى الصالة. ينحني ليرى وجهه في المرايا. يرفع يده ويمر بها على شعره الخفيف. يعتدل واقفًا. يلتقط كعكة من الصينية الموضوعة فوق البوفيه. يلتهمها. يشير إلى لوحة عريضة فوق المرآة مخاطبًا أبي: إيه رأيك فيها؟ قول بصراحة. أحسن من القديمة ولَّا لأ؟

يتجه أبي إلى كرسيه. يستوقفه عمو «فهمي» ممسكًا بذراعه وهو يلقي نظرة جانبية إلى أختي: إيه رأيك في ذوقي؟ مش عاجبة الست. أتأمل اللوحة. ألوانها داكنة. في ركنها شخص ضئيل جدًّا غير واضح الملامح يتطلع إلى شيءٍ ما مختفٍ في زحمةٍ من الألوان. ربما قارب مقلوب.

يجلس على رأس المائدة. تجلس «نبيلة» في مواجهته عند الطرف الآخر. ينضم إلينا «شوقي» و«شيرين». يأمر عمو «فهمي» الخادمة بإضاءة النجفة. تنتقل عيناه بسرعة بين أطباق الطعام. تتوقفان عند الدجاج المحمر في الطبق المستطيل. يمد يده إلى دجاجة قائلًا لأبي وهو يغمز بعينه: صدر أو ورك؟ يتبادلان الابتسام.

يرفع وركًا إلى فمِه. ينظر من طرف عينِه إلى أختي. تستخدم الشوكة والسكين. يأتي على الورك بسرعة. يمد يده إلى بقية الدجاجة. تنظر إليه في صرامة. يمزق جزءًا ويرفعه إلى فمه. تقول: شوف يا بابا، بياكل زي الفلاحين. يواصل التهام الدجاجة دون أن يعبأ.

نختتم بشرائح البطيخ. نغسل أيدينا في الحمام. تحضر الخادمة صينية فوقها عدد من زجاجات الكازوزة «كوثر».

تسأل «نبيلة» أبي: تحب تقيِّل جوه. يقول إنه يفضل كنبة الفرانده. تحضر له الجلابية البيضاء المخصصة له. يأخذها ويدخل غرفة الضيوف.

تنتهي «خضرة» من إزالة محتويات المائدة وتنظيفها. يلتقط «عمو فهمي» كعكة. يلقي بها في فمه. يطلب مني الجلوس إلى المائدة. يجلس إلى جواري. أفتح كتاب اللغة الإنجليزية. أقرأ الدرس. يشرح لي معاني الكلمات. انتباهي موزع بين صوته الرتيب وأصوات الصبية في الشارع. يعطيني واجبًا للحل. يدخل غرفة النوم وتتبعه أختي.

يسود الهدوء. أشرع في الإجابة على الأسئلة. أقوم بعد فترة. أغادر الصالة. أمضي إلى الكنيف البلدي. أتبول. أعود إلى الصالة. أقترب في حذرٍ من غرفة النوم. يتجلَّى الفراش في مجال رؤيتي. «فهمي» في كلسون أبيض واسع يصل إلى ركبتيه. مستلقٍ على جانبه الأيسر بحيث يواجهني. خلفه «نبيلة» فوق ظهرها. ركبتاها مرفوعتان إلى أعلى. فخذاها عاريتان.

أعود إلى مقعدي. أحدق في اللوحة. يتناهی إلى سمعي صوتٌ مألوف في الخارج. «دندورمة كايماك». عجوز ضيق الخلق يدفع أمامه عربة يد. بها إناءان معدنیان للجيلاتي يغطيهما الشاش. واحد للحليب بطعمٍ مثل القشطة. الآخر للفراولة الطبيعية التي تتخلَّلها بذور النبات. يردِّد نداءه في كبرياء. أتمنَّى أن تنزل الخادمة للشراء منه. لا أسمع صوت فتح باب الشقة.

يظهر أبي عند باب غرفة المسافرين. في القميص والبنطلون. يخرج عمو «فهمي» من غرفة النوم مرتديًا جلبابه. تتبعه «نبيلة» في فستان أزرق. تحضر «خضرة» الشاي الأخضر. يقول عمو «فهمي»: عندنا كمان «لبتون». يلتهم كعكة. نشرب الشاي ثم ننتقل إلى الفرانده.

تجلب «خضرة» القهوة. يقترح عمو «فهمي» على أبي عشرة جديدة من الطاولة. تصر «نبيلة» على لعب «الكونكان». تفنط الكوتشينة وتفرق الورق. أريد أن ألعب فينهرني أبي. أبتعد إلى حافة الكنبة. أضع إصبعي في فتحة أنفي. ينتهي الدور بانتصار «نبيلة». تجمع أوراق الكوتشينة ومكسبها من القروش في فرح. يخفي زوجها ضيقه ويبتسم في تكلف.

يرتفع صوتها: عيب كده، قوم اغسل إيديك. أقوم على الفور وأنا لا أجسر على النظر إلى أحد. أتبعها إلى الحمام الأفرنجي. تشير إلى الغطاء البلاستيكي للتواليت. فوقه آثار قدمين. – إنت اللي طلعت فوقه برجليك؟ أقول لها إني تبوَّلت في الكنيف الآخر. لا تصدقني. أغسل يدي بالصابون. تسألني: هو بابا عنده فلوس في البنك؟ أقول إني لا أعرف. تسأل من جديد: معندوش دفتر شيكات؟ أكرر عدم معرفتي.

أتبعها إلى الفرانده. أتوقف عند بابها. تهز نسمة هواء اللمبة المدلاة من السقف. على مبعدة بقع صغيرة من الضوء تخفق في ضعف. غرفة المائدة مظلمة. نافذتها مفتوحة. ضوء مصباح الشارع يسقط على محتويات المائدة.

أقترب من زوج أختي. أمدُّ له يدي بالكراسة. يتناوَلها ويضعها جانبًا حتى ينتهي الدور. يُراجع إجاباتي. يُعيدها إليَّ. يربِّت على كتفي مشجعًا. ينهض أبي. نخرج إلى الصالة. أحضر له السترة والطربوش. تختفي أختي. تعود بصندوق أحذيةٍ من الكرتون ملفوف بدوبارة. تضعه على المائدة. نتجه إلى باب الشقة. تقول «نبيلة»: الكحك. يلكزني أبي بمرفقه. أتقدَّم من الصندوق. أحمله من الدوبارة. هناك دائرة واسعة من السمن على جداره.

٦

نتجمع عصرًا فوق السلالم الخمس بمدخل منزل الناصية. «سمير» و«صفوت» وولد سمين يسكن في آخر منزل بالحارة. نلعب الكوتشينة. تنضم إلينا «سلمى». أخت «سمير». في سني أو أكبر قليلًا. ترتدي فستانًا من غير أكمام. ذراعاها رفيعتان. تجلس فوق البسطة أمام شقتهم. نُصبح نحن تحتها. تحدِّق أمامها ساهمة. أرفع رأسي. تفرج ساقيها. ألمح فخذيها. يرتفع صوت أمها من داخل الشقة. تزعق في زوجها. أنتظر صوت أبي يستدعيني كعادته كل ليلة عندما يحل الظلام. أميز ضجة غامضة صادرة عن منزلنا. أنفصل عن رفاقي وأسرع إلى مدخل المنزل أدفع بابه الحديدي. نور السلم مضاء. أصعد درجتين. باب الشقة مفتوح. أبي على مقعد أسفل نافذة المنور في ملابسه الكاملة. يحمل طربوشه في يده مقلوبًا إلى أعلى. وجهه متجهم. أمي تروح وتجيء منكوشة الشعر. تصيح وتصرخ وتشتم. تهجم عليه. تختطف الطربوش من يده. تُلقي به على الأرض. تدوسه بقدميها في عنف. تختطف نظارة القراءة من جيب سترته العلوي. تهرسها على البلاط. أبي جامد في مكانه. يوجه إليها كلمات حازمة: كفاية بأه يا «روحية». بلاش فضايح. تسرع إلى نافذة المنور. تفتح مصراعيها على سعتهما. تردد كلمات غريبة. تهدأ بعد قليل. ينتزع أبي الطربوش من الأرض. يبسط جوانبه. يضم حافتيه ثم يبسطهما عدة مرات. يمسده بذراعه. يرتديه. ينهض واقفًا. يصحبني إلى الخارج.

تظهر «سهام» أخت «سلمى» الكبرى على باب الشقة. ترتدي جلبابًا منزليًّا بغير أكمام. تحمل سبت غسيل فوق رأسها. تصعد السلم. أتابع اهتزاز فلقتيها حتى تختفي.

تشير «سلمى» إلى الطابق الأعلى في منزلنا. تسألنا إذا كنا نعرف ما حدث في الفجر. البوليس هاجم المنزل وقبض على «وديع».

أسألها بدوري: «وديع» مين؟

ابن «أم وديع».

ليه؟ هو حرامي؟

– لأ. شیوعي.

– يعني إيه؟

تقول إنها لا تعرف.

– شكله إيه؟

لا أتذكر أني رأيته. تقول إنه طالب في الجامعة. وإنه كان يدور على منازل الحارة في السنة الماضية يشرح كيفية الاحتراز من الكوليرا.

يرتفع ذيل فستانها إلى أعلى فتمد يدها وتنزله فوق ركبتيها، لكنها تترك ساقيها منفرجتين. تظهر منطقة مظلمة بينهما. أكتشف أنها لا ترتدي لباسًا. تمد أمي يدها أسفل جلبابها. تجذب قطعة كبيرة مطوية من القماش مبللة بالدماء. تدخل الحمام. تخرج بعد قليل. أخاطبها فلا ترد عليَّ. تبدو ضيقة الصدر. تحني رأسها وتنصت. كأنما لصوت ما داخل رأسها. تتجه إلى النافذة. أقترب منها في حذر. أرقد فوق الأرض وأدس رأسي أسفل ثوبها. أعرف أنها ستغتاظ. لا ترتدي لباسًا. تزيحني جانبًا.

أرتب ورقي. أنظر إلى «سلمى». تتطلَّع إلى الأرض ساهمة. ترفع رأسها فتلتقي نظراتنا. تشيح بعينيها. تسقط نظراتي على ساقيها. تفرج ساقيها أكثر. أصعد إلى شقة صاحب المنزل لأقترض قليلًا من الملح. تنتحي بي ابنتاه على السلم. تسألاني في صوت هامس عما كانت أمي تقوله بالأمس وهي تصرخ في أبي. لا أفهم أي كلمات تعنيان. تقول إحداهن وهي تبتسم: «شراشيب إيه؟» أقول لهما. يحمر وجهاهما وتضحكان في خفوت.

تتردد الزغاريد. من منزل «حکمت». ترفع «سلمى» عينيها إلى البلكونة التي تعلو بلكونة «صفوت». يقف فيها «عبد الحميد» المجنون ابن صاحب منزلنا. في ملابسه الكاملة والصحيفة المطبقة في يده اليمنى. يوجه نظراته إلينا.

تُفرج ساقَيها إلى آخرهما ثم تُسدل فستانها. تهب واقفة. تختفي في شقتها. تُنادي «أم سمير» عليه. يلعلع صوت «أم صفوت» تستدعي ابنها. ينصرفان ويتبعهما الولد السمين. أنتظر لحظةً ثم أتسلَّل صاعدًا السلم حتى السطح. بابه مغلق. أدفعه فيُفتح. سَبَت الغسيل في المنتصف. بعض محتوياتِه فوق الحبال. لا أثر ﻟ «سهام». أقترب من حجرة طالب الهندسة. يدقُّ قلبي. الباب مغلق. أُنصت فلا أسمع شيئًا. أضع عيني على ثقب المفتاح. لا أرى سوى مكتبٍ خالٍ. أسمع حركةً خلف الباب. أجري نحو باب السطح. أهبط مسرعًا.

تنبعث الزغاريد من منزل العروس. أصعد إلى شقتنا. أبي جالس في الصالة. «فاطمة» تشكو له من زوجها. تقول إنه يسكر دائمًا بالسبرتو الأحمر. وبعد ذلك يصبح عدوانيًّا ويضربها. يهوِّن أبي عليها. يطلب منها إحضار صفيحة جبن قديمة. يأمرها بتنظيفها جيدًا بالماء والصابون ثم تجفيفها. يملؤها بكسرات الخبز المتجمع لدينا. يضيف إليها الماء. يبعثها لتشتري خميرة بيرة من الفرن. تلتف بملاءتها السوداء وتذهب. أقف في البلكونة. تعود بالخميرة. يعترضها زوجها «عباس» عند المدخل. «كنتِ فين يا بنت الكلب؟» تقول في تحد: سيدي «خليل» بعتني السوق.

يضع أبي الخميرة في الصفيحة. يقلب محتوياتها. يقول لها أن تنتظر ثلاثة أيام ثم تعطي «عباس» منها. يقول إن «البوظة» مفيدة للمعدة ومُسْكرة أيضًا. وإنها ستساعده على الامتناع عن السبرتو الأحمر. تنحني على يده وتقبلها: ربنا يخليك يا سيدي.

يطلب منها نقل المخدات إلى الجانب الآخر من الفراش؛ لنكون في مواجهة باب البلكونة ونحصل على بعض الهواء. أشم رائحة شواء رنجة. أسأله لماذا لا نأكلها. يقول إنها أكل الفقراء.

أقف في البلكونة. عيني على شقة العروس. تلج الحارة عربة كارو فوقها عدد كبير من الكراسي والسواتر الملونة التي تستخدم أيضًا في المآتم. يجري نقلها إلى سطح المنزل المقابل. يسمح لي أبي بالخروج. أنضم إلى الأولاد المتحلقين حول المدخل. نصعد السلم حتى السطح ثم ننزل. تختفي الشمس فيشعلون الكلوبات. يجربون الميكروفون: آلو. آلو. واحد. اتنين. تلاتة. نتزاحم حول مائدة الشربات. نحتل كراسي الصفوف الأولى فينهروننا. يُبعدوننا إلى الخلف. ننتظر في لهفةٍ. يظهر العروسان أخيرًا في مدخل السطح. تبدو «حکمت» جميلة في ملابس الزفاف. العريس أقصر منها وأكثر سمنة. في بزةٍ سوداء وربطة عنقٍ على شكل الفراشة. يجلسان في كوشة في طرف السطح.

تصل الراقصة. سمراء قصيرة. يلقي الطبال عدة مونولوجات ﻟ «شكوكو» و«ثريا حلمي». تختفي الراقصة ثم تظهر في بزة الرقص. ذراعاها عاريان. ألمح أعلى ثدييها. نصفق لها. ترقص على أغنية «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي.» تستدير أمام العروسين. تنحني إلى الخلف وهي ترقص. تضع رأسها في حجر العريس. تنفرج بزتها للحظةٍ عن أعلى فخذَيْها. تجلس في الصف الأول لتستريح. يُعطيها أحد الجالسين قطعةً من الكرتون تحرِّك بها الهواء أمام وجهها وصدرها. أتسلَّل بين الكراسي مقتربًا منها. أقف خلفها تمامًا. أمدُّ يدي وألمس ساعدها الممتلئ عند الكتف. أتوقعه ساخنًا. أفاجأ ببرودته.

٧

يسألني الدكتور «عزیز»: عملت إيه في الملحق؟ يرد أبي: نجح والحمد لله. المهم ميعملهاش تاني. تتجه جميع الأنظار إلى امرأة سمينة في بنطلون على الرصيف المقابل. تسقط أضواء الدكاكين على ظهرها فيبدو ترهل إليتيها. يقول الشيخ المعمم: شوف الولية اللي متختشيش. كل حاجة باينة. يخبط القس كفًّا بكف قائلًا: الدنيا باظت. يقول الشيخ المعمم: تفتكروا إحنا انهزمنا في «فلسطين» من شيء شوية؟ ده عقاب من ربنا. يقول «رأفت»: المدافع بتاعتنا كانت بتنفجر فينا. يقول أبي: الملك «عبد الله» كان شغال مع اليهود. يقول الدكتور «عزیز»: اليهود شرَّدوا نصف مليون عربي في «شرق الأردن» و«سوريا» و«لبنان» و«مصر». و«عزام» باشا يقولك سيصلاها اليهود نارًا حامية. يضحكون.

يقول «رأفت» مستنكرًا وهي هزيمتنا في أوليمبياد «لندن» برضه عقاب من ربنا؟ يقول «عبد العليم»: ده اتصرف على بعثتنا آلاف الجنيهات. راحت كلها على فاشوش. يقول «عبد العليم»: حقنا نسميها النكبة الأوليمبية. وبعدين يقولوا إننا حنستعد من الوقت لأوليمبياد ٥٢.

يعرض عليه الشيخ ما اشتراه للحج: كيس من القماش لماء الشرب والاغتسال وحزام عريض من الجلد اسمه «الكمر» يعقده المسافر على وسطه تحت الملابس ويضع فيه ماله. يُبدي أبي إعجابه بالقميص الجديد الذي يرتديه «رأفت» أفندي.

– جبته منين؟

– من «شملا» ﺑ ٥٨ قرش.

يقترب منا رجل ممتلئ أسمر البشرة. الطربوش في يده. شعر رأسه أسود غزير. رأسه ضخم ووجهه عريض. ينهض الحاج «عبد العليم» و«رأفت» أفندي: تفضَّل يا «مندور» بيه. يلكزني أبي لأترك مقعدي له. يقول «عبد العليم»: الدكتور «مندور» بلدیاتي من «منيا القمح»، واشترك في ثورة ١٩. يقول الدكتور «مندور» في خجل: الحقيقة أنا كنت وقتها عيل صغير. كنت راجع من المدرسة على حمار. وفوق كوبري «مطوبس» شُفت مظاهرة من الفلاحين والأفندية بيهتفوا للاستقلال وﻟ «سعد». خرج عساكر إنجليز من نقطة البوليس وضربوا عليهم نار. يوميها اتصاب أكتر من مية مات منهم كتير. رجعت البلد بالخبر. الناس اتجمَّعت وحملوا الفوس علشان يكسروا سكة حديد الحكومة. لحقهم «عثمان باشا أباظة» أكبر مالك في المنطقة وهدَّاهم.

يقول «رأفت»: برضه حنعتبرك من رجال الثورة وننتخبك عن الدايرة. يضحك «مندور»: ده لو فيه انتخابات. يقول «عبد العليم» للقس: وانت يا مقدس تنتخب مين؟ يقول القس: والله أنا تعاهدت مع «جرجس صالح» مرشح الحزب السعدي. يقول أبي: أنا كمان. يقول الدكتور «عزيز»: البلد محتاجة انتخابات نزيهة وحكومة جديدة. يقول «رأفت»: ده مستحيل في ظل الأحكام العرفية. يقول أبي: الأحكام العرفية ضرورية علشان الاغتيالات السياسية والحرب. لو اتلغت وحصلت انتخابات حييجي «الوفد».

يقول «مندور» محتدًّا: طب وفيها إيه؟

– حنرجع للرشاوى واستغلال النفوذ.

يتمالك «مندور» نفسه: وحضرتك فاكر إن الوقت مفيش رشاوى واستغلال نفوذ؟

يقول «عبد العليم»: الدكتور معاه حق. إحنا قرينا اللي كتبه عن مطار «المنيا» وعلاقة رجال الدولة بكبار الملاك.

يستطرد الدكتور «مندور»: ثم إن «الوفد» مش «عثمان محرم» و«فؤاد سراج الدين» وبس. فيه ناس تانية كويسة ووطنية. المهم إن الوضع الحالي مش نافع. الأسعار بتزيد كل يوم. مصاريف المدارس زادت. والملك بيلعب القمار كل ليلة في نادي السيارات. والمسئولين بيلعبوا «التيرو».

يسأل الشيخ المعمم: هو إيه «التيرو» ده؟

– مراهنات الرماية في نادي الصيد.

تُحرِّك نسمة هواءٍ التراب المكوم على جانبٍ في أول الشارع فيهب علينا. يقول «عبد العليم» إن مصلحة التنظيم تحفر الشوارع وتترك تراب الحفر على الجانبين تنثره العربات والهواء. ثم تأخذ في دك الشوارع بالحجر والزلط ولا تراعي الارتفاع، فيعلو مستوى الأرض عن مستوى الشوارع المقاطعة له فتضطر المصلحة إلى حفره مرة أخرى لمساواته ببقية الشوارع، وهكذا دواليك. يقول الدكتور «مندور» إن المقاولين هم المستفيدون. أصبحوا مليونيرات وعندهم كلاب وموظفون لخدمتها بمرتبات يحلم بها خريجو الجامعة.

يقول «رأفت»: الواحد معدش عارف يركب الأتوبيسات من الزحمة. يقول الدكتور «عزیز» إن الشركات التي وضعت تحت إشراف الحكومة تخسر. التأميم مش نافع. يقول «مندور» منفعلًا: ده اللي بيقوله «عبود» باشا. الشركات هي السبب في الزحمة. بتخلي السواقين والكمسارية ياخدوا أكبر عدد من الركاب. عايزين يلمُّوا فلوس قبل ما يسلموا العربيات للحكومة خردة.

ألمح مجلة فوق مكتب الحاج «عبد العليم». أتسلل داخل الدكان وأتناولها. مطوية على صفحة بها إعلان عن فيلم «غرام وانتقام» ﻟ «أسمهان» و«يوسف وهبي». أتناول المجلة وأحملها إلى الخارج. أريها لأبي: فيه فيلم جديد ﻟ «أسمهان». يقول: ده فيلم قديم، عملته قبل مَتْموت.

– هي ماتت إمتی؟

– من أربع سنين. مش كده يا «رأفت» أفندي؟

يضع «رأفت» ساقًا على ساق. يلمع حذاؤه الأسود في الضوء الضعيف: أيوه مظبوط، أربع سنین.

يعلق «عبد العليم»: لحد الوقت محدش عارف إذا كانت ماتت موتة ربنا أو حد قتلها.

يقول الدكتور «عزیز»: طبعًا ماتت مقتولة. الأوتوموبيل نزل في المية من غير السواق. راح فين؟

يسأل الشيخ المعمم: ومين قتلها؟

يقول أبي: المخابرات الإنجليزية، كانت جاسوسة للألمان. تفتح لأبي عشر دقائق يذهب فيها إلى دورة المياه. ترافقه حتى بابها وتقف خارجه إلى أن يفرغ. تعيده إلى الغرفة وهي ترمقه بصرامة. يحاول ملاطفتها فتقول: متحاولش. إنت جاسوس ألماني ولا بد من سجنك ولَّا تحب أبلغ البوليس وأعمل لك فضيحة بجلاجل؟ أتسلل منه إلى داخل الغرفة. تغلق الباب علينا بالمفتاح. يقول لي أبي متفكهًا: السجن مكتوب لي وهنا أهون من سجن الحكومة. على اليمين تكومت فوتيات الصالون فوق بعضها. وعلى اليسار انتصب السرير ذو الأعمدة النحاسية. يطلب مني أن أخرج بالقلة لأملأها وأرى ما يحدث. أطرق الباب لتفتحه. أملأ القلة وأتلصص عليها. أعود إليه بسرعة لأخبره.

يقول الدكتور «مندور»: الملكة «نازلي» هي اللي دبرت القتل. كانت بتغير منها.

أنصت في اهتمام فالحديث عن أم الملك. يستفسر أبي: وليه؟

– بسبب «أحمد حسنين» باشا.

– ماله؟

– كانت عشيقته.

– مين؟ أسمهان؟

– «أسمهان» الأول وبعدين «نازلي».

يتحدث عن أزمة السينما والمسرح. يقول إن المنتجين حققوا أثناء الحرب العالمية أرباحًا هائلة بأفلام كوميدية وتافهة. وارتفعت أجور الممثلين إلى مستوى خيالي. وأغرى هذا كل من هب ودب بدخول ميدان الإنتاج السينمائي فانحط مستوى الأفلام وانحدرت إلى تملق الجمهور واستثارة غرائزه. أميل على أبي وأهمس في أذنه: عايز أشوف فيلم «أسمهان». يقول في ضيق: إن شاء الله.

٨

يجر كرسي المكتب إلى البلكونة. الحارة مظلمة. يتراءى ضوء ضعيف في النوافذ والبلكونات. يتأفف من الحرارة. يخلع طاقيته. يحركها أمام وجهه. أقف إلى جواره. نلمح «سهام» مستندة بمرفقيها إلى حافة نافذتها. بجوارها طالب الهندسة. تقترب منا «فاطمة» وفي يدها عود من قصب السكر. ترى اتجاه نظراتنا فتقول إن «سهام» حملت من الطالب ولهذا سارعا بالزواج من سكات. يعنفها أبي: وانتِ مالك.

تتربع حافية عند قدميه فوق البلاط النظيف العاري. تقشر عود القصب وتقطع منه عقلةً بالسكين. تقدِّمها إلى أبي. يقول ضاحكًا إنه لا يستطيع مضغها. تعطيها لي. أطبق عليها بأسناني وأمتصها حتى آخرها ثم ألقي بالمصاصة في الطبق. تمد ساقيها أمامها. تلقي العُقلة الثانية جانبًا قائلة إنها مسوسة.

ينخفض ضوء المصباح الكهربائي. تقوم لإعداد مصباح الزيت تحسبًا لانقطاع الكهرباء. يزعق لها: البسي الشبشب. تعود بطبق من «حب العزيز». تتربع على الأرض فينحسر ثوبها عن فخذيها. أجلس أمامها على البلاط. تتناول بضع حبات. تخفي يديها خلف ظهرها ثم تبرزهما مضمومتين. تضعهما فوق فخذيها العاريين. أقول: حادي بادي، سیدي «محمد» البغدادي، شاله كله وحطه على دي. أهوي بيدي على قبضتها اليمنى فتسحب يدها ضاحكة. تستقر يدي على فخذها العارية. يقول أبي: لظلظ. مش كده؟ أمسك لحم فخذها وأردِّد: لظلظ.

تقول: حتى «حب العزيز» سعره زاد. كل حاجة زادت. يقول أبي إن المصريين عانوا دائمًا من ظلم الحكام وغلاء الأسعار. أيام المماليك كانوا يصرخون من غلو الضرائب مرددين: «إيش يجيلك من تفلیسي یا بردیسي.» أطلب منه أن يحكي لنا إحدى نوادره. يقول إنه سافر مرة إلى «تركيا» وطاف بقصر «يلدز» العجيب. حمَّاماته مصنوعة من المرمر. ومزودة بالكنيف الأفرنجي. أحس بحاجة تضغط عليه فجلس فوق واحد منها. وعندما انتهى أدار صنبور المياه وفوجئ بشيءٍ غريب يحتك بفخذيه. كما لو كان أيديًا بشرية. قفز واقفًا واكتشف عدة فرش صغيرة من المياه تتحرك بخفة في اتجاهات مختلفة.

تُبدي عجبها: يعملوا كده في بلد الخلافة؟

– خلافة إيه؟ إنتي مَتْعرفيش حاجة. لما «استامبول» اتهدت في الزلزال وجم يشيلوا الناس من تحت الأنقاض لقوا الرجالة والستات لابسين في بعض كده. يتخلل أصابع يده اليسرى بأصابع اليد اليمنى. – هُم مش مسلمين؟ – الإسلام كان أيام الرسول والخلفاء الراشدين. يحكي لنا عن الرسول وأمانته. وعن «عمر بن الخطاب» وعدله. وعن «علي بن أبي طالب» وولديه.

أسأله إذا كان قد اشترك في ثورة ١٩. يقول: أُمَّال. كنت أسيب الديوان مع الموظفين. نترص فوق عربات الكارو ونلف الشوارع واحنا بنهتف ضد الإنجليز وبحياة «سعد زغلول».

تسأله «فاطمة»: إنت شفت بلاد كتيرة يا سیدي؟ يقول: مش كتير. احكي لنا يا سيدي. يقول: حاحكيلك، ناوليني القلة الأول. تهبُّ واقفةً وتتناول إحدى القلل الثلاث الموضوعة في صينية على حافة سور البلكونة لتبرد. يكرع منها ويتنهد راضيًا. يطلب منها أن تتأكد من امتلاء القلتين الأخريين. تحمل إحداهما إلى الداخل لتملأها. تعود فتضعها في الصينية بين حبات الليمون والخيار.

يسترخي أبي في جلسته. يشعل سيجارته السوداء. يقول: أول مرة كانت للسودان مع الجيش. كانت «أم نبيلة» الله يرحمها معايا. وكانت حبلة في «نبيلة». نزلنا في بيت من بابه. الدنيا حر ولعة. أدور على حد يساعدنا في فك العفش. مفيش. شفت اتنين رجالة لابسين أبيض وممددين تحت شجرة. كل واحد ساند على كوعه وبيلعبوا «السيجة». واحد منهم كان بيمضغ حاجة في بقه وسنانه سودة زي الفحم. ناديت عليه: يا زول. ولا حياة لمن تنادي. سمعت صراخ «أم نبيلة». جريت لقيتها لازقة في الحيطة. وشها أصفر وعنيها على ربطة قماش مفكوكة وحشرة صغيرة. عقربة زبانها مرفوع. جيت أدوسها. مطلتهاش. جِريت على الحيطة وخرجت من الشباك. «أم نبيلة» اترمت في حضني. سقيتها كوباية مية. بقينا ننام جوة الناموسية ونحط علب صفيح مية تحت عمدان السرير.

تضع «فاطمة» يدها على صدرها وتبسط ساقيها: حق الواحد ميتغربش. يفضل في بلده.

– إنت فاكرة هنا كان أمان؟

يحكي لنا عن «القُرعة» وكيف كان الناس يتهربون من التجنيد. الفقراء يصيبون أنفسهم بعاهات. في العين أو الذراع أو الساق. أما الأغنياء فيشترون حريتهم بالمال. يدفعون «البدلية». وعندما تتجمع لدى موظفي القرعة يصبحون هدفًا للصوص.

يهوِّي بالطاقية أمام وجهه: كنت أنام والطبنجة تحت المخدة. هي وكيس الفلوس. في ليلة صحيت على صوت رِجْل فوق السقف. أخدت الطبنجة من تحت المخدة. وقمت بشويش. وقفت في الضلمة وزعقت بقوة وجراءة: مين هناك؟ محدش رد. فات ربع ساعة ولا صوت. بعد شوية طلع الفجر فرجعت نمت.

تتطلع إليه «فاطمة» مبهورة: ياه. دا انت قلبك جامد قوي یا سیدي. يستطرد قائلًا إن الطرق أيضًا لم تكن آمنة. وخاصة في الصعيد. في الليل تكمن الرباطيات على جوانبها. يكون راجعًا من سهرة في بيت المأمور أو وكيل النيابة. الدنيا ضلمة كحل. يده تقبض في حزمٍ على كيس النقود وعيناه تفتشان في الظلام. – کان نظري وقتها ستة على ستة. مرة اتصبت برصاصة. يشير إلى أثر جرح في جبهته بين عينيه. – ومرة انضربت بسكينة. يدير رأسه ليرينا أثر جرح مائل في قفاه.

أسأله: ولسه عندك المسدس؟

– لا. الإنجليز كانوا بيلموا السلاح فخبيته في جنينة الفيلا. الظاهر خال «نبيلة» اللي كان عايش معانا سرقه وباعه.

يرين علينا الصمت. يقول بعد لحظة: المهم الواحد يعرف إزاي يتصرف. مرة كنت راكب التروماي. طلع اتنين. واحد وقف على السلم من اليمين. والتاني نط من الشمال. سألني عن الساعة. اشتبهت في إنهم نشالين. مديت إيدي في جيبي وطلعتها مقفولة. عملت إني بابص فيها. وقلت له الوقت بالتقريب. اللي على اليمين راح ضاحك وقال لزميله: سيبه يا جدع. باين عليه من أهل الصنعة.

تضحك «فاطمة» وتخبط بيدها على فخذيها العاريين. أطلب منه أن يحكي لنا عن «حافظ نجيب». يقول إنه كان لصًّا داهية ونصابًا دوليًّا. واشتهر بقدرته على التنكر والإفلات من البوليس. – مرة مسكوه متنكر على هيئة بارون إيطالي. ومرة زي السفير التركي. ومرة ثالثة لابس قسيس. المهم. في المحكمة كان واقف في القفص. وهُب القاضي بيلتفت ملقاهوش. لحد الوقت محدش يعرف إزاي خرج من القفص.

تقول: والنبي يا سيدي تحكيلنا عن «جحا». يقول إن «جحا» سكن مرة في دار. بعد يومين اشتكى لصاحبها من قرقعة في سقفها. وإنه يخشی سقوطه. طمأنه صاحب الدار قائلًا إن السقف يُسبِّح الله. قال «جحا»: ما هو ده اللي أنا خايف منه. قاله: ليه؟ قال: يمكن يسوق فيها ويسجد علينا. ينفجر أبي ضاحكًا حتى تدمع عيناه. يمسحهما قائلًا: ربنا يجعله خير. أسأله لماذا يقول ذلك؟ يقول إن الوقت السعيد يتبعه دائمًا وقت سيئ. نتناول الإفطار فوق مركب عند روض الفرج. فول مدمس وعسل نحل بالقشطة. المائدة خشبية مدهونة باللون الأزرق. أمي تُدندن بأغنية. نغادر المركب ونمشي وسط مزارع. ندخل بستانًا للفاكهة. يشتري أبي موزًا وبلحًا. يدعوني صاحب المشتل لأكل الجوافة. آكل حتى تمتلئ بطني. نغادر المشتل. أتعثَّر في غطاء بكبورت. أقع فوقه وتصطدم رأسي به. أتقيَّأ كل ما أكلته.

يتناهى إلينا صوت «عبد الوهاب» من راديو «أم زكية». يغنِّي: في البحر لم فتكم في البر فتوني. بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني. يغني أبي معه: أنا كنت وردة في بستان قطفتوني، وكنت شمعة جوه البيت طفيتوني. يهزُّ رأسه في حزنٍ ويقول: بعد ما كنت يا «خليل» وردة في إيد الناس يشموك، بقيت يا «خليل» زي الطبيخ اللي حمض دلقوك. تقول «فاطمة»: ما تقولش كده يا سيدي. إنت أهه زي الفل.

ينهض واقفًا ويخطو عبر الغرفة. عيناه على فخذَي فاطمة. يرتفع صوت «عباس» مناديًا عليها. تغطي فخذيها بسرعة وتنهض واقفة. تقول: تصبحوا على خير. يصحبني إلى الكنيف استعدادًا للنوم. يطفئ النور. يستلقي إلى جواري. يترك باب البلكونة مفتوحًا. أقول له: مش خايف حرامي يدخل؟ يقول: من توكل على الله حماه. يتلو آية «الكرسي». أفكر في الملائكة التي تحرسنا وترفرف حولنا. أروح في النوم. أستيقظ فجأة على حركة بجواري. أبي يهرش بين ساقيه. أنام. أستيقظ مرة أخرى. ما زال يهرش. تتسارع حركة يده. يتنهد. يستدير ناحيتي. أغلق عیني وأستغرق في النوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤